عن المركز الثقافي العربي (الدارالبيضاء - بيروت) ،صدر كتاب «تأملات في تاريخ الرومان: أسباب النهوض والانحطاط». في سابقة هي الأولى من نوعها، انكب على ترجمة هذا الكتاب الأستاذ عبد الله العروي لما يحمل من تحليل عميق وقدرة علي استخلاص العبر من جهة، ولأن مونتسكيو خير مثال على ما يعرف بعقلية القرن الثامن عشر الأوروبي. كان مونتسكيو واسع الاطلاع، متحرر الفكر، متنوع التجربة، يجمع بين ذوق الأديب وعمق الباحث المدقق. يسافر بنا الكتاب في رحلة ممتعة وطويلة حددت في ثلاثة وعشرين فصلا، مذيلة بخرائط في الموضوع ومحطات مهمة لروما ومراجع للمؤلف. تجول مونتسكيو طويلا في إيطاليا ،وقد انتهى إلى أنه كان كان مكتوبا على روما أن تعلو وتسمو وتصل إلى القمة، كما كان مكتوبا عليها أن تنحط إلى الحضيض قبل أن تطرد نهائيا من مسرح التاريخ. وأسباب نهوض روما -يقول مونتسكيو - هي نفسها التي أدت إلى الخلل والانحطاط ثم الانهيار، أسباب عائدة إلى التشريع، التربية، رعاية الأعراف، تدبير المعاش، رسم الضرائب، تعبئة الجيش... ننشر أسفله نص تقديم الأستاذ عبد الله العروي لترجمة الكتاب نظرا لأهميتها المعرفية وتعميما للفائدة. المؤلف هو شارل لوي دي سكوندا، المعروف بمونتسكيو، اسم حصن في جنوب شرقي فرنسا ورثه عن أحد أعمامه. ولد سنة 1689 قرب مدينة بوردو، وتوفي في باريس سنة 1755 عاش إذا نهاية حكم لويس الرابع عشر التي تميزت بالتزمت والاضطهاد الديني، والانتكاسات السياسية والعسكرية، وبسخط النبلاء وتذمر الطبقات الشعبية. عاش كذلك عهد الردة ، تحت وصاية آل اورليان، حيث تحررت الطبقة العليا من كل القيود الدينية والاخلاقية، وانتشرت فيها الدعوة الى الزندقة. وأخيرا عاش صدر حكم لويس الخامس عشر الذي حاولت اثناءه فرنسا تضميد جراحها واستعادة مركزها داخل أوروبا جديدة ظهرت فيها قوى نامية مثل بروسيا وروسيا. لا حاجة لنا في تتبع مراحل سيرة مؤلفنا، نكتفي بالتوقف عند النقاط التي تساعدنا على فهم منحاه الفكري وأسلوبه في الكتابة. كان من الأفاقيين الطارئين على العاصمة الفرنسية، ولهذا الجانب أهمية، لا سيما أن الأمر يتعلق بمنطقة غويانه(Guyenne)، التي ظلت عقودا عديدة تابعة للتاج البريطاني، والتي ارتبطت دائما بعلاقات تجارية قوية مع الجارة الانجليزية. اتصال مونتسكيو بالفكر الدستوري والسياسي البريطاني أساسي، لا هامشي كما هو الحال عند جل كتاب القرن الثامن عشر الفرنسي. رغم ما يوحي به الاسم لم يكن المؤلف ينتمي إلى أسرة عريقة النبل، شرفت عائلته مؤخرا، اثناء القرن السادس عشر تحديدا، جزاء لخدمة أسداها للعرش أحد أجداده. لكن، إن لم يكن نبيلا عريقا، كان مونتسكيو من الأعيان المحظوظين، ملاكا واعيا بحقوقه وامتيازاته. يرى في الاستبداد آفة الملكية، وفي هذه ضمانة للحرية الفردية. ورث ضيعة عن والدته، وأخرى عن عمه، واشتغل جديا بإدارتهما، كما ورث عن نفس العم منصبا قابلا للتفويت في برلمان بوردو. تلقى تعليما عصريا علمانيا في مؤسسة قريبة من باريس، تديرها جماعة الأوراتوريين(Oratoriens) وهي جماعة ر هبانية معروفة بانفتاحها الفكري، بخلاف جماعة الياسوعيين. تابع دراساته القانونية في