مازال المهدي المنتظر محتفظا براهنيته رغم انصرام قرون عن وفاته الغامضة. «اختفى المهدي: مات؟ قتل؟ غاب غيبة يترقب الناس عودته بعدها؟ كثيرون يعيشون على أمل عودة المهدي في أنحاء متباعدة من المعمور» ما يلفت النظر في رواية «ثورة المريدين»(1) أن صاحبها الروائي سعيد بنسعيد العلوي لم يراهن على التجريب من أجل التجريب، وإنما تبنى إستراتجية سردية توفق بين المسعيين الشعري والتداولي. وهذا ما جعله يحرص أكثر على سرد قصة مثيرة وميسرة متفاديا كل ما قد يشوش على مقصدها ومغزاها، ويؤثر سلبا في أدائها وانسيابها. واعتمد، في هذا الصدد، على تقنية التوازي للمزواجة بين محكيين قد يوهمان بأنهما متباينان مبنى ومعنى، في حين أنهما يتقاطعان ويتواشجان سعيا إلى الإمساك بالصورة الهاربة للمهدي المنتظر(2)، وحرصا على تعضيد الأطروحة المركزية التي يوحي بها العنوان. يدور المحكي الأول في الوقت الراهن. اضطلع عبد المولى اليموري بسرده ناقلا ما شاهده وعاينه ورادوه في فضاءات مختلفة ومتباعدة (بين المدينة، القاهرة، مراكش)، وباحثا عن الخيط الناظم الذي يمكن أن يسعفه- استنادا إلى مصادر تاريخية- على إماطة اللثام عن الوجه الحقيقي للمهدي المنتظر. وقد اضطر - بحكم تكوينه الثقافي وشغبه الفكري- إلى مساءلة موضوع الرواية نفسها، ودعم صحته وصدقيته بالبينات. وهذا ما جعل المحكي يتحول إلى خطاب على خطاب (خطاب واصف)، مبرما مع القارئ ميثاقا للتحقق(3)، لحفزه على تعرف الوجه الآخر للمهدي على خلاف ما روجه المؤرخون والإخباريون عنه. وترتد أطوار المحكي الثاني، المكتوب بحروف مضغوطة، إلى تسعة قرون خلت. أعاد السارد سردها معتمدا على رواة ومؤرخين ثقات حرصا على بيان الدور البطولي الذي نهض به القائد الروحي المهدي المنتظر في جمع شمل أتباعه المخلصين من المصامدة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى التوحيد الخالص، والسيطرة على معقل المرابطين بمراكش وإجلائهم عن الحكم. وهذا ما حتم على السارد التحلي بوظيفة الشهادة والبيِّنة حرصا على تتبع سيرة المهدي بأمانة وصدق، وتطلعا إلى الاطلاع على وثائق نادرة أو مفتقدة قد تضيء جوانب داجية من حياته. ومن ضمنها أساسا كتاب آخر للبيدق ذكر فيه أخبارا غير معروفة عن المترجم له(4)، الذي ظلت حياته محفوفة بالأسرار والألغاز، و مثار أسئلة محيرة بسبب غموضها وتضارب الآراء حولها. وهو ما أضفى عليها - مع مر السنين- هالة أسطورية. ويبقى السؤال المركزي. ما الدواعي التي حفزت السارد على بعث المهدي من مرقده والنبش في سيرته؟ لا يستدعي هذا السؤال الرجوع إلى السرد التاريخي المغلق، وإنما اعتماد السرد التخييلي المشرع على احتمالات متعددة وأحاسيس متضاربة. يتجسد- على عكس السرد التاريخي- كمرآة تلتقط شذرات من سيرة المهدي، منقولة عن أفواه رواة ثقات، ومقدمة من وجهة نظر السارد الذي حرص على صحتها وسدادها، وتوخى تعزيزها بحقائق جديدة وغير معتادة، وأثبت بين ثناياها عيِّنات ذاتية (autobiographèmes) تشي بتورطه فيما يحكيه، ويُصدره من أحكام على خلاف المؤرخ الذي يحرص أيما حرص على اتخاذ المسافة التلفظية اللازمة حيال الوقائع المروية. مازال المهدي المنتظر محتفظا براهنيته رغم انصرام قرون عن وفاته الغامضة. «اختفى المهدي: مات؟ قتل؟ غاب غيبة يترقب الناس عودته بعدها؟ كثيرون يعيشون على أمل عودة المهدي في أنحاء متباعدة من المعمور» ص23. فالعرب - بمختف مللهم ونحلهم- يحتفظون في مخيلتهم بصورته الأسطورية العابرة للأزمنة والأمكنة، ويتوقعون انبعاثه في أية لحظة لإصلاح وضعهم المتردي، وإقامة العدل بينهم، وإنقاذهم من براثين التخلف والفوضى والانقسام. وهو ما جسده أحمد بن قسي(5)- أسوة بآخرين من أمثال ابن هود الماسي، والجزولي، وابن أبي محلي- مدعيا أنه المهدي المنتظر لحمل مريديه على محاربة المرابطين سعيا إلى تحقيق العدل المنشود. وما حفز الشباب العربي أيضا، في خضم الربيع العربي- على استحضار صورة القائد الهمام الذي بإمكانه أن يشحذ إرادتهم، ويقوي عزمهم للإطاحة بