هناك باستمرار روابط وتراسلات بين البحث العلمي والإبداع، وقد تتخذ هذه التواشجات عدة أوجه، منها نموذج الكاتب الذي يزاوج بين الكِتابتَيْن الأكاديمية والأدبية، كما هو الشأن لدى الصديق والزميل الدكتور محمد حمود الذي طالما عرفناه باحثا في قضايا التربية والأدب، إذ صدر له: «تدريس الأدب، استراتيجية القراءة والإقراء» (1993)، «مكونات القراءة المنهجية للنصوص» (1997)، «بيداغوجيا الكفايات» (2004)، «المعرفة بين النقل الديداكتيكي والتبسيط العلمي» (2004)، «بناء الكفايات وتقويمها» (2005)، «دليل الإقراء المنهجي لأصناف النصوص» (2005)، «تحليل الأعمال الروائية المقررة بالتعليم الثانوي» (2005)، إضافة إلى مساهماته في تأليف عديد الكتب المدرسية. هذا النفَس العلمي الممتد والمنبعث من روح مهنية عالية، ظل يحمل في جوهره ذلك الحس الفني الواعي والرقيق في آن، الحس الكاشف الذي نستشفه عبر قراءة مُؤَلَّفه الشعري «هواجس قرصان» (عن منشورات بلوس إدسيون، غلاف بلوحة وتصميم الفنان عبد اللطيف بكوس)، بمناسبه صدور الديوان مؤخرا، كان لنا معه هذا الحوار الشيق. n لماذا عنوان «هواجس قرصان»؟ pp بالعودة إلى معجم المعاني نجد ما يلي : الْهَوَاجِسُ : مَا يَخْطُرُ مِنْ أَفْكَارٍ أَوْ صُوَرٍ بِبَالِ الْإِنْسَانِ نَتِيجَةَ قَلَقٍ أَوْحَيْرَةٍ أَوْ هَمٍّ أَوْ تَخَوُّفٍ مِنْ شَيْءٍ مَّا . هاجسَ فلان فلانا: سارَّهُ ، هامَسَهُ ، ناجاه .ونَجْوَى النَّفْسِ : حَدِيثُهَا ، أَيْ مَا يُوَجِّهُهُ الْمَرْءُ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى نَفْسِهِ أما القُرْصان فهو : لصّ البَحْر ، من يحوِّل اتِّجاه سفينة أو طائرة إما لسلب الحمولة وإمّا لغاية سياسيّة أو نحوها، وأضيف هنا لغاية وجودية.أي تحويل اتجاه حياة وتهريبها نحو مناطق ظليلة. أعتقد أن الديوان برمته عبارة عن جُرم نبيل المرامي والغايات، وحياة شعرية مسروقة من وجودي الواقعي . إنها انزياح بدرجات محسوبة عن ضوابط المواضعات الفكرية والاجتماعية والأخلاقية الصارمة ،وخروج واع عن المسارات المعدة لي سلفا ،ربما قبل أن أولد حتى.من هنا ذاك التداخل الكبير بين الشعر والحياة في الديوان ،لدرجة يصعب معها الحسم حول النقطة التي يتوقف عندها الشعر وتبدأ حياة الشاعر،أو النقطة التي تتوقف عندها تفاصيل الحياة ويبدأ الغوص في الشعر.لكن أن تحيا الشعر،رهان وجودي له كلفته الاجتماعية الثقيلة ،إنه اختيار للعيش في الهامش الظليل ،واعلانُ نبوة في زمن انقرض فيه الأنبياء ،وهواجسُ تفسد عليك فرحتك بما عثرت عليه من كنوز ثمينة وأحجار كريمة، بعدما أطللت على ما يوجد خلف الأكمة التي تحجب المجتمع عما دونه ،وخرقٌ للحجب المضروبة على الانسان كي لا يرى أبعد من أرنبة أنفه ،أبعد من جدران المتاهة الكبرى التي وجدَ نفسه فيها..