يشكل تنوع المساهمات في مرحلة الحوار والتساؤل حول الدستور، أرضيات ومنطلقات لصياغة مشروع الدستور الذي سيعرض على استفتاء شعبي في الأسابيع المقبلة لذا نتوخى من ملاحظاتنا هاته إثارة الانتباه إلى مسألة جوهرية ،وهي إما أن المغرب سينتقل إلى ملكية برلمانية وبذلك سيضمن لنفسه مقومات تنمية سياسية واقتصادية ملموسة، وإما أنه سيكتفي بتعديلات ترقيعية وسيخطئ الطريق مرة أخرى. ونحن واثقون أن الأمل المعقود على نتائج تعديل الدستور هو اقتراح وسائل وسبل إنجاز تقدم حقيقي للمملكة. نعتبر هذه المسألة جوهرية انطلاقا من دروس تاريخ المسألة الدستورية ببلادنا منذ الاستقلال، ومن انعكاسات فشل الصيغ السياسية التي تمت بها معالجة الأزمات السياسية والمؤسساتية التي مرت منها البلاد، وكذلك ارتباطا مع ما يلزم للمغرب من تجديد في نظامه السياسي، وهو البلد المنفتح على تحولات العالم منذ مدة دون أن يمتلك وسائل الانخراط في تطور كوني كاسح قوامه بناء مجتمع المواطنة الحديثة ودمقرطة العلاقات المجتمعية. 1- تجاذبات البحث عن إطار دستوري لمسار مغر ب الاستقلال سننطلق من حقيقة مفادها أن تاريخنا الحديث وخاصة تاريخ بلادنا منذ الاستقلال السياسي تميز بكونه سلسلة كبوات ومسار اتسم بسيادة تكاد تكون مطلقة لمظاهر الركود ، كان مصدرها الأساسي التردد تارة والتأخر تارة أخرى عن المواعيد المضروبة لبناء نظام سياسي يحتكم لمعايير الحكم العصري المبني على المسؤولية والمساءلة والمراقبة المحاسبة. فمنذ الحصول على الاستقلال بقي التساؤل بشأن النظام السياسي الذي نرتضيه كمغاربة مطروحا يلفه غموض ويحيط به تذبذب محير. فرغم التسليم بالملكية كمرتكز للنظام السياسي المراد بناؤه، سرعان ما أن انبثقت وترسخت مظاهر التباين والخلاف بشأن شكل الملكية التي ستلائم مهام مواجهة واقع التخلف وستمكن فعلا من دخول مرحلة الجهاد الأكبر بالتعبير الذي خلد به السلطان محمد الخامس تبعات مرحلة خروج الاستعمار الفرنسي. وللتذكير يتضمن خطاب محمد الخامس بتاريخ 8 ماي 1958 مقدمات أو ملامح فلسفة للحكم لم يكتب لها الانغراس، ولم تكتمل لها عناصر التوضيح والتبيئة في المجتمع المغربي لاعتبارات تتلخص بالأساس في التجاذبات التي طبعت مرحلة البحث عن مرجعيات تأسيس الدولة الوطنية، وبناء أركانها ونمط إرضاء المصالح التي تخترقها. وفي سياق التذكير بكون الجالس على العرش المغربي وفى بالتزاماته في المساهمة في تحرير البلاد، ذكر السلطان محمد الخامس في خطابه المذكور بفحوى خطاب العرش لسنة 1951 على أن « أحسن نظام يمكن أن يعيش تحت ظله بلد ذو سيادة ويسير بنفسه شؤونه الخاصة هو النظام الديمقراطي والذي تتلاءم مبادؤه مع الروح المنفتحة للإسلام والتي تضمن للفرد كما للجماعات حياة مطمئنة ودون مخاوف». ففي اتجاه الوفاء بمستلزمات انعتاق المغرب والمغاربة وضمان حقوقهم وحرياتهم، بلور السلطان ميثاقا ملكيا وضع من خلاله المبادئ التي ستقود إلى بناء ‹›نظام للملكية الدستورية›› بارتباط مع خصائص البلاد، وفي اتجاه انبثاق ديمقراطية أصيلة تغرف في نفس الوقت من روح الدين الإسلامي ومن تطور البلاد بما يمكن من تكريس إرادة الملك في سن إشراك تدريجي للشعب في تسيير ومراقبة شؤون وقضايا الدولة. على ضوء التصور للشأن العام كقضايا للدولة أولا، احتكر القصر مبادرة التأسيس للدولة المغربية المنبثقة من أحشاء المرحلة الاستعمارية والمتميزة بازدواجية ملحوظة في مصدر السلطة، وتمكن من ثم من بسط المنطق الذي يخدم اعتلاءه زمام المبادرة لفرض مرتكزات هيمنة المؤسسة الملكية واحتلالها مركز الصدارة والتوجيه. وغني عن البيان أن القوى الوطنية التي كان لها شرف المساهمة في بزوغ عهد الحرية والاستقلال غابت عنها فراسة التأسيس للديمقراطية كسلطة مستمدة من المشروعية الشعبية. والظاهر أن معظم رجالات الحركة الوطنية ظلوا سجيني ذلك التصور الذي ربط بين التعبئة للحصول على الاستقلال وبين عودة السلطان المنفي إلى عرشه، متناسين أو متجاهلين الإشكاليات والتناقضات التي ستنبع مع طرح كيفية تنظيم سلط المغرب المستقل وهرميتها وتوازناتها ... ولنا في تجربة المجلس الاستشاري خير مثال على نوعية قضايا تأسيس الكيان الدولتي المستقل وكيفية