كان هذا في إطار الخيمة الأدبية اليومية التي تعرفها فعاليات المعرض الوطني الرابع للكتاب والنشر المنظم من طرف جمعية «الكتيبين المغاربة وكلية آداب بنمسيك» في فضاء ساحة السراغنة بدرب السلطان. وقد هندسه بألق كبير واقتدار العارف الروائي المبدع والباحث الأكاديمي شعيب حليفي. في هذا الفضاء الذي يحيل على الذكرى والحياة والكتابة. وفي لحظة تشارك وتناغم مسائي يمنح سحر البوح حول الأدب والوجود والتحقق الذاتي والجمعي. كل هذا في خضم حركية شعبية متفردة، حضور وازن من كتاب ومهتمين، حركة بيع وشراء وإطلاع على الكتب، عجيج الحياة النابض في أشهر ساحة شعبية بالمغرب، تلك التي عرفت مرور أحداث المقاومة ضد المستعمر، وأحداث المغرب السياسي لما بعد الاستقلال بتأسيس المعارضة الاتحادية واليسارية فيما بعد، وشاهدت نشأة حركة مسرحية وسينمائية وطنية مؤثرة، ومرور أسماء كبرى لفنانين وكتاب ومخرجين ورياضيين خلدوا الإبداع المغربي الخالص وطنيا ودوليا.. في البداية قدم الروائي القاص على اعتباره من أبناء أحد أحياء درب السلطان حيث الساحة، ومن الذين انتهجوا الكتابة بوفاء لجنس القصة القصيرة، مع تميز خاص في تناوله لها في مجموعته القصصية الثانية «الجدار ينبت ها هنا» الصادرة سنة 2008. وهذا المعطى الأخير ناتج عن حضور الصورة بشكل كبير في مقاربة الأحداث وتشكيل عوالم القصة القصيرة. بعد ذلك انثال الكلام في حوار غير مطروق وفي سابقة أدبية تحسب للروائي شعيب حليفي نتمنى أن تصير تقليدا ثقافيا مرسخا. كان البدء منه عبر تقديم لتصور ورأي وتساؤل حول ملمح أدبي خاص بالقاص، يتكفل هذا الأخير بالرد عليه حسب بناء هذا التصور والرأي ذاته لكن مع منح مساحة حرية ووقت لاستجلاب الجواب/ الأجوبة المتسمة بالعمق والندية. الشيء الذي منح الحضور لحظة استمتاع كبرى. الوفاء للقصة القصيرة، بداية قال مبارك حسني في البداية بأن وجوده في ساحة السراغنة له دلالة وجدانية خاصة. فهي المكان الذي لا بد من المرور به لمراودة هذا الحي الأسطوري المزروع ما بين براريك بنمسيك سابقا وأقواس حي عين الشق وفيلات بولو وألق «المدينة الأوروبية» جنوبا، فهنا كان نشأ الحلم في زمن المراهقة البعيدة بأن يكون كاتبا. لكن قبلا كان الرفد من مكتباته الشعبية بسوق القريعة القصديري آنذاك وعند كتبيي كراج علال وأرصفة السكة الحديدية وشارع بني مكيلد. وكان التزود من قاعات السينما العديدة ك«الملكية» و«الكواكب» و«شهرزاد» و«الأمل» و«موريطانيا» و«المامونية»، وكان النهل من الحياة الصاخبة في الأزقة والدروب وملاعب «السلك» و«الشيلي» و«الكاسناك»، والتأمل في حدائق الأرميطاج الوارفة الظل بالقرب من برك الإوز وصداقة الضوء المختبئ. وأخيرا الارتكان إلى طاولات المقاهي العتيقة والجديدة للكتابة. وستظل مقهى الحديقة القريبة من درج السكة الحديدة وطابقها العلوي هي بدء أولى القصص وأولى المقالات.. وكانت القصة القصيرة وليس الشعر هي الجنس الأول المبتغى، ويرجع ذلك لكل ما قيل سابقا. كل هذه الحياة لم يكن ممكنا تمثلها إلا في القصة، ذلك العالم الموازي المقابل للوجود القريب والباطني. فهل تحقق الحلم؟ يتساءل مبارك حسني، ويجيب بأن التواجد في ذات المكان بعد سنوات طويلة وبرفقة مجموعتين قصصيتين صادرتين وركام من المقالات المنشورة يمكن أن يدل على ذلك، لكن مع ملاحظة كمية الوهم الجميل في الحلم، ومع تلمس كل حقائق الواقع التي ليست دائما وردية. مسار وميزات القصة القصيرة عند الكاتب كان أول نص يُنشر له سنة 1985، وفي صفحة ثقافية داخلية في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» التي كان الكل يتوق إلى النشر فيها، مع غير قليل من الزهو والفرح. كان اليسار وثقافة اليسار هما العالم الذي لا بد منه في حي شعبي وفي ظروف سياسية خاصة متسمة بأجواء ثقافة النضال. لا يمكن إلا أن تكون يساريا في درب السلطان. ولأن جريدة «الاتحاد الاشتراكي» هي منبر اليسار ومنبر الثقافة الملتزمة فقد شكل النشر فيها أمرا هاما. طبعا ستُرفض نصوص أخرى قبل أن تجد مكانا آخر.. في جرائد وطنية أخرى، لتتم العودة مجددا إلى الاتحاد. النشر ليس مما كان يتم بسهولة. لكن السنوات والتراكم كان لا بد أن يفضيا إلى إصدار كتاب. وهكذا أصدر مبارك حسني مجموعته الأولى «رجل يترك معطفه» في جهل تام لكل عالم النشر وما يعتمل فيه من مسائل لا علاقة لها بالكتابة. ضمن المجموعة قصصا هي بمثابة مرآة لعشرين سنة من الممارسة. بعد ذلك نشر مجموعته الثانية «الجدار ينبت ها هنا»، وفيها حاول الكاتب استخلاص الدروس من التجربة الأولى للنشر. وهكذا راعى كثيرا الحلة والشكل، والأهم المضمون. وقال في هذا الصدد بأنه رام أن يصدر مجموعة لها بعض التميز وتبدى ذلك في ملاحظة ندرة نصوص عن الجبل هذا المكون الجغرافي والتاريخي والخرافي للذات المغربية، وعن العالم الأمازيغي في امتداده الجبلي في القصة القصيرة المغربية, وهكذا تخير نصوصا فضاءاتها جبلية وعوالمها أمازيغية وزمنها ليلي. شيء من «fantaisie» الكتابية الإبداعية أملت الأمر مع التوق المتواضع للتميز قليلا. وهو حاليا بصدد إصدار مجموعة قصصية ثالثة تحت مسمى «القبض على الموج». القصص فقط حاليا، وليس كتابة الرواية أو التفكير في كتابتها، جوابا على تساؤل للروائي شعيب حليفي. فالرواية تتطلب استعدادا نفسيا وماديا وتجهيزا للذات وللفكر وللمخيلة وتوفيرا للوقت اللازم، وهو مما يتعذر في ظروف الكاتب الحالية. وقد لوحظ طغيان الصورة بشكل واضح في جل قصص الكاتب، في هذا الصدد قال بأن ذلك جاء نتيجة التأثر بعوالم الرواية الكلاسيكية الروسية والفرنسية والأمريكية المتسمة بخصوبة الصورة الأجمل والأصفى على غرار صور رواية «الأحمر والأسود» لستندال. لكن وأيضا تأثرا عوالم الفن السابع وبالمقاربة الفنية والموضوعاتية التي يمكنها، كما أن السرد بالصورة الحية المتحركة كان له دور في رفد التجربة القصصية. فاللقطة المتفردة الجميلة المبدعة بما تحيل عليه تساعد على التصور والتجسيد وبالتالي تستدعي الكتابة عنها بمعادل نصي. الأفلام خزان عظيم لا ينضب يحضر بكامل حمولاته التمثلية، فضاء وزمنا وشخوصا وديكورا، عند الكتابة، عند تواجد رغبة في تدبيج قصة، هذا بالإضافة