تصادف أن جلست مؤخرا إلى شلة من شباب حركة 20 فبراير في الدارالبيضاء، في جلسة احتفالية التفوا فيها بعد أن انتهوا من نشاط لهم داخل الحركة. كان الحاضرون من شباب وشابات، مستقلين أو من تيارات يسارية مختلفة، ما جمعهم هو المرح والإقدام على حب الحياة كما يبدو ذلك من تنوع المشروبات فوق الطاولة أمامهم، بدون حقد أو ضغائن أو حسابات بينهم. وقبل ذلك كان قد أثار انتباهي في النشاط المذكور، التجاور العادي بين شابات من الحركة يبرزن مفاتنهن بجانب شباب ملتح من العدل والإحسان، دون أن يخلق ذلك إحراجا لأي طرف. وذلك ما جعلني أتساءل مع نفسي، إلى أي حد يمكن أن تذهب إمكانيات التعايش المتسامح بيننا كمغاربة بمختلف تلاويننا، ثم إلى أي مدى قد نذهب في تأويلاتنا لما نسميه بالأخلاق والقيم والمبادئ؟ ما أثارني في كل هذا، أي موقع علينا أن نختاره نحن كيساريين ديمقراطيين ونحن أمام جبهات أو برامج نضالية متعددة، قد تكون أحيانا حتى متعارضة في ما بينها؟ - هل علينا أن نذهب مباشرة للمطالبة بشيء يتجاوز حتى الأرضية التأسيسية لحركة 20 فبراير، وهو الأمر الذي يبقى من أجندة العدل الإحسان والنهج والمجموعات اليسارية الأخرى الجذرية، ولا يهم حسب علمي أي طرف من اليساريين الديمقراطيين، - أم تكون الأولوية لجبهة النضال من أجل ملكية برلمانية خالصة، وفي هذه الحالة، يصبح التحالف الظرفي مقتصرا فقط على هذه الأطراف أعلاه بالإضافة إلى بعض مكونات الصف اليساري الديمقراطي، - أم أن تتوسع جبهة النضال بعد أن تنتهي معركة الدستور، فتنفتح على كل من هو ضد الفساد والمفسدين كما دعت إلى ذلك حركة 20 فبراير مثلا، وفي هذه الحالة أن يمتد التحالف من العدل والإحسان وبعض الأعضاء من العدالة والتنمية ومن السلفيين وصولا إلى أقصى مكونات اليسار، مرورا بطبيعة الحال بمختلف مكونات الصف اليساري والديمقراطي؟ - أم أن تنفتح جبهة أخرى للنضال، في ربط مع تصريحات عبد الإله بنكيران وغيره من رموز الإسلام السياسي في ما يتعلق بقضايا الهوية، هدفها محاربة التزمت الثقافي والمطالبة بسمو القوانين والقيم الكونية والاعتراف بحرية المعتقد وبالتعددية الثقافية، وفي هذا الحال سيقتصر التحالف بطبيعة الحال على القوى الحداثية من يساريين وأمازيغيين وحتى ليبراليين؟ أو بعبارة مجازية، من سيكون الأقرب إلينا بحسب كل جبهة نضالية : هل خديجة الرياضي من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان أم نادية ياسين من العدل والإحسان أم خديجة الرويسي من بيت الحكمة ؟ ولقد زادت حدة التساؤلات في شأن هذا الموضوع، خاصة بعد حصول التفاوت داخل حركة 20 فبراير بشأن مشروع الدستور. فهل سيؤدي ذلك إلى تعثر الحركة نهائيا، وانتهاء صلاحيةالشرعية التي ظهرت من أجلها، وهي المطالبة بملكية برلمانية، بعد أن يكون المغاربة قد أدلوا برأيهم حول الموضوع في الاستفتاء، أم أن نعتبر أن مطالب الحركة لن تتوقف عند الدستور، ولكنها ستبقى ممتدة بالخصوص إلى محاربة الفساد، وإلى النضال من أجل قيم الحرية وقضايا الهوية وهي المعارك التي مازالت لحد الآن في بدايتها؟ كيف سيمكن أن نوفق بين النضال على مستوى مختلف هذه الجبهات من دون أن تفقد الحركة وهجها، وبدون أن يؤدي الخلل في تدبير ذلك إلى شللها وتفجيرها من الداخل؟ في هذا الموضوع سبق وأن كتبت منذ أكثر من شهر، بأن الحركة كما سارت لحد الآن، أو ما قد ننعته بحركة المطالب الدستورية، قد تموت وتنتهي بمجرد حدوث الاستفتاء، لكن الورشات الأخرى ستبقى مفتوحة، وبالتالي منتظر أن تتحول من حركة إلى حركات، ومن مطلب مركزي متمحور على الدستور والملكية البرلمانية، إلى مطالب أخرى متفرعة: موضوع اتية أو قطاعية أو فئوية أو محلية أو جهوية ... ألخ. وقد نستأنس في هذا الموضوع بما حدث مثلا لانتفاضة ماي 68 الطلابية في فرنسا. فبين خيار الموت والشلل التام الذي قد تتعرض له الحركة، وخيار الانفجار والانقسامات الداخلية، قد يكون أمامنا نحن كيساريين ديمقراطيين، خيار ثالث: وهو الحفاظ على روح الحركة، أي روح الاحتجاج ضد كل أشكال الظلم والحكرة، والاعتماد