كان أجدر أن يكون لكتاب الطاهر بنجلون « اللحمة الأخوية» عنوانا آخر هو «كتاب الصداقة». لأن الكتاب فعلا يتناول فكرة الصداقة استنادا إلى تجربة الكاتب من الطفولة حتى بلوغه سنا متقدما مكنه من تحديد الصداقة والنزول إلى عمقها الإنساني والفلسفي. ولا يخفى أن أمر «الصداقة» أخذ حيزا مهما من كبار الفلاسفة والمفكرين والادباء. وقد تفرق هذا الحيز بين ناف لوجود صديق وبين مثبت. وهنا نسوق مثلا قولة منسوبة إلى سقراط: « إن ظن أحد أن أمر الصداقة صغير، فالصغير من ظن ذلك». إذن، فتتبع القارئ لكتاب الطاهر بنجلون، الذي نقدمه اليوم، هو رحلة في كتاب مع واحدة من أكبر الإشكالات التي يفكر فيها الإنسان يوميا: الصديق الذي يطلق عليه المسلمون «الأخ في الله» كما في قول عبد الله بن المبارك: «وما أعياني شيء كما أعياني أني لا أجد أخا في الله». لقد وجد الطاهر بنجلون، هؤلاء الإخوان في الله، لكن أحوالهم عديدة، ووجوههم مختلفة. لكن العبء ، الذي وجده بنجلون طيلة حياته مع الأصدقاء، هو إيجاد القدرة على القيام بهم، ومراعاة مسألة قلة وجودهم، وكأن بنجلون رجع بعيد لذلك الذي أجاب قديما جدا عن سؤال: «كم لك من صديق؟» قائلا: « لا أدري، لأن الدنيا علي مقبلة، فكل من يلقاني يظهر الصداقة، وإنما أحصيهم إذا ولت». جان ماري لوكلويزيو شخص رهيب ويعطي انطباع أنه مرهوب. وهي مسافة نحرز فيها الدفء والأخوة. التقينا في الأدب قبل أن نلتقي في الحياة. بينما هو كان يكتب «صحراء»، كنت أنا أحكي « صلاة الغائب».دون أن نخطط لذلك أدخلنا في الحبكة نفس الشخصية التاريخية، بطل الجنوب المغربي، الشيخ ماء العينين، الذي صمد، في بداية القرن العشرين، في وجه القوات الفرنسية والإسبانية. فضلا عن أن حكاياتنا مختلفة جدا؛ لكن مجرد التفكير في تشريف هذا الشيخ أسس لتكامل بين كاتبين وفتح طريق الصداقة. بقينا نخاطب بعضنا بصيغة الجمع «أنتم» لزمن طويل، حتى ونحن نقول لبعضنا أشياء لا يتبادلها إلا الأصدقاء. وبفضل زوجته «جمعة» بدأنا نحدث بعضنا بصيغة المفرد «أنت». أعتقد أن صداقتنا تعمقت خلال سفر إلى «هايتي»، في شهر أبريل من سنة 1987، برفقة الكاتبة «دنيال سالوناف». خصصت «فرانس كلتير» يوما كاملا لهذه الجزيرة، أول جمهورية سوداء مستقلة، التي تخلصت من ابن «ديفاليي»، المسؤول عن عدة جرائم مذابح. كنا نكتشف بلدا مدمر كليا بديكتاتورية «ديفاليي»و عائلة، بلد ممزق، وصل إلى مرحلة البربرية و اليأس. المضطرب بهذا الشعب الذي انحط إلى أقصى درجات الفقر، ومهمل بعد أن تم اغتصابه. لم نعرف، جان ماري و أنا، كيف نعبر عن تضامننا، كيف نساعد هؤلاء الناس في الشدة. وهذا الاختبار دفعنا إلى الحديث عن الكلمات، عن سلطتها الوهمية أو الواقعية. قال لي جان-ماري بأن صياغة كلمة واحدة هي بالنسبة إليه معجزة. فوجئنا بكوننا نستمر في الكتابة، وقص الحكايات واللقاء بالقراء. في هايتي فقط أدركنا نسبية الأدب، ووضعنا داخله حدودا، علينا أن نحذرها أيضا. كيف نقول هذا البلد حيث الشمس أيضا أقسى من القدر، بلد حيث كل شيء فيه يتحدى ذكاءنا؟ سيكون من الادعاء الظن بأننا فهمنا شيئا ما في هذا البلد، في هذه الأرض الساخنة والمغتصبة. في الليل تكون عيوننا مليئة بالألوان، بالضجيج، بالصمت والأسئلة. في كل مكان نتذكر هذه الجموع الكثيفة التي انتزع الفقر الابتسامة من وجوهها. الوجوه قاسية ووقورة. كان جان- ماري يشتغل بالليل. خلال اليوم يمشي، يهتم بالفتيات، يكتب الرسائل، يزور المكتبات، ولا يقرأ أبدا الصحف. يهيئ لليل الكتابة . يريد ألا يكون له أي خيال، و ألا يقوم سوى بنقل المعطيات التي يجدها في الكتب وفي الوثائق. متحفظ وخجول، يكره الظهور، الأعراف الاجتماعية، أخبار المجتمع والجموع. إنه رجل لطيف جدا. يعرف كيف يسمع. التداول معه مثير. رغبة بسيطة ونادرة. حدث أن تكلمنا عن المشاكل الشخصية، حتى و إن كانت صعبة، كان يحسن اجتناب التهويل. رغباته، خارج الأسرة، بسيطة هي الأخرى: كره العنصرية،المطالبة بالعدالة، رفض الأنانية والخيلاء، احترام الآخر و ثقافة لصداقة الطبيعية . إنه شخص يرفض أن يقوم بجهد كبير لولوج الحياة الأدبية. يستغرب من شهرته ولا يوظفها أبدا. جمعة، التي تهتم بكل شيء، تحميه وأحيانا تخرجه من ملجئه. إنها زوجة نجحت، إضافة إلى الشرف، في إحاطته بالأصدقاء. جمعة صديقته. أحب عشقه للحياة ووفاءه للصداقة. هذه الرابطة الهادئة والساكنة أصبحت مع الزمن ضرورة. صدفة الحياة جعلتنا لا نلتقي كثيرا رغم أننا نعيش في المدينة نفسها. نتواصل عبر الهاتف، ونتراسل عبر الفاكس. أحب أن أراهما معا مثلما أحب أن أراهما متفرقين. في كل لحظة أقرأ على وجهيهما سعادة الوجود وحب بعضهما رغم الحزن. إنه زوج يهزم يأس الحياة الزوجية.