الصحفي، كما نعته الأستاذ العروي، «شاب، ونبيه ومطلع». إنه من الجيل الجديد، جيل المستقبل، المنخرط في الراهن المغربي، والمعني به، ولا بد أن تكون الأجوبة عنه أجوبة راهنة ومستقبلية في الآن نفسه. إضافة إلى ذلك، فالصحفي شاب نبيه، ومقتدر لا يمكن أن يطرح سوى الأسئلة الراهنة المقلقة والمؤرقة المتجهة نحو المستقبل الخاص بوضع المغرب، وإشكالاته الجارية والمستقبلية، وبالتالي فهو صحفي مميز عن باقي الصحفيين غير المطلعين، ممن يفتقرون إلى المهنية، ومميز عنهم باطلاعه الواسع، وتتبعه الدقيق لقضايا الراهن المغربي، بما فيه راهنه السياسي، وضمنها المسألة الأمازيغية، بما هي مسألة سياسية بامتياز. من هذا الجانب فكتاب:»الديوان» بمثابة «جواب كبير وموسع ومعمق»، لمجموعة الأسئلة المطروحة والمفترضة للصحفي الشاب والمطلع والنبيه، قد أعدها لمحاورة العروي في الشأن السياسي المغربي، من خلال تاريخه وآفاقه، واستشارة المرجعيات النظريات السياسية، وتجاربها الكونية. ويبدو أن تلك المواصفات الخاصة بالصحفي، مع ذلك، غير كافية لترقى به إلى مقام يؤهله لمحاورة عبد الله العروي، المفكر والمؤرخ والكاتب والأديب، والأكاديمي، وتسمح له باستخلاص ما يجب استخلاصه من رجل تخصص في العلوم السياسية، وله اطلاع واسع وعميق بالسياسة وما يتصل بها، في مختلف التجارب الإنسانية، وزاد عن ذلك كونه جرب السياسية في بعدها الحزبي (انظر تجربته في انتخابات التشريعية 1977 في دائرة العنق بالدار البيضاء، باسم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والدروس المستخلصة في هذا الشأن، وفي ذلك الزمان، كما أوردها في كتابه:»المغرب والحسن الثاني»، ص 87، 88.)، وخبر السياسة، وعاشر أهلها، واكتوى بتقديرات السياسيين ومناوراتهم. ومع كل ذلك، لم يسمح الأستاذ العروي للصحفي المعروف والشاب والنبيه والمطلع، بالحوار معه، أو بممارسة «لعبة» السؤال والجواب عن الوضع السياسي المغربي الراهن، مع ما يملكه هذا الصحفي من مؤهلات تسمح له بذلك. فقد تردد العروي طويلا، و»في الأخير، اعتذر لأن ما يعني الصحفي، كما يقول الباحث «هو الجواب لا المرجعيات، الخلاصات لا المقدمات» (ص5). وعليه، فمهما علا الصحفي في سلم المعرفة والشهرة والنباهة، يظل «صحفيا» غير مؤهل لهذه المهمة المعرفية الصعبة، لأنه لا يهتم بالمرجعيات التي تحكم الجواب، ولا المقدمات التي تبنى عليها وتستنتج الخلاصات، مما قد يشوش على الحوار في عمقه وأبعاده، ويزيغ عن غاياته ومقاصده؛ ولذلك فضل الأستاذ العروي أن يحاور نفسه، ويتحرر من كل إكراه منهجي لا حاجة له به، خاصة وأن موضوع الحوار/ السياسة يحتاج إلى فحص وتأمل، واستشارة مختبر العقل والتاريخ، واقتراح بدائل لمغرب المستقبل الذي طالما ظل حاضرا في فكر ووجدان العروي. ولفهم هذا الموقف، حق الفهم، وجب التذكير بالعلاقة بين الصحفي والمؤرخ/ كما تطرق إليها الأستاذ العروي نفسه في سياق تحديد مفاهيمه المعلومة، وعلى رأسها مفهوم التاريخ، وما سواه. فهو يريد أن يرفع شبهة الربط الآلي بين الصحفي بالمؤرخ، عند من يقول إن الأول مؤرخ اللحظة، والثاني صحفي الماضي. فعلى الرغم مما يبدو من تقاطع بينهما، فقد سعى العروي إلى رفع لبس