أكثر من مئة يوم مرّت على بداية الثورة السورية. مئات القتلى وقعوا، آلاف الاعتقالات، وعشرات آلاف المهجّرين داخل البلاد وخارجها. أما النظام السوري، من جهته، فلم يوفّر جهداً لقمع الاحتجاجات ووأد بوادر الثورة. علماً بأنه حاول في وقت مبكر الاقتداء بالنموذج التونسي من خلال السعي لتحقيق التوازن بين القمع ووعود الإصلاح، لكن المبالغة في الخيار العسكري دفعت بنسبة كبيرة من المدنيين إلى الانقلاب عليه. وعلى ضوء المعطيات السورية الحالية، تحضر سيناريوهات عدة. في السيناريو الأول، الذي حدث بالفعل، ينجح النظام السوري في تدجين المواطنين وترويعهم. في السيناريو الثاني، الذي لم يدخل حيّز التنفيذ جدياً، يجري الرئيس بشار الأسد إصلاحات تتعلّق بقانون الإعلام والحقوق المدنيّة والتعددية السياسية وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة، فضلاً عن مكافحة الفساد. السيناريو الثالث، الذي تبتعد إمكانيّة حدوثه، قد يترجم بانشقاقات داخل النظام، تحاكي ما حصل في كل من مصر وتونس، حيث تولى الجيش زمام المبادرة وعزل مكونات النظام السياسي الأكثر فساداً. أما السيناريو الرابع والأخطر، وهو قيد التحقق، فيقوم على تكثيف آلية القمع مقابل تكثيف الاحتجاجات، الأمر الذي يهدّد بجرّ البلد إلى حرب عرقية ومذهبيّة. يُذكر أن هذه الفرضية ليست مستجدّة في ظل ما قدمه النموذجان العراقي واللبناني خلال السنوات الماضية. قد يكون الحلّ المثالي للأزمة، وفقا للعديد من الجهات، هو السيناريو الخامس، وفيه يتوصل جزء من النخبة العلوية والطائفة السنيّة إلى اتفاق يقضي بإبعاد عائلة الأسد عن السلطة، والتوصل إلى تقاسم عادل للسلطة بين الأطراف المختلفة. لا شك في أن لزلزال الأزمة السورية ارتدادات قوية في منطقة الشرق الأوسط، وهي إن بدأت في لبنان حيث تواجه حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المدعومة من حزب الله اتهام المحكمة الدولية لعناصر من حزب الله باغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، فهي لا تنتهي عند تدهور العلاقات بين سوريا وتركيا بشكل غير مسبوق. بالنسبة لدول الخليج، التي طالما تخوفت من سوريا وعلاقاتها المشبوهة مع إيران، فهي تشعر اليوم بأن النظام السوري هو بمثابة حصن منيع بوجه انتشار الثورات العربيّة نحو المشرق العربي. في حين أن التحدي الأكبر الذي تواجهه دول الخليج في هذه المرحلة، والمملكة العربيّة السعوديّة تحديداً، هو التالي: هل ستدق الثورات العربيّة، بانجازاتها السياسية والمعنوية، أبواب مملكة آل سعود، هناك حيث الأسئلة حول المواطنة والحريات السياسية والمساواة بين الجنسين والتعددية الطائفية والمذهبية تفرض نفسها بقوة. أما بالنسبة للمملكة الأردنية، فهي تجد نفسها ممزقة بين عدائها التقليدي لحزب البعث وبين خوفها من استيلاء الإخوان المسلمين على الجارة السورية بحدودها الضخمة. وكان الملك عبد الله أبدى في العام 2003 تخوفه من فرضية تشكيل الهلال الشيعي الذي يضم إيران والعراق وسوريا ولبنان. ومن جهة أخرى، لا يخفى أن الأزمة السورية سرّعت كذلك سياسة التمرد في الأراضي الفلسطينية، حيث خلقت حالة تقارب بين حماس وفتح من دون موافقة دمشق. والأسوأ من ذلك، بالنسبة لسوريا، أن حماس وجدت في مصر ما بعد مبارك صديقاً جديداً. واحدة من النتائج غير المنتظرة للأزمة السورية الحالية تجلّت في إثارة الهلع في تل أبيب، كما في إحراج