من هذه الناحية فالديوان بوحٌ جَوّاني بمشاعر وأفكار ورؤى قادني إليها البحث ،وتسريبُ أسرار عن الحياة لم أعد أرغب في الاحتفاظ بها لوحدي ، وتحريضٌ على الحياة والمغامرة من أجلها عوض الاكتفاء بالعيش،ونقلٌ لعدوى روحية جميلة أتمنى أن تصيب الجميع. n من هي الطيور التي أهديتها ديوانك الشعري ؟ pp إنها أسراب الحساسين التي أطربني تغريدها منذ طفولتي الأولى في حدائق مكناسة الزيتون..في حديقة الحبول..في وجه عروس..في حقول سيدي سعيد قبل أن تتعرض لغزو الاسمنت..إنها أسراب نوارس البحرالتي قضيت صباحات وأماسي طويلة في مراقبتها مستلقيا على كراسي سطيحات مقاهي المحروسة مازغان ،التي أكرمت وفادتي وأحسنت ضيافتي ،إلى أن أصبحت واحدا من أبنائها البررة..إنها سُبحة مميزة لمجموعة من أسماء رجال ونساء صادفتهم في حياتي الثقافية والاجتماعية،أثروا في تكويني وساهموا في استكمال تربيتي وغيروا رؤيتي للعالم ، من خلال تحريري مما كنت أرزح تحت ضغطه من رواسب فكرية واجتماعية وثقافية تقليدية محافظة ،ومن خلال فتح أعيني واسعة على الأفق الانساني الرحب،الذي لا يقيم كبير اعتبار للهويات المغلقة على نفسها،ولأوهام الأصول التي تحتاج ابدا لسدنة يقومون برعايتها وحراسة أضرحتها.إن تكسير الأقفاص والتحرر من المواضعات الاجتماعية والاخلاقية ،والإفلات من قبضتها وقضبانها،ومعانقة الأمداء اللانهائية للسماء،هو الدرس الكبير الذي تعلمته من طيوري الجميلة..لقد تعلمت منها أن أرفع راسي عاليا إلى السماء كلما ضاقت بي الأرض،وتعلمت منها ترويض الحياة باستبدال الطقس والفصول،والهجرة إلى أصقاع بعيدة ما تزال في حاجة ماسة إلى الكشف ،ووضع يقيني على دوام البداية ،بعدم الاستسلام لقانون العادة والتكرار،واقتراف الحياة بما تستلزمه من مغامرة ولذة ومجازفة . n لماذا الشعر وليس الرواية؟ pp في الوقت الذي يهاجر فيه الأدباء من قارة الشعر الى قارة الرواية، ها أنذا أقوم برحلة معاكسة للتيار،كي أُثبت أن زهرة النيلوفر تظل وفية لطبيعتها ،تشرئب دوما بعنقها نحو السماء، تشق طريقها إلى الشمس مهما تعددت طبقات الماء أو الجليد التي تغطيها. إن المسألة مرتبطة أساسا بالاستقرار في جنس تعبيري محايث للذات وملتصق بها،فالرواية مهما قيل عن قدرتها على التقاط تفاصيل الواقع المعيش،فإنها تظل من وجهة نظري عاجزة عن الغوص في أغوار الذات وأرخبيلاتها بسبب عقلانيتها الناجمة عن نثريتها واحترامها لقونين التواصل المعياري السليم من جهة ،وبسبب موضوعيتها في رصد الوقائع والأحداث. من جهة ثانية أنا لم أكتب كي أرسم ملامح الواقع الذي أعيشه،لأنني ببساطة لم أصفِّ الحساب مع ذاتي أولا كي أقفز للحديث عما يفلت مني،كانت كل رغبتي أن أكتب بعض لحظيات كينونتي كما أحسستها وعشتها بمفردي أو رفقة من يحيط بي من خلان ورفاق،في أمكنة وأزمنة مختلفة. لذلك أبادر للقول بأن من رهاناتي الأدبية في هذا الديوان هو ردم المسافة المفترضة بيني وبين نصوصي المكتوبة،بين حياتي المعيشة وصيغ التعبير عنها.