حاصل بهذا الصدد، لما قال في كتابه: «مفهوم التاريخ»:»الفرق بينهما هو المهلة المخولة لكل واحد منهما إذا ضاقت تحول المؤرخ إلى صحفي، وإذا عاد الصحفي إلى الأخبار بعد مدة وتأملها تحول إلى مؤرخ»( العروي:مفهوم التاريخ، ص69). فهناك فرق واضح بين الحدث الصحفي والحدث التاريخي، أو بين حادثة الصحفي وحادثة المؤرخ. وهو ما يوضحه العروي في قوله، وبعبارة جازمة:» هناك فرق جوهري بين حادثة الصحافي (الحدث عند حدوثه) وحادثة المؤرخ (الحدث المنحل في أثره). الأول مجمد في حاضره تجميدا مقصودا قسريا. وانبهارنا بأخبار الآحاد هو انغماس في حاضر دائم، في خصوصية اللحظة العابرة»( العروي:مفهوم التاريخ، ص76). ومراعاة لهذه الفروقات، وتذكيرا بهذه الاحتياطات المنهجية الدقيقة، كان من الطبيعي، أن يرفض الحوار مع الصحفي الشاب. فالعروي مؤرخ محترف، وأحد علامته الرائدة، وكان من الطبيعي والحال هذا أن يدقق مجال تحركه. فهو لا يهتم بالحدث العابر المفصول، والخبر الطارئ الطريف. فالمهلة مطلوبة لتأمل الحدث السياسي المغربي الراهن، بما فيه المسألة الأمازيغية، ولفحص المقدمات والمرجعيات حتى يفهم الجواب عن أسئلة السائل/ الصحفي، وفي ضوء تاريخانية تؤمن بأهمية التاريخ في تأطير السياسي، وعلى حيوية التاريخ وقوة الحدث، وما يتركانه من آثار يجب رصدها وتأملها ففحصها. وبموجب كل ذلك، فضل العروي أن يحاور نفسه، ويعرض تجربته في محاورة نفسه على شكل فقرات مركزة ومتدرجة، لكن وفي الوقت نفسه، أن يحتفظ بأسئلة الصحفي الشاب في صميم الكتاب، وإن سيتم إسكاته، وتغيبه، على امتداد الكتاب، إن لم نقل سيتم «اغتياله» منذ الصفحة الأولى من الكتاب، لأسباب، قد تكون منهجية وتجريبية، كما ذكرنا، وإن ظل يذكره بين الفينة والأخرى، ذكرى الميت الساذج. تلك تقنية من تقنيات الكتابة، وما توفره من تجريب يساعد الكاتب على التفكير «الحر من كل ارتباط (الديوان، ص 63)، ويتيح له مساحة أوسع للتحرك في أرضية «رخوة»، كأرضية السياسة، كالمسألة الأمازيغية، لغة وثقافة وهوية... وعلى العموم، فالصحفي الشاب، مجرد تعلة للكتابة، أو «لعبة» فنية وتقنية محبذة عند العروي، ويتقن قواعدها، لكونها تتيح له طرقا جديدة للكتابة لا تتيحها له طرق التأليف المألوفة والمتداولة. فقد ظهر الصحفي الشاب في الصفحة الأولى للكتاب، فاختفى بسرعة فائقة، أو قل «تبخر» في الهواء، كما تبخر إدريس في سيرة «أوراق»، وظل العروي يجيب عن أسئلة هي «أسئلة الصحفي»، بحرية أوسع، وجرأة أكبر؛ مستأنسا بسرد حكايات موغلة في الذاتية، ومحاججا بسوق حوادث، يصعب البناء عليها، والاطمئنان لها لما يترتب عنها من نتائج، خاصة في المسألة الأمازيغية، التي تهمنا في هذا الصدد. ذلك صنيعه في صنو كتاب: «الديوان»، ونقصد كتابه: «السنة والإصلاح» لما «تخيل» الأستاذ العروي سيدة أمريكية، بمواصفات محددة، ومنتقاة بوعي وعناية، ليكتب عن العقيدة، دون إكراهات دينية أو أخلاقية أو منهجية، أو حتى أكاديمية. فالسيدة الأمريكية، باحثة وعالمة متخصصة في البيولوجيا البحرية، «ليست عربية الأصل، ولا تتكلم اللغة العربية، ولا تخضع لأحكام الشرع، وهمها الأول الهوية والانتماء»(العروي:السنة والإصلاح، ص:197)، ولكنها