تطارحها من قبل كشكول المصالح والقوى التي تم تعيينها داخل هذا المجلس وفق توافقات المرحلة. وعموما، نستخلص من عهد السلطان محمد الخامس أنه عهد صراعات ومواجهات خفية و لم يستطع وضع لبنات للكيفية التي ستستوضح منها هندسة الحكم ليس فقط لحلول وفاته المباغتة رحمه الله ولكن كذلك وأساسا لكون قوى مصالحية كانت تحضر لتجديد هرم دولة المخزن، وبعث الروح في تقاليدها وطقوسها لتمكينها من الانفراد بالسلطة وتركيز وسائل الإكراه والزجر لإخضاع المجتمع المغربي لمشروع غير تحرري. وغني عن البيان أن النزاع والخلاف الأساسي الذي تكون وتأجج منذ بدايات عهد الحسن الثاني هو ميولات الحكم الفردي كأسلوب للحكم وكخروج عن منهجية التحرر والاستقلال الوطني. إن التباين الحاصل بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومعه كل الرمزية الشخصية والدينية لفقيه مثل العلامة بلعربي العلوي من جهة والحسن الثاني من جهة أخرى، كان فعلا حول كيفية ترجمة الملكية الدستورية على أرض الواقع . إنه تباين بين تصور كان يعتبر نظام الملكية الدستورية نظاما يفسح المجال لتطور مؤسسات الدولة حتى تعكس تنامي مشاركة الشعب المغربي في تدبير شؤونه بنفسه وبين «منهج القصر» الذي يريد احتلال الملك، وبدون منازع أو شريك، صدارة ملكه والتحكم في مختلف مؤسسات الدولة وتوجيه قضايا البلاد وفق ما يرتئيه هو صالحا لرعيته. فكان من ثم الدفع نحو إبراز وترسيخ مفهوم البيعة التوجه الذي من خلاله ستتغلب نوازع الحكم الفردي المطلق على مشروع الملكية الدستورية، وليتحول وضع نص دستوري وسيلة فقط لمأسسة قواعد لعبة سياسية أصبح فيها الملك الناهي والمنتهي في كل أمور الدولة بل وبالتدريج في كل أمور دين المغاربة ودنياهم. لقد كان ما سمي بفترة الاستثناء، مع منتصف الستينيات من القرن الماضي كفترة غير عادية في الحياة السياسية المغربية، فترة أبانت بنوع ما ضرورة التوفر على مؤسسات تتناول وتتدارس قضايا الدولة وحاجيات المواطنين على مستويات ترابية مختلفة. وبذلك أبرزت الهوة التي تفصل تنظيم السلطات في المغرب عن مشروع الملكية الدستورية. ولعل محاولة التدارك والبحث عن تطبيع يخدم النظام تجسدت مع مقترح دستور 1972 والذي بتكريسه الرجوع إلى الملكية الدستورية عمل على تجاوز مفهوم البيعة نظريا، وهو ما اتسمت به كل الدساتير اللاحقة في 1992 ثم 1996 والتي وإن وسعت اقتراح إعادة توزيع السلط عبر إيحاءات حمولة مفهوم الملكية الدستورية الديمقراطية والاجتماعية، ووعود ترجمته كنمط جديد لتوازن السلط في المملكة، لم تنفذ إلى الواقع إلا كملكية رئاسية طيلة عهد الحسن الثاني وبدا أنها تتحول ظاهريا، مع عهد الملك محمد السادس، لتتجه نحو نظام ملكية تنفيذية تتولى مباشرة تصور ومتابعة والتحضير للشروط السياسية والسوسيولوجية لبناء مشروع مجتمعي ذي طموحات حداثية وديمقراطية. 2- الملكية الرئاسية و الملكية التنفيذية: استنفاد معزز بتجربة تاريخية. بكل المقاييس ومن مختلف الزوايا شكلت محطة 20 فبراير لحظة مفصلية حقيقية في التاريخ المعاصر للشعب المغربي. وهي كذلك أولا في جدلية ترابطها مع مخاضات العالم العربية الذي يعيش تحولات سياسية واجتماعية عميقة طال انتظارها. وثانيا في كونها شكلت لحظة التقاء حول شعارات ومطالب مشتركة وكذلك وبالأساس منطلقا واعدا لرسم إطار واعد جديد للتغيير في المغرب. فالإجماع الذي تبلور حول ضرورة التغيير لم يكن منطلقا من قيادة محددة ،ولم يكن في الشكل وفي المضمون موحد الشعارات ومنسجما من حيث طبيعة التحركات والاحتجاجات التي عبرت عن نفسها في الشارع العمومي، بل برزت مكوناتها كعنقود من المطالب المترابطة والتي تصب كلها ومباشرة في إشكالات الحكامة، أي ارتبطت كلها بوجود خلل بنيوي في تسيير الشؤون العامة للمملكة ! ولنا في القول النبوي المأثور» لا تجتمع أمتي على ضلال» أحسن سبيل أو أقوم مرتكز لتفسير لحظة 20فبراير ثم 20مارس اللتين كرستا توسع الصفوف المطالبة بإعادة النظر في كيفية وأسلوب توجيه وتنفيذ ومراقبة السياسات العمومية وفي طرق صرف المال العام، وكذلك التنديد بكبريات أمثلة تسخير السلطة السياسية والقرب منها لبسط النفوذ على الفضاء الاقتصادي، وتوسيع مجالات الإثراء