على الشارع كسلطة خامسة، وبالخصوص تحويل هذه السلطة الأخيرة إلى سلاح في يد أية فئة من الشعب المغربي تعتبر نفسها هضمت في حقوقها أو تعرضت للظلم والحكرة. فالحركة إن كانت قد جاءت أصلا كآلية لتكثيف ومركزة النضالات الاجتماعية التي كانت تعرفها العديد من المناطق المغربية بشكل متفرق قبل 20 فبراير، تحت سقف شعار موحد، هو شعار الإصلاح السياسي ومطلب الملكية البرلمانية، وعملت على نقل هذه المطالب من الأطراف إلى المركز، يمكن أن تقوم الآن بالنقل المعاكس في عملية جدلية: أي من المركز إلى مختلف الأطراف، مزودة هذه المرة بأفق سياسي وبعد وطني كانت تفتقده من قبل. أن يجد متظاهرو إفني أو صفرو أو الحسيمة أو معطلو الرباط أو نساء الأطلس المتوسط، أو المدافعون عن الحريات الفردية والتعددية الثقافية ... أنفسهم وهم يخوضون نضالاتهم الخاصة مؤطرين تحت نفس الشعار السياسي المركزي: محاربة الفساد والإقصاء. لقد وضح عبد الله العروي كيف أن بناء المواطنة إنما يبدأ حين سيحس الأفراد أنهم يتملكون فعلا محيطهم المباشر في قريتهم أو حيهم أو مدينتهم أو فضاء عملهم. غير أن ما بقي يعيق تحقق ذلك لحد الآن، هو غياب الإطار الدستوري والمؤسساتي المناسب الذي يحررهم من سطوة شبكات المخزن، بما يتسنى لهم ممارسة مواطنتهم كاملة في تدبير أمور محيطهم. وبالتأكيد أن الدستور الجديد ، وإن كان سيؤدي إلى فتح ثغرات مهمة في جدار المخزن، فهو لن ينجح لوحده في توفير شروط تلك المواطنة إن لم يقم ذلك على معارك نضالية حقيقية وطويلة النفس للأفراد كل في موقعه، معبئين بروح حركة 20 فبراير. سيكون الأمر وكأنه حرب تحرير شعبية طويلة المدى تسعى إلى انتزاع قرية قرية أو حي حي من قبضة شبكات المخزن الأخطبوطية. وسيبقى السلاح الرئيسي الكفيل بتحقيق هذا النصر هو سلاح التظاهر والنزول إلى الشارع كلما اقتضت الضرورة ذلك. ومما يبرر قناعتنا أن لا أمل لنا آخر في قهر شبكات المخزن هذه غير سلاح الشارع، نذكر مثلا أنه في بداية التسعينات أملنا أن تساهم جمعيات المجتمع المدني عبر تعميمها في الأحياء والقرى آنذاك، أن تلعب دورا في مساعدة سكان المناطق على فك ارتباطهم بهذه الشبكات، لكن ما تبين لنا لاحقا كيف أن نفس هذه الشبكات وما أفرزته في حينه من أعيان جدد، هم من عادوا للالتفاف واحتواء معظم هذه الجمعيات وتحويلها إلى أدوات جديدة في أيديهم لتأبيد سيطرة المخزن. وللمقارنة مع ما يحدث في مجال الاقتصاد، فإن الاقتصادي الهندي أماريتيا صن، وهو يدافع عن نجاعة اقتصاد السوق الليبرالية، اعتبر أن ذلك قد لا يعود بأية فائدة على الفئات المهمشة في مجتمعات العالم الثالث وهي التي تمثل أحيانا الأغلبية، ما لم تكن مدمجة مسبقا في هذه السوق عبر امتلاكها للحد الأدنى من المؤهلات من تعليم وصحة ومواصلات ... التي تسمح لها بالولوج والمشاركة في المنافسة على قدم المساواة مع باقي الفاعلين. وبنفس المنطق، قد نعتبر نحن أيضا، أن الوصول إلى الديمقراطية بمفهومها الكوني والاطمئنان إلى نتائج صناديق الاقتراع، لن يتحقق قبل أن نتأكد أولا من اندماج كل فئات الشعب المغربي في مفهوم المواطنة، أي امتلاكها القدرة على حرية الاختيار بدون تدخل أو توجيه أو ضغط من شبكات المخزن المهيمن. وكخلاصة، إن تأكيدنا على ضرورة الحرص على هذا التوازن والتنويع في جبهات نضالنا الديمقراطي، والانتقال ما بين المركز والمحيط، أو الدولة والمجتمع، أو المطلب السياسي والمطالب المحلية والفئوية ... هو ما جعلنا نعتبر أن القبول بمشروع الدستور الحالي بالرغم من صيغته الناقصة، ليس هو نهاية العالم ولا الأفق الذي ستقف عنده حركة 20 فبراير. فكما اقتنعنا من قبل، أنه لن ننجح في إنتاج نخب ديمقراطية محلية على نموذج ما أراده العروي، ما لم نفتح ثغرة سياسية في جدار المخزن، كذلك أنه لن ننجح في المقابل في تصريف وتفعيل ما يتحقق وطنيا من إصلاحات دستورية وسياسية، ما لم يتم تهيئ نخب محلية يفرزها الشارع. إن هذه الرؤية هي نفسها ما بقي يؤطرنا دائما في نضالنا تحت شعار: من أجل يسار للدولة ويسار للمجتمع.