يصل المخرج الإيطالي «جيانفرانكو روسي» Gianfranco Rosi إلى فيلمه الخامس، وقد غدا واحدا من المخرجين المميزين الذين يحتفون في أفلامهم بقضايا المصير الإنساني ضدا في أنظمة الدول وسياستها، ولعل المتتبع الجاد لأفلام هذا المخرج منذ بدايته مع فيلمه الأول -Boatman 1993- يتبين أنه مخرج يعرف ما يريد، شجاع ومتفان في عمله، ومدافع صلب عن القضايا العادلة التي تهم المستضعفين و المهمشين، لا ينفك يحمل كاميرته على كتفيه ويذهب لمناصرتهم ضدا في أولئك الذين يضيقون عليهم ويحرمونهم من حقهم ويصادرون حريتهم. نحن إذن أمام مخرج أعتبره مثاليا في نوع الأفلام التي ينجزها، ذي تاريخ سينمائي مشهود ولو قصير، يتقدم في مسيرته بثبات واثقا من قدراته وإمكانياته، من هنا يمكن القول أن فيلمه الأخير (فوكوأماري) هو امتداد صريح لجهد ثابت في إنجاز الأفلام الجيدة حريق في البحر (Fuocoammare) هو فيلم وثائقي، أنجزه المخرج جيانفرانكو روسي (كتابة/صورة/صوت/إخراج)، بهذا الفيلم عاد روزي ليعيد الكرة ويفوز في مهرجان برلين السنة الماضية في دورته 66 ب «الدب الذهبي»، حيث سبق له أن خرق عادة مهرجان البندقية السينمائي الدولي (لاموسترا) في دورته 70 سنة 2013 حين انتزع بإجماع لجنة التحكيم الجائزة الكبرى وفاز بالأسد الذهبي عن فيلمه الوثائقي الرابع «ساكرو غرا» ( 2013 Sacro Gra)، ليكون بذلك أول فيلم وثائقي في تاريخ المهرجان يحوز هذه الجائزة، أخرج قبل هذين الفيلمين ثلاثة أفلام أخرى هي على التوالي ( 2010- El Sicario, Room 164)، (Below Sea Level 2008)، (Boatman 1993).حريق في البحر، في هذا الفيلم، صبي يعيش بلا اتصال مع واقعه. مذيع أزهى لحظاته إذاعة أغان تحت طلب الأمهات والجدات وانتظار أخبار البحر. بحار يتسلل في صمت إلى قدره ليغوص فيه. امرأة تقاوم رتابة اليومي بالوقوف على التفاصيل. طبيب شاهد على مأساة عمرها عشرين سنة، في هذا الفيلم أيضا، عين تدمع دما. أرواح تزهق اختناقا. نساء عانين البؤس والظلم. أصوات مبحوحة تصدح بغناء يختزل المعاناة والظلم. تدور أحداث الفيلم فوق جزيرة «لامبيدوزا» الإيطالية، وتعرف هذه الجزيرة التي تمتد على مساحة 20 كيلومترا مربعا بكونها مقصد المهاجرين الراغبين في دخول أوروبا، وعلى مدار عشرين سنة خلت مر منها أكثر من 400 ألف مهاجر سري بمعدّل سنوي يقارب 150 ألفاً، في مقابل ذلك يبقى عدد الذين لقوا حتفهم فوقها أو لفظتهم مياه البحر إليها يفوق 15 ألف مهاجر سري من مختلف الأعمار والأجناس، والظاهر أن هذا الوضع لا يزال في اطراد وتزايد، فما زالت لامبيدوزا تلتقط أشلاء المطحونين وغير المرغوب فيهم. نعرف أن هناك أمكنة في الأفلام تؤسسها الأحداث ومشاعر الشخصيات وحواراتها، وهذا بلا شك يلعب دورا أساسيا في عملية التخيل عند المشاهد، لكن المكان هنا «جزيرة لمبيدوسا» لا يتيح هذه الأريحية ولا يفتح للمشاهد خرما على أمكنة أخرى، مكان ثابت ومثقل بالحكايا، وهو لا يحضر منعزلا عن باقي عناصر السرد الأخرى (الشخصيات-الأحداث-الحوارات) بل كعنصر فعال تتراص فوقه كل لبنات الحكاية. عودنا المخرجون الإيطاليون الكبار، أن لا شيء يمر هكذا أمام الكاميرا اعتباطا أو جزافا، وجيانفرانكو روزي بدا هنا أنه وصل لنضج كبير في معالجته