«سألخص موضوع المحاضرة منذ الآن.. إن السينما هي الوسيلة الوحيدة لمقاومة ما يحدث على مستوى الصورة. وقبل الخوض في صلب الموضوع، أود أن أوضح لِمَ وقع اختياري على عنوان « D'une image l'autre »، حيث كنت أتحاور مع صديق لي، ريجيس دوبري، وهو باحث له قدرة كبيرة على الإنتاج والعطاء المعرفي، كنت قد استدعيته إلى مهرجان خريبكة سنة 1994. هو مؤلف كتاب «حياة أو موت الصورة» حيث تناول فيه موضوع الصورة، كيف ظهرت وأصبحت تتمتع بإطار مقنن، وكيف عاش الغرب هذا التطور الذي انتهى بالصورة إلى أخذ مكانتها الحالية.. في الحقيقة إنه كتاب يتنبأ بمسار الصورة بكيفية سريعة، حيث أصبحت أساسا، حيث كان قد عرفت تقنينا واضحا منذ القرن الرابع والخامس من طرف الكنيسة، ذلك أن الوضع آنذاك كان يطرح تساؤلات عدة، لها علاقة بمحاكاة الواقع، بتجسيد المسيح وغيره.. وهو الموضوع الذي نوقش بعد ذلك (في القرن الخامس) خلال اجتماع مُعَمَّق ومُطَوَّل سمح بتقنين الصورة وانفتاحها، مما أدى إلى تطوير الرسم مثلا خلال مناقشتي مع صديقي رجيس دوبري، تبين لي أن موت الصورة أمر غير وارد، لاسيما وأن حياتها رهينة بالانتقال من مكان إلى آخر، ومن حال إلى آخر. عندنا نقول باللغة الفرنسية « D'une image l'autre » وليس « D'une image à l'autre »، أتذكر واحدة من أهم الروايات الرائعة « D'un château l'autre » للروائي العالمي فيرديناند سيلين «Louis-Ferdinand CELINE»، حيث قام نقاش كبير حول عنوانها آنذاك. هي قصة تجري أحداثها بعد انهزام فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية.. نستشعر من خلال الرواية أن سيلين كان مساندا للألمان ومعاديا لليهود وللفكر اليهودي السائد وقتذاك، وكان من الأفضل له أن يغادر البلاد.. إذ يحكي في روايته هاته عن هروبه العسير لألمانيا وهو ما أسماه « D'un château l'autre »، إذ كانت هاته التسمية تعبيرا عن استمرارية لمرحلة قديمة في أخرى جديدة، أي أن كل برج يؤدي إلى برج آخر فيما الثاني مرتبط ومتواجد في الأول، فهو تسلسل غير متوقف وتواصل لا متناهي. نحن نعيش هذا «التواصل اللا متناهي La communication infinitaire» يوميا دون أن ندركه كمفهوم، هو هذا التسلسل المسؤول عن تواجد شيء ماض في آخر حاضر ودون استقرار أو توقف. الأمر الذي لا ندركه ونحن أمام لوحة لفيلاثكيث مثلا حيث إن الاستقرار فيها هو توقف للزمن على عكس الصورة المتحركة، وهي المسألة التي ذهب إليها ميشيل فوكو في مقدمة لأحد كتبه، إذ يحلل لوحة من لوحات «فيلاثكيث» الموسومة ب «Les Ménines»، يبين فيها مدى قدرة التاريخ على أن يستقر ليعطي واقعا رهينا برؤية الفنان العائدة لماض فائت. ويذهب إلى أن تحليل الصورة أصبح صعبا ومستعصيا. «D'une image l'autre » تعني أننا نتنقل باستمرار، على عكس حينما نقول «من صورة إلى أخرى»، إذ أننا نستقر في الصورة الأولى ثم ننتقل بعد ذلك إلى الصورة الثانية، فيما تلعب كلمة «إلى» دور الرابط بين الكلمتين (المرحلتين) المسؤول عن الاستقرار. خلافا للغة الفرنسية التي تربط الكلمتين معا دون إضافة كلمة أو حرف رابط. فكل