كان أجدر أن يكون لكتاب الطاهر بنجلون « اللحمة الأخوية» عنوانا آخر هو «كتاب الصداقة». لأن الكتاب فعلا يتناول فكرة الصداقة استنادا إلى تجربة الكاتب من الطفولة حتى بلوغه سنا متقدما مكنه من تحديد الصداقة والنزول إلى عمقها الإنساني والفلسفي. ولا يخفى أن أمر «الصداقة» أخذ حيزا مهما من كبار الفلاسفة والمفكرين والادباء. وقد تفرق هذا الحيز بين ناف لوجود صديق وبين مثبت. وهنا نسوق مثلا قولة منسوبة إلى سقراط: « إن ظن أحد أن أمر الصداقة صغير، فالصغير من ظن ذلك». إذن، فتتبع القارئ لكتاب الطاهر بنجلون، الذي نقدمه اليوم، هو رحلة في كتاب مع واحدة من أكبر الإشكالات التي يفكر فيها الإنسان يوميا: الصديق الذي يطلق عليه المسلمون «الأخ في الله» كما في قول عبد الله بن المبارك: «وما أعياني شيء كما أعياني أني لا أجد أخا في الله». لقد وجد الطاهر بنجلون، هؤلاء الإخوان في الله، لكن أحوالهم عديدة، ووجوههم مختلفة. لكن العبء ، الذي وجده بنجلون طيلة حياته مع الأصدقاء، هو إيجاد القدرة على القيام بهم، ومراعاة مسألة قلة وجودهم، وكأن بنجلون رجع بعيد لذلك الذي أجاب قديما جدا عن سؤال: «كم لك من صديق؟» قائلا: « لا أدري، لأن الدنيا علي مقبلة، فكل من يلقاني يظهر الصداقة، وإنما أحصيهم إذا ولت». جان-مارك عبارة عن لغز. لن أقول عنه إنه اللطف نفسه لأنني أعرف أن ذلك يغيظه و أن وحدهم المستعجلون لإلصاق علامة به يتخذون لطفه مرجعا. ورغم ذلك فإن هذا اللطف أمر واقعي. لكن هناك شيء آخر. الحزن الذي في عمق عينيه الضاحكتين، وفي حركاته الموزونة والكريمة. هو رجل مخاطر. يحب المغامرات، والمراهنات ومتعة التركيبات المعقدة. يظهر عنده الكثير من الخفة؛ لكن في العمق، هو قناع يخفي خوفا خطيرا. حسه الفكاهي يأتي من هنا. يضع في رواياته هذا الخوف. استغربت أن حول جان-مارك يقيم سوء الفهم. ولا يقوم بأي شيء لإزالته. غالبا ما أنتقد، عند هذا القارئ المتميز، غياب الصرامة. لكنه يبقى صديقا أثق فيه كثيرا، ويطمئنني. أحب أن أفد على مكتبه دون موعد، و آخذ منه كتبا ومجلات. يحب كرة القدم، السينما، الأسرار، الكواليس، الصداقة والخمور الجيدة. كان أول ناشر ل»فاسيليس»، وفاسيليس كان هو أول كاتب ينشر عنده. من هنا الثقة الثابتة لهذا اليوناني الذي نحبه كثيرا، صاحب الكتب الغريبة والصعبة في نفس الوقت. فاسيليس شخص غريب الأطوار. يضع صندلا مصنوعا بأيدي مزارعي «بيلوبوناز»، ويرتدي صدرية صوف فضفاضة وأيضا سروالا من المخمل. رجل جذاب يخاف من النساء المغرمات. هو الآخر يحب كرة القدم، والخدع و الهزء. أحب ضحكته، طريقة نطقه المتلعثمة أحيانا، الذي غالبا ما تكون في خدمة مراقبة غير منتظرة وقاسية للحياة. يعيش في فضاء معزول تماما، حتى إن بعض اليابانيين، ذات يوم، أتوا لزيارته. شارلي هو من صمم هذه الشقة الصغيرة. عرفني فاسيليس على شارلي. وهو مهندس موهوب، يحلم ببيت مفتوح على البحر والسماء، شارلي يجري ليمسك بالضوء الذي غمر طفولته ذات يوم. ولد في تونس، وهو اليوم يصارع عواقب الاقتلاع. في الصداقة وجد بيته، ودافعا للأمل، و القوة لمواجهة الحياة. أنه كائن رقيق و أخوي. يحدث أن أَضايقه قليلا. نضحك، ونحاول أن ننسى الجراح القديمة. فيليب.ل. مصور فوتوغرافي. يحدث أن يسافر طيلة عدة أشهر إلى الطرف الآخر من العالم. يعود، دون أن يتغير، مليئا بالصور، بالأحاسيس والمشاريع. إنه الصديق المتقطع، المنسجم مع نفسه، والذي يعرف أن يأخذ وقتا للحياة وفق منطقه الخاص. الآخر هو فيليب، وهو شخصية روائية. منذ أن رأيته، عرفت أنه سيكون ذات يوم في أحد كتبي. وهو في رواية «العيون المنخفضة». هو رجل وفي جدا. يملك ذكاء جدا إنسانيا يمكنه من قراءة خطوط اليد، والوجوه وفي الأفكار السرية. كما أنه موهوب لاختراق المظاهر. يقوم بذلك بحصافة ولطف. يحدث لي أن أزوره كما لو أنه طبيب روح، أو جراح قدر. تطورت صداقتنا ببطء. وهي بدون شك موعودة بمستقبل أفضل لأننا نقتسم فكرا متحررا عن الجنس البشري. « لا يمكن أن توجد صداقة حقيقية إلا بين أناس طيبين.» (سيسرون). جان-بيار و ماري-بيار هما شخصان طيبان. اخترقت صداقتنا الزمن، ورغ أن هناك فترة لا نرى فيها بعضنا، فإن العلاقة تأسست بدون أدنى صعوبة. وذلك دليل صلابة. طيلة عشرين سنة، وهذه الصداقة تحافظ على ذاكرة جيدة- لقاؤنا الأول كان في «هوتفيليي»، سنة 1974، خلال اجتماع للشعراء الفرانكفونيين حيث قدم جان-بيار بورتريها عني للتلفزيون، فكان ذلك أول ظهور لي في التلفزيون- مثلما تحافظ على طعم الوجبات المشتركة خلال العمل الجماعي. منذ سنوات ، ونحن نحاول إنجاز فيلم مشترك. كتبنا سيناريوهين لكن، في كل مرة، نصدم ببيروقراطية وعجرفة الذين كلفوا بتقرير ما يستحق أن يشاهده الجمهور. زاد ذلك روابطنا قوة وأغنى علاقتنا بالسخرية و الهزء. دخلت ماري-بيار هذه العلاقة مثل بيت دافئ ومفتوح.