ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السينما المغربية مسارات الإبداع والتلقي

الآن ، وبعد أن اغتنت الفيلموغرافيا المغربية بمنجز سينمائي يناهز الثلاثمائة شريط روائي طويل ، وحققت بذلك تراكما كميا ملحوظا ، صار بالإمكان تصنيف هذا المنجز ضمن اتجاهات فنية تحدد على وجه التقريب الخطوط الكبرى لنزعات السينمائيين المغاربة الفكرية ، ولميولاتهم الجمالية . وحينما نقول على وجه التقريب ، فإن ذلك يعني أن هذا التصنيف لا يمكن أن يشمل بأي حال من الأحوال كل ما تم تحقيقه من إنتاج سينمائي خلال الستين سنة الماضية التي من المفترض أن تكون العمر التقريبي للسينما المغربية . فالكثير من النماذج السينمائية التي وقعها السينمائيون المغاربة تتأبى - بحكم تشكيلها الفني وحمولتها الفكرية – على أي تصنيف مهما حاول أن يكون دقيقا وشاملا .
في هذا الإطار بدا لنا – ونحن نتفحص ما شاهدناه على الشاشة ، أو ما كان موضوعا لتأملنا النقدي - أن المنجز السينمائي المغربي الروائي الطويل لا يخرج في أحسن الأحوال عن توجهات ثلاثة : توجه تقليدي يعطي الأولوية للحكاية ، ويعتني بالمتلقي ويسعى للاستجابة لأفق انتظاره . وتوجه حداثي يحتفي بالحكي وما يتصل به من تجريب على مستوى الأشكال والرؤى والصيغ . وتوجه توفيقي يوزع اهتمامه بين الحكاية والحكي ويسعى لتحقيق معادلة الإبداع والتداول في آن معا .
الآن ، وبعد أن اغتنت الفيلموغرافيا المغربية بمنجز سينمائي يناهز الثلاثمائة شريط روائي طويل ، وحققت بذلك تراكما كميا ملحوظا ، صار بالإمكان تصنيف هذا المنجز ضمن اتجاهات فنية تحدد على وجه التقريب الخطوط الكبرى لنزعات السينمائيين المغاربة الفكرية ، ولميولاتهم الجمالية . وحينما نقول على وجه التقريب ، فإن ذلك يعني أن هذا التصنيف لا يمكن أن يشمل بأي حال من الأحوال كل ما تم تحقيقه من إنتاج سينمائي خلال الستين سنة الماضية التي من المفترض أن تكون العمر التقريبي للسينما المغربية . فالكثير من النماذج السينمائية التي وقعها السينمائيون المغاربة تتأبى - بحكم تشكيلها الفني وحمولتها الفكرية – على أي تصنيف مهما حاول أن يكون دقيقا وشاملا .
في هذا الإطار بدا لنا – ونحن نتفحص ما شاهدناه على الشاشة ، أو ما كان موضوعا لتأملنا النقدي - أن المنجز السينمائي المغربي الروائي الطويل لا يخرج في أحسن الأحوال عن توجهات ثلاثة : توجه تقليدي يعطي الأولوية للحكاية ، ويعتني بالمتلقي ويسعى للاستجابة لأفق انتظاره . وتوجه حداثي يحتفي بالحكي وما يتصل به من تجريب على مستوى الأشكال والرؤى والصيغ . وتوجه توفيقي يوزع اهتمامه بين الحكاية والحكي ويسعى لتحقيق معادلة الإبداع والتداول في آن معا .
التقليدية : العناية بالمحكي
يسعى هذا التوجه إلى الاستجابة لأفق انتظار المتلقي ، وذلك بنسج حكاية بسيطة في مادتها وفي طريقة سردها . فموضوع هذه الحكاية شائع مألوف مستأنس ، وبناؤها تقليدي يتخذ مسارا خطيا لا انعراج فيه ولا التواء . فمجمل الأفلام التي تنتمي إلى هذا التوجه تعالج موضوعا واضح المعالم مستقى من المعيش اليومي للناس و من تاريخهم القريب : العنف ، الجنس ، الحب ، الزواج ، التهميش ، الفقر ، المقاومة ... كما أنها تتناول هذا الموضوع بطريقة سطحية أحيانا ساذجة أحيانا أخرى لا تستند على أية خلفية جمالية أو فلسفية . فأصحاب هذه الأفلام يهتمون بالمادة الحكائية ولا يلقون بالا إلى اللغة السينمائية ، لذلك جاءت جل أعمالهم أقرب إلى الشريط التلفزيوني منها إلى الشريط السينمائي : ثرثرة في الكلام ، فقر في الصورة ، اضطراب في التركيب ، خضوع أعمى للتقاليد ، ولاء كبير لقواعد الترفيه المبتذل .
