وكأنّ محمود يشاهد ما «تزفّ» الشاشات عنه. وكأنه في سرّه رفع الستارة عن موته. تلعثمت كلماته، واغرورقت في كنهها. كلماته من متن نص كتابه، قامت لتدافع عن روحها، وتقول: «وأَنْظُرُ نحو نفسي في المرايا: هل أَنا هُو؟َ هل أُؤدِّي جَيِّداً دَوْرِي من الفصل الأخير؟.. وهل قرأتُ المسرحيَّةَ قبل هذا العرض، أَم فُرِضَتْ عليَّ؟ وهل أَنا هُوَ من يؤدِّي الدَّوْرَ.. أَمْ أَنَّ الضحيَّة غَيَّرتْ أَقوالها، لتعيش ما بعد الحداثة، بعدما انْحَرَفَ المؤلّفُ عن سياق النصِّ.. وانصرَفَ المُمَثّلُ والشهود». فهل أنت حقاً ما نرى؟ قم قليلاً، بضع قصائد وأنفاس ما بعد الرحيل. قم واخلع عنهم رداءك! فلا صوتهم صوتك، ولا شعرهم شعرك. «في حضرة الغياب»، «شغف بشيء غائب» أضفوا عليه الاسم، ليكون عنوان «مسلسلهم». سأقول لك شيئاً، عند مفترق الفصول، بين صيف لهيبك وخريف انتظاري، رسمتك على شكل قلب. لا أدري أين وضعته، لكنّي لم أضيّعك مثلما فعلوا! سأروي لك قصّتك التي يمثّلونها على الشاشات. وللتذكير، أهل رام الله غير راضين عن ذلك. يقف «بطل» المسلسل، ويقول للعالم أجمع ؟ هو لا يقول، بل أداؤه يحدثنا ؟ أنه هو محمود درويش، «يمثّل» ما كنت تفعل وتقول و«تشعر»! حينها تذكرت أين وضعت القلب الذي رسمته على هيئة قصائدك، فلم ينبض كما كان يفعل عندما يسمع منك سيمفونية العشق «انتظرها، إلى أن يقول لك الليل: لم يبق غيركما في الوجود»! لست أنت من أقحموك عنوة على الشاشات. أنت «المتيّم والميتم والمتمم ما مضى». أنت «الحديقة والحبيبة، حيرتان وحسرتان». أنت «المغامر والمعد المستعد لموته، الموعود منفياً، مريض المشتهى». أنت «الوداع، الوردة الوسطى، ولاء للولادة أين ما وجدت، ووعد الوالدين». أنت «الدليل، الدرب، دمعة دارة درست، ودوري يدللني ويدميني، وهذا الإسم لي». وهذا الإسم لك! حين كتب محمود درويش قصائده - على ما تحدثني عنه مخيّلتي - كان يشدّ بيديه أيدي أطفال الحجارة. يقف عند أنفاس الراحلين إلى مثواهم الأخير. يمنحهم الشهيق فيعطوه الرحيق. لا يُكتب محمود درويش إن لم ننزل إلى أرض الرماية. على قلق كنت أشاهد ما يعرض عنك. أما الآن فقد اعتكفت. فأنت في مخيّلتي خمر معتّق، لكنّ قدسيّة «المحرّم» لا تسمح لي بتذوقك. لأتلذذ بطعم النزف المخمليّ من قصائدك. أنت كالسماء.. ما أجملها وهي بعيدة. أنت تماماً كزهر اللّوز، لا أبعد. أنت كلّ هذه الأشياء الجديدة تحت الشمس، باستثناء ما نراه على الشاشات! أنت لست هو، وهو ليس أنت، ولا يمكنه أن يكون! أما الفتاة التي اختاروها كي تكون حبيبتك، فلديّ سؤال بسيط لها: هل شممتِ «رائحة الياسمين في الصيف» كي تكبري ليلاً؟ أم ردّدتها بعين مغمضة على شغفه حين كتبها، وفتحتها لتقرأي الحبر على الورق؟ عذراً مارسيل خليفة. محمود درويش يتنشق من كلّ ناي قصيدة، ومن كلّ عود سبيلا، ومن كلّ كمان شغفا وحنينا، فيقضّ مضاجعنا بصوته، ونغيب فيه. يا محمود، «لا هدف لنا إلا الهزيمة في حروبك، فانتصر أنت انتصر، واسمع مديحك في ضحاياك: انتصر! سلمت يداك! وعد إلينا..». عد إلينا رابحين! سئمنا الخسارة برفع أنفاسك لنعلن شهيق النصر لفلسطين. مشكلتنا أننّا أبناء جيل لملم الحبّ معك، وداس على العدوّ معك، وغنّى مع العود معك، وصنّف الأحجار معك، فأنت وحدك، أنت وحدك نور اللازورد.. يعصف اشتياقنا لعينيك فينا عصفاً، يهزّ الحنين من موضعه، يبعثرنا، ويكوينا. حلّ بنا هلع من الشعر في غيابك، لا نريد بديلاً عنك، فإمّا أن تقوم الآن، وإمّا لا شيء دونك. أغلقنا شبابيكنا المطلّة على سواك، وأعلنّا الفطام. كثيرون قبلك رفعوا مجد الشعر، لكنّك كنت استثنائياً. لا يمكن لشاعر مثلك أن يعطي عتبته ومنبره لآخر يريد أن «يمثّل» الشعر! لقد فرحت بالمبادرة، وكنت أودّ معرفة كل التفاصيل التي رافقت دواوينك، لكن العمل هذا خيّب ظنّي! ربّما نحن من يجب أن يُلقى علينا اللوم، لأنّا فكرنا للحظة، أنّ أحداً غيرك يمكنه أن يكون أنت لثلاثين يوما! كنّا نريد معرفة تفاصيل حروفك. كلّنا نسجنا من قصائدك قصصاً لنا، ونسبناها إلى حكاياتنا، وإلى حبّنا لفلسطين، لكنّا لم ندر ما سرّها فيك، وما كان يدور في مخيّلتك حين ردّدتها على ملايين البشر، فإلى من كنت تنظر؟ ومن كان حماسك؟ من كان شغفك لتتلو علينا سهامك الحريريّة التي دوّت في الساحات والقاعات والشاشات والكتب من قصيدة «لاعب النّرد»؟ ما دمت في حلمنا أجمل، فالواقع الذي يجسّدك ناقص. النقص الأساسي هو فقدانك أنت، والآخر هو عدم قدرة أحد أن يملأ فراغك المدوّي فينا. نريدك في أحلامنا ومخيّلاتنا فقط، كي تبقى الأجمل، والأنقى، والأرقى، والأعمق، والأذكى ممن دوّنوا تاريخ شعب لم يجمع تفاصيل أيامه، وخيباته، وسحقاته، وحبه، وكرهه، وحزنه، وفرحه، وقيامه، وهبوطه، سواك أنت، أنت وحدك، محمود درويش!