الصحافة التي سُمٍح لها بحضور لقاء السيد وزير العدل، وقفت مباشرة علي لحظة جرأة علنية لدي السيد الناصري وهو يتحدث بلا وجل عن الفساد الموجود في القضاء. وبالرغم من الاتفاق الموجود حول الموضوع، وحول تفشي الفساد علي اعتبار أن الفساد تسلل إلى كل منطقة من الجسم المغربي، فإنه يقل أن يتكلم وزير في الموضوع عندما يتعلق ببعض الوزارات ذات الحساسية في البلاد. نحن نذكر كيف أن السيد وزير العدل السابق عمر عزيمان كاد أن يقطع رأسه علانية، في حكومة عبد الرحمان اليوسفي عند حديثه عن الآفة في بداية التناوب، وكيف أن الحسن الثاني اضطر إلى التدخل لكي يبقي للوزير رأسه ويبقي علي رأس الوزارة المعنية... إلى حين. فهل تغيرت الأشياء منذ ذلك الزمن؟ لا شك أن مياها كثيرة جرت تحت الجسر، كما ان القضاء لم يعد تلك المؤسسة التي يتطلب الاقتراب منها التسلح بكل آلات رصد القنابل والألغام. فالحديث الذي عبر عنه السيد الوزير المحترم، هو حديث يأتي بعد دستور جعل من القضاء سلطة دستورية، كما أنه فتح الهيئة العليا المكلفة دستوريا به مفتوحة في وجه المجتمع المغربي برمته، ومكوناته كما نعلم ( مجلس حقو ق الانسان على سبيل المثال ) ليست من النوع الذي يمكن أن يلجأ إلى طريقة برايل في الحديث عن موضوع الفساد في هذا الحقل الحيوي، أو يبقى في الوصف التعميمي عندما يتعلق الامر بهذا الملف. كما أن توضيح السيد الوزير جاء بعد مساء طويل من محاولات إصلاح هذا القضاء، وهو نفسه ورث أجندة متكاملة من النصوص والقوانين حول الإصلاحات المتعلقة به، وقد اكتسب هذا الإصلاح اليوم أفقا جديدا بهذا الدستور. ولعل من المفيد أن نقول إن التصريح المذكور للوزير يأتي في تزامن مع انطلاق محاكم مالية في العديد من المحاكم في المملكة، وهو موضوع يكتسي أهمية في تفعيل الكثير من القرارات ذات الصلة بمراقبة ومحاسبة المسؤولين عن المال العمومي وأملاك الشعب المغربي. وسيتطلب ذلك وقتا غير قليل من أجل الأجرأة والتفعيل الميداني ودخول تقاليد القضاء المالي الي الحياة اليومية للدولة والمواطن. وفي انتظار ذلك، يبقى المتتبع حائرا بين إرادة الإقرار بالفساد وبين وضع آليات للحكامة المالية، وبين نقطة فارقة لا تليق بهذا التوجه، وتتعلق بما أصبح يعرف بقضاء الفايسبوك أو قصاء الشبكة الاجتماعية. لقد بدا الوزير مثل مراقب محايد للغاية لما حدث لهولاء القضاة الذين انتخبوا هيآتهم في الهواء الطلق. لقد أصبح القضاء الجالس.. قضاء واقفا في الشارع العام، لأن السيد الوزير الناصري لا يعرف بالضبط «هل تم منعهم أم أنهم يلتزموا بإجراءات ؟» لا اعتقد بأن جداتنا يملكن الجواب عن هذا السؤال، ولا حتى البرلمانيين الذين أوشكت ولايتهم علي النهاية أو حتي البوليسي الذي جاء بتنفيذ القرار. اذا لم يكن الوزير قد علم بالسبب منذ أسبوع مضى، فليس لنا أن نعلق بشيء سوى أنه لا راد «لقضاء» الله.. في منع القضاء. نعترف للسي الوزير باعترافه بحق القضاة في تأسيس ناد لهم، أو تأسيس جمعية للدفاع عن أنفسهم، وعن مهنتهم وعن شرفها، والحال