للأشياء، فلا شيء يأتي محض الصدفة (وإن تلقى بعض الهدايا وهي ميزة الاشتغال على الوثائقي)، ففيلمه مكتوب بعناية فائقة، ينقل من خلاله الأحداث ببساطة شديدة حد الإشباع، ليعلن بذلك عن سينما لها تلك الإمكانيات الظاهرة والواضحة، بما تمنحه من تجاورات بصرية غير متوقعة، فجائية، بتداعيات حرة ومحكمة بما تختزنه من قدرة على تنظيم الصور المادية الملموسة في نظام الواقع المكاني، وكأننا أمام سينما تتجاوز مسألة محاكاة الحياة لتخلق عوالم جديدة تتصل بواقع نسمع عنه لكن لا نقبض على تفاصيله كاملة. منذ البداية يبدو قدر الشخصيات مرتبطا بصورة ما، وبينهم خيوط تلفها الجزيرة والبحر حولهم، لا مكان للهروب ولا مفر. من هذا المنطلق يبدأ سحر روزي مبكرا، حيث يضع المشاهد أمام ينبوع من المتتاليات التي تتحرك في إيقاع سلس ومنظم يقود إلى نتائج واضحة بلا تعقيدات، وهو توسل يرمي من ورائه تعزيز الفيلم على المستوى الدرامي، الشيء الذي جعل بداية فيلمه تبدو مؤثرة وصالحة للتأمل، فثمة لحمة من المشاهد تؤدي دورا رئيسيا في وضع المشاهد أمام تصور عام للفيلم تنحصر في المشاهد الستة الأولى، وهو إجراء أتاح للمخرج أن يبدأ بداية قوية، مهدت له بشكل سلس للانتقال إلى الخطوات الأخرى في تصوره للأحداث وتتابعها. يستهل الفيلم بمشهد يبدو فيه صامويل الصبي ذي 12 عاما، يتطلع لشجرة CACTUS متراخية الأغصان، لينتهي فوقها بحثا عن غصن يصنع منه (مقلاعا)، يليه مشهد ثان يظهر فيه جهاز رادار يستطلع الأجواء وصوت خارجي مخنوق لشخص يطلب الاستغاثة، ثم في مشهد ثالث نعاين مروحية تقوم بعملية البحث في عرض البحر، بعدها مشهد رابع ينقلنا إلى مذيع راديو يذيع أغنية على الهواء نزولا عند طلب إحدى الأمهات، فمشهد خامس يتابع فيه امرأة وهي منهمكة في ترتيب المطبخ على نغمات أغنية الراديو، ثم تنتهي حلقة مشاهد البداية بلقطة عامة وشاملة لسواحل لامبيدوزا. هكذا يرتفع روزي ويقلع بنا إلى عوالم أرحب ومستويات أعمق، محددا من خلال هذه المشاهد مفتاحا لقصصه يفتح به المجال واسعا على ما يمكن أن يراه المشاهد في ما بعد. بعيدا عن الشك، وقريبا من حدود الثقة، نجد المخرج قد وثق في صوره حد النسيان، قاد كاميرته بحساسية شديدة عبر قناتين تشكلان خطه السردي الناظم لحكاية الفيلم، فمن جهة ترك كاميرته تتصيد حياة سكان الجزيرة وتفاصيلها بهدوء وبطء شديدين (مشهد الجدة تخيط ثوبا، تحضر باستا بالكالمار/ مشهد السيدة تشرب القهوة مع زوجها في صمت، ترتب الفراش بعناية / مشهد العجوز يصلح شبكة الصيد بهدوء وصمت). في هذا الخضم أيضا يبدو تتبع الفتى صامويل مسألة غير عادية، لا شك يبحث المشاهد عن مبرر لها، لكن من دون أن ينشغل بها، بسبب غنى سلسلة المشاهد الأخرى التي يقدمها الفيلم ودلالاتها الجمالية، هذه المشاهد تختزل في عرضها حقائق صادمة، بل تتجاوزها لتختصر معاناة الجزيرة وسكانها منذ زمن بعيد، لهذا تبدو حياة صامويل وانشغالاته الجانب الأكثر براءة وهو يلعب ويصطاد العصافير... كما يبدو هدوء سكان الجزيرة وانشغالهم الرتيب بالتفاصيل وصمتهم الدائم انصياعا وتسليما بما يجري فوق أرضهم. ومن جهة أخرى، نجد المخرج يرغم كاميرته على ركوب البحر والوقوف على مأساة إنسانية حقيقية، دون مواربة أو