قبل ثلاث سنوات وعلى هامش الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الافريقي للقضاة الذي احتضنته بلادنا، وقعت بصفتي رئيسا للودادية آنذاك اتفاقية تعاون وشراكة مع زميلي المحترم السيد Rainer Van ZUPHTEN (رئيس جمعية القضاة والنواب بهولندا) ووضعنا برنامجا مشتركا تعتبر ندوة «السلطة القضائية والإعلام : التواصل - الواقع- التحديات» (التي إنعقدت يوم 19 أبريل الجاري) أول تطبيق له، فانتهز هذه الفرصة لتوجيه تحية تقدير واعتبار لزميلي العزيز وللوفد المرافق له، كما أنها مناسبة للإشادة بالمكتب الجديد للودادية الحسنية للقضاة الذي يعمل على استكمال ما بدأنا بناءه مساهما بذلك في الإصلاح الشمولي والعميق للعدالة ببلادنا. كما أتوجه بتحية تقدير لكل نساء ورجاء الصحافة، الذين يعملون بكل نزاهة علي تنوير الرأي العام، والمساهمة في بناء دولة الحق والمؤسسات. موضوع الندوة يكتسي أهمية كبرى، فهو يتطرق لنقط الالتقاء والتباعد بين السلطتين الثالثة والرابعة. بداية لابد من التذكير بمضامين الرسالة الملكية الموجهة إلى أعضاء المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 12 أبريل 2004 والتي جاء فيها :«إن استقلال القضاء الذي نحن عليه حريصون، ليس فقط إزاء السلطتين التشريعية والتنفيذية الذي يضمنه الدستور، ولكن أمام السلط الأخرى شديدة الإغواء، وفي مقدمتها سلطة المال المغرية بالارتشاء، وسلطة الإعلام التي أصبحت بما لها من نفوذ متزايد، وأثر قوي، في تكييف الرأي العام سلطة رابعة في عصرنا...».وجاء في الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش بتاريخ 30 يوليوز 2007 :«ولكون وسائل الإعلام شريكا فاعلا في ترسيخ المواطنة الإيجابية، فإن غيرتنا الصادقة على حسن قيامها برسالتها النبيلة في تنوير الرأي العام، وترسيخ البناء الديمقراطي، لا يعادلها إلا حرصنا على أن تكون ملتزمة بضوابط قانونية، وأخلاقية، ومهنية مجسدة للتوفيق بين الحرية والمسؤولية، واحترام النظام العام في نطاق سيادة القانون وسلطة القضاء». انتهى النطق الملكي السامي. لئن كان دور القضاء يتجلى في تحقيق العدالة، والفصل في المنازعات وتوفير المحاكمة العادلة السريعة والمتقنة، باعتباره حصنا منيعا لدولة الحق والمؤسسات، وعمادا للأمن القضائي والحكامة الجيدة، وملاذا للإنصاف وضمان الاستقرار الاجتماعي، ومحفزا للتنمية والاستثمار وتوطيد الديمقراطية والاستقرار. فإن دور الصحافة لا يقل أهمية عن ذلك، فهي مكلفة برصد التجاوزات التي قد تقوم بها إحدى السلط الثلاث، وإظهار الوقائع كاملة دون تحريف أو إنقاص، فالاعلام هو المرآة الحقيقة التي تعكس وضعية المجتمع من جميع النواحي، فلا أحد ينكر الدور الهام الذي يقوم به الإعلام في تنوير الرأي العام، وبث الوعي، وتدعيم ثقافة حقوق الإنسان، وتكريس الحياة الديمقراطية، وفضح التجاوزات، وإذكاء روح المواطنة، ونقل الرأي والرأي الآخر. إن التكتم المطلق على العمل القضائي هو في حقيقة الأمر تدمير لمصداقيته وإخلال بآليات الحكامة الجيدة، فالأحكام القضائية بمجرد صدورها بصفة نهائية، تصبح ملكا للعموم، يجوز بل يجب على أهل الرأي والخبرة والاختصاص، تناولها بالدراسة والتمحيص والتدقيق، وفي