جامعة بوردو، وبعد تخرجه، اشتغل عدة سنوات مستشارا قضائيا لدى البرلمان المحلي. كانت له إذن تجربة واسعة في شؤون المال والصرف، كما كان له اهتمام بطرق التدبير والاقتصاد عامة. اقترن بفتاة بروتستانتية العقيدة، ثرية ومقتدرة، فوض لها في عدة مناسبات مهام تسيير ممتلكاته، بعد أن تعرف على الحياة الباريسية وانغمس في كل أنشتطها العلمية والترفيهية. انتخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية، كما استقبل في أندية مغلقة ميالة إلى البطالة والمجون. بين سنة 1728 ونهاية سنة 1731 تجول بصحبة نبيل إنجليزي في بلاد النمسا والمجر وإيطاليا وألمانيا، وهولندا. بعد ذلك استقر بأنجلترا، ومكث فيها طويلا. صادق ساساتها وعلماءها وكتابها. انتخب عضو شرف في الجمعية العلمية الملكية كما استقبل في المحفل الماسوني. بعد كل هذا، عاد إلى وطنه وانعزل استعدادا لتدوين مؤلفه الرئيس روح القوانين. نستخلص مما سبق أن الرجل خير مثال على ما يعرف بعقلية القرن الثامن عشر الأوروبي. كان واسع الاطلاع، متحرر الفكر، متنوع التجربة، يجمع بين ذوق الأديب وعمق الباحث المدقق. نجد هذه الصفات واضحة في كل مؤلفاته، القصيرة والطويلة، الهزلية والجدية، الأدبية والفلسفية. في الرسائل الفارسية (1721) التي لم يكن أحد ينتظرها من قاض وقور، التأملات في تاريخ الرومان أسباب النهوض والانهيار ( 1734) التي لم تكن الأوساط الباريسية تتطلع إليها من مؤلف الكتاب السابق، وأخيرا روح القوانين (1748)، الكتاب الذي أثار إعجاب القراء خارج فرنسا، وانتقادات كثيرة داخلها إلى حد أن كنيسة روما أدرجته ضمن لائحة الكتاب المحظورة على الكاثوليك وقضى مونتسكيو السنوات الثلاث الأخيرة من حياته يدافع عن مؤلفه. اشتهرت آراؤه أولا في البلاد البروتستانتية. اعتبر الانجليز أنه قدم أعمق تحليل لتقاليدهم السياسية غير المكتوبة، وأقوى دفاع عن ا لحرية في وجه الاستبداد. أما الفرنسيون، كغيرهم من الشعوب اللاتينية الكاثوليكية، فلم يصغوا إلى دعوته إلا بعد أن قامت ا لثورة وعكفوا على تحرير دستور جديد لهم. كان مونتسكيو المعين الذي ارتوى من مياهه فقهاء القانون، مؤسسو علم الاجتماع، التاريخ المقارن ودعاة الليبرالية السياسية. التأملات يقول المدققون إن كتاب مونتسكيو كان متجاوزا حتى عند صدوره، وهو اليوم متجاوزٌ أكثر بعد التحولات التي طرأت على مناهج التاريخ أثناء القرن التاسع عشر. تجول المؤلف طويلا في إيطاليا، رأى بعينيه آثار الحضارة الرومانية التي بدأت تجمع، تصنف، وتدرس دراسة نقدية. ذكر نقشا واحدا، اتضح فيما بعد، لسوء حظه، أنه لم يكن أصليا، اعتمد فقط على الرواية التقليدية المكتوبة التي سينكب الباحثون في القرن اللاحق على تمحيصها وتفنيد أدق تفاصيلها. لكن هل عنوان كتابه تاريخ روما؟ كان يستطيع أن يفعل مثل ماكيافلي ويقول إنه يكتب حواشي وتعقيبات على ما ألفه القدماء عن الرومان، وعندئذ لم يكن من داع للمؤاخذة. مايهم مونتسكيو، وما يهم غير المتخصصين في الرومانيات من منظرين في العلوم السياسية،ليس دقة المعلومات بقدر ما هو عمق التحليل والقدرة على استخلاص العبر. ما يقوله عن سر الفتوحات العربية يظل موضوع استلهام مهما تراكمت المعلومات الجزئية حول الحدث، وكذلك ما يقوله عن خطر التوسع المفرط، أو محاولة فرض وحدة العقيدة. التأملات جزء من مشروع أوسع تجسد لاحقا في كتاب روح القوانين. ماهي علاقات كل قانون أعلى (كل دستور، كل شريعة) بالعوامل المتواجدة معه، المناخ، الاقتصاد، الأخلاق، الأعراف، الطقوس الدينية، الذهنية العامة. إلخ تاريخ روما، شهادة الرومان على أنفسهم، هو أول مختبر يجرب فيه المؤلف صحة فرضياته في هذا المجال. معلوم أنه أثناء مكوثه الطويل في انجلترا، حرر بحثا عن النظام السياسي البريطاني، بعد ذلك كتب التأملات، وفكر أن يطبع البحثين معا على اعتبار أن الانجليز يحبون مقارنة أنفسهم بالرومان. لُب منهج مونتسكيو المقابلة والموازنة، وتظل العملية مشروعة مهما كان مستوى المعلومات حول الاشياء التي تراد مقارنتها. المقارنة هذا الاتجاه متجذر، كما ذكرنا في مسيرة المؤلف، في آفاقيته، في اقترانه بسيدة بروتستانتية، في انتمائه إلى منطقة متميزة وإلى طبقة النبلاء الجدد، في دراسته القانون الفرنسي الذي يمتزج فيه الارث اللاثيني بالتقاليد الجرمانية،في تجواله بينأقطار أوروبا المتبانية المناخ والعقيدة، التنظيم والمعاش. في أول كتاب صدر له، الرسائل الفارسية، ذهب إلى أبعد مدى في هذا الاتجاه. ألف الكاتب الفرنسي جان راسين مأساة ميثريدات ثم مسرحية بايزيد، ولا يوجد في العملين سمة واحدة تدل على خصوصية الإنسان ا لمشرقي. الكلام كله يجري بحسب المعروف لدى المشاهد من معاصري لويس الرابع عشر. الأمر الذي يشهد على عجز الفنان الكلاسيكي و نفوره من معاكسة الموروث. تنطبق الملاحظة نفسها على الرحالة الأوروبي عندما يصف ما يشاهده في تركيا أو بلاد فارس. ثم يأتي مونتسكيو ويتقمص شخصية السائح الفارسي. هذه ثورة ذهنية قاطعة بكل معاني الكلمة.لم يقدم على مثلها فرنسي آخر إلا بعد مرور قرنين، عندما كتب أندره مالرو رسائله الصينية تحت عنوان إغراء الغرب(La tentation de l›Occident). طبعا لم ينسلخ المؤلف عن «جلده» منظور الرسائل الفارسية هو منظور مونتسكيو الآفاقي المتسامي، عن جنسه وعقيدته وثقافته، وهذا التسامي ما كان ليحدث لولا التجارب والمؤهلات التي سقناها هنا. المراجع الثبت المرفق بالملاحق، يظهر تنوع مراجع المؤلف، تنوعا أتاح له التوسع في المقارنة. أولا وأساسا بين النظامين الغربي والشرقي، أي الأوروبي والأسيوي. يتساءل المؤلف كما تساءل المفكرون القدامى، لماذا الغالب على الدول الأوربية القديمة النظام الجمهوري وعلى ا لشرقية النظام الملكي؟ ينقل مونتسكيو هذه الثنائية من الماضي البعيد إلى التاريخ القريب. فيبحث في أسباب تجاوب الديانة المسيحية مع الجمهورية والإسلامية مع الملكية. لا يحصر الشرق في الإسلام ( العرب، الفرس، الترك) بل يتعداه إلى الهند والصين واليابان، معتمدا على كتب الرحالة، معظمهم من التجار، وعلى شهادات المبشرين المسيحيين. يضم أحيانا إلى هذه المعلومات أخبار هنود أمريكا وزنوج إفريقيا. هذا مسح جغرافي اثنوغرافي يتوجه بمسح تاريخي آخذا في الاعتبار عامل التطور وانتقال المجتمعات، من حال إلى حال، من عقيدة إلى عقيدة. يقابل باستمرار روما