لغة لها خاصيتها التي تعطيها معنى خاص قد يكون بعيدا عن مقابله في لغات أخرى. وسأعطي مثالا للتوضيح.. عندما أقول بالعربية «عبرت النهر سباحة»، بالفرنسية نقول «je nage à travers la rivière « و بالإنجليزية « I swim across the river»، إذن ومن هنا، سيظهر لنا جليا أن لهاته الجملة مقابلات ليست دقيقة ولا وفية للمعنى المراد تبليغه، فمقابل الجملة «عبرت النهر سباحة» هو الأقرب إلى الانجليزية منها إلى الفرنسية. من هذا المنظور، فإن الحرف أو الكلمة المسؤولة عن فعل «الاستقرار» هي ضمنيا موجودة في اللغة العربية، وربما هي خاصية تميزها كلغة؛ لذلك فأنا مضطر للقول باللغة العربية «من صورة إلى أخرى» مع بعض الإيضاح. أعود للحديث عن النقاش الدائر بيني وبين صديقي «ريجيس دوبراي».. جعلني أومن بأن الكيان الأونطولوجي للصورة هو التحول وليس الاستقرار، ذلك لأن الصورة لم تعد موضوعا فقط للتواصل والتلقي، بل أصبحت ذاتا قائمة للتواصل، أذكر على سبيل المثال، الشبكات الاجتماعية من فايسبوك، تويتر، واتساب... وهي بالفعل تلك الوسائل التي من اللازم تسميتها اليوم بوسائل التواصل اللامتناهي، وهو مفهوم في طور الولادة أو الكينونة. معنى ذلك، أننا عندما نقول « D'une image l'autre » فإن «الصورة الأخرى» أو « l'autre » موجودة أساسا في الصورة الأصل، فهي الصورة اللاحقة؛ ومعناه أيضا أن الصورة التي أشاهد هي داخل الصورة اللاحقة التي لم أشاهدها بعد، والتي سأتصرف فيها. فبقدر ما كنت مجرد مستهلك للصورة أصبحت اليوم «مستعملاً مناوراً» لها، وربما استخدمها لمصالح شخصية أو مؤسساتية أو غير ذلك. فمثلا، عندما أتوصل بصورة لصديق لي.. حينها يمكنني أن أرسلها للعديد من الأصدقاء. نفس الشيء يصدق على خبر مذاع في قناة من القنوات، إذ أستطيع نقله بسهولة، لأصبح ذاتا فاعلة في عملية التقاطع ونشر الخبر.. وهذا هو الدور التواصلي المهم الذي تقوم به جل المواقع الإلكترونية التي فاقت في فعاليتها التلفزيون. إذن، فالصورة اليوم، لم تعد تتمتع بالاستقرار الذي كانت تعرفه في زمن ما، بل لم يعد مهما من أنتجها أو أخرجها إلى الوجود بقدر ما يُعترف بموزعِها الذي يضمن لها الاستمرارية والحياة. «من صورة إلى أخرى» أصبحت تحيل على صور عديدة مرتبطة في ما بينها على نحو متسلسل، فيما الفاعل الأساسي التي يتحكم فيها هو الفرد المستهلك لها، المنتج والزبون لغوغل، أمازون، فايسبوك وآبل (les quartes GAFA). تلك المعلومة التي تقدمها أنت لمحرك غوغل هي أهم بكثير من الخدمات التي يتيحها لك بالمقابل، لذلك فأنت لست فقط زبونا بقدر ما يمكننا اعتبارك بضاعة (تواصلاتك، معلوماتك، تدويناتك، آراؤك ولايكاتك...) وقد يبيعها مثلا لشخص آخر يهمه أن يجمع معلومات عنك، الذي هو في حقيقة الأمر يمثل الزبون الحقيقي لغوغل أو أي وسيلة للتواصل اللامتناهي. سأحكي لكم قصة لها علاقة بالفرد الزبون/ الفرد البضاعة.. يُروى أن كبشين التقيا قبيل يوم عيد الأضحى، يحكي أحدهما للآخر عن ظروفه عيشه الباذخة، وهو في حقيقة أمره يجهل نهايته التي ستتوج بالذبح يوم العيد.. يجهل هذه الحقيقة و