ومع أن هذا التوجه قد خرج إلى الوجود منذ البدايات الأولى للسينما المغربية خلال الحقبة الستينية مع أفلام من قبيل الحياة كفاح لمحمد التازي وأحمد المسناوي ، وسيظهر بشكل محتشم خلال مرحلة الثمانينيات مع أفلام من قبيل دموع الندم لحسن المفتي وبامو لإدريس لمريني وأصدقاء اليوم لعبد الله الزروالي . إلا أنه سيترسخ بشكل لا فت للنظر خلال الحقبة التسعينية وسيصبح له رواده ومريدوه ينظرون له وينافحون عنه . ويمكن في هذا الإطار الإشارة إلى أفلام من قبيل : المطرقة والسندان ، سارق الأحلام ، مصير امرأة ، لحكيم نوري . عرس الآخرين ، ياريت ، أصدقاء الأمس ، لحسن بن جلون . البحث عن زوج امراتي ، للاحبي لمحمد عبد الرحمان التازي ، نساء ونساء لسعد الشرايبي . وسيدخل هذا التوجه لعبة الخفاء والتجلي خلال العقد الأول وبداية العقد الثاني من القرن الحالي من خلال أفلام من قبيل : فيها الملح والسكر وما بغاتش تموت لحكيم نوري ، الغرفة السوداء لحسن بنجلون . وغراميات الحاج مختار الصولدي لمصطفى الدرقاوي . والبانضية لسعيد الناصري . والفروج لعبد الله فركوس .
وتتوزع هذه الأفلام بين أجناس سينمائية متعددة من بينها الدراما الاجتماعية ( مصير امرأة لحكيم نوري ) والدراما التاريخية ( بامو لإدريس لمريني ) والكوميديا الهزلية ( البحث عن زوج امراتي لمحمد عبد الرحمان التازي ) والميلودراما الغنائية ( دموع الندم لحسن المفتي ) . كما أنها تختلف من حيث تناولها لموضوعها ، ففي الوقت الذي نجد فيه هذا التناول يتهاوى إلى الحضيض في بعض هذه الأفلام من خلال تقديم خطاب فج بئيس ينم عن ضحالة فكر أصحابه ، وتبخيسهم لذوق المشاهد ( أصدقاء اليوم لمحمد التازي ، البانضية لسعيد الناصري ) ، نلاحظ في المقابل أن أفلاما أخرى تسعى إلى جر المخاطب إلى ملعبها ومحاولة جعله طرفا في اللعبة بغض النظر عن مدى استعداده للقيام بذلك ( الغرفة السوداء لحسن بنجلون ، نساء ونساء لإدريس الشرايبي )
وتفيد ملاحظات المتتبعين للشأن السينمائي المغربي ، وكذا الإحصائيات الصادرة عن المركز السينمائي المغربي أن أفلام التوجه التقليدي هي الأفلام الأكثر توزيعا في القاعات السينمائية ( نساء ونساء لسعد الشرايبي وزع في 23 صالة من مجموع 175 ) والأكثر مشاهدة من طرف الجمهور ( الفروج لعبد الله فركوس شاهده ما يناهز 100 ألف متفرج ) . وفي ذلك ما يؤكد أن تقاليد المشاهدة في أوساط الجمهور المغربي مازالت تقف على الأرضية نفسها التي بناها منطق الفيلم التجاري سواء في صيغته الأمريكية أو الهندية ، فنشاط الأندية السينمائية الذي واكب الفيلم السينمائي المغربي بالمتابعة والتحليل منذ نشأته إلى الآن ، وحركة الملتقيات السينمائية التي تحتفي بالمنجز السينمائي المغربي وتضعه ضمن أولى أولوياتها لم يؤثرا بما فيه الكفاية في ترقية ذائقة المشاهد وتغيير نمط المشاهدة .
