لسمكِ السّلمون رحلةٌ عجيبة...لا شكّ أن غالبيتَنا يعرفُ بعضَ تفاصيلِها: فهُو يولدُ في ينابيع المياه. ثم يتّجه نحو البحر سالكا طريق النهر. يصِله ويقضي فيه أعواماً عدة. غير أنّه عندما يكبُرُ ويشْعرُ أنه قادر على الإنتاج ، يبدأ رحلة العودة، والتي تستمر عِدّة شهور، يجتازُ خلالها مئاتِ الكيلومترات، والكثيرَ من العراقيل والحواجز كالسير عكسَ التيار والقفز ضد مجرى الشلالات، ليصلَ إلى موطنه الأصلي. هناك يضعُ بيضَه ...ثم يموت. إنّ رحلتي اليوم من المغرب إلى إسبانيا شبيهةٌ برحلة السلمون. رحلةٌ يُتاحُ فيها للزّجل أن يعودَ إلى موطنِه الأوّل، حيث وُلد وكَبُر وترعرع، قبل أن يهاجرَ إلى المغرب والمشرق العربي في رحلة البحث عن أنفاسٍ جديدة. ومثل السلمون كان عليّ أن أجتازَ بعضَ الصعاب، تبدأ بجمع الكثير من الوثائق الإدارية وتنتهي بالوقوف في طابور طويل بشارع النصر في الرباط، حيث يوجد مقر القنصلية الإسبانية، لكي أحصل على تأشيرة الدخول إلى أرض جدّي أبي بكر بن قزمان، شيخ الزجالين في الأندلس. اخترعَ الأندلسيّون الزجل رغبة في التعبير عن واقع حضاري وإنساني جديد. من مُميّزاته التعددُ الثقافي الذي عرفته الأندلس، واختلاطُ الشعوب ببعضها البعض، الأمر الذي أدّى إلى مسايرة الأدب والشعر لهذا التنوّع الخلاق، فكان ظهورُ الموشّح ثم الزجل كأشكال تعبيرية، شعرية وفنية جديدة تتناسب والبيئة الأندلسية التي انتصرتْ لقيم التعدد الإيجابي وآمنت بالاختلاف المنتج. أنا اليوم، حفيدُ أبو بكر بن قزمان، الزجال الذي وُلد و نشأ وعاش في قرطبة، أجيءُ إليكم،هنا، في رحلةٍ ذات دلالات شعرية وثقافية بالغة ُ الرمزية ، لأصِلَ الّرحِم وأجدّد الصّلات مع منبعي الأم . رحلةٌ، لزمني فيها الكثيرَ من لياقة أندرياس أنيستا Andres Iniesta ومكر ودهاء ميسي messi لكي أنتصرَ على الحدود والحواجز التي قطعَها يوما شِعرُ الزجل من هناك إلى هنا، دون جمارك وبلا فيزا . وعلى الرغم من أن ما كتبتُه من أشعار، والذي قدٌّر له أن يُترجم إلى الإسبانية على يد صديقي فرانسيسكو موسكوسو غارسيا، ليس بالزجل كما كتبَه أو مارسَه ابن قزمان، فقد صارت كلمة ُ « زجل» تعني في الدوائر الأدبية والنقدية المغربية، الشعرَ الذي يَستعملُ الدارجة المغربية للتعبير عن رؤية شعرية للذات وللعالم وللوجود، شأنه في ذلك ما يُكتب من شعر بالعربية الفصحى أوالأمازيغية أو الفرنسية وسواها من لغات التعبير. فنحنُ نكتبُ بالعامية المغربية شِعراً يندرج ضمن المدونة الشعرية المغربية التي تتصف بالكثير من مظاهر التعدد والتنوع اللغوي و الفني و الجمالي . ما يجعلُ شعراءَ الزجل ينتمون من جهة لابن قزمان ولشعر الزجل الأندلسي، فيماهم ينتمُون كذلك لتجربة القصيدة الحديثة في المغرب والتي تُكتبُ اليوم برهان كوني وإنساني. نكتبُ بالدارجة المغربية ليس من باب ادّعاء التميز أو الاختلاف المجاني، بل للتعبير عن مشاعرنا ورؤانا باللغة التي نحلم ونغضبُ ونسبّ بها بعضَنا البعض. تلك اللغة التي يتوحّد بها وفيها الجمهورُ المغربي وهو ينقسم، داخل المقاهي، بين مشجّع للبارصا ومشجع للريال. إنّها نفسُ اللغة التي دوَّن بها يوما ابنُ قزمان أشعاره وقصائده التي ذاعت في مُدن الأندلس وبين ساكنتها. إنّها لغة الحياة .... نص الكلمة الملقاة في ندوة « الزجل ... شعر الدارجة المغربي» التي عقدها البيت العربي بمدريد يوم 25 ماي 2011 والتي ترجمها إلى الإسبانية الصديق الشاعر خالد الريسوني.