منذ أن أطلق بعض شباب «ماي المغربي» بشكل مفاجئ وغير ذي معنى ولا سياق، بالنظر للحمولة الحداثية والديمقراطية لشعاراتهم، دعوتهم إلى مقاطعة الفنانين لمهرجان موازين، ومنظمي المهرجان إلى إلغائه، تلقفت الجهات التي في نفسها شيء من حتى ولم تتوان أبدا عن ركوب وتصيد مثل هذه الموجات، هذه الدعوة، وتبلتها بما يليق بإديولوجيتها الظلامية من توابل، وجعلت منها حصانا لمعركتها المعتادة ضد الفن والفرح والمتعة والجمال والاختلاط والتعبير الحر والإبداع و الثقافة. وقبل الرجوع إلى هؤلاء لمحاولة تبيان الخيط الناظم لمعاركهم الضارية ضد الحريات الفردية و الجماعية منذ واقعة «أمينة خباب» إلى معركة «موازين»، أرى أنه من باب إنصاف شباب 20 فبراير، الحداثي بطبيعة الحال وليس المندس والمخدوم سلفا، لابد من توضيح أن هؤلاء الشباب وهم يدعون إلى إلغاء دورة هذه السنة من «موازين» قد توسلوا في قناعتهم هذه إلى كون ميزانية المهرجان بإمكانها أن تشكل حلا لبعض من معضلات أو حالات اجتماعية، وبالتالي فالإلغاء في نظرهم لا ينبني على موقف مبدئي منه، و لا من الفن و الفرح و الحرية. قد يكون لموقفهم هذا جزء من المعقولية، ولو أن ما نعلم من خلال تصفحنا لقوانين المالية منذ أن جاء « موازين» إلى الوجود هو أنه ليس هناك باب ولا فصل و لا بند ولا اعتماد خاص بهذا المهرجان و لا بغيره، و بالتالي فهو لا يقتات على الميزانية العامة للدولة، ولا يؤدي «دافعو الضرائب» الذين صار الجميع يعشقهم هذه الأيام بمن فيهم بعض أبطال التملص الضريبي سوى سنتات قليلة ( 6% من ميزانية المهرجان حسب منظميه ) . فالحس الاجتماعي المرهف لدى شبابنا ورغبتهم الصادقة في معاينة أبناء شعبهم أحسن حالا ورفاها هو ما حدا بهم إلى إطلاق صرختهم، وليس أي شيء آخر كما رددت وتردد أبواق الظلام والرجعية في محاولة من جهة أولى لدحرجة كرة الثلج لتكبر، وتأتي على كل ما هو جميل وباعث على الأمل وعلى التشبث بالحياة و بالحرية الفردية و الجماعية... ومن جهة ثانية في محاولة لدغدغة حالة الاحتجاج الجماعي وتحويرها عن أفقها الوطني الواعد، لخدمة استراتيجية تاريخية للقوى المحافظة التي لا تقبلنا إلا كمريدين لشيوخ القومة ودولة الخلافة القائمة على «تسييد الشريعة في المجتمع و الدولة و المؤسسات» بتعبير المرحوم فريد الأنصاري، حيث تنمحي ذات الفرد وميوله وهواياته وحرياته. فواقعة « موازين» الحالية وإن جاءت في سياق حراك سياسي وثقافي ومجتمعي كبير، أنتج ولايزال ينتج تخمة في المطالب والشعارات، ونحا وينحو في جزء غير يسير منه إلى تقديس العفوية والمزاجية التي قد تجمع الشيء ونقيضه بشريا و ثقافيا، وهو الحراك الذي يتعاطى معه هؤلاء بديماغوجية تدعي الشيء و نقيضه وتجعل القشرة جوهرا و العكس صحيح، هذه الواقعة هي في تقديرنا بالنسبة للقوى الظلامية ليست سوى حلقة في مسلسل منتظم من الخرجات الإعلامية و السياسية المستندة إلى إيديولوجية ظلامية متطرفة تكره التعبير الحر، والمواطن/ الفرد، و الإبداع والفن والانشراح والمتعة، والأخذ بملذات الحياة، والاحتفاء بالجسد وبالإنسان عموما، إيديولوجية تقوم على التحنيط و الكبت بدعوى أننا موعودون في الدار الآخرة بالجمال والحور العين، والولدان المخلدين، وأنهار الشراب وكل ما علينا الامتناع عنه قسرا في دنيانا، بفعل كهنوتهم المقيت، ولو أن كل ما في هذه الدنيا هو من خلق الله ومما من الله به على عباده، ليرفلوا فيه و يتمتعوا به ما طاب لهم ذلك. «فالإخوان» إياهم ومنذ عرفناهم في بلادنا وفي غيرها من البلاد التي تسلطوا عليها ( لنتذكر أن طالبان أول إنجاز لهم كان هو تدمير تماثيل وإبداعات فنية تعود لآلاف السنين، وأغلقوا دور السينما و منعوا العروض المسرحية...( لايفلتوا أي فرصة إلا وانقضوا بشجاعة «لا تحسب لهم في المجال السياسي» لمحاولة فرض نوع من الأبوية على المجتمع تحت ذريعة دفاعهم عن القيم و الأخلاق الإسلامية: ترى من فوضهم للقيام بهذه المهمة؟ ثم أليست هذه أقصى درجات احتقار المغاربة؟ فقد تجرعت «أمينة خباب « من كأس الإهانة لمجرد أنها ارتدت ما لم يرق لأحدهم، الذي جاء مؤخرا لأحد البرامج التلفزية ليعلن بأنه في حالة تحمله مسؤولية الوزارة الأولى « الله يحفظنا» لن يمنع الخمر، و «حياة صغيرة» للفقيد محمد زفزاف نالت حظها من محاولات المنع من قبل الإخوان أنفسهم ، لا لشيء سوى أنها لا تساير أهواءهم، ومهرجانات السينما والفرح الجماعي، قالوا فيها مالم يقل مالك في الخمر، أما «الأشعري» فقد أفتوا بقتله بعدما ردد زعيمهم بأن حكومة دولة إسلامية لا يمكن أن تحوي مثله، لمجرد أنه انخرط مبكرا في تأهيل الحقل الديني وأوقف إسهال المراجع الوهابية في معرض الكتاب، ونفس الموجة ركبوها لما أخرجوا «اليوسفي و سعيد السعدي» من الملة و الجماعة عندما سربوا إشاعات مغرضة عن إلحادهما المزعوم، وتمادوا في ما هم فيه عندما أججوا وعبأوا سكان القصر الكبير في واقعة وكلاء الملك، ونفس الشيء فعلوه عندما منع رئيسهم بذات المدينة مهرجانا غنائيا لأصدقاء الحكمة، وقبل أن تنطلق دعوة شباب فبراير، كان زعيمهم قد نعت مغنية مدعوة للمشاركة «بالسلكوطة»، وهو ما فعلوه مع «التون جون» السنة الماضية، وفي نفس السياق يمكن أن ندرج «حيحتهم» اللامتناهية على السياحة بدعوى أنها لا تكون إلا جنسية أو خمرية، و نزولهم إلى الشواطئ غير ما مرة لمنع الاختلاط و فرض طقوس معينة في السياحة و كيفية قضاء العطلة، وحتى سلسلة الرسوم المتحركة «بوكيمون»لم تنج من تكلس عقولهم، وقبل هذا وذاك ومن باب التذكير كان دم الشهيد عمر بنجلون، الذي كان فكره هو سلاحه، هو ماعمدوا به بداياتهم، و بعده كان «آيت الجيد بنعيسى»، و «المعطي بومليل» شهيدي الحركة الطلابية، بعدما قرر «الإخوان» غزو الجامعات المغربية لتحريرها من «الكفر» و»الإلحاد» والتقدمية وكل ما له علاقة باليسار .. قد لا تسعفنا عشرات المقالات لاسترجاع كل ما اقترفه هؤلاء، وهو من صميم هويتهم الإيديولوجية، التي قد تنحو في بعدها السياسي نحو تقية حربائية، لا تلغي أبدا الجوهر( لنتذكر معركتهم قبل انتخابات 