أن الاعتراف بذلك لا يعفي السيد الوزير المسؤول من الحرص عليهم دستوريا ومؤسساتيا. هناك حقيقة اليوم هو أن القضاء معول عليه في جزء كبير للغاية في تنزيل الدستور، في مستوياته السياسية المؤسساتية والعلائقية وفي مستوياته التي تجعل من الحياة العامة حياة تليق بالقرن الذي نعيش فيه. فلا شيء يمكن أن يتم اليوم في مجال تخليق الحياة السياسية وكل أطوارها التي نحن مقدمين عليها، اذا لم يكن للقضاء هذه القدرة على فرض سلطة القانون وسلطة الأخلاق العامة في المؤسسات. هل سيكون مضطرا إلى «المبيت» في الشارع لكي يضمنها؟ هل يستطيع قضاتنا النزهاءمواجهة أباطرة متمرسين في الفساد الانتخابي والسياسي ، الذي كان بدوره موضوع خطاب ملكي غير مسبوق (خطاب 20 غشت الاخير )؟ «إن القضاء جد بطيء. باهض الثمن، قاس مع الضعفاء، ضعيف مع الاقوياء، معرض لسوء الفهم، وأحيانا للرفض. ومسيرته تثير القلق عوض أن تطمئن ، ويثر الحنق عوض أن يهدى الخواطر»، كما قال فرانسوا هولاند عن قضاء فرنسا في عدد الجمعة من يومية لوموند الفرنسية . فما بالك بقضائنا وبمسيرته؟ إن الحقيقة هي أن الارتباط بالحياة اليومية يفوق الارتباط بالحياة السياسية بالرغم من الطابع الجماعي القوي للمستوى الثاني، مقارنة مع الطابع الذاتي والمحدود للمستوى الاول، وهو ما يجعل أن الاطمئنان لا يجب أن يمتد للحياة السياسية وحدها قدر ما يجب أن يمس الحياة العامة لكي تصبح الحياة السياسية ممكنة. فالطلاق والديون والطرد والصرب والجرح والإرث والاعتداء على الاراضي، كلها قضايا لا يمكن أن تطمئننا على حياتنا السايسية وتدفعنا الى الانخراط فيها، اذا ما هي وصلت الى القضاء وحلت بشكل يجعل الناس يشعرون بالظلم والتعسف. ولعل القضية التي تثار للقضاة كلما بحثوا لهم عن هامش للحرية للعمل غير المدروس بالمسطرة المعتادة لفرض التفكير الوحيد، تطرح من جهة أخرى الاستقلالية في المبادرة، والتي يجب أن نقر بأن هذه الاستقلالية لم تعد اليوم عتبة للشك في هذا الجسم الضروري للديموقرطاية ، بل هي اليوم حقيقة مطلوبة لضمان الاستقرار وطمأنه الرأي العام، على أن القضاء بكل مستوياته لا يتحدد إلا بناء على القانون .. والصالح العام. ومن باب الاحترام الواجب للقضاء، يجب أن تتم مراعاة مطالبه وطريقة تنظيم نفسه بشكل دستوري مستقل ، في الحياة اليومية ، لا في ما تيعلق بالمؤسسة دستوريا. إذ أن ضمان احترام القضاء يأتي من ضمان احترام الوضع الاعتباري للقضاة. لقد قضى القضاء عقودا طويلة في البيت الجليدي للدولة وللقرار السياسي، ولعل في تظاهرة الخروج في السبت الماضي رسالة ودليل حياة نحن في حاجة اليها بالقدر نفسه، إن لم يكن أكثر، من القضاة أنفسهم. والوزير الناصري مطلوب منه أن يطمئننا علي الجواب بعد أسبوع من سبت الهواء الطلق. وطمأنه القضاة بأن تصرفه المحايد، على اعتبار أن «الآخرين» هم الذين يملكون الجواب في القضية، لا يلغي حماة الجسم القضائي من «نفور» قانوني يجعلهم ينظمون في العراء. فهل بعد القضاء الجالس والقضاء الواقف القضاء .. الطلق!