أمريكا. فتل أبيب كانت على ثقة، على الرغم من العبارات الثورية البعثية التي كانت تطلق في الماضي، بأن الجبهة الشمالية الشرقية ستبقى هادئة. أما اليوم فقد تبيّن ان الثورات العربية جميعها، بما فيها السورية، قد فتحت التناقضات على اسرائيل: يبدو أن سقوط الأنظمة الدكتاتورية العربية لا يخدم اسرائيل في بسط تفوقها على المنطقة. وفي ما يتعلّق بالعراق، قد يبدو مستغرباً قلقه من سقوط محتمل للنظام السوري. فبغداد ودمشق لم تكونا على علاقة جيّدة منذ أكثر من خمسين عاماً، وكلتاهما جمعت في السلطة الإخوة الأعداء في حزب البعث. لكن ما سر هذا القلق من سقوط النظام؟ وهل يتقاسمه جميع العراقيين؟ تسببت الحرب الأهلية التي شهدها العراق بين عامي 2006 و2007 بتهجير جماعي إلى الدول المجاورة لا سيما إلى سوريا، حيث يعيش فيها الآن أكثر من مليون لاجئ عراقي من جميع الأديان. من هنا، فإن أي انتكاسة في الأوضاع السورية، على الطريقة اليمنية أو الليبية، تدفع النظام إلى طرد عدد كبير من اللاجئين إلى العراق، في وقت يشهد الأخير تدهوراً مقلقاً لجهة التدابير الأمنية. وحتى لو استمر النظام السوري، العلوي في دعم المتمردين العرب السنة وقدامى البعثيين، فإن الحكومة العراقية تتخوّف من حقيقة أن البديل لا يمكن أن يكون أقل سوءاً، وبغداد تراه متمثلاً في أصوليّة سنيّة مدعومة من دول الخليج، والمملكة العربية السعودية تحديداً، ضد الشيعة في المنطقة،وهذا ما يجعل شيعة العراق، على الرغم من خلافاتهم مع إيران، يتخوفون من رؤية السنة يبسطون هيمنتهم على سوريا ولبنان. فسقوط النظام يعني بالنسبة لبغداد، كما لغيرها، ضعفا حتميا لحزب الله اللبناني، وبالتالي تراجع الشيعة في المنطقة. ولا ننسى أن شيعة العراق، على تنوعهم، تربطهم علاقات استثمارية، رسمية وغير رسميّة، بسوريا. وقد حاولت حكومة المالكي، منذ العام 2009، أن تخلق علاقة عراقية - سورية هادئة، تعود بالفوائد الاقتصادية على البلدين، لا سيما في حقلي النفط والغاز. وفي هذا الإطار، فإن انهيار نظام الأسد يعني دخول البلاد في حرب أهلية. وهذا من شأنه أن يفضي إلى خلق حالة من الفوضى تشكل ارضاً خصبة لتحرك الجماعات المتطرفة التي قد تمد جسوراً مع الجماعات السلفية في طرابلس وفي سوريا وصولا إلى المثلث السني في العراق. وهذه الفرضية - السيناريو تخيف الولاياتالمتحدة، حتى ولو لم تبد تعاطفاً علنيا مع الأسد. وبالتالي لأسباب تتعلّق بالمعطيات الاجتماعية - السياسية في العراق، فإن غالبيّة القوى تخشى سقوط النظام السوري، بمن فيها السنة والبعثيون المهددون بخسارة حليف »براغماتي« مهم. وحدهم أكراد العراق، وحزب مسعود البرزاني تحديداً، سيشعرون بالارتياح لسقوط نظام دمشق. إذ لا ننسى أن مليون ونصف مليون إلى مليوني كردي يعيشون في سوريا في ظروف سياسية وإدارية محفوفة بالمخاطر، على الرغم من الخطوة المتأخرة التي قد قامت الدولة السورية، تحت ضغط الشارع، بمنح أكثر من مائة ألف كردي الجنسية. وفي الخلاصة، هذه ليست المرة الأولى التي يضغط فيها شعب في المنطقة على حكومته طلباً للانفتاح، والخيار متاح امام الحكومة السورية، كما امام الحكومات الاخرى، على الانفتاح بشكل تدريجي. والشارع السوري يذكرنا اليوم بأن سوريا في قلب العالم العربي، إنما للمطالبة بمزيد من الديموقراطية والحرية والكرامة الإنسانيّة. * باحث عراقي ورئيس المركز الفرنسي للبحوث العلمية في العراق.