التجريبية : نسف الحكاية
بخلاف التوجه التقليدي ، سعى التجريبيون المغاربة - وهم يصنعون أعمالهم السينمائية - إلى الاحتفاء بعملية الحكي باعتبارها المدخل الرئيسي للكشف والتجريب والبحث . فوجهوا اهتمامهم نحو الصورة وتعاملوا معها باعتبارها بلاغة تثوي بداخلها دلالات الفيلم وإيحاءاته . فالمعنى في هذا التوجه غامض وملتبس ولا نهائي ينبغي على المشاهد الحفر في أخاديد الصورة من أجل تلمس بعض من إشراقاته . لذلك يأتي الفيلم مكسوا بالعلامات العميقة ، محتشدا بالرموز المستغلقة ، مزدحما بالرؤى المتنافرة ، موغلا في الخيال ، مغرقا في الذاتية . وبالتالي فإن صانعه لا يعبأ كثيرا بالحكاية ، بل ينسفها نسفا ، ويعوضها بشذرات تحيل على عوالم يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي ، والخيالي بالواقعي والماضي بالحاضر .
ويمكن القول – دون مجازفة – أن مجمل المتن السينمائي السبعيني كان تجريبيا اللهم بعض الاستثناءات القليلة . فمعظم السينمائيين المغاربة الذين أنجزوا أعمالهم الأولى خلال هذه الحقبة كانوا منبهرين بالاتجاهات الطليعية التي عرفتها السينما الأوروبية خلال فترة الستينيات من القرن الماضي في فرنسا وإيطاليا وبولونيا . ونشير في هذا المجال إلى فيلم أحداث بلا دلالة لمصطفى الدرقاوي ، وفيلم الشركي أو الصمت العنيف لمومن السميحي ، و فيلم جرحة في الحائط للجيلالي فرحاتي ، وفيلم القنفودي لنبيل لحلو . وانتقلت النزعة التجريبية في صنع الأفلام المغربية إلى المرحلة الثمانينية ، مع استمرار الدرقاوي والسميحي ولحلو في نهجهم السابق . فقد وقع الدرقاوي أيام شهرزاد الجميلة ووقع السميحي قفطان الحب ووقع لحلو إبراهيم ياش . كما برزت في هذه المرحلة أسماء أخرى استهواها التجريب ومفارقة النمط السائد كمحمد أبو الوقار من خلال فيلم حادة الذي اعتبر في حينه لوحة فنية جميلة حازت رضا النقاد السينمائيين . لكنها لم تستطع استقطاب جمهور المشاهدين . وستواصل النزعة التجريبية رحلتها في الزمن السينمائي المغربي وسيواصل معها الدرقاوي نهجه السينمائي من خلال فيلم قصة أولى وفيلم أنا الماضي . كما سيوقع -وفي نفس المنحى - التيجاني الشريكي فيلمه الأول إيمير أو الأشواك المزهرة . وسينضم للقافلة التجريبية في العقد الأول من القرن الحالي وبداية العقد الثاني من القرن نفسه إدريس شويكة من خلال فيلمه لعبة الحب ، ولحسن زينون من خلال فيلمه عود الورد وهشام العسري من خلال فيلمه جوع كلبك .
وعلى الرغم من انتماء هذه الأفلام إلى النزعة التجريبية ، فإنها تختلف في بعض التفصيلات ، فالبعض منها حاول أن يبقي على خيط رفيع بينه وبين الحكاية ، إلا أنه جعلها وسيلة لمراكمة أكبر عدد من الرموز والإيحاءات ( قفطان الحب للسميحي وجوع كلبك للعسري ) والبعض الآخر غاص في عالم الأحلام وصنع كونا عبثيا وفق أسلوب ساخر وهجائي ( القنفودي ، وإبراهيم ياش للحلو ) والفريق الثالث أغرته الصورة فرسم لوحة تشكيلية تجريدية جميلة محصنة بالسلاسل والأقفال ( حادة لأبي الوقار وإمير للشريكي ) .