ذلك تدعيم للثقة في القضاء وأحكامه، حيث سيشعر الرأي العام أن الحكم هو عنوان الحقيقة فعلا، هذه الحقيقة التي تتسم بنسبيتها بما هو متاح من أدلة، وبراهين، وشهود وظروف وملابسات تتم معالجتها من خلال الدرجات المختلفة للتقاضي، التي تتيح الفرصة كاملة للمتقاضين للوصول لأعلى درجة ممكنة من العدل. فثقة الرأي العام في قضائه تتعزز بالشفافية والعلانية، وتتحصن بذيوع المعلومات وانتشارها وتتأثر سلبا بالتكتم والسرية والحيطة، من ثمة يتعين على وسائل الاعلام التناول الموضوعي والمسؤول لما يدور في قاعة المحاكم، ليس فقط لأن ذلك يتمم رسالة القضاء، ويحقق علانية الأحكام، ويلبي حاجة الأفراد إلى المعرفة، ولكن أيضا تماشيا مع واقع وطني ودولي جديد، لم تعد معه السرية ممكنة أو مستساغة ومقبولة. إن الثقة في القضاء عملية مركبة ومعقدة، وقابلة للزيادة والنقصان والتعزيز والتآكل وذلك لارتباطها بعشرات المتغيرات التي يتسم بها العمل القضائي، ومن ثمة يجب أن يسعى الجميع، وعلى رأسهم الإعلام لضمان صيانتها وتحصينها، مادام أن القضاء هو الملاذ لضمان حقوق الإنسان وحرياته، وأن تحصينه ليس معقودا في شخص القاضي نفسه بقدر ما هو تحصين لطبيعة المهنة والرسالة الجليلة التي يضطلع بها. لكن لابد من الاعتراف بأن العلاقة بين القضاء والإعلام تعرف الكثير من الممانعة والشد والجذب وسوء الفهم، والالتباس، مما ينعكس سلبا على مسار الديمقراطية. فالتحليل المبسط لطبيعة عمل القضاء والإعلام، يوحي بوجود تعارض ظاهري بينهما على اعتبار أن طبيعة عمل القضاء، تفرض على رجاله التكتم والسرية ضمانا لحسن سير العدالة، في حين تحكم طبيعة عمل الإعلام تزويد الرأي العام بكل ما يحدث في المجتمع، والتعليق عليه لإشباع حق الاطلاع لدى المواطن الذي هو مكفول بنص المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. لكن إذا انتقلنا إلى مستوى أعلى، سنجد قيمتين أساسيتين: هما قيمة العدل لدى القضاة، وقيمة الحرية لدى الإعلاميين، وهما أعلى ما يمكن أن يعتز بهما المتجتمع، ولا يمكن تصور وجود تعارض بينهما، إذ في غياب الحرية تنتفي إمكانية تحقيق العدالة، إذن هناك نقط التقاط القضاء بالإعلام، بل إنهما يكملان بعضهما مما يفرض عليهما معا، أكبر درجة ممكنة من التفاهم والتعاون والتآزر والاحترام المتبادل. إن تحقيق الديمقراطية وقيام دولة الحق والقانون، رهين بتعاون سلطتي القضاء والإعلام، باعتبارهما القادرتان على الدفع بقيم العدالة والحرية والمساواة، فكل منهما يتصدى للتجاوزات، ويشير إلى مكامن القصور، ويعمل على تقويم السلوك. فإذا كان القضاء يستند على فصول القانون لمعاقبة المتجاوزين والمخالفين، فإن الإعلام من خلال مجال الحرية المتاح أمامه، يقوم بفضح التجاوزات والمتجاوزين أمام الرأي العام، وبذلك يعتبر عين القضاء داخل المجتمع، وأي صراع بين هاتين المؤستين قد يؤدي إلى البعد عن الطريق السليم للتنمية والحرية والعدالة باعتبارهما معا الضمير الحي للأمة. إن للإعلام سلطته وآلياته الذاتية في تناول القضايا المجتمعية، ومنها القضايا التي تروج أمام المحاكم حيث لا تخلو صحيفة اليوم ، من تغطية خبر أو قضية منظورة أمام المحاكم، لما تحمله من عناصر الإثارة من جهة، وشغف