تود أن تطلع على الكتاب العزيز وتفهمه، حتى تعرف وضعية ابنها في أفق المستقبل. ولذلك فهي تسأل وهو يجيب، ولكن على غير طريقة الصحفي ووضعه. فهي تشارك في الحوار وتقرر فيه، وتفرض شروطها من موقع الند للند. وهكذا، جاء كتاب «السنة والإصلاح»، كما كتاب «الديوان»، على شكل جواب افتراضي عن طلب امرأة مسلمة من أصول أمريكية، «والدتها سيدة أجنبية، تلقت تعليما علمانيا، لغتها الإنجليزية، وتخصصها في البيولوجيا البحرية، ومطلقة من رجل شرقي، حسب تعريفها له، تعيش في محيط جد مختلط، ولها ولد يقارب التاسعة تحبه كثيرا، وتشفق على مستقبله»(السنة والإصلاح، ص:5). غير أن هذه المرأة السائلة العزيزة والكريمة، والعالمة والباحثة التجريبية، كما يفضل العروي أن ينعتها، فهي حاضرة، حضور النقد للند، وعلى امتداد الكتاب، وبصحبة الكاتب، تصغي، وتتدخل، وتحاور، وتنتقد، وتضع الحدود والشروط ( في الصفحة 189 من كتاب «السنة والإصلاح»، يخاطب العروي محاورته قائلا:» لقد حذرتني، أيتها المسائلة الكريمة. قلت وأكدت: كلمني في أي شيء، حدثني بما تشاء، لكن لا تحاول أبدا إقناعي بأن العلم سراب، الديمقراطية مهزلة، والمرأة أخت الشيطان، في هذه الموضوعات الثلاثة لا أقبل أي نقاش.»)؛ على خلاف وضع الصحفي الشاب الذي ظهر فجأة ثم اختفى، أو قل تبخر، وكان من الطبيعي والحال هذا، أن يتم استبدال العرض بالحوار في كتاب:»الديوان»، والحوار مع الذات فحسب. وعلى كل حال، فالكتابان معا كتابان «تحت الطلب»، بصرف النظر عن خلفيات الطلب ومصدره، ودرجة حضور كل محاور في الكتابين، وكما يقول العروي نفسه، ف:»هذان المؤلفان متوازيان، مجال الأول العقيدة، ومجال الثاني السياسة»(الديوان، ص5)، والمسألة الأمازيغية شأن سياسي بامتياز، ظلمتها السياسات المتعاقبة كانت سبب «وضعها البئيس»، والسياسة، بمضمونها الوطني، وحدها القادرة على إنصافها، وانتشالها من هذا الوضع، كما نعته العروي ذاته. (ص:55) ثالثا- المسألة الأمازيغية والحوار المغشوش عند العروي (1) لمن تتبع مؤلفات الأستاذ عبد الله العروي بدءا من كتابه المرجعي «الإيديولوجيا العربية المعاصرة»، ومرورا بكتابه التنظيري:»العرب والفكر التاريخي»، وباقي مؤلفاته المختلفة الفكرية منها والأدبية، لن يظفر، على الأقل حسب اطلاعي، بسطر واحد عن المسألة الأمازيغية، بلغتها وثقافتها وحضارتها، وواقعها ومطالبها ومأمولها، ولا بموقف واضح ومفصل ومؤسس حول المسألة، باستثناء ما جاء في كتابه: «الأصول الاجتماعية والثقافية للحركة الوطنية»، مما يدخل في عداد التاريخ، والتأريخ، ورصد خصوصيات المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين (Laroui :Les Origines sociales p27.. )، أو ما ورد في كتابه:»خواطر الصباح» في سياق خطاب 20غشت 1994. وفي مقابل ذلك، نجد معظم هذه المؤلفات مليئة بأسئلة العرب، والثقافة العربية، وإيديولوجياتهم المفارقة، وواقع لغتهم وثقافتهم في ضوء التاريخ، ووضع مثقفيهم وأزمتهم، وتصورهم لمختلف المفاهيم الحداثية الكبرى من حرية ودولة وعقل، وغيرها، وعوائق تمثلها عندهم، وعند مثقفيهم ونخبهم السياسية، فجعل المغرب بذلك «ملحقة» للمشرق العربي، وإن كان يستحضر بين الحين