كل إصدار جديد لأحمد بوزفور هو حدث ثقافي بامتياز، أقصد حدث ثقافي حقيقي. أولا لندرة ما يصدر لهذا الرجل. ثانيا لجدة ما يكتب وفرادته. ثالثا للإضافة التي يقدمها الإصدار. رابعا للانتظارات الكبيرة للقراء والنقاد على حد سواء. وبداية وأخيرا لما لهذا الرجل من سحر وتأثير على الكتابة والتلقي. للإصدار الجديد «النظر إلى بحيرة القلب» نفس أثر «النظر في الوجه العزيز»، بل أكبر. الدهشة والانبهار والسحر والمتعة والعمق والجدة والجمال والبحث عن الاكتمال.. بوزفور يكتب ويقدم نفسه إلى القراء (قدامى وجدد) كما كان يقدم نفسه في بداياته الأولى بدون رتوشات، بمحبة وقلق وخوف دائمين، وبثقة من لا يمتلك اليقين. في «النظر إلى بحيرة القلب» ينظر بوزفور إليها لا كما ينظر نرسيس إلى وجهه، ولا ينظر إليها ليرى خيال حبيبته كما الشاعر الهندي، وإنما ليرى القصة، «القصة التي سكنت هذه البحيرة كجنية ربطته إليها بخيط مرخى...» فليس في القصة غير القصة كما ليس تحت القشرة غير القشرة. إنه يحاول أن يكشف للقارئ في هذا الكتاب الماتع رؤيته الخاصة والخيط الخفي العاقل – المجنون (كما يقول) الذي يربط بينه وبين طفلته الخالدة. يحاول أن يعقل فعله الشعوري واللاشعوري، ويحفر عميقا في ثنايا الذات. ومن أجل كل هذا يقدم لنا ثلاثة محاور يبدأها بالتأملات ويعقبها بالقراءات في المتون المغربية والغربية، ثم يختمها بحوارات كان قد أجراها معه عدد من الصحفيين والكتاب المغاربة. ما يهمني في هذه الورقة هو الاقتراب من محور التأملات والذي أعتبر أن ما كتبه فيه السي أحمد من أجمل وأبهى وأعمق ما قرأت عن القصة وفي القصة. وأعتبرها تنظيرات خاصة جدا يقدمها – تواضعا - للمناقشة مع الكتاب والقراء. وكان قد ألقى أغلبها إن لم نقل كلها في مناسبات مختلفة ضمن أشغال ملتقيات ولقاءات قصصية في مدن مغربية مختلفة، وهو السندباد الذي لا يكل ولا يتعب من السفر والارتحال إلى هوامش منسية من وطننا، لا لشيء إلا ليلتقي بأحباء هذه القصة التي ندر لها حياته كلها، وليسعد شعبا من القراء كبارا وصغارا وخاصة التلاميذ في المدن الهامشية. في هذا المحور يتحدث بوزفور بعمق كبير عن الشيء القصصي الذي لا نصل إليه «دفعة واحدة ومباشرة بل يتسرب إلينا من خلال الكلمات وبالضبط من خلال طرق الرواة والكتاب في تشكيل الكلمات». ويتحدث بصدق عن معنى أن تكون قاصا اليوم، ليعترف بأن السؤال الحقيقي بخصوصه هو: ما معنى أن يكون قاصا سبعينيا؟ ويجيب هو أن «يكون فردا ولسان فرد، لا جماعة ولسان جماعة، وهو أن تكون مقتنعا بأهمية القصة وضرورتها وكيفيتها وهو الأساس أن تختلف وتنتقد وتشك ولا تحاول بالقصة كتابة الفكر أو الأيديولوجيا». في تحليله لواقع القصة يخلص إلى أنه «واقع شعري. واقع أولا وشعري ثانيا (....) كأنما هو سماء تنعكس في بحيرة». ويخص الأستاذ بوزفور التجريب في هذا المحور بمداخلتين أثارتا حين ألقيتا لغطا وردود فعل كثيرة هما: «أشكال التخريب في القصة المغربية» و «التجريب تجربة شخصية». وعلى الرغم من أن جميع مداخلاته ومشروعه ككل جوهره التجريب إلا أن هاتين المداخلتين تعتبران زبدة تجربة بوزفور في