لذلك لا شك أن المتأمل لقصائدي سيلاحظ أنها تغترف ماءها ورواءها من بئر الصدق الصافية ،ولا تتمحل أو تتصنع في قولي أو في نقل أحاسيسي المختلفة،فرحا كانت أو حزنا و حيرة أو غيرها. لقد اكتشفت أن البساطة في التعبير،يمكن أن تصبح رهانا جماليا ،وأفقا لكتابة صادقة مهما كانت موضوعات الكتابة وقضاياها مركبة وموغلة في العمق والتجريد الفكريين.وبالفعل كان اشتغالي على لغتي في الديوان مجال متعة لا تقاوم ،ولعبا لا تنتهي أشواطه بدون فائدة،فقد كنت دوما أواجه تحديات لغتي النثرية التي ألفت اعتمادها في مجالات البحث التربوي والأدبي ،بغرض ترويضها وجعلها لغة أليفة وطيعة قابلة لاحتواء ما يعتمل في داخلي من أحاسيس ورؤى. n لماذا الانتقال من الكتابة في المجال التربوي إلى المجال الأدبي الإبداعي؟ pp هو سؤال مشروع فعلا،إنه انتقال من الكتابة إلى الانكتاب، هو اقتراب من الذات واشتباك معها،لكن المتتبع لما كتبته في مجال تخصصي الأكاديمي لا بد أن يستشعر وجود بذور قول شعري أو كتابة فنية مطمورة بين السطور أو في تضاعيف الفقرات،غير أنها كتابة مكبوتة مكبوحة الجماح بسبب مقامها العلمي..ولن يفوتني في هذا السياق استحضار ملاحظة أستاذي الدكتور ميلود حبيبي خلال مناقتشته لأطروحتي الجامعية في علوم التربية الموسومة ب (تدريس الأدب :استراتيجية القراءة والاقراء) من كون البحث قد كتب بلغة عاشقة آسرة يحسن التخلص من تأثيرها قبل الانكباب على فحص القضايا الديداكتيكية المعالجة فيها.من ناحية ثانية الانصراف عن الكتابة في ديداكتيك اللغة العربية يجد مبرراته الموضوعية في حال تعليمنا وواقعنا التربوي المتردي،إذ افتقدنا ذلك القارئ النهم المتعطش للمنشورات والإصدارات المختصة،وافتقدنا أجواء اللقاءات والندوات التربوية التي كانت فرصة لتبادل الآراء والأفكار، خلافا لما كانت عليه الأوضاع خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. وعليه،فالعودة إلى الشعر بالنسبة لي ،عودة مخاتلة لكتابة مكبوتة ،وعودة إلى أرخبيلات الذات في ترحلها وتحولاتها،واحتماء برحم أمومي لم أبرحه إلا مكرها..العودة إلى الشعر استعادة للروح ،ومقاومة لما يتهدد مصيرنا اليومي من اغتراب عن ذواتنا،وهروب من نثرية الأيام الرتيبة.لكن السؤال الذي يمكن أن يتبادر إلى الذهن هو:ما العلاقة بين الكتابة الشعرية وهذه التخوم المعبر عنها،هذه الأغوار العميقة من الذات؟ألا تستطيع لغة النثر احتواء المناطق الغميسة منا؟ لا بد من الاعتراف خلافا لما انتهى إليه دو سوسور ،أن العلاقة بين الدال والمدلول ليس أبدا اعتباطية،بل إنها أحيانا تكون علاقة ضرورة وتجاذب،في الوقت الذي يستدعي فيه موضوع ما طريقة تعبير بعينها دون أخرى.أسوق هذه الملاحظة للاستدلال على أن قضايا التعبير الشعري بالنظر إلى تجريديتها وجوانيتها التي تجعلها مستعصية على الأسر،لا يمكن الإمساك بها بواسطة تراكيب لغوية معيارية صارمة ومنضبطة.