الوثنية وروما المسيحية، كما يفرق بين المسيحية الرومانية والمسيحية البيزنطية. فيما يتعلق بالتاريخ الحديث المقابلة الجوهرية هي بين النظامين الفرنسي والإنجليزي، ملكية مطلقة من جهة، وملكية مقيدة من جهة أخرى. وراء هذا التعارض يوجد بالطبع اختلاف في العقيدة، في الأعراف الشرعية، في الذهنية العامة، في التركيبة الاجتماعية، في النشاط الاقتصادي، وفي آخر تحليل في المناخ إن لم يكن في الانتماء العرقي. من يريد التوسع في هذه النقطة عليه الرجوع إلى الكتاب الجامح روح القوانين. لكن القارئ سيجد شيئا مما ذكرنا في المؤلَّف الذي نقدم له. لا تخلو صفحة من مقابلة، تلويحا أو تصريحا، بين فترتين أو نظامين أو عقيدتين أو ذهنيتين، عليها يرتكز الحكم أو التطلع وأحيانا التنبؤ. سبق لي أن أكدت، في بحوث أخرى، أن منهاج المقارنة هو أساس العلوم الاجتماعية كلها، من سياسة وتاريخ وأنثربولوجيا، لا سيما عند المؤسسين أمثال ابن خلدون وماكيافلي. المنهاج واحد وميزة هذا على ذاك، مونتسكيو على ماكيافلي، ماكيافلي على ابن خلدون، تكمن في مدى تلك المقارنة. واضح أن المجال أوسع عند المفكر الفرنسي، وذلك للأسباب التي ذكرناها آنفا. مونتسكيو وأقرانه صحيح أن ماكيافلي يقارن باستمرار بين النظامين الجمهوري والأميري، بين روما القديمة وإيطاليا الحديثة، بين الدويلات الإيطالية والممالك العظيمة الموحدة كفرنسا وإسبانيا، لكن همه الأول هو كيف تؤسس دولة لتدوم. سؤال عملي، سياسي في العمق، لا يلزم صاحبه التوسع في المقارنة. لا يعنيه كثيرا التنقيب عن أسباب التطور، النهوض، الانهيار. هدفه النصح المفيد المستوحى من تاريخ روما في أوج عظمتها. لذا يكتفي بتسجيل ملاحظات على العشرية الأولى من تاريخ تيت - ليڤ. أما ابن خلدون فهمه المعلن هو كيف تمحص الأخبار. قد ينتهي الناظر في أحداث التاريخ إلى الاتعاظ، إلى استخلاص العبر، الأمر الذي يشير إلى عنوان الكتاب الذي يأتي بعد المقدمة. لكن المؤلف لم يعد في حاجة إلى استفادة. لقد جرب وفشل، كل ما يصبو إليه هو أن يوضح لغيره سبيل الاستفادة، وذلك بتلقينه طرق النظر والتمحيص. إذا كان ماكيافلي ينظر لمخططي السياسة العملية، فابن خلدون يمهد للسوسيولوجيا كعلم مساعد لقراءة التاريخ. المطلوب في هذا الإطار هو أن تتسع المقاربة لتشمل أكبر عدد من الأمثلة، هل هذا هو حال ابن خلدون؟ لا يحق لنا أن نؤاخذه، بما جاء بعده، الاكتشافات الجغرافية والمكاسب في مجال الحفريات واللغويات. لكن أي عيب في مؤاخذته بما كان قبله، بتلك المراجع التي كانت جاهزة، في متناوله لو توافرت الشروط؟ ما العيب أن نقول متأسفين آه، لو اطلع في النص على أخبار اليونان وروما؟ اعتمد هو الآخر منهج المقارنة، لكن بين من ومن؟ بين البدو والحضر، العرب والفرس، العرب والترك، العرب والبربر. استخلص من ذلك ثنائية العمران البدوي والعمران المدني، تابع نتائج تلك المعارضة على كل المستويات. فعل ذلك ببراعة وحذق وجرأة. لم يحجم عن ربط هذه الثنائية بأخرى ذات طابع سياسي. فميز بين حكم مدني مطلق عادل سديد يتوخى خير الجميع، أو متهور جائر يستهدف إشباع الشهوة، وبين حكم شرعي يضمن سعادة الفرد في الدنيا والآخرة. أمسك بهذا الاستنتاج لأنه تيقن أن الجمهورية، حكم الغوغاء، فاسد من الأصل، ينتهي حتما إلى الفوضى وعموم الظلم. هذا ما وجد في كل مراجعه، من فلاسفة متأخرين ومؤرخين مسيحيين. ماذا لو اطلع على نصوص الأوائل، وعلى أقوال قدماء اليونان والرومان دون تأويل الوسطاء وتحريف التراجمة؟ ماذا لو أتيح له ما أتاحته الأقدار لمونتسكيو؟ قد يقال، اطلع على جانب من أحوال الروم والإفرنج المعاصرين له، عبر آداب الرحلة، على أوضاع الصين والهند والسودان، كما تدل على ذلك عبارات «المقدمة». لا ينفع في هذا الباب السمع المبهم، لابد من تلمس الأصول وفحصها بمثابرة وانتظام. يعترضنا هنا ذلك السقف المعرفي الذي أوضحنا في مناسبات عدة آثاره على المفكرين المصلحين. الجبرية والحرية كان مكتوبا على روما أن تعلو وتسمو وتصل إلى القمة، كما كان مكتوبا عليها أن تنحط إلى الحضيض قبل أن تطرد نهائيا من مسرح التاريخ. هذا ظاهر قول مونتسكيو. ما وراء هذا المكتوب؟ الدهر أم الرعاية الربانية؟ لا جواب عن هذا السؤال الذي شغل باب الكثيرين ممن ألفوا في هذا الباب، وعلى رأسهم الأسقف الفرنسي بوسويه. يقول مونتسكيو إن أسباب نهوض روما هي نفسها التي أدت إلى الخلل والانحطاط ثم الانهيار، أسباب عائدة إلى التشريع، التربية، رعاية الأعراف، تدبير المعاش، رسم الضرائب، تعبئة الجيش... إلخ. أعمال يقوم بها البشر في ظروف خارجة عن إرادتهم. يقول إن الجمهورية لو لم تمت على يد يوليوس قيصر لماتت على يد زعيم آخر يتصف بأوصاف قيصر. يقول إن جيش هنيبعل لو لم ينحل في قصور «كابو» لا نحل في قصور أية مدينة غير «كابو». يقول إن العرب كانوا مؤهلين لتأسيس دولة خاصة بهم على أنقاض دولتي الفرس والرومان متى سنحت الفرصة. يدعي بعض المعلقين أن حتمية مونتسكيو لا تعني التوكل والاستسلام. تظل المسألة غامضة، ما لم توضع في إطار المقارنة مع ماكيافلي وابن خلدون. أيهم أكثر إيمانا بالجبرية؟ بما أن هدف ماكيافلي تأسيس دولة، ابتداء أو استئنافا، كان لزاما عليه أن يقلل من أثر الحظ، تاركا بعض المجال للعامل البشري، لذا قال بالمناصفة. في كل عمل تتحكم الإرادة البشرية في نصف النتيجة، ويظل النصف الآخر موكولا إلى الحظ، لكن بما أن المبادرة دائما بيد البشر، فلابد من الختام من أن يتسجيب القدر، كما يقول الشاعر. واضح إذا أن وطأة الحتمية أخف عند ماكيافلي منها عند مونتسكيو. يقول هذا الأخير، إن دولة مساحة لا يجب أن تتعداها. ويقول ابن خلدون إن لكل دولة عمرا لا تتجاوزه أبدا. مفهوم الدولة مختلف عند الرجلين، فما يجمع بينهما ويبرز مدى الجبر عند كل واحد منهما، هو استحالة الإصلاح بعد أن تظهر في الدولة ملامح الانحطاط، والسبب هو تغير الأحوال. كل دولة تنمو وتتسع بسبب مزايا خاصة في ظروف ملائمة، بعد حين تنقلب الأوضاع، فتتحول تلك المزايا إلى عوائق، عندها لابد من إبدال تلك الصفقات بأخرى مناقضة لها ومسايرة للظروف الجديدة. لكن هذا التطور غير ممكن إذ لا أحد يتصور أن ما حصل بسبب أمر ما قد يتجدد بعكسه. الحكمة تقضي أن الأواخر لا تصلح إلا بما صلحت به الأوائل. فما نسميه القدر، هو في الواقع مجسد في الذات وليس طارئا عليها. الإجراء