القارئ لمتابعة مثل هذه الأخبار من جهة أخرى، مدعومة بتعليقات وتحليلات أحيانا، وإدانة وتبرئة وإصدار الأحكام أحيانا أخرى، حتى قبل أحكام القضاء نفسه، الشيء الذي يوقع الرأي العام في حيرة شديدة إذا صدر الحكم القضائي خلافا للاتجاه الذي شحن الإعلام به الرأي العام. إن التناول الإعلامي لقضايا الرأي العام بصورة مبالغ فيها، قد يكون سببا رئيسيا لمنع تحقيق العدالة، حيث يتحول القاضي الذي ينظر في قضية ما، من حكم إلى مدان في نظر الرأي العام، الشيء الذي يضع على عاتق الإعلام مسؤولية توخي الحذر في اختيار الطريقة المثلى للتعامل مع القضاء، على خلاف تعامله مع الجهات التنفيذية والحكومية الأخرى. لأن مثل هذه التحاليل قد تؤدي إلى الشكيك في القضاء والقضاة ونزاهتهم وعملهم، وقد يشكل عليهم ضغطا كبيرا عند خلوهم للمداولة، خاصة وأن تناول الإعلام لقضايا الرأي العام بصورة مبالغ فيها، قد يكون سببا رئيسيا لمنع تحقيق العدالة، وبالتالي وجب التفريق بين الحديث عن الواقعة، والحديث عن حكمها وهذا لا يمس المؤسسة الإعلامية في شيء على اعتبار أن ما يمكن أن يؤاخذ على الإعلام هو مؤاخذة على بعض الإعلاميين، كما أن ما يواخذ على القضاء هو في الأصل تجاوز صادر عن بعض القضاة. من أجل تفادي هذا كله، نرى من الضروري إشاعة ثقافة حقوقية، لدى جميع مؤسسات المجتمع المدني والطبقة السياسية، من أجل الارتقاء بالطرح الإعلامي للشؤون القضائية والحقوقية، في إطار إعلام حقوقي وقانوني متخصص ومؤهل، بعيدا عن الحماسة والإثارة الإعلامية، للوصول إلى توازن وتكامل في الوظيفة والفلسفة العامة بين الإعلام والقضاء. وإن بلورة فكرة إعلام قضائي متخصص في بلادنا، لتعتبر حاجة ملحة وضرورية حتى تكون الرسالة الإعلامية ضمن القواعد والضوابط القانونية، ولن يتأتى هذا إلا من خلال إحداث فروع قانونية متخصصة لدى المؤسسات الإعلامية، لتعزيز دور الثقاقة الحقوقية داخلها. الشيء الذي يفرض على رجل الإعلام إعمال نوع من الرقابة الذاتية على نفسه، وعلى كتاباته، خاصة عند تناوله لبعض القضايا الحساسة التي تؤثر على تشكيل وجدان المواطنين، ودون التدخل في عمل القضاء، أو التأثير عليه، مما يوجب على الاعلامي المعرفة الجيدة للقانون، من أجل استكمال أدواته المهنية حتى يكون في المستوى اللازم من الوعي للتعامل مع الرأي العام. وفي المقابل على المحاكم أن تعين قاضيا مكلفا بالتواصل مع الإعلام، وشرح الإشكاليات المطروحة وتنوير الرأي العام دون المساس بالسرية التي تقتضيها القضايا في بعض مراحلها، وعلى القاضي المكلف بالتواصل أن يكون كذلك على دراية بالمجال الإعلامي حتى يؤدي مهمته على وجهها الأكمل. إني لعلى يقيم بأن هذا اللقاء الهام سيشكل استثمارا هاما في المستقبل ومحطة للاستماع للآخر والتعرف على خصوصياته وإكراهات عمله واختلاف مداخله وآلياته وأهدافه، من جوهر المكاشفة، والنقد الموضوعي، قصد الوصول إلى آليات تخول لنا تطوير برامج التفكير والعمل المشترك، بعيدا عن القيود غير المبررة وخطابات التبخيس والتيئيس غير المجدية. القي هذا العرض في ندوة «السلطة القضائية والاعلام» المنظمة من طرف الودادية الحسنية للقضاة بتاريخ 19 أبريل 2011 ** الرئيس الاول للمجلس الاعلى