إن غرابة عوالم الداخل التي هي مزيج من مشاعر واحاسيس وأحلام ورؤى ،ودورانها في فلك معتم لا تتضح فيه المكونات، بل لا تدرك فيه بواسطة الحواس الطبيعية مثل البصر والشم واللمس والسمع والذوق،غرابة تحتاج إلى لغة خاصة لها حساسية إدراك عالية،وقدرة كبيرة على التقاط ذبذبات الذات والترددات المتناهية الصغر للأعماق.ولن تكون هذه اللغة الخاصة إلا لغة الشعر،بما هي لغة فاقدة لذاكرتها المعجمية المطروحة في الطريق .هكذا يمكن أن نعرف الآن أن ما يتبقى للقارئ بعد انتهائه من قراءة قصيدة ما ،ليس هو المفردات أو التراكيب أو الدلالة حتى، بل هي أحاسيس الفرحة أو الكآبة أو المرارة أو اليأس،عبر وساطة أسلوب منزاح عن القاعدة والمعيار.وبهذه الطريقة يحصل التطابق بين الدال الشعري الرجراج الذي لا تقاس دوائره وأحجامه بالميلمتر، والمدلول الأنطولوجي الضبابي المائع الذي يعتمل في ذات الشاعر. n لماذا الشعر بعد الخمسين؟ pp قبل هذا التاريخ كنت منهمكا في تدبيج ديوان من طينة اخرى وشعرية مُغايرة.. قصائده كتبتها بلحمي ودمي ،كتبتها بجسدي ،وقضيت ثلاثين سنة في رعايتها وتنقيحها كي تستوي وتطل على الوجود في أجمل صورة .إنهم أبنائي الثلاثة يونس وفاتن ودنيا الله : معلقاتي الثلاث التي أزين بها جدران كعبة حياتي ،ويحلو لي أن أفخر بها باعتبارها من إنجازاتي الرائعة.وإذا كان شعراء المعلقات السبع أو العشر يقضون حولا كاملا في تنقيح وتشذيب قصائدهم حتى سُموا بعبيد الشعر ،فمن واجبي الاعتراف أن هذه العبودية التي امتدت لثلاثة عقود من الزمن حالت دون الانكباب على الكتابة الشعرية المعروفة،وبأنني لم أشرع فيها إلا بعد تحرري من الشعرية الآدمية. لكن رغم ذلك، يمكن أن أعترف بأنني لم أنتظر بلوغ سن الخمسين لبداية رحلتي الشعرية ،مثلما انتظر الوحيُ بلوغَ النبي محمد صلى الله عليه وسلم سن الأربعين كي ينزل عليه،لسبب بسيط هو أنني أنا من نزل على رغبتي في الكتابة الشعرية وليست هي ،باعتبارها ليست وحيا ،لكن فقط بعدما باتت الشروط الذاتية والموضوعية متاحة.إذ من المعروف أن ليس للكتابة أجل معلوم ،فهناك من المبدعين والشعراء من قدم منجزه الشعري النوعي الذي غير بواسطته مسيرة التاريخ الأدبي لأمة ولم يُتمّ عقده الثالث أو الرابع مثل رامبو بودلير الشابي جبران وغيرهم حتى لا نذكر إلا الكبار، لكن بالمقابل ثمة من لم تلحقه حرفة الكتابة إلا في وقت متأخر من عمره كإدموند عمران المليح بعد تجاوزه العقد السادس..وهذا ما ينطبق علي بامتياز،رغم أن أعراض لوثة الإبداع كانت قد مستني - دون ادعاء مزيف - منذ سنين دراستي الأولى بشهادة معلمي بداية وأساتذتي فيما بعد..