يصبح الإسلام عجيبا حينما يرتفع فوق التاريخ، ويصبح غير ملزم بالمكان والزمان. ولا يتعلق الأمر هنا ببعض المبادئ الإنسانية الخالدة التي قد نجدها في الإسلام وغير الإسلام، بل وهذا هو الإشكال، تطال إطلاقيته تفاصيل محدّدة يستحيل انفلاتها من محددات المكان ولزوم الزمان، وإخضاعها بالتالي إلى منطق التاريخ. قد نكون عن حقّ لو نعتنا صاحبه بالدوغمائي أو الباتولوجي، ذلك أنه يتم التعامل معه، وهو حدث تاريخي، كمطلق ثابت، لم، ولا، ولن يعتريه التغيير. كل ما سبقه، وما جاء من بعده مجرد أحداث عارضة ونسبية تائهة لا معنى لها إلا بقدر ما يسبغه عنها الإسلام (في الحقيقة مسلم ما في مكان ما وزمان ما)، وهنا وجه الدوغمائية فيه. ومن جهة أخرى، يتم التعامل معه كخزان حلول لكل مشاكل الدنيا والآخرة... وهذا لعمري قمة «الباتولوجيا». سياسيا، يمكن القول إن هناك استحالة ما على حاملي مثل هذا التصور الإسلامي تأسيس «حزب سياسي» يتعايش بالضرورة مع باقي الأحزاب، وبالأحرى تسيير أمور الدولة الدنيوية مع ما تفترضه من احتكام للعقل ولمنطق الدولة نفسها. وأسباب هذه الاستحالة متعددة، فالتعايش ما بين الأحزاب يفترض بداهة قبول الآخر والإيمان بالاختلاف الذي لا يرى فيه حاملو التصور المذكور سوى خروج عن «الطريق المستقيم». كما أن تسيير أمور الدولة والشأن العام يفترض، لا نقول كفاءة التقنية والتسيير والإدارة، وهي ليست بالأمر الهين، بل، على الأقل، برنامج حد أدنى، وهو ما لا يبدو واضحا في خطابهم الأخلاقي المشوش والقريب من الروح العسكرية في آن واحد. لقد تحاشينا استعمال عبارة «إسلام إيديولوجي» لنعت هذا التصور لأن الإيديولوجيا، مهما كانت طبيعتها تشكل نظاما ونسقا، وهو ما لا يرقى له هذا التصور، ناهيك عن علاقته الغامضة بالمجال السياسي. والواقع أنه قد يعبّر عن أزمة من أزمات المجتمع دون أن يرقى إلى درجة الفاعل السياسي المحمّل بحلول أو مقترحات حلول لمشاكل المجتمع والاقتصاد. هو «نتيجة» لسبب، تعبير سلبي عن واقع أكثر مما هو مبادرة وفعل إيجابي. ولعل أهم ما يثير الانتباه في الخطاب الإسلامي «الدوغمائي والباتولوجي» هو كثرة مفارقاته، إذ يقول ما لا يفعل أو يفعل ما لا يقول: فهو أولا يحث على «الأخلاق» التي هي أولا وقبل كل شيء «وازع ذاتي» حسب عبارة ابن خلدون، في حين نجده عمليا يمارس التربية «الجماعوية» ، ويقنّن الانضباط العسكري الذي يفوق في بعض مناحيه ما تعارف عليه «الرفاق الستالنيون .» وهو ثانيا يكثر من الخطاب حول «التسامح» وحب الآخرين، بينما نجده عمليا يمارس نوعا أو أنواعا من التعسفات، ليس فقط على بعض من خالفه الرأي والمنطلق والمبدأ، بل حتى على من ينتمون ل ««أسرته»» الإسلامية الكبيرة. يدعو نظريا ل «الاجتهاد» ويفرض عمليا «تأويله» الخاص لنصوص الإسلام وتاريخه. وهو ثالثا، قد يتنازل، ويقبل عن مضض، مبدأ الديمقراطية، لكنه بالمقابل يحرّم «العلمانية» ويجرّم أصحابها، فضلاء كانوا أم أراذل. والديمقراطية عنده، في نهاية المطاف، لا تعدو أن تكون مرحلة أو «شرا» لابد منه للوصول إلى مرحلة أرقى تتمثل في مجيء «الدولة الإسلامية»! بعبارة أخرى لا مانع «أخلاقي» من استغلال آليات الديمقراطية اليوم لممارسة الديكتاتورية غداً. وهو رابعا يشمئز من النزعات الطرقية والميول الصوفية، غير أنه لا مانع من تربية مريديه على «عبادة الشخصية». وهو خامسا يشنّع على «الغرب» ويشتم حداثته، ويرى في عقلانيته كفرا و حريته مروقا ... ولكنه لا يتورّع ولا يتردّد لحظة في استعمال وسائله والاستفادة من إبداعه متذرعا بألف تبرير وحيلة. وفيما عدا هذه العينة من المفارقات الواضحة، قد يحدث لك وأنت تتصفح «أدبيات» هذا التصور «الإسلامي» أن تجد الشيء ونقيضه مثبتين في الجملة الواحدة، ولك أيها القارئ أن تختار ما تشاء، بل وقد تجد أحيانا جملا وفقرات طلسمية لن ينفعك في فك ألغازها تحليل لسني أو اجتماعي بقدر ما قد تحتاج لما وصل إليه التحليل النفسي لعلّه يقضي المراد. ولكن، هل يتعلق الأمر بحركة اجتماعية كانت أو سياسية، ألا يكون الأمر مجرد مزحة؟ عارضا تاريخيا في مجتمع كثرت فيه الحوادث؟ ذلك أنك، وأنت تقرأ تاريخ مثل هذه «الجماعات» لن تجد غير تاريخ «مؤسّسها»، وأنت تبحث في أدبياتها لن تجد غير قائدها «الملهم» مؤلفا لها، مفكرا بالنيابة عن أتباعها!