إن معظم هذه الأفلام ظل معزولا عن الجماهير إذ لم تتح له فرصة التوزيع داخل القاعات السينمائية اللهم بعض الاستثناءات القليلة كفيلم قفطان الحب لمومن السميحي . وهناك من صادفه الحظ فعرض في بعض الملتقيات السينمائية كجوع كلبك لهشام العسري وحادة لمحمد أبو الوقار وهناك من مر على حين غفلة في التلفزيون المغربي كالقنفودي لبيل لحلو وهناك من نال رضا الجامعة الوطنية للأندية السينمائية فوزعته على روادها كفيلم عنوان مؤقت لمصطفى الدرقاوي .
وإذا كان بعض من هذه الأفلام قد نال إعجاب النقاد السينمائيين والنخبة المثقفة ورواد الأندية السينمائية فإنه لم يظفر بالأمر نفسه مع جمهور المشاهدين الذين استثقلوا متابعته ، نظرا لبنيته المفككة ، وإفراطه في الغموض ، وعرضه لعوالم غريبة ، وتكسيره لقواعد الحكي ، وتشييده لبلاغة سينمائية غير معتادة . وهنا يطرح إشكال التلقي مرة أخرى بصدد هذه النوعية من الأفلام . ففي غياب تفكير استراتيجي يجعل من الصورة مكونا من مكونات الفعل التعليمي في جميع أطواره ومراحله ، سيبقى المشاهد ضحية لنمط واحد من التلقي رسخته الألفة في وجدانه وكرسته العادة في مخيلته .
التوفيقية : جدل الحكاية والحكي
انتبه بعض المخرجين المغاربة فجر الانطلاقة الرسمية للإنتاج السينمائي الروائي الطويل بالمغرب إلى أن السينما باعتبارها من الخطابات الجميلة تفترض فيمن يتأملها أو يلج عالمها أن ينظر إليها في جوانبها الدالية والدلالية والتداولية . لذلك فإنهم حينما فكروا في صنع أفلامهم وضعوا نصب أعينهم تحقيق المعادلة الصعبة المتمثلة في تحقيق جدة العرض وجودة المعروض ، وإيجابية الاستقبال . بما يضمن لهم تعبيرا فنيا أصيلا واستقطابا جماهيريا مقنعا في آن معا .
يصدق هذا الكلام على بعض أفلام السبعينيات كوشمة لحميد بناني ، وبعض أفلام الثمانينيات كحلاق درب الفقراء لمحمد الركاب . ففي هذين الفيلمين نلمس سعيا واضحا لخلق التجانس بين الموضوعة المطروحة وطريقة طرحها . فوشمة مثلا يحاول أن يطرح موضوعة التهميش الاجتماعي بأسلوب إيحائي مستلهم من التيار السريالي . أما حلاق درب الفقراء فيميل إلى التعبير عن موضوعة القهر الاجتماعي بلغة جديدة مستوحاة من الواقعية النقدية . وستترسخ هذه النزعة التوفيقية مع جيل التسعينيات من خلال فيلم شاطئ الأطفال الضائعين للجيلالي فرحاتي ، وفيلم بيضاوة لعبد القادر لقطع وفيلم علي زاوا لنبيل عيوش . ففي هذه الأفلام الثلاثة إنصات لنبض المجتمع وغوص في عالم الموضوع المطروح ، واستلهام واع لبلاغة الاتجاهات الطليعية في السينما العالمية ، واستفزاز مقصود لطمأنينة المشاهد . وستتخذ هذه النزعة التوفيقية مذاقا جديدا مع مخرجي العقد الأول من القرن الحالي وبداية العقد الثاني من القرن نفسه ويتعلق الأمر بفوزي بنسعيدي في فيلمه ألف شهر ، وكمال كمال في فيلمه السمفونية المغربية و نور الدين لخماري في فيلمه كازانيكرا وهشام العسري في فيلمه هم الكلاب ومحمد مفتكر في فيلمه جوق العميين . ففي هذه الأفلام الخمسة قدرة فائقة على النفاذ إلى عمق المعنى ، وكفاءة عالية في حث المشاهد على محاورة هذا المعنى . وقد ساعد على ذلك اعتماد لغة سينمائية وإن كانت تخاصم المألوف ولكنها لا تتدثر بالغموض ولا تجنح نحو الالتباس . فهشام العسري مثلا في هم الكلاب يقدم رؤية غير أليفة لحقبة سياسية عسيرة عاشها المغرب الحديث بلغة سينمائية خرقت كثيرا من القواعد الثابتة سواء على مستوى التأطير أوالتقاط الصورة أوزاوية الرؤية .