2009 حول «كارفور» و صمتهم بعد الانتخابات). ولكننا نود التأكيد لشبابنا المقبل على الحياة، رواد ربيعنا التحديثي، (بالمناسبة فالإخوان يكرهون الحداثة في أبعادها السياسية والثقافية والمجتمعية لأنها نقيض إيديولوجيتهم)، على أن من واجبهم وواجبنا الجماعي، ونحن ننحت ملامح المستقبل الذي لا نريده إلا مشرقا، جميلا، ممتعا، باعثا على المحبة والإخاء والتضامن والمساواة والحرية والكرامة، والحداثة ... من واجبنا أن نحذر ونحذر ثم نحذر لأن طريق جهنم هي الأخرى قد تكون معبدة بالنوايا الحسنة. فأنا لا أتصور منتصر الساخي ، و لا أسامة الخليفي، و لا غزلان بنعمر، و لا نجيب شوقي و لا أبو عمار تافناوت ، و لا منتصر الإدريسي ولا منير بنصالح ولا نزار بنماط ولا محمد طارق و لا محمد الهلالي ولا عبد الخالق البومصلوحي ولا يسرا و لا تفراز و لا كل الشبان و الشابات الذين يقاسمونهم قيادة نهضتنا الجماعية، لا أتصورهم إلا محبين للحياة، وللإبداع و للفن و للاختلاف البناء، و للجمال و للانشراح. و للثقافة ولكل ما هو جميل ومحرر للكامن فينا ولطاقاتنا الخلاقة و المبدعة، وحبهم وتشبثهم بما سلف هو وقود إصرارهم على مطالبهم الحداثية و الديمقراطية، الضامنة لحقهم /حقنا الجماعي في الفرح و الرقص و الغناء و الرسم، والتمثيل والسفر والابداع و الكرامة و الشغل و الصحة والتعليم والمشاركة و الشفافية والديمقراطية الحقة، بدون قيود ولا احترازات اللهم احترام حريات الآخرين. وعليه فهؤلاء الشباب ومعهم حداثيو المغرب مدعوون، ليس لحماية «موازين» أو للترويج له، بل للوقوف بحزم في وجه كل إرادة لاغتيال الحرية « ماهية الروح» بتعبير هيجل. ثم أليس الفن حقا من حقوق الإنسان ؟ وهو غذاء للروح. فبالأمس كان المستهدف هو الشواطئ، ومدونة الأسرة ومن خلالها أمهاتنا وأخواتنا و نساؤنا وحبيباتنا، والسينما، و المهرجانات وروايات وقصائد شعرية، واليوم «موازين»، وغدا قد يستهدف المهرجان الدولي للسينما بمراكش، و»البولفار»، و المهرجان الوطني للفنون الشعبية والمعارض الفنية ومهرجان الموسيقى الروحية.... وتظاهرات أخرى هي عربون انخراطنا في عصرنا، و النتيجة ستكون في حال الانخراط في مؤامرة صمت سياسوية لحظية، هي اغتيال الإنسان فينا، وآنذاك لن تنفعنا لا الملكية البرلمانية، ولا الدستورية و لا الديمقراطية و لا المواطنة و لن ينفعنا لا الدستور الممنوح ولا الدستور الشعبي. وأخيرا لا بد أن نطرح السؤال على هؤلاء الذين صاروا ينوبون عنا بدون توكيل «لحماية أخلاقنا» ، هل استفتيتم تلك الجموع الهائلة التي حضرت وتحضر حفلات موازين وباقي المهرجانات ؟ أما «موازين» فمن المؤكد أن نقاشا هادئا لمنظميه مع الهيئات التمثيلية للفنانين و المبدعين المغاربة، أصبح حيويا لمزيد من التوازن باتجاه الاحتضان الواسع و الوازن للفن و الفنانين المغاربة، ولمزيد من الشفافية حتى لا تظل قضية الميزانية و التمويل في باب الأساطير، و لمزيد من الدمقرطة والإنسانية حتى ينزع عنه الطابع «النخبوي» الذي لازمه.