يظن نفسه في ضيافة سيده. وأدعوكم أنتم كطلبة وباحثين، أن تهتموا في بحوثكم بهذا التواصل اللانهائي، لأن الأمر فعلا يستحق، ذلك لإغناء البحث العلمي وتنويعه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك. « D'une image l'autre »، هي الصورة التي تتوصل بها لتوزعها بدورك، بالرغم من أنك لست أنت المستفيد، بل غوغل أو أي وسيلة من وسائل الغافا (GAFA) التي تعرفك أكثر مما تتصور، ذلك لأنك وقعت تعاقدا مكونا من أربعين صفحة عجزت – وهو أمر شبه أكيد- عن قراءته كاملا، أثناء عملية تسجيلك لحساب خاص، ومفاده أن كل معلوماتك الشخصية وتدويناتك ومكانك الجغرافي وغيرها هي ملك لصاحب الموقع.. كلها أمور تنازلت عنها مقابل خدمات تهمك. أكيد، أننا نطالب باستقلال ذاتي، وباحترام كيان الفرد وقراراته.. لنتساءل لحظة، عن ما إذا كانت كل هذه الوسائل التواصلية قد وضعت احتراما لذواتنا وفرديتنا وحريتنا؟ وهل تضعنا فعلا في مرتبة الإنسان المُدبر لكل تلك الوسائل؟ فقط أود القول أننا نعتقدا – وللأسف خطأ- أننا لم نملك قط حرية كهذه التي نتمتع بها الآن في عصر التواصل اللامتناهي !! من السهل على أحدهم الولوج لمعلومة أو خبر، ووضع اسم مستعار ليشرع بعدها في إبداء رأيه وسب هذا أو ذم ذاك.. هو فعلا نوع من الحرية الذي يروق للبعض.. لكن هل هذا هو المفهوم الحقيقي للفرد المستقل الذي يتمتع بكيان حر؟ لا أعني بطرحي هذا البعد الأخلاقي، بل هو وجهة نظر بنيوية. إذن، فكل هذه الوسائل التواصلية اللامتناهية، توحي لك بأنك إنسان مستقل، فيما التدفق التكنولوجي يرتبط ارتباطا وثيقا بفرديتك.. لنتساءل بجدية، ما حدود الحرية التي نتمتع بها كأفراد داخل بنية التواصل اللامتناهي؟ إذا اعتبرنا كل هذا التداخل المرحلي لصورة تتطور لأخرى مع الاحتفاظ بمكونات الأولى، التي تؤهلها لتصبح على ما هي عليه في الآن.. هو في الحقيقة جدلية أصبحت بديهية في وقتنا الحالي، تفضي بنا في نهاية الأمر، إلى اعتبار أن الصورة ليست حليفة حقيقية في الحياة اليومية، وقد لا تملأ الخصاص الذي نعيشه دونها، الأجدر أن يكون لدينا منطق التساؤل والشك والتحفظ قبل المضي قدما أو الإتباع. يمكن لهذه الوسائل اللامتناهية أن تكون نافذة على السينما، أي يمكننا مثلا تصوير فيلم روائي أو وثائقي طويل بكاميرا هاتف ذكي، ويمكن أن نشاهد فيلما قصيرا أو طويلا عبر اليوتيوب أو ديلي موشن أو غيرها من المواقع المتخصصة.. لكن متابعة الأفلام السينمائية من خلال هاته المواقع هو استعمال غير ناجع، الأمر ليس شبيها بنشرة الأخبار، التي قد أعيد مشاهدتها من خلال المواقع المخصصة لذلك، أو أشاهدها لأنني لم أستطع متابعتها مباشرة عبر جهاز التلفزة؛ فمشاهدة نشرة الأخبار عبر النت أمر لا يزعجني حقيقة. أما علاقتي بفيلم فهي تختلف تماما عن علاقتي بنشرة الأخبار؛ قد أعود مثلا لمشاهدة اللقطة المقطع في نهاية فيلم « profession : reporter » للمخرج أنطونيوني «Michelangelo Antonioni»، أو قد أبحث عن لقطة من فيلم آخر، مثلا لقطة من فيلم « la starda » للمخرج فيلليني «Federico Fellini»...