السريع وغير المراقب والنفاذ إلى عالم الأعمال من منطق اقتصاد الريع والامتيازات. إن المتمعن في تاريخ الحركات الاجتماعية بالمغرب وفي مصادر وسياقات تنامي الاحتجاجات وانتقالها من مستوى مطلبي صرف إلى مستوى سياسي، سيلاحظ لا محالة أن المغرب المعاصر عانى من اختناقات بالجملة في نمط حكامته. وهذه الاختناقات تعمقت حينما لم تعرها دوائر السلطة في البلاد الاهتمام اللائق وبالسرعة المطلوبة ، ولانت واتجهت نحو الحل لما تدخلت السلطة العليا وأصدرت أوامرها وتعليماتها السامية لإيجاد حل، أو تدخلت مباشرة لإملاء الحل والدفع نحو إعماله على أرض الواقع رغم كل ما هو معهود من مساطر وما هو غير ممكن إلا بعد تعديل القوانين. 1-2 كثيرة هي الوقائع والقضايا التي تجعلنا ومن منطلق تجربتنا الخاصة كمناضلين وكملاحظين متتبعين لقضايا الشأن العام وعلى عهد ثلاثة ملوك ومنذ أكثر من نصف قرن من الزمان، نقول أن المغرب عانى ولا يزال من خلل في مستويات الحكامة والمسؤولية في تدبير قضايا الأمة. وحتى نلخص مقاصد التجربة التي عشناها ونبين كيف لمسنا الأمور في الواقع المغربي المعاش، نستسمح القراء في أن نعتمد على منطلقين اثنين في تحليلنا هذا: - لحد الآن لم يستطع منطوق الدساتير المتعاقبة أن يجعل من المؤسسة الملكية وبمختلف تجلياتها مؤسسة مقيدة أو محدودة التدخلات بمقتضيات الدستور؛ - لم يعرف المغرب المستقل استقلالية، كاملة ملموسة، و مبادرات غير مبتورة أو غير محورة، للجهاز الحكومي بفعل كون الحكومة حكومة جلالة الملك بكل ما يعني ذلك من أولوية وأسبقية «الأوامر والتعليمات الملكية» المباشرة والمحتملة، عن كل مخططات وبرامج السلطة التنفيذية؛ بطبيعة الحال لن نجد كحجج دامغة على المنطلقين الاثنين لتحليلنا هذا في الدعوة إلى اعتماد نهج الملكية البرلمانية غير الممارسة الفعلية التي أنتجها عهدا الملكين الحسن الثاني رحمة الله عليه والملك محمد السادس أطال الله في عمره. وهما عهدان ملكيان وفي إطار الحرص على استمرارية الدولة العلوية بالمغرب اتجه كل منهما إلى توضيح فلسفة ملكه و بيان آليات إدارة حكمه وطرق تتبع ومراقبة إنزالها على أرض الواقع. من المعروف أن عهد الراحل الحسن الثاني أصبح يدون ويعرف بكونه عهد ملكية رئاسية لاعتبارين اثنين: يكمن الأول في نظرنا في شخصيته الفريدة وفي اعتزازه بشخصه وفي ثقته الكبرى في تكوينه ومعرفته بمكونات و إشكالات وطموحات المجتمع المغربي، وكذلك في اتسامه بذكاء سياسي خارق وخاصة في أحلك لحظات المواجهة مع معارضيه وخصومه. ومن المؤكد أن مفهوم الملكية الرئاسية مفهوم لم يعتمده مباشرة الحسن الثاني في خطبه وتصريحاته، لكنه زكاه من خلال ما استمرت على إعلانه والتوسل به افتتاحيات مولاي أحمد العلوي، أحد المعلنين والاشهاريين لأوائل مرحلة « الديمقراطية الحسنيةً›› ولمنهجها الرئاسي والمباشر في توجيه و تدبير شؤون المغرب. من خلال تقييمه الخاص للمستوى المتوسط للإدراك السياسي ولقدرة استيعاب رهانات الشؤون العامة من طرف عامة المواطنين، اتجه الحسن الثاني نحو الاستفراد بالقرار السياسي واعتبر من مهامه بل من مسؤولياته المباشرة ومن أمانة عنقه والتي لا تقبل التفويض، تصور و اقتراح وبرمجة وتنفيذ مختلف السياسات العمومية . ومن ثم كان نهجه الرئاسي والرياسي . رئاسي لأن الحسن الثاني تمسك برئاسة الحكومة كحكومة لجلالته وتمسك بأدوار مجلس الوزراء كمصدر إعلان عن توجهات وبرامج السلطة التنفيذية التي يرتضيها ويوافق عليها لماما الملك كما ترك لنفسه كراع لشؤون الأمة، مجالا عريضا من المبادرات والتدخلات التي تطال مختلف القضايا والقطاعات التي شملها توجهه نحو ما سمي بالتحديث المتمسك بالتقاليد أو التحديث المنصهر مع الأصالة. عماذا أسفر نهج الملكية الرئاسية في عهد الحسن الثاني ؟؟ سؤال تلقى أكثر من جواب ويستحق أكثر من قراءة، بل ما زال يحتاج إلى دراسات وأبحاث ليكشف لنا وللأجيال المقبلة عن دروس ضرورية في ميدان تعامل الحاكم مع المحكومين. يستحق عهد الحسن الثاني الاهتمام ليس فقط من زاوية صموده كملك في منصبه رغم توسع وشراسة صفوف معارضيه، ولكن أيضا من جانب حدود الانجازات التي اتسمت بها الميادين المفضلة لتدخلاته واختياراته الكبرى، بدءا بتحويل توجهات المخطط الخماسي الأول 1960-64 ومرورا بالخيارات الجديدة للمخطط الثلاثي 1965-67 من حيث سن السياحة والفلاحة التصديرية كقطاعات تحتل المكانة الأولى وما تلا هذا وذاك من حرص وتمسك بانفتاح محسوب من الزاوية الاقتصادية، ومن تشبث بنهج تقليداني في تدبير الحقل السياسي وفي تصريف شؤون وقضايا المجتمع وخاصة القروي منه. وكيفما كان الحكم على نتائج هذا النهج الرئاسي للحسن الثاني، فلن يكون أصدق مما توصل إليه صاحبه لما أقر بعد تمعنه في الافتحاص الصادر عن البنك الدولي حول الحالة العامة للبلاد سنة 1994 بكون المغرب بات يواجه مخاطر السكتة القلبية. وسواء كان الإقرار من قبيل الإحساس بنقائص تبعات مراجعة الذات أو ارتبط بقدرة العاهل على استيعاب تحولات العالم بعد نهاية الحرب الباردة، فإن التاريخ سيخلد للحسن الثاني فراسة عز نظيرها في تملك هاجس المحافظة على العرش العلوي. فالمسلسل الذي دشنه اعترافه ومن منبر البرلمان! والتوجه الذي مهد له لإشراك أعتى وألذ معارضيه القدامى، كلها عوامل تنم عن براعة سياسية في تهيئ شروط وضمانات انتقال سلس لسلطة الملك. لقد استطاع الحسن الثاني أن يشغل المعارضة ويملأ اهتمامات الرأي العام بما سيجعل الجميع يقف مترقبا بداية انتهاء عهد الملكية الرئاسية بدل أن يقف محاسبا ومعاتبا منزلقاتها ومظاهر التردي الذي خلفته للبلاد والعباد. لقد حكم الحسن الثاني رحمه الله مملكته بيد من حديد، سنده في ذلك تأويله الخاص للدستور الذي منحه في سنة 1962 والذي أراد من وراء تنصيصه على أن الملك أمير المؤمنين و الممثل الأسمى للأمة، الإقرار بأن تدبير الشأن العام بالمملكة حينما يخضع لحقيقة وضعية، فهو يخضع أولا وقبل ذلك لحقيقة شرعية دينية. فهذه الازدواجية التي تشكل جوهر التأويل المفروض والممارسة العملية لمقتضى الفصل 19 وهو ما يضمر تلك الهرمية التي لازمت عهد الحسن الثاني وما زالت قائمة في انتظار التغيير الدستوري المرتقب، بين أسس النظام القانوني العادي للمملكة وبين مرتكز ها الملكي في بعده المقدس والمستمد من كون الإسلام دين الدولة وكون الملك أميرا للمؤمنين وحامي الملة والدين. فللقانون حمولته من هذا البعد المقدس يستمد منها فلسفة سنه ومضامين مقتضياته وللملك كامل الصلاحية والأحقية في السهر على تناغم الوضعي مع الديني وفي اقتراح الصيغة المثلى لحصول التناغم الذي سترضاه الأمة لأنه من أميرها وحامي ملتها. وبطبيعة الحال بما أن العبرة بالخواتم، سيقيس التاريخ منجزات النهج الرئاسي كما سلكه الراحل الحسن الثاني من زوايا التقدم المؤسساتي الحاصل فعلا كما عرفه عهده وكما تجلت انعكاساته على المغرب اليوم، أولا وقبل كل شيء. وبطبيعة الحال هناك زوايا عدة تفرض نفسها ضمن المقاربات التي يتضح من ثناياها مستوى المنجزات والتقدم الحاصل في ميادين استراتيجية كالتعليم والصحة والتعمير وقيم المواطنة والتماسك الاجتماعي.... ومن زاوية البناء المؤسساتي لا مراء في الاعتراف بأن المملكة خبرت وجربت مختلف أصناف التنظيم والتمثيل والنيابة لكن بمنطق غير منطق الدمقرطة بل بمنطق التبعية للشرعية الملكية والاستظلال بما يندرج في إطار المبايعة لها والتهليل لما تمليه المنابر والمحافل التابعة لها أو المحسوبة عليها. لقد عرف المغرب مظاهر متنوعة من العمل النيابي والجماعي والمهني وكلها لم تثمر ممارسة ديمقراطية فعلية، بل بقيت حبيسة أغراض المنطق الرئاسي للدولة وما استتبعه من تعامل وصراع بين أنصار وتابعين ورافضين... ولذلك وبعدما اجتهد الجهاز الإداري في فرض نموذج لما سمي بديمقراطية الأعيان ، و اضطر لتوسيع قواعد أطره و نخبه بسرعة، لم يحتملها تطور المجتمع ونضج إفرازاته ليخلق بذلك خللا سوسيولوجيا من خلال تدخلاته ووسائل البحث عن التحكم في أغلبيات تحالفات ودواليب سير المجالس المنتخبة. وبالإضافة إلى العجز المسجل من زاوية البناء المؤسساتي للنهج الرئاسي كما عرفه عهد الحسن الثاني، هناك مظاهر عجز متعاظم في البناء الاقتصادي والاجتماعي للمغرب. صحيح أن الخيار الليبرالي الذي نهجه الملك الراحل في عز سيادة وموضة أنظمة الريادة الاقتصادية للدولة والاشتراكية، لم يجعل اقتصاد المملكة اقتصادا حرا بالمرة