تضليل، وبشفافية واضحة أزالت الغبار عن ما هو مسكوت عنه في تقارير وكالات الأخبار (مشاهد الموتى من المهاجرين ملفوفة في أكياس بلاستيكية، بطن يهتز وأنفاس متقطعة، غناء بلحن البكاء، ألم، قسوة وسجن وجوع وعطش ...). هناك لحظات في الفيلم أشبه بالمحاكمة، فالشخصيات عوض أن تتطور داخل فضاء مؤطر جزئيا بواسطة الكاميرا، تحس بأن حدود هذا الإطار تتحول إلى حدود فيزيقية تمنعها من حريتها وتجعلها سجينة، ويبدو أن تضييق الإطار على الوجوه يخلق رابطا بين هذه الوجوه والمشاهد لا يستطيع أن يتحرر منه ولو بعد حين، هكذا نرى أن تضييق الإطار على بعض الشخصيات يعكس من خلاله المخرج قمعها وبؤسها وظلمها (مشاهد الإغاثة من عرض البحر / لقطات مقربة على وجوه المهاجرين (نظرة الرجل المهاجر في القارب)). إن ما يقدمه المخرج من خلال فيلمه، يعلمنا في المقام الأول أن ننسى الكلام وملء الفراغات ونرتكن جانبا لنتعلم ذلك الفن الرفيع الذي يسمى فن النظر، إنه يعلمنا كيف نزن الأشياء وكيف نضع العناصر في مكانها، وكيف نميز بين ظاهر الأشياء وعمقها، وكيف نرجع في أنفسنا صدى القوة الصامتة وراء الوجوه المكلومة والأمكنة الموجوعة. إننا نتفهم جيدا فرح روزي بالصمت فهذا من صميم أسلوبه ومحرك ثابت لرؤيته وتصوره، حيث يدع لقدرة الصورة السينمائية أن تخلق وتنفذ بطريقتها، متوسلا بالإمكانيات التي تقدمها الوثيقة الحية والواقع المجرد، هذه القدرة جعلت الفيلم أكثر تأثيرا وإقناعا مستفيدا من إمكانيات الصورة، ومن جرعة مناسبة من المفاهيم السردية والفنية التي تنبع من موضوعة الفيلم الأساسية، لا تحيد عنها ولا تشوش عليها تفريعات سردية مجهولة. من المهم أن نلاحظ أن شخصيات الفيلم لا شهوة عندهم للكلام ولا نية لهم في رد الفعل، ربما هذا يعود إلى عزلتهم، فيكفي أن تتبع المرأة «ماريا» لتصاب بلعنة/حكمة الصمت، ترتب سريرها بعناية، ترافقها الكاميرا لكن دون أن يشعر المشاهد بطول اللقطة التي تتسع بتثاقل، بل يصلك حس غريب أشبه باللذة وأنت تستمتع بهذا الكم من التفاصيل في إيقاع منتظم وسلس، إن كل لقطة تبدو أكثر اتساعا مما تعودنا عليه، كما أن الزمن أيضا صور بطريقة تجعل المرء يتساءل، كيف استطاع زمن الفيلم أن يستوعب كل هذه المشاهد والأحداث. لقد ترك روزي لمصداقية الصورة أن تتكلف لوحدها بترتيب اللقاء مع المشاهد دون مبررات أو زوائد، وبذلك اكتسبت صور روزي فضيلة كبيرة، وهي انطلاقها من اكتفاء ضمني لا تحتاج معه لرتوشات أو مكملات، فهي لوحدها تحقق نتائجها من خلال حصر وتعبئة الكوادر بما يخدم حكاية الفيلم، وهذا ربما يبرر خلو الفيلم من أي موسيقى تصويرية أو تعليق صوتي أو مقابلات أو شواهد، باستثناء شهادة الطبيب «بارتولو» التي يستعرض فيها معاناة الجزيرة والمهاجرين طيلة مدة خدمته بها والتي امتدت ل 20 سنة. بفيلم حريق في البحر يكون روزي قد قدم مداخلة عشق في فن السينما الوثائقية، وأبدع فيلما آخر جميلا في انحيازه لما هو إنساني، وعميقا في طرحه، ومؤثرا إلى زمن طويل جدا، فعلى مدى الدقائق (109 دقيقة) التي تشكل زمن الفيلم يغزونا صدق غريب ويفيض علينا الفيلم بدموع تعكس واقعا في أقصى مداه الإنساني، فيلم يستعصي نسيانه، يؤكد من خلاله مخرج عبقري كيف تكون السينما معبرة وعظيمة.