أو غيرهما. إذن في نظري، تبقى الغاية، من وراء مشاهدة مقطع أو مقاطع بعض أفلام عبر النت، غاية ذات مغزى تحليلي، سواء من خلال شاشة الحاسوب أو اللوحة الإلكترونية أو غيرهما. لكن، قد أقنع نفسي أنني زبون في هذه الحالة. إلا أن الأمر، في العمق، أنه بمجرد دخولي لمحرك البحث، أكون قد سجلت معلومات عني دون أن أدري، مثلا أنني أهتم بأفلام فيلليني وأنطونيوني.. وما إن يخرج وثائقي إلى الوجود حول أحد المخرجين الذي أهتم بهم، ستصلني رسالة – لا محالة- مفادها أنه بإمكاني مشاهدة فيلم عن فيلليني أو أنطونيوني مقابل 4 يورو. كوني جامعي، باحث، ناقد أو حتى مهتم بالسينما، فأنا بحاجة لمشاهدة تلك اللقطة من ذاك الفيلم. ولكن في الآن ذاته، يُستفاد منك كما تستفيد أنت.. بالنسبة لي، إن استعمال النت في أمور كهذه لا يزعجني، لأن الغاية منه علمية.. إلا أن اختيار مشاهدة فيلم بأكمله على شاشة الهاتف الذكي من خلال النت، وليس في مكانه الأصل داخل القاعة السينمائية، تكون – وقتئذ- وسائل الغافا « GAFA » قد نجحت تماما في هدم علاقة اجتماعية داخل قاعة تستوعب 150 مشاهدا، وفي هدم تلك التفاعلات بينهم، وحتى في هدم تلك الأحلام الفارهة التي تعرش على الشاشة.. وهذا معناه أيضا أن وسائل الغافا GAFA قد نجحت بشكل كبير في تحويل المجموعة إلى أفراد ترتبط فقط بالوهم التواصلي المختلف، لا تفرق فقط لكي تسود، بل تفرق المجموعة إلى أفراد يؤمنون بالوهم التواصلي (فايسبوك 5000 أو 6000 صديق مثلا...) لذا فأنا أكرر أن السينما هي الوسيلة الوحيدة لاستمرار العلاقات المجتمعية الحقيقية. إننا نصبح بضاعة عندما لا نريد على الإطلاق أن نعتبر أنفسنا كأفراد داخل نسق مجتمعي متكامل، تضمنه لنا القاعة السينمائية.. وهذا ما يعزز طرحي في تشييد مركبات سينمائية في المغرب على غرار مركبات «ميغاراما» بالدار البيضاء ومراكش. لماذا إذن توقف مشروع المركبات السينمائية بالمغرب، بالرغم من أنه مشروع كان قد شق طريقه قبلا؟ لِمَ لا يتم تشييد مركب سينمائي بمدينة وجدة مثلا، حتى نتيح لأب رفقه أطفاله وزوجته أن يرتاد قاعة العرض ويختار فيلما يروقه؟ ألا نكون بهذا الفعل الحضاري قد ساهمنا في التلاحم المجتمعي أو المجتمع الواعي؟ أنا متأكد عدد المرتادين سيتزايد طالما هناك اختيار فيلم من بين 12 فيلما معروضا داخل المُرَكَّب، وستزدهر العلاقات المجتمعية التي ستتضاءل كلما تعاملنا أكثر مع وسائل الغافا « GAFA ». لِمَ لا نعطي على الأقل نفس الأهمية التي نوليها لوسائل التواصل اللامتناهية؟ سيما وأن السينما تتيح التفكير والتساؤل والمتعة، لِمَ نجد في فرنسا أعدادا مهمة في تزايد مستمر من المرتادين على القاعات، بالرغم من غزو وسائل التواصل اللامتناهي؟ لا أظن أن الأمر له علاقة فقط بالتلذذ أو الاستمتاع بالفيلم، بل هو البحث عن الآخر. « D'une image l'autre »، كي نرفضها لا بد من السينما، حيث إن السينما ليست صورة أخرى، بل هي الصورة». (نص المحاضرة التي ألقاها نور الدين الصايل، المدير السابق للمركز السينمائي المغربي، أمام طلبة كلية الآداب بنمسيك بمناسبة افتتاح الموسم الثقافي والفني)