لكنه أبعد عنها مخاطر عزلة تامة عن تحولات العالم وخاصة انتظام سيول التبادل مع اقتصاديات الغرب الأوروبي . لكنه خيار لم يفسح المجال لتطور ملموس للاقتصاد الوطني المغربي ككل، ولم يمكن من تطوير القدرات الاقتصادية لكافة مكونات التراب الوطني لأن حركيته بقيت محكومة بالمنطق القيادي للدولة ولنوازع النهج الرئاسي الذي يوجهها. وغني عن البيان أن الاعتماد على التخطيط وسن مخططات خماسية أو ثلاثية بقي من قبيل التوجهات الكبرى غير الملزمة، والتي تتغير وتتحول اتجاهاتها بفعل استمرار المعوقات البنيوية للاقتصاد المغربي. لقد أفضى عهد الحسن الثاني إلى وضع لبنات هندسة مؤسساتية متكاملة الشكل مبتورة في الجوهر. ولذلك لم يتقدم البناء الديمقراطي للمجتمع والدولة معا, بل تم تدشين مسلسل تشييد دولة عصرية تظهر أكثر من خلال كثرة وتنوع أجهزتها الإدارية وليس من نجاعة تأطيرها، ومصاحبتها للنسيج الاجتماعي والاقتصادي. ومن زاوية تطور المجتمع السياسي والمدني والارتقاء بالوساطة المجتمعية والنخب المستقلة، لم يسمح منطق الملكية الرئاسية بإنضاج شروط التراكم، وبذلك اتسع وترسخ منطق الديمقراطية الشكلية عبر واجهات عدة. وقد كان بيان المؤتمر الثالث للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أحسن وأبلغ ما سجلته الأدبيات السياسية ببلادنا حول نتائج المنحى الفردي في الحكم و رواسب النهج الرئاسي في المملكة، مقترحة بذلك الانتقال الضروري إلى» ملكية برلمانية تكون فوق الأحزاب والطبقات». 2-2 أعادت مرحلة التحضير لتجربة التناوب التوافقي الحلم والأمل في تجاوز معيقات التطور العام للبلاد من الزاوية المؤسساتية ، واعتبر التصويت الايجابي والسياسي على دستور 1996 بمثابة انطلاقة جديدة للدفع بالممارسة السياسية للدولة وامتداداتها نحو إنجاز مهامها ومسؤولياتها إزاء المجتمع بفعالية ونزاهة. ولربما أن هذا التوجه خانته الاحترازات الأولية أو لم يتوفق في صد جيوب مقاومة التغيير أو انغمس في مبادرات الانجاز لتدارك العجز والخصاص الحاصل في مختلف المرافق الاجتماعية وبنيات تأطير المجتمع، ومظاهر تخلف الفضاءات القروية أو عانى من طبيعة الأغلبية الحكومية وما نخرها من نوازع وطموحات فردية وحزبية وخاصة تلك التي تستعجل دورها في الوزارة الأولى.... على كل، شكل الانتقال من عهد ملكي إلى آخر عنصرا واعدا بفتح الفرصة أمام تصويب المعطى المؤسساتي والسياسي وتجاوز إشكالات فصل السلط وتوازنها ومعضلات تطوير قدرات الإدارة العمومية على مصاحبة المجهود التنموي المنشود. لكن عوض ذلك أخذ عهد الملك محمد السادس منحى الاستمرارية في الإبقاء على دور المؤسسة الملكية في واجهات توجيه الدولة وقيادتها وتحديدها لطبيعة التطور الذي تعتبره ملائما للمجتمع ، بل شدد على ذلك من خلال الانتقال نحو التكفل المباشر بإطلاق البرامج والوقوف على تنفيذها ومعاينة وتيرة تقدمها بما جعل من الحضور والتتبع الملكيين تطورا متزايدا نحو ما سمي بالملكية التنفيذية. وهو ما طرح إشكالية المسؤولية عن البرامج والسياسات العمومية من زاوية المساءلة والمحاسبة عن نتائجها ومآلها. خاصة وأن تحول الملك وبشكل مباشر وعام إلى مصدر تقرير للإنجاز وضبط إيقاعاته، وتوفير وسائل تمويله أصبح يطوقه بتبعات لا تجد لها صدى في مقتضيات دستور 1996 التي تصرح بكون الملك في الحقيقة لا تثار مسؤوليته، وأنه لا يمكن أن يخطئ القرار لأن شخصيته و سلطته مقدسة ومشروعية تدخلاته وتعليماته لا تقبل النقاش. نحن إذن أمام مقتضيات أولت في اتجاه جعل الممارسة المباشرة للسلطة العمومية غير مرتبطة بتحمل أو إلقاء مسؤولية ما والمحاسبة عليها. بل في أحيان كثيرة وخاصة في ارتباط مع التأويل المعروف للفصل19، أصبح النهج التنفيذي، وهو لا يقترن بأي نوع من المسؤولية سوى الأخلاقية منها، نهج يثير عددا من التحفظات، خاصة وقد تبين منذ مدة أن النهج التنفيذي كما مورس في المملكة عبارة عن سلسلة من الحلقات التي تستظل بقرارات الملك، وتحتمي بإرادته في نفس الوقت الذي قد تطبق وتنجز وفق منطق آخر ومعايير أخرى، غير تلك التي تصورها و أوصى بها الملك. وقد لا يسعفنا المجال هنا للدلالة عبر أمثلة حية من الواقع المعاش لتناول عدد من القضايا التي طالها هذا الوضع كما هو شأن عدد من أوراش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وبرامج محاربة مدن الصفيح ...... 