إلى تقنيات الفيلم، والتي تكون أيضا مساعدا ومساهما في تحوير الشكل والاستعانة إن لزم الأمر. والسينما هي الاشتغال الثاني بحكم ارتياد القاعات منذ سن المراهقة كما سبقت الإشارة. القاعات التي كانت الملاذ لجيل كامل كان يجد فيها بعض التحقق الذاتي وبعض الحلم وبعض السمو عن الواقع الفقير والمنحسر في الأحياء الشعبية. لكن ليست أي سينما. بل تلك التي تعبر عن العالم والإنسان والوجود. وقد تم اكتشاف ذلك سنة 1977 وبسينما مسرح الملكي القريبة من الساحة. وذلك حين شاهد الكاتب شريط «سائق الطاكسي» لمارتين سكورسيزي في العرض الثاني. أيام كانت قاعة شعبية يمكنها برمجة شريط حصل على السعفة الذهبية لمهرجان كان. حينها تبدى لمبارك حسني المراهق أن السينما ليست فقط أفلام بروس لي والحركة والجنس لا غير، بل جنس إبداعي خاص ومتفرد يمنح فرصة التعبير وتجربة الإبداع. وقد خصب هذا المنحى من خلال التنشيط في نادي العمل السينمائي بنفس المنطقة ومقاهي الساحة كمقهى دمشق أو مقهى الفن السابع. ثم عبر الاشتغال على النقد السينمائي لاحقا الذي كتب فيه ما لا يقل على مئات المقالات بالعربية والفرنسية في مختلف المنابر العربية والأجنبية. لكن الكتابة في هذا المجال ليست سوى منعرج، استراحة، مداراة أساسية جميلة، للكتابة في القصة القصيرة، بحيث أن الكتابة في السينما رافد أساسي للكتابة القصصية لا غير. سؤال السينما ورد في ملاحظة القاص المبدع سعيد رضواني الذي كانت له رفقة القاص جلسات قصصية عديدة في ذات الحي، وقد لاحظ أن نصوص مجموعة «رجل يترك معطفه» تحيل على الاقتباس السيتاريستي بامتياز. وكإجابة قال مبارك حسني بأن سؤال كتابة السيناريو يُذكر كثيرا بما أن الاشتغال السردي متقارب، وفي كل مرة يضطر إلى الحديث على أن الكتابة السينارستية تعب كبير زائد وغير مضمون النتائج. فأن تقضي سنة أو أكثر لكتابة سيناريو، وهو مما يتطلب نفس جهد كتابة رواية، ثم بعد ذلك يُرفض أو يظل ينتظر «عطف» مخرج محتمل، كما أن المقابل المادي ليس كافيا كمبرر ودافع. الأفضل له قضاء هذه المدة في كتابة عشر قصص قصيرة وهو مما له أثر إبداعي أجمل وأسمى. وحول سؤال للقاصة المبدعة سعاد مسكين بخصوص حضور المرأة في قصص مبارك حسني، أبدى هذا الأخير ملاحظة هامة بعد لحظة إطراق مفادها أن الكاتب، أي كاتب ومهما كانت قيمته، يكتب وفي خلفية كونه الإبداعي المنعزل تحضر المرأة، كرغبة يراد الوصول إلى حماها وكهدف وكموديل على طريقة الرسامين. في أصل الكتابة تحضر، وبالتالي فوجودها في عالمه القصصي الخاص تتميز بالانفلات والهرب والتواجد في الما بين كما لاحظ ذلك الناقد الأدبي المتميز محمد علوط في دراسته الهامة عن المجموعة الأولى والتي فاجأته و«فضحته» على حد قوله. القصة ومساراتها والثقافة والحياة، مواضيع جعلت من أمسية أدبية في خيمة ندوات كتب غير معهودة، نقطة جذب ورواء في صحراء الثقافة والنشر المغربيين، في معرض كتب تنظمه جمعية كتبيين وتتفوق فيه بكثير على معرض وزارة الثقافة بكل إمكاناتها ووزيرها والتي لا تعتني بمآل الكاتب المغربي ورمزية حضوره.