والآخر، بعض خصوصيات المغرب في هذا السياق أو ذاك، وفي مجال التاريخ بالأساس. وهذا أمر مفهوم ومبرر بالنظر إلى الوضعية التاريخية التي أطرت كتابات الأستاذ العروي وحكمتها، بما فيه كتابه الرائد: «الإيديولوجيا العربية المعاصرة»، وباقي كتبه الموالية، وكذا الأجواء الثقافية والإيديولوجية والسياسية المهيمنة وقتذاك، والتي دفعته إلى طرح ما طرحه من قضايا وأسئلة، وصاغ ما صاغ لها من أجوبة في الأفق العربي لا غير؛ لكن، مرة أخرى، دون أن تغيب عنه أسئلة المغرب وآفاقه في كل ما كتب، ويكتب، وإن من زاوية «الإلحاق»، بالمعنى المذكور، وبحجة الأفق. فالأستاذ العروي وطني في كل مؤلفاته، وحامل لهمومه بالداخل وحتى بالخارج. ويسجل له رفضه مقايضة وطنه ولغته وثقافته بأمريكا واللغة الإنجليزية. فقد اختار الوطن و»ثقافة الوطن»، و»لغة الوطن»، على الأقل كما كان يعتقد بها وقت ذاك، وحسم في اختياره، وتبعاته. يقول في هذا الشأن، وفي سياق تدريسه في جامعة أمريكية بكاليفورنيا، وتحت دعوة البقاء فيها: «لماذا غادرت أمريكا؟ لماذا لم أستطع المكوث في أمريكا، وبالذات في كاليفورنيا؟ شعرت أن المكوث فيها يعني طلاقا لا رجعة فيه. المكوث هناك - أي في أمريكا- يعني بالضبط الكتابة بالإنجليزية، والابتعاد التدريجي عن مشكلاتنا. يحين وقت نقول فيه تلقائيا: نحن الأمريكيين»( العروي: «خواطر الصباح»، 1967/1973، ص:100.). وهو ما رفضه الأستاذ العروي، رغم الإغراءات المقدمة له، والامتيازات المعروضة عليه، واختار أن يعود إلى وطنه المغرب، رغم المضايقات التي تعرض إليها، والمنع الذي طال بعض مؤلفاته ( انظر كتاب:خواطر الصباح مثلا). فقد ظل الأستاذ العروي مسكونا بأسئلة وطنه المغرب، ويبحث عن سبل إخراجه من التأخر التاريخي الذي يرزخ تحته، وبمعزل عن مسائل المشرق المكبلة لنا (العروي:عوائق التحديث، ص:62/63)، أو ما عبر عنه في كتاب «الديوان» ب»التضامن السلبي» مع المشرق العربي، لكن في ظل الأفق العربي والمشرقي الحاضر بقوة في تحليلاته، والوازن في رسم ملامح المستقبل، دون أن يقوده حسه التاريخي، وواقعيته المعلومة، وقناعته التاريخانية، إلى اكتشاف «نصف» الوطن الآخر، المتعلق باللغة الأمازيغية وثقافتها وحضارتها، التي ما تزال «حية وصادمة ( بوكوس: الأمازيغية والسياسة اللغوية بالمغرب، ص:13)» في ذاكرة ووجدان ووجود الشعب المغربي، ومن ثمة فلا يستقيم أي مشروع مجتمعي يروم الحداثة والتحديث في المغرب، كما صاغه العروي وأراده، دون استشارة هذا المكون الأصيل والراسخ في نسيج المجتمع المغربي، واستحضاره في أي معادلة تتوخى المصالحة بين الدولة والمجتمع، مسلمين معه «بأن التنوع لا الوحدة هو الغالب في المجتمعات الخاضعة لسلطة سياسية واحدة. السبب ظاهر، هو أن الدولة تكونت تاريخيا بالغزو»(الديوان، ص25)، وحالة المغرب لا تشكل استثناء في هذا النطاق. وتلك مفارقة فاقعة وصادمة بين واقع تاريخي واجتماعي ولغوي وثقافي وحضاري قائم وراسخ، وبين «الصمت المريب» الذي أصاب الأستاذ العروي، وأخرسه عن الخوض في هذا الواقع اللغوي والثقافي والحضاري المتموج، فأصابه بالصمم والخرس فسكت... يقول الجاحظ في سياق غير السياق، ولحكمة ما تزال سارية: «إن