الذي يوصي به ما كيافلي، وهو بالضرورة إجراء استئناف، لا يكون إلا جزئيا وموقتا، يؤخر الانهيار ولا يمنعه أبدا. نبه مونتسكيو إلى أن هذا ما حصل لإمبراطورية الروم، وتنبأ أن نفس الأمر سيحصل للأيالة العثمانية التي خلفتها. لكنه في الوقت نفسه، وفي ما يبدو حكما مناقضا، أثنى على إصلاحات بطرس الأول في روسيا، وقال إنه غير من شؤون مملكة يديرها أكثر مما كان يفعل حاكم أجنبي لو استولى عليها، يعني أنه أعاد تأسيسها. لكن هذه الإصلاحات الجريئة، والأخرى التي قامت بها كاترين الثانية وقياصرة القرن التاسع عشر، هل منعت حدوث ثورة عارمة في بلدية القرن العشرين؟ وفرنسا، وطن الكاتب، ألا يصح القول إن استبداد لويس الرابع عشر، الذي خرب الدولة وفك أواصر المجتمع، لم يترك أي مخرج من الأزمة سوى ثورة شاملة جاءت في أقل من قرن بعد وفاته، وإن كل الإصلاحات التي أنجزها بعض الوزراء المتنورين لم تفعل سوى تأجيل الانهيار المحتوم؟ التاريخ في مجمله يحكم لصالح نظرية مونتسكيو المستمدة من تجربة روما. كل دولة، بالمعنى الواسع، تنمو لأسباب موضوعية، مادية وتنظيمية وخلقية، ثم تنحط وتنهار لنفس الأسباب التي لم تعد توافق الظروف التي عملت هي على إنشائها. لم يكن في مقدور الجمهورية الرومانية أن تتوقف عن التوسع، وبعد أن تأسست إمبراطورية لم يكن في الإمكان الحفاظ على النظام الجمهوري، بل لم يكن في الإمكان أن تظل الإمبراطورية رومانية حقا. تتوالى الدول إثر قواطع، التي هي ثورات شاملة، لا يستطيع أحد أن يتنبأ بها، أو يتحكم فيها أو يستعد لها. هل هذه الجبرية هي التي قال بها ابن خلدون؟ الظاهر أن الأمر كذلك، إذا اسقطنا بعض العبارات التقليدية الوقائية أو التمويهية - ويوجد مثلها عند مونتسكيو كما نبهنا إلى ذلك في الهوامش - وكذلك إذا وسعنا مفهوم الدولة وقصدنا به دولة الجنس أو الأمة، ودولة الترك والفرس أو العرب، لا دولة الأسرة أو القبيل، دولة الأمويين أو الموحدين. المصطلح والأسلوب ألمحنا فيما سبق غزارة مصادر مونتسكيو، وقلتها عند ابن خلدون. أهم من الكم النوع. مراجع الفرنسي أصلية يقرأ في النص ما كتبه القدماء، وما أضاف إليه المحدثون، نستثني بالطبع المراجع الخاصة بالمجتمعات غير الغربية. الوضع معكوس عند ابن خلدون، يعتمد فيما يتعلق بالتاريخ القديم، وهو ما يهمنا الآن، على نصوص معربة، لا لفظا فقط، بل مفهوما كذلك، وهنا مكمن الخطر. لكي تكون المقارنة مفيدة حقا، لابد من المحافظة على أصالة وفرادة المواد المزمع مقارنتها. لم يكن هذا الأمر متاحا لابن خلدون لغيره من المفكرين المفكرين المسلمين. أشار عبد الرحمان بدوي إلى أن معلومات ابن خلدون حول التاريخ القديم مأخوذة في مجملها من كتاب أوروز «هوروزيوس». لا ندري بالضبط ظروف نقله إلى العربية، لكن نلاحظ أن المعرب حاول أن يقرب الألفاظ والعبارات والمصطلحات إلى ذهن القارىء العربي، فالتصق بجذور المفردات واجتهد ليجد ما يقابلها في اشتقاق اللفظ العربي، فعرب دكتاتور بوضّاع وليجيون بعرافة. لو سرنا على نفس النهج وعربنا كوميثيا(Comitia) بندوى(Triun)، تريبون بنقيب، سنسور(Censor) بمحتسب، بريتور(praetor) بولي، كْويستور(Questor) بعامل، سيناتور(Senator) بشيخ، امبراطور(Imperator) بأمير، فلامين(Flamine) بإمام، أوسبيس(Ausice) بعرّاف، إلخ، أما كنا طمسنا خصوصية تاريخ الرومان وجعلنا من أخبارهم جزءاً من أخبار عامة الملوك والسلاطين؟ الهاجس عندي هو أن هذا هو ما حصل بالضبط للمفكرين المسلمين في القديم تاركاً بصماته في نظرتهم إلى التاريخ. فهموا من المقابلة المماثلة. رأوا كل شيء في تاريخ الرومان، حتى في العهد الجمهوري، على ضوء ما عهدوه في أخبار الأمويين والعباسيين وغيرهم. امتنع عليهم أن يدركوا ما وعاه مونتسكيو من اتفاق ومن افتراق، من تشابه ومن تعارض. لم يروا مثلا أن الفرق الجوهري ليس بين نظام إسلامي وآخر مسيحي، بل بين نظام ديني يتحكم فيه الرهبان أهل الجبة والزنّار، وآخر مدني يسيره سياسيون أهل البذلة والقبعة. من هذا المنظور النظام الرومي البيزنطي أ قرب إلى الإسلام منه إلى الروماني القديم. مشكل قائم باستمرار هو كيف يتم تعريب الألفاظ دون أن يستدعي ذلك تعريب المفاهيم، وبالتالي طمس الخصوصيات التي هي لبّ التاريخ، كما يقول الفرنسي جول ميشله. نقل تراجمتنا القدامى عن لغات ميتة، واليوم نحن نترجم عن لغات حية. يبدو أننا نواجه صعوبات أقل، لكن اللغات الحية تتطور بسرعة متزايدة، فنواجه صعوبات من نوع جديد. فرنسية مونتسكيو غير فرنسية اليوم. يقول (D›bord) فنفهم أولا مع أنه يعني في الحال. زد على ذلك، خصوصية الأسلوب. لاحظ المعاصرون أن كتاب التأملات حرر بكيفية غريبة، فقالوا متندرين إن الانحطاط المذكور في العنوان ينسحب على المؤلف كذلك. قد يكون مونتسكيو قد تعمد الغموض خشية الرقيب، إذ كان متهماً عند رجال الكنيسة والدولة. لكن الواقع هو أنه لم يكن بصدد كتابة مؤلف في التاريخ، بل تسجيل ملاحظات على هامش ذلك التاريخ المعروف للجميع. يفترض أن القارىء ملم بالأحداث التي يعلق عليها بعبارات يأمل أن تجري مجرى الأمثال. من هنا التلخيص والتركيز والإيماء. يتعمد أحياناً مجاراة كبار كتاب اللاتينية فيما تميزوا به من إيجاز وتلميح. كيف التعامل مع نص من هذا النوع؟ خصائصه كلاسيكية. هذا يعني أنها شبيهة بصفات الأسلوب العربي البليغ. هناك إغراء ب «تعريب» بيان مونتسكيو. هل هذا مطلوب ومفيد؟ هل نجنح إلى التعقيد، تحقيقاً لأغراض المؤلف، أم إلى التبسيط رفقاً بالقاريء وتعميماً للفائدة؟ قررنا في النهاية أن نسلك مسلكاً وسطاً. في بعض الحالات عربنا المفاهيم. فقلنا مملكة الروم، إمارة الجيش، محتسب، نقيب أو وكيل الشعب، إلخ. لم نفعل ذلك بانتظام حتى لا يتحول المؤلَّف الى كتاب تاريخي عربي تقليدي. حافظنا قدر الإمكان على خصائص أسلوب مونتسكيو بما فيه من تناثر وتفكك. أردنا أن يستحضر القارىء باستمرار أن ما بين يديه هو نص مترجم حول تاريخ غير معهود، مكتوب بعقلية غير عادية. عليه إذن أن يتمعن فيما يقرأ ويقارنه بما هو في مستواه، أعني مقدمة ابن خلدون، المليئة هي الأخرى بالألغاز والمعمّيات. تنبيه يوجد في نص مونتسكيو هوامش كثيرة، توضيحية أو تكميلية. حتى لا يحصل خلط بينها وهوامش المعرب، أرفقنا الأولى بعلامة (م م)، أي ملحوظة المؤلف. وتسهيلا على القارىء، أدمجنا مراجع مونتسكيو، مرتّبة