غير أن أفلام هذا التوجه لا تسير على وتيرة واحدة ، ولا تتبع طريقا واحدا . فقد نلمس في بعضها ميلا إلى النزعة التقليدية ، فتستهويها الحكاية وتنجر وراء الحكي المألوف كما هو الحال في السمفونية المغربية لكمال كمال ، ونلمس في بعضها الآخر ميلا إلى النزعة التجريبية ، فتصبح الحكاية مجرد تعلة لطرح رؤيا المخرج المؤلف ، ولممارسة شغبه الفني على مستوى الآليات الشكلية التي يستند إليها العرض السينمائي كما هو الحال في فيلم هم الكلاب لهشام العسري .
وقد استطاعت بعض من هذه الأفلام – حينما أتيحت إمكانية مشاهدتها - أن تنال رضا النقاد والمشاهدين على حد سواء . ويعود ذلك إلى جملة عوامل من ضمنها جرأة أصحابها في تقديم موضوعاتهم خصوصا تلك المتعلقة بالسلطة ( ألف شهر) أو المجتمع ( كازانيكرا ) أو السياسة ( هم الكلاب ) . كما أن هذه الأفلام قد حازت الاستحسان بالنظر إلى طريقة تقديم موضوعاتها من ذلك مثلا اعتماد الرمز كآلية تخترق جسد الفيلم من بدايته إلى نهايته في ألف شهر، واعتماد معجم ممعن في تكسير المحظور في كازانيكرا ، وتوظيف تقنية الروبورتاج في عرض المشاهد في هم الكلاب .
ودونما مجازفة يمكن القول أن التوجه التوفيقي قد بدأ يرسم لنفسه معالم الطريق داخل المتن السينمائي المغربي ، بدليل إقبال الجمهور على مشاهدته سواء حينما يعرض في القاعات السينمائية ، أو حينما يشارك في ملتقيات سينمائية داخل المغرب وخارجه . فجوق العميين الذي وزع سنة 2015 شاهده سبعة وأربعون ألف متفرج ، كما أن هم الكلاب أثار إعجاب المشاهدين في الملتقيات السينمائية التي شارك فيها . أما كازانيكرا فقد تخطى مائة وخمسين ألف تذكرة حينما نزل إلى القاعات السينمائية ناهيك عن العدد الكبير من المتفرجين الذين شاهدوه عبر شبكة الانترنيت . وبخصوص ألف شهر فيكفي أنه كلما حل بمهرجان من المهرجانات التي شارك فيها إلا ويستقبل بحفاوة كبيرة . غير أن النصفة تقتضي الإشارة إلى أن هذه النوعية من الأفلام ما زالت لم تخلق بعد ذلك التجانس المطلوب بين المستوى الدالي والمستوى الدلالي والمستوى التداولي ففي الوقت الذي نجد فيه نورالدين لخماري ينساق وراء هوى المستهلك فيقدم ما يطلبه السوق، نرى أن هشام العسري يسعى جاهدا للتنويع في آليات التعبير والقيام بعملية تحد واضحة لطمأنينة المشاهد . ناهيك عن تسرب جملة من الظواهر السلبية إلى هذه النوعية من الأفلام كإقحام بعض المشاهد الجنسية دون مبرر درامي ، واستخدام بعض المفارقات الزمنية التي يمكن الاستغناء عنها .
وبعد ، فهل استطاعت السينما المغربية – بهذا التنوع الثلاثي بين الحساسيات – أن تكسب رهان الإبداع والتلقي ؟ من الصعب أن نثبت ذلك ، وإن كانت العديد من القرائن تشير إلى أن الفيلم المغربي مازال لم يقف بعد على أرض صلبة من الإبداع ، ولم يستطع أن يبصم على هوية واضحة القسمات ، كما لم يتمكن أيضا من أن يجد لنفسه مكانا أو مستقرا في عقل ووجدان المشاهد المغربي ، باستثناء بعض الفلتات التي لا ترقى إلى مستوى يجعل منها ظاهرة فاعلة بإمكانها أن تغير الواقع الكائن .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.