لم أكن في حاجة إلى وقت لصقل ملكتي اللغوية وأدوات الكتابة ،بقدر ما كنت أحتاج إلى وقت لإنضاج تجربتي ورؤيتي للحياة من جهة ،ولإغناء رؤيتي النقدية لأشكال الكتابة الشعرية والإبداعية من جهة ثانية. n هل لك أن تقربنا من طبيعة ذلك النفَس الصوفي الذي نلمسه في كتابتك الشعرية؟ pp رأيت النور في بيت من أنوار،لم تغب عنه شمس المشرق إلا بغياب صاحبه ،المرحوم (ولد الفقيه) والدي الحاج أحمد حمود،الرجل الذي يمكن أن أنعته- بعيدا عن أي غرور مفتعل- بالصحابي الذي تأخر به الزمان،حيث كنت أتنفس عبق تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار،وأستمع - مرغما أحيانا - وأنا في ميْعة الصبا، محروما من ألوان فنون أخرى يتلبس بها الشيطان الدوائر، إلى أشرطة/كاسيط شيوخ الاسلام والمحدثين مشارقة ومغاربة الذين يشرحون معاني القرآن وأسراره بدءا بفضيلة الشيخ المكي الناصري فجرا بعد تلاوة المقرئ الرخيم الصوت بنموسى وانتهاء بزعيق وصراخ الشيخ المصري الضرير عبد الحميد كشك.وبقدر ما نهلت من معين هذا المصدر اللغوي المعجز المنير، وصدرت عنه في كتاباتي المدرسية ،التي كانت تنال اعجاب المعلمين منذ سني الأولى، بقدر ما شكل لي عائقا للنظر الى الحياة بكل حرية وطلاقة.لقد كان النص الديني والتربية الدينية الكوة الوحيدة المتاحة لي للاتصال بالعالم، الأمر الذي ولّد لدي في كثير من الاحيان، ردة فعل معاكسة إزاء اعتبار الدين المدخل الوحيد لقراءة كتاب الوجود والحياة،وهو ما تجلى في شكل حضور صيغ النص الديني في الديوان،حيث تصبح هذه الصيغ قوالب لغوية وأسلوبية قابلة لتملأ بمعاني ورؤى مغايرة،وحيث تغدو القصيدة وسيلة لخلق حوار روحاني حميم ومشاكس في الان ذاته مع النص القرآني وتعاليمه .ومن ثمة ذلك البعد الصوفي الشفيف الذي يخترق جل قصائد الديوان . ومن ألطاف الله وعدالته الالهية أن المرحومة والدتي السيدة أم كلثوم الزياني – واسم أم كلثوم هنا لا يمكن للبيب أن يخطئ دلالة – كانت هديتي من السماء كي تقيم نوعا من التوازن في تربيتي ،حتى أتمكن من وضع رجل في الآخرة وأخرى في الدنيا.إذ كانت تخفف من أجواء الجدية الصارمة التي تخيم على البيت،وتجعلني أفهم معها بأننا لم نأت للدنيا كي نتعبد ونتنسّك وننتظر القيامة ،بل كي نعيش ونحيا ونستمتع بالدنيا التي خلقت من أجلنا، لنسعد ونقضي أجمل الأوقات. كنا نسترق بكثيرمن التواطؤ الجميل، بعض اللحظات البهيجة والسعيدة،كلما غاب المرحوم والدي عن البيت، إلى العمل أو الى البقاع المقدسة لأداء مناسك الحج أو العمرة ،حيث جنته الأرضية، التي لطالما منّى النفس بإسلام االروح لباريها هناك ،حتى يظل قريبا من شفيعنا محمد صلى الله عليه وسلم.لم تكن النافذة الصغير التي تفتحها لي الوالدة على الدنيا غير نافذة إذاعة دار البريهي من خلال برامجها الفنية الشيقة من تمثيليات وروايات إذاعية وأغاني الطرب المغربي والمشرقي الأصيل ،خاصة قصايد الملحون المتنوعة وبصوت شيخ كريحتها الأكبر الحاج الحسين التولالي الذي كان يقطن بحي تولال، على مرمى حجر من حينا العتيد سيدي سعيد الذي- بالمناسبة- يبعد بالمسافة نفسها عن مولى مكناس، الشيخ الكامل الهادي بنعيسى .