ترتيباً أبجدياً لاتينيا في ملحق. مثلا [5 ك 2 ف 18] ترمز الى أوغسطين، المدينة السماوية، [الكتاب 2 الفصل 18]. [11 ه ك 4 رسالة 8] إلى شيشرون، رسائل الى أتيكوس، [الكتاب 4 رسالة 8]. وهكذا... فيما يتعلق بأسماء الأعلام الأعجمية ورسمها بالحرف العربي يبدو أن الإجماع على طريقة واحدة أمر ممتنع. الاختلاف موجود عند الغربيين أيضاً، بين الفرنسيين والانجليز. هؤلاء يحافظون على النطق اليوناني أو اللاتيني أكثر من أولئك. ونفس الاختلاف موجود عند قدماء المترجمين الى العربية. ذلك راجع فيما يبدو الى نوعية الأصل المنقول (يوناني، لاتيني، سرياني) وربما أيضاً إلى جنسية الناقل ولغته الأم، إذ نفس الحرف ينطق بكيفية مختلفة في هذه اللغة أو تلك. أميل بطبعي إلى اتباع عادة الإنجليز لقربها من الأصل، فأقول تاقيتوس عوض تاسيت، تيتوس ليفيوس عوض تيت ليف، انطونيوس عوض أنطوان. لكن بما أن النص المنقول فرنسي وبما أن التقليد الفرنسي أخف على اللسان، اعتمدته في النهاية. أول ما يعرض اسم علم أضع بين قوسين الجزء الساقط، أكتب مثلا كلود [يوس]، تاسيت [وس]، أوروز [يوس]، وبعد ذلك أكتب الاسم مرخماً على طريقة الفرنسيين. كذلك كان بودي أن أرسم دائماً حرف [c] قافاص، كما في قيصر(CAESAR) ومقدونيا(Macedoine)، فأقول قراقلا(Caracalla) عوض كراكلا أو ليقينيوس(Licinius) عوض ليكينيوس. نفس الأمر بالنسبة لحرف [v]. كما نقول وندال (Vandale)لماذا لا نقول والنس(Valens)، ولنتينيان(Valentinien)؟ تخلينا عن كل هذا حتى لا نزيد الأمور تداخلا وإبهاماً. كما تخلينا عن إثبات الأسماء، كما جاءت في النصوص العربية القديمة (المسعودي، البيروني، ابن العبري، إلخ). الفائدة من إثباتها ضعيفة لكثرة التحريف فيها. النص المنقول نشر مونتسكيو كتابه أولا في أمستردام بعيداً عن الرقيب سنة 1734. ثم في السنوات التالية، أثناء تحريره كتاب «روح القوانين»، تراكمت لديه معلومات جديدة حول تاريخ الرومان. فكان يثبتها في هوامش وحواش بنية إصدار طبعة جديدة منقحة وموسعة. لم يتأت له ذلك إلا سنة 1748، شهوراً قبل صدور «روح القوانين» خارج التراب الفرنسي. درج الناشرون منذ 1758 على إعادة نشر هذا النص المطول. إلى أن أقدمت سنة 2000 مؤسسة فولتير المتمركزة في جامعة أوكسفورد والمتخصصة في تحقيق مؤلفات القرن الثامن عشر الفرنسي، على إعادة نشر الطبعة الأولى، تماشياً مع الطريقة الجديدة في تحقيق النصوص القديمة. الفائدة واضحة بالنسبة لمن يؤرخ لتطور الأفكار وآليات تغلغلها في المجتمع. لكنها أقل وضوحاً بالنسبة للناقل الى لغة أخرى. لذلك اخترنا أن نعرب نص 1748، الأكثر وضوحاً ودقة، كما وجدناه في النشرات التالية: - Considérations sur les causes de la grandeur des Romains et de leur décadence. Avec des notes inédites de Frédéric II. Paris, Librairie Firmin-Didot et Cie, 1879. - Montesquieu, (Oeuvres complétes. Préface de Georges Vedel. Prىésentation et notes de Daniel Oster. Paris, Editions du Seuil, 1964. - Grandeur et décadence des Romains. Chronologie et préface de Jean Ehrard. Paris, Flammarion, 1968.