3- السند الموضوعي للانتقال إلى ملكية برلمانية: تجربة المغرب، بيان إنجازاته ومستلزمات تطوره الديمقراطي. إذا ما نحن أردنا جعل الخطاب الملكي ل 9 مارس 2011 خطوة ومنعطفا أساسيا ومهما في تاريخ المغرب، سيكون علينا أن نعمل كل ما في وسعنا ليشكل التجاوب معه نقلة نوعية نحو نظام سياسي يرسخ لدولة قوامها الحق والقانون ويشيد لدولة تحكمها المؤسسات، ويضع المغرب في موقع الدولة الساعية بجد وحزم نحو تأصيل نهج الحكم الديمقراطي. المغرب جرب الملكية الرئاسية وهو الآن بصدد واقع الملكية التنفيذية ،والحقيقة أن هذه التجارب كلها ومنذ الاستقلال السياسي تطرح على المؤسسة الملكية الارتقاء بوضعها الدستوري وتحديثه عبر لعب أدوار جديدة، رائدة وسامية، في قلب النظام السياسي المغربي. لقد ارتبط تصريف معظم شؤون البلاد عبر عقود من الزمن بأوامر وتعليمات القصر مباشرة ، وكلما كانت هناك حاجة للمحاسبة تؤجل أو تخفت لأن هناك قرارا ما أو تدخلا ما يستلزم مراجعة السلطة العليا بالبرامج أو المعينة للقائم عليه والمتولي لأمور الصرف والتنفيذ.. كلها هذا لا يساهم في سيادة روح العمل المؤسساتي و استقامة منطق تدبير شؤون الدولة والمجتمع وخضوعه بشكل عادي وموضوعي للمساءلة والمحاسبة. بل امتد مفهوم الملكية التنفيذية إلى المبادرة في إعادة هندسة المشهد السياسي بطريقة فوقية . فلم يقتصر الحال فقط على تحضير شروط انبثاق حزب يدعي جهارا الدفاع عن الملك ومساندة مشروعه ومكون تحت رئاسة ودعم وتسيير شخص معروف بكونه يشتغل كصديق الملك، بل تعداه إلى أن أصبح هّذا الحزب، الحزب الحاكم والناهي من خلال استعماله لآليات ووسائل السلطات العمومية، ومن خلال استعمال آليات الابتزاز السياسي والاقتصادي بما فتح الباب لتزايد أسباب الاحتقان والتذمر. لكن مع بوادر التحول في العالم العربي وانبثاق حركة 20 فبراير تفجرت أولى بوادر غضب الشعب المغربي من هذا المنزلق لتتجلى علامات عدم الرضا على الأوضاع، وخاصة جو الخنوع واللامبالاة الذي ميز سلوكيات ومواقف معظم الأحزاب السياسية، بما شكل مؤشرات جديدة لاستنهاض العزائم وتحطيم جدار الصمت والخوف والاستسلام. من هذا المنطلق نعتبر أن المؤسسة الملكية مطالبة بتحمل مسؤولياتها للخروج من جو الصراع المبطن بين سيادة الشعب وسيادة الملك، وبصرف النظر عن الشعارات لأن الأهم هو المضمون المتمثل في سيادة الشعب و إذا أخذنا بتجربة المغرب الذي نصت دساتيره منذ 1962 على الملكية الدستورية والتي تم تأويلها بملكية رئاسية ثم بملكية تنفيذية، لذلك فإن التغيير يتطلب القطيعة مع هذا المفهوم و بإقرار ملكية برلمانية التي أساسها سيادة الشعب والمساءلة و المراقبة و المحاسبة. -الماضي وإقرار نظام الملكية البرلمانية من مرتكز الحاجة على حكامة ترتكز على سيادة الشعبالمغربي وتعتمد آليات المساءلة والمحاسبة في تدبير الشأن العمومي. لقد نجح المغرب في مواجهة الاستعمار بعدما ربط السلطان محمد الخامس صراعه من أجل عرشه بالنضال الذي خاضه الشعب المغربي وقواه الوطنية التحررية. أما اليوم فالارتقاء ببلادنا مطلب جماهيري تتوسع يوما عن يوم صفوف الحالمين به وصفوف المناضلين من أجله كذلك، وهو ارتقاء مرهون بقرار الملك محمد السادس أي بالتزامه بنفس المنهجية وإقراره بأن مصدر المشروعية في تدبير شؤون المملكة المغربية يستند على شرعية مستمدة من اختيارات الشعب المغربي التي يعبر عنها من خلال الاقتراع العام بالاستفتاء أو الانتخاب، شرعية تترجمها أدوات الوساطة والتمثيلية السياسية والاجتماعية من أحزاب ومنظمات و هيئات بما يجعل الدولة دولة الجميع، جميع المغاربة وليست دولة حزب أو مصالح فئوية ولا يجعل منها طرفا في الصراع السياسي والنقابي، بل مؤسسة في خدمة المواطنين والمواطنات وفق ضوابط القانون. يجدر بالمغرب الذي نريد تطويره من خلال الدستور الجديد أن تتلازم التمثيلية السياسية داخله مع المساءلة والمراقبة والمحاسبة، انطلاقا من كون المراقبة في سياق دمقرطة العلاقات الاجتماعية، مراقبة يمارسها الشعب بواسطة الانتخابات