من هذه القصائد الزجلية الرائعة التي كتبها حرفيو مدننا المغربية العتيقة تشرّبت أصول النظم ولَكْلام وطرق التعامل مع اللغة ، صورها الشعرية ومعانيها المحتفية بالطبيعة والمرأة والحياة.وهنا لا بد أن اشير أنني مدين بالكثير لوسيلة الاتصال اليتيمة هذه في تأثيث ذاكرتي وتهذيب ذائقتي الفنية وتنمية لغتي وأسلوبي في الكتابة..لذلك لا تتساءلوا عن المهاوي التي وصل اليها تعليمنا إذا علمتم أن مصدر إلهام التلاميذ اليوم من خلال قنواتنا وإذاعاتنا الوطنية الكثيرة صار هو أغاني (حك جر.. طحن وغربل..عيط جبد..)و(لعزيز على ميمتو عمرو ما يتخص).. n ألم يجعلك البحث العلمي الذي أنفقت فيه سنوات طوال، في معزل عن الشعر والإبداع الأدبي بعامة؟ pp لم تكن السنوات التي كنت منشغلا خلالها بالكتابة في مجالات تخصصي البيداغوجية والديداكتيكية بعيدا عن الشعر وقضاياه وتحولاته ،بل كانت فترة تأمل ومتابعة لما ينغل به المشهد المغربي والعربي خاصة من تجارب وإضافات،وقد كانت هذه الفترة مناسبة لقراءات متأنية راكمت خلالها تصورات ورؤى شخصية عما ينشر من دواوين ودراسات نقدية..فتعرفت على منجز كثير من الشعراء الذين شكلوا علامات مضيئة في تاريخ الشعرية العربية المعاصرة ،وقضيت وقتا ليس بالهين في صداقة شعراء اثيرين لدي وقريبين من قلبي أمثال صلاح فائق وضياء العزاوي محمود درويش وبلند الحيدري وصلاح عبد الصبور وغيرهم ،كما واكبت تجارب بعض الأسماء المغربية التي برزت بفرادة أصواتها وجديد الأنفاس التي نفثتها في جسد شعرنا المغربي ،الذي كان قد بلغ بالترجمة والتقليد مآزق أفقدته البريق والتوهج الذي توقف مع جيل السبعينات.. وأذكر في هذا الاطار أصوات كل من محمد بنميلود وعبد الرحيم الصايل وعبد الرحيم الخصار وكمال أخلاقي ومحمد نجيب وغيرهم.. يمكن القول إذن أن المرحلة التي سبقت نشر ديواني الذي قد يكون قد تأخر قليلا في الظهور، لم تكن مرحلة بيضاء، بل كانت مرحلة بحث عن صوت وذات غير متيقنة من شيء، ذات تستنكف التواجد في غير مكانها ،خاصة والرهانات إبداعية وجمالية لا تبعث على التهافت أو الاستعجال..وفي لحظة ما اكتشفت أن ما كنت أبحث عنه في الخارج ،موجود في داخلي ومرتبط بذاتي أحمله ويحملني ،ألا وهو القناعات الفكرية والجمالية الخاصة التي نتجت عن عملية الكمون والاختمار التي كانت تعتمل في بشكل غير واع ..كانت لحظة اكتشاف كبرى لكنز ثمين استحق معاناة وتعب رحلة البحث،،وفرحة أنستني خيبات المسارات والدروب التي لا تقود إلى الموضوع المبحوث عنه..ولم يكن هذا الكنز غير الرؤية الجمالية التي كونتها بأناة وتؤدة وعدم تهافت أو ادعاء،والقدرة على الابصار للأشياء والعثور عليها دون عناء. n ألا تتفق معي على كون هذه الرؤية الجمالية لديك – في الأصل- إنما تقوم على استغوار اللغة واستنباط روح البساطة في اتجاه تحقيق الاختلاف؟ pp في كتابتي أكون أمام رهان جمالي كبير وهو ردم المسافة التي تفصل بين الذات واللغة.وإذا كان رومان ياكوبسون قد ربط الوظيفة الشعرية للغة باشتغالها على ذاتها بشكل نرجسي، فإن المتأمل للغة قصائدي سيلاحظ حتما اتشاحها ببساطة لافتة للنظر،وعدولها عن الاغراق في التصنع والزينة،والسبب في ذلك أنني أضحي بالبناء الشعري القائم على ترصيف الاستعارات وتطريز المجازات البعيدة والقريبة، للاقتراب أكثر باللغة إلى حالتها الخام قبل التصنيع. إن التقاط نبض الأحوال النفسية والذهنية وما يختلج في الباطن من فِكَر ورؤى وأحاسيس وأحلام، ينبغي أن يكون فوريا وبشكل متزامن كي لا تبرد المادة الحية، إذا ما طالت لحظة البحث عن الشكل اللغوي المناسب.من هنا ذلك الملمح الصوفي في طريقة الكتابة وشكل التعامل مع اللغة ،إذ الرهان الأكبر هو الحفاظ على شفافية اللغة كي ترشح بالذي تحتويه الذات، والحلم بتجاوز اللغة لقول الذات،أي الانكتاب.إن التعري من لباس اللغة إلى الحد الأدنى والتخفف من الحجب الشكلية التي تحول دون بروز الجوهر، رهان أساسي للكشف عن الرؤى والاستيهامات والأحلام الانسانية في حالتها النيئة الأولى،ضمانا للانسجام المطلوب بين الشكل التعبير والمحتوى المعبر عنه.وبقدر ما تتقلص المسافة بين التجربة الحياتية والقالب الفني الذي يحتويها، بقدر ما تخرج القصيدة من الأعماق نابضة بالصدق والعفوية والطفولة. إن مختلف الموضوعات التي شكلت لحمة الديوان، هي موضوعات بسيطة مرتبطة بالحياة اليومية لصاحبها،وبعلاقته مع الذات والفضاءات والأزمنة،ولذلك لم تستدع هذه التجربة ترسانة لغوية ثقيلة للتعبير عنها،بل تطلبت تحقيقا للانسجام الفني المفترض، الاعتماد على صياغات تعبيرية سهلة وبسيطة قريبة من الواقع الذي أنتجها.غير أن هذا الاختيار كان محمولا على خلفية وعي نقدي عميق ،مؤداه أن وضوح الرؤية للقضايا الفكرية والوجودية الكبرى،يمكن التعبير عنه بوضوح تعبيري مواز،قائم على بساطة مولدة للجمال الفني.ولا بد هنا من الاشارة أن خبرتي في مجال البيداغوجيا قد ساعدني الى حد بعيد في ملامسة الحدود الرفيعة بين عمق الرؤيا الشعرية وبساطة اللغة المعبرة عنها. لقد انتهيت إلى أن البساطة هي شكل الحدود الدنيا للأشياء الموجودة،بحيث لا يمكن اختزال هذه الأشياء درجة أقل مما توجد عليه إنها تدبير لاقتصاد الاشياء.وهذا يعني في العمق أن البسيط هو الأصل الخام للوجود، الذي يمكن أن يكون منطلقا لإبداع أشكال جديدة متفرعة عنه،وتجرد البسيط من الزائد والفائض عن الحاجة ،ملمح من ملامح زهده وطهرانيته ،وبروز للبعد الروحاني فيه من خلال تقشفه وتواضعه وهشاشته وضعفه.. لكن وبشكل مواز فكون البسيط مكتفيا بذاته لا يحتاج إلى غيره كي يكتمل ،دليل على قوته وسلطته ومركزيته.