التجريب، إذ تحمل الوجه وقفاه، الشيء ونقيضه، والمدح والذم في ذات الوقت. بل أنه ابتدأ بالذم (أشكال التخريب)، لينتهي إلى المدح (التجريب). وكان ذكيا في تركيزه على عوامل التخريب في: التركيز على الكاتب بدل الكتاب – التركيز على ما هو شفهي مقابل ما هو مكتوب – الاهتمام الزائد بالميتاقصة بدل القصة – والاهتمام بالخارج على حساب الداخل – وأخيرا التركيز على اللقاءات والإلقاء بدل الكتابة والقراءة. ورغم أن من منجزات التجريب في القصة، الاشتغال على التناصات والميتاقصة، والاشتغال على الذات والداخل في علاقته بالخارج، ورغم ما للقاءات والإلقاءات من دور في تثبيت مكانة القصة في زمن طغى فيه الشعر والرواية، (وبالمناسبة كان بوزفور أهم من دعم هذه اللقاءات وأسهم في انتشارها ونجاحها ورفع الحصار على عدد كبير من القصاصين الموهوبين) إلا أنه ينتقدها وينتقد جزءا من ذاته فيها. وهي شجاعة قلما نجد مثيلا لها. لينطلق بعدها إلى تفصيل تجربته الشخصية مع التجريب وفيه، من خلال ثلاثة محطات باعتبار التجريب حوارا مع الذات وتنويعا للذات وتقشيرا للذات. ليخلص إلى أنه لا يوجد تحت القشرة إلا القشرة وأن الهوية ليست ثابتة بل تتغير وتتطور باستمرار، بل كما يقول في مكان آخر «الهوية بنتنا وليست أمنا». والتجريب بالنسبة إليه يحقق أهدافه هو لا أهداف الكاتب، وهو «ليس ثورة على الطرق والأشكال التي يكتب بها الآخرون بقد ما هو ثورة على الكيفية التي أكتب بها». وهو نتيجة وليس سببا. وأخيرا يشير إلى مأزق وجودي خطير لخصة في «كلما كتب الكاتب كلما فرغ من الداخل». وفي نصه المعنون ب «كعوب أخيل في تجربتي: اللغة، المعرفة، البناء» يتساءل الكاتب بداية إن كان يمكن الحديث عن كتابة قصصية جديدة بالمغرب؟ ويجيب بالإيجاب، لكن ما هي ملامح الجدة في هذه الكتابة؟ وما الإضافات وهل هناك مدارس؟ يتحدث بوزفور عن تجربته الخاصة في كتابة القصة ويعتبر نفسه أحد الكتاب الجدد الشبان بمعنى من المعاني. ولهذا سمح لنفسه بأن يفضح نقاط الضعف التي يخاف منها: الخيال ثم المعرفة ثم البناء. في الأخير يختم بوزفور تأملاته بحديث مؤثر عن كمانه المعلق وعن معراجه الذي لم يتحقق، أقصد عن قصته «المعراج» التي بدأ كتابتها قبل أربعين سنة ولم يكملها والتي وإن لم تتحقق إلا أنها أفادته بطريقة لم يكن يتصورها، كانت في أحلامه أشبه بالفكرة الأفلاطونية للقصة، كانت الثدي الذي منه رضع الرغبة الحارقة في الكتابة وكانت الناقد الصارم وكانت كمانه المعلق الذي يخجله كلما أصابه الغرور. «النظر إلى بحيرة القلب» هي فعلا نظر بمعنى رؤيا على الداخل ومن الداخل. على داخل الكتابة والتجربة القصصية والإبداعية للقاص أحمد بوزفور ومن خلاله على داخل تجربة عدد من المبدعين الذين تناولتهم قراءاته في المحور الثاني من الكتاب. وهي رؤيا من الداخل، أي من داخل هذه التجربة وهذه النصوص ذاتها وليس من خارجها، تنطلق منها لتعود إليها، تنطلق من النص وتسائله لتنتج نصوصا. وهي نظرة نابعة من القلب، قلب محب لا يعرف سوى إنتاج المحبة لهذا أهدانا بحيرة من المحبة، وآثرنا بها لنكون أول المستحمين بل المقيمين فيها.