الحرة والنزيهة. أما المساءلة والمحاسبة فهي تطرح دوريا على صعيد المؤسسات التمثيلية، فضلا عن كونها من اختصاص سلطة القضاء مما يقتضي استقلاليته الفعلية عن السلطة التنفيذية. ويفترض هذا طبعا دسترة السلطة القضائية بشكل بارز و إيلاءها وسائل العمل ومقومات النزاهة والكفاءة والحنكة، ومما يستتبع ذلك على مستوى المجلس الأعلى للقضاء الذي يجب أن يبقى في منأى من كل أنواع التدخلات والتعليمات والإغراءات. وفي هذا الصدد بالذات نستحضر خطاب رئيس المجلس الأعلى للنقد والإبرام ( الذي كان في نفس الوقت رئيسا لرابطة القضاة) بمناسبة افتتاح السنة القضائية في أكتوبر 1961 ، حينما طرح إشكالية تدخل السلطة التنفيذية في سير القضاء وملفاته من خلال الانتقالات الإدارية والتماطل والتأخير المسجل في ترقية القضاة، واتخاذ الإجراءات التأديبية الإدارية في حق القضاة ( راجع جريدة التحرير أكتوبر 1961) 1. ويحلينا هذا من خلال مثال تعامل نخبة القضاة، في إشراقاته كما في سلبياته وإخفاقاته، على مواقف وسلوكيات بعض نخبنا ومثقفينا في هذه المرحلة بالذات حيث الجرأة والصدق في المواقف عملة صعبة وجواز مرور نحو ما نصبو له من تطور في بلادنا. اليوم يعتقد بعض المثقفين وقد صرح البعض منهم بذلك، بدون براهين موضوعية ودلائل مدروسة، أن نخبنا السياسية لم ترق بعد (هكذا!) إلى المستوى المطلوب لقيادة البلاد و كأني بهم يرددون ما سبق أن سمعناه حول لا أهلية الشعب المغربي لدخول غمار التجربة الديمقراطية، وهو الشعب الغارق في أوحال الجهل والأمية والشعب العصي على التجميع بفعل تنوع مكوناته. في كل مرة تلوح فيها إمكانية تقدم المغرب والمغاربة إلى الأمام إلا وتستعمل بها أبواق ومنابر تدعي التريث وتدعو نحو المحافظة نحو الوضع القائم باسم ضعف التجربة، وقلة الممارسة وعدم الاستعداد. فمتى انتظرت بلاد ما حصولها على كل الضمانات لكي تجازف بالانتقال نحو مرحلة أكثر تقدما؟ سؤال يجيب عنه تاريخ البشرية بكامل الصراحة بأنه بقدر أهل العزم تأتي العزائم ، وبأن العمل لا يرتهن بتحقيق شروط ما خاصة إذا كانت من صنف الشروط التعجيزية أو شروط الدفع نحو الإحباط وترسيخ نزعة المحا فظة على الوضع القائم وكأنه قدر محتوم وواقع لا يرتفع لأنه وضع طبيعي. قد يتجاهل أصحاب القول بمحدودية قدرات الطبقة السياسية بالمغرب على المساهمة في التحول السياسي والمؤسساتي المنشود للبلاد أن ما هو موجود اليوم وفي مغرب 2011 من مكونات للطبقة وللنخب السياسية هو حصيلة وضع سياسي تميز بطريقة معينة في إفراز النخب وانتقائها ودفعها بل وتسخيرها نحو تأثيث المشهد السياسي، وتطعيم التمثيلية الحزبية ومساندة المشروع الرسمي للسلطة المركزية. نعم لا بد من التذكير بأن الطبقة السياسية في كل بلد هي نتاج إفرازات الشعب وتاريخ معاركه السياسية وقضاياه ومشاكله الاقتصادية و الاجتماعية بما جعل فئة المثقفين فئة مرتبطة بالنسق العام للقيم المعمول بها في كل مرحلة، وفئة لها دورها الخاص في الترجمة الفكرية والإيديولوجية لتوجهات مصلحية وطبقية معينة وبلورتها والدفاع عنها بشكل أو بآخر اتجاه مصالح معينة. فرغم خصوصياتها ليس هناك فئة أو نخبة من المثقفين محايدة عن وضع المجتمع ومستقلة عن تناقضاته وصراعاته، كما أنها لا تشكل كتلة موحدة متراصة، بل تتجاذبها المصالح التي تخترق وتحرك المجتمع في اتجاه التغيير كما في اتجاه المحافظة على الوضع القائم. إن القول بعدم أهلية أو قلة استعداد أو تحضير المثقفين قول مردود على أصحابه. فكل زمن وكل حركة اجتماعية إلا وتنبثق من صلب قضاياها وإشكالاتها أجوبة ثقافية وفكرية وأيديولوجية يبلورها مجهود مجتمعي تظهر فيه مساهمة جلية لعدد من المثقفين يناهضون أو يساندون، يبتكرون ويهيئون لنموذج جديد ، أو يكررون ويستنسخون الوضع القائم والبائد. فليس بجديد أن تتعالى اليوم أصوات وأقلام تحذر من التغيير إما لأنها لا تؤمن به أو لأنها تعبر عن مصالح معينة وعن تصورها الخاص لما فيه مصلحتها هي بالذات. وليس بجديد أن يعمد البعض إلى تقديم سلبيات المشهد السياسي وتدني مستوى الوعي السياسي وهول نسبة الأمية والفقر وغيرها من مظاهر تخلف المجتمع المغربي كحقائق لا يجب القفز عليها عند مباشرة كل خطوة