السكوت عن الحق في معنى النطق بالباطل، ولعمري إن الناس إلى الكلام لأسرع، لأن في أصل التركيب أن الحاجة إلى القول والعمل أكثر من الحاجة إلى ترك العمل، والسكوت عن جميع القول»(الجاحظ:البيان والتبيين، ج1/271). بهذا الموقف يشكل العروي استثناء بالنسبة لكثير من مجايله من المفكرين والمثقفين والسياسيين الذين عبروا عن موقفهم من المسألة الأمازيغية، منذ زمن بعيد، وانتصر من انتصر للعروبة والعربية من منطلق الدين الإسلامي تارة، أو الامتداد العرقي تارة ثانية، أو من منظور الأفق العروبي كأيديولوجية قومية وقتها، أو التاريخي أو الحضاري من منظور آخر ( لمزيد من التفاصيل في هذا الموضوع، وتكوين صورة شاملة في هذا الشأن يمكن العودة لكتاب:»رسائل إلى النخبة المغربية، في الأمازيغية والدين والسياسة» لأحمد عصيد، وكذا كتاب:» حوارات حول الأمازيغية» جرى مع مجموعة من الفاعلين السياسيين والثقافيين.). لقد أصر الأستاذ العروي أن ينظر إلى الوطن المغربي باعتباره جزءا لا يتجزأ من الوطن العربي (العروي:العرب والفكر التاريخي، ص115)، ويختزل أفقه في الأفق العربي، مع حرصه على إبراز بعض أسئلة المغرب وتميزها، مما أخفى عليه ذلك النصف الآخر المكون للوطن والمواطنة، وفوت عليه صياغة موقف واضح حول سؤال الذات المغربية صياغة شمولية، في وقت سجل في كتابه:»خواطر الصباح (1982/1999) امتعاضه من كثرة الأعياد في المغرب التي تعلم الكسل، وترسخ الخمول، فقط لأن الخطب الموجهة إلى الشعب المغربي في هذه المناسبات، عادة ما يواكبها «اتخاذ قرارات، إذ لا خطاب بدون قرار، قبل أن تدرس كل العواقب. حصل ذلك في مسألة إلغاء ضريبة الترتيب، وقد يحصل في مسألة اللهجات. موضوع خطاب 20 أغسطس هذه السنة -1994 -» ويضيف الباحث في السياق ذاته:»تتعلق المسألة بالخلط اللغوي الذي يطبع المجتمع المغربي، والذي يقود إلى نوع من العي الجماعي والعي يؤدي، كما هو معلوم، إلى العنف. المسألة بالغة الخطورة، ناقشها المثقفون منذ سنين، وتظاهر المسؤولون بإهمالها، أو التقليل من أهميتها. واليوم بغتة يقال لنا إن التخاطب بالفرنسية في البيت آفة وأية آفة، وإن اللهجات الشعبية (بالأساس البربرية، أو الأمازيغية حسب العبارة المحببة لدى البعض) في طريقها إلى الانقراض إذا لم تدرس في الطور الابتدائي. يقال هذا دون تمهيد دون استئناس بتجارب دول أخرى، قريبة أو بعيدة... كان المشكل إلى حد الساعة ذا صبغة ثقافية، وكان يخترق الهيئات والأحزاب فيحتمل التوافق. بمجرد أنه ذكر في خطاب رسمي، بمناسبة ذكرى وطنية كبرى، سيصبح سياسيا، يستقطب المواقف، ويجمد الفوارق السياسية التقليدية، مشكل سياسي جديد يضاف إلى مشاكل سياسة كثيرة أخرى، وقد يحجبها أحيانا»(خواطر الصباح، 202/203). منذ ذلك الحين، ظل موقف العروي من المسألة الأمازيغية على حاله، بل اعتبرها، بمناسبة ذلك الخطاب الملكي لسنة 1994، مشكلا سياسيا إضافيا، لا يستحق الطرح والإقرار لأنه سيحجب معالجة المسائل السياسية الأكثر أهمية، وبالتالي فأمر انقراض هذه اللغة، وإحلال لغة أجنبية محلها، مما لم يكن يدخل في دائرة اهتمامه العلمي أو حتى الإيديولوجي. يظهر من خلال مقدمة ما سبق، أن الأمازيغية حجرة في عنق