إصلاحية... إنها بدون شك تعبيرات وتصريحات تندرج في إطار ترسخ الفكر المحافظ بكل تلاوينه، والذي لا يدخر جهدا في ترديد فكرة عتيقة وبائدة تقضي بأن الشعب المغربي ليس ولن يكون أبدا في مستوى الممارسة الديمقراطية ! دون أن نخوض في مسألة أصول هذا النوع من ردود الأفعال وخلفيات بروزه في هذه اللحظة بالذات والأغراض التي جند من أجلها ، وجب التذكير أن الديمقراطية لا تبنى ولا تنغرس في السلوكيات والذهنيات والعلاقات والمؤسسات إلا من خلال الممارسة الديمقراطية. فالتمرس على الديمقراطية الحقيقية هو الذي يرسخ مناخ التعامل الديمقراطي وعقلية التعامل الديمقراطي بين أفراد المجتمع ، داخل الأسرة كما في المعمل والملعب الرياضي و أقسام الإدارة والمستشفى والمدرسة والأزقة وعموم فضاءات المجتمع. لقد كان الفقيد عبد الرحيم بوعبيد محقا حينما كان يذكر بضرورة التحلي بالنفس الديمقراطي وهو يعمل على تأصيل استراتيجية النضال الديمقراطي . جهود عبد الرحيم لم تذهب سدى كما يظهر ذلك من خلال كثافة المطلب الديمقراطي في المغرب وفي شيوعه اليوم في مختلف مكونات النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي ببلادنا. فقوة المطلب الديمقراطي وتعدد المنابر والقوى المناصرة له والدافعة نحو تجسيده على أرض الواقع هي أحسن وأرقى جواب على دعاة عدم أحقية الشعب المغربي بتحقيق قفزة نحو الدمقرطة من خلال انتقال واضح نحو نظام الملكية البرلمانية. في خطاب 9 مارس وعد الملك محمد السادس بإدخال تعديلات مهمة ومتقدمة على الدستور، بل اقترح سبعة محاور أو توجهات لإنارة ورش الإصلاح الدستوري. واعتبر الجميع أن التقدم ممكن هذه المرة ليس فقط للسياق العام الذي طرح فيه أو لما استخلص من دروس وعبر كبرى للعهد الملكي الجديد، بل لأن النبوغ المغربي تجسد في عمل الجميع وإقرار الجميع بأن المغرب يستحق فعلا قفزة نوعية في بنيانه المؤسساتي كما في مرتكزات الهندسة العامة لحكامته. والظاهر أن العديد من خطابات الملك تأتي بالجديد كل مرة دون أن يكون التطبيق في المستوى المعلن، ودون أن ترقى الممارسة إلى ما يجسد عمليا ما تم التبشير به. و إذا كان هذا طبيعيا في الحياة العملية، فإنه في الحياة السياسية سرعان ما يسفر عن نتائج تقوض الثقة وتضرب في الصميم مصداقية الشأن السياسي ككل في البلاد. نسجل كذلك طريقة تهيئ التعديلات الدستورية والتي يجب أن تكون منتجة وأن تأخذ بعين الاعتبار الملاحظات والاعتراضات على نوعية تكوينها، وعلى المشاكل التي قد تترتب عن طريقة عملها وتتبعها لمقترحات الحقل السياسي والجمعوي. المأمول إذن هو أن تسفر أشغالها عن ترجمة الطموح العام في تطوير نظامنا السياسي على ملكية برلمانية لأنه النظام الذي سيفتح الباب واسعا نحو انعتاق قدرات بلادنا وسيمكنها من بناء المستقبل في تلاحم ووئام، في تناغم بين المؤسسة الملكية والمؤسسات التي تمثل الإرادة الشعبية وتضمن لها إنجاز برامج وسياسات تخدم تطور النسيج الاقتصادي والاجتماعي في جو تسوده العدالة والمراقبة والمحاسبة الديمقراطية. تجدر الإشارة إلى أن القضاء المغربي كان يتمتع باستقلالية ملحوظة عن سلطة الملك في القرن التاسع عشر، وخير دليل على ذلك أن الحسن الأول تمكن من إقناع قناصلة الدول الأوربية بطرح منازعاتهم أمام قاضي طنجة . وقد استند اقتناعهم بذلك الى جملة من الأمثلة ومن ضمنها ما صدر في حق مولاي عبد الرحمن من حكم ضده في منازعته مع شخص شريك له والذي أنكر هذه الشراكة، حيث حكم القاضي على الملك بأداء اليمين في مسجد مولاي إدريس بفاس يوم الجمعة عند صلاة العصر . ولدى صدور الحكم انتاب وكيل الملك ارتباك وخوف من رد فعل الملك. لكن كم كانت مفاجأته سارة عندما سئل الملك ( هل قالها) فأجاب بنعم..... هذا ما يتناقض مع التعامل القاسي الذي استعمل في حق القاضي اللعبي، الذي اقترن اسمه بعدد من المحاكمات السياسية على عهد المرحوم الحسن الثاني، لم يعامل بنفس الاحترام أو اللياقة على الأقل لما نطق بحكمه بالبراءة لفائدة الشهيد عمر بنجلون والأستاذ محمد اليازغي ومناضلين اتحاديين آخرين... بل تعرض هذا القاضي إلى أقصى درجات الإهانة والتنكيل لم ينج منها إلا بالحلول ضيفا على فراش المرض والموت...