العروي، كما الكويت حجرة في عنق المشارقة، والصحراء حجرة في عنق المغاربة، وكما فلسطين حجرة في عنق الجميع»(العروي خواطر الصباح، ص202). (2) وليكن ذلك هو موقف العروي وقتها، وتلك تقديراته حينذاك، لكن مهما يكن من أمر، فقد استدرك الأستاذ العروي في أواخر مشواره الفكري، لما استقام وضع المسألة الأمازيغية واستوى طرحها، وحصل التراكم الضروري في الموضوع، وتحققت «المهلة المخولة» لتأمل الحدث الأمازيغي وفحصه. وهو استدراك مطلوب للوزن الثقافي والمعرفي والرمزي للرجل، ليقيم حوارا هادئا ومتزنا ومعتدلا مع، من يحلو له أن يدعوهم، «دعاة الأمازيغية»، ويستحضر تجارب أمم أخرى، بالنظر إلى المستجدات الحاصلة في هذا الموضوع، انطلاقا من خطاب أجدير التاريخي(خطاب جلال الملك محمد السادس يوم 17 أكتوبر 2001. أكد فيه صاحب الجلالة الملك محمد السادس على ضرورة النهوض بالأمازيغية كجزء من الثقافة والهوية الوطنيتين.)، ومرورا بتأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وبداية إدماج اللغة الأمازيغية في المنظومة المدرسية والحياة العامة، بهذا الشكل أو بآخر، وبهذه الدرجة أو تلك. صحيح، أن وضع اللغة الأمازيغية وضع ملتبس، وغير مريح، وقد يكون «بالغ الخطورة»، بلغة العروي، بالنظر إلى غياب الوضوح والحسم في المسألة اللغوية بالمغرب منذ فجر الاستقلال، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من تصدع في لحمة المجتمع، بقمع الوجدان الوطني والاعتداء على ذاكرته، لكن مع ذلك فالمسألة مطروحة، ولا يمكن بحال القفز عنها أو تجاهلها، بحجة أو بأخرى، وعلى وجاهة بعض الحجج والمبررات والحيثيات وتهافت بعضها. قد لا يخوض الأستاذ العروي إلا في القضايا التي استوفت شروطها الموضوعية، واستوت إمكانات فحصها ونقدها، وبناء تصور حولها. وقد يكون هذا الأمر شفيعا له في التأخر الحاصل عنده في الخوض في المسألة الأمازيغية، منذ زمن طويل، باعتبارها مسألة وطنية بامتياز، لا يمكن بحال القفز عنها، بحجة القومية أو الأفق العربي أو بحكم آثار الانتماء للحركة الوطنية، وارتباطها بالمشرقي العربي، أو ما شابها ذلك من المبررات التي لا تلغي المشكل، ولا ترفعه، وهو رجل التاريخ الذي يرصد حركية المجتمع في تاريخانيته. ولما آن الأوان، و»ناضل من ناضل»، واستوت المسألة الأمازيغية، كقضية وطنية، واتضحت معالمها وآفاقها، وأقرها الخطاب الرسمي، في عهدين متواليين، عن حق أو حتى عن غير حق، كما أومأ إلى ذلك العروي نفسه، عاد ليخوض فيها، ويبني له تصورا خاصا، على قاعدة الماركسية التاريخانية، من عقلانية ونفعيته، ومن اقتصاد الزمن، وحرق المراحل، واستحضار «السوق اللغوي المغربي»، وإكراهاته، وإمكانات تدبيره، وما إلى ذلك مما سنعود إليه. ومهما يكن، فالوزن الرمزي والاعتباري للأستاذ العروي، بثقافته الواسعة، وعمق تحليلاته، وصدق معاناته، وبعد نظره، كافية لرصد موقفه من المسألة الأمازيغية، وتأمل استنتاجاته، وتمحيص توقعاته، وتتبع خطوات «الحوار» الذي قرر أخيرا أن يقيمه في مسألة اللغة الأمازيغية، وما يرتبط بها، ومن خلال حواره وحكاياته مع الشاب الصحفي الأمازيغي، وغيره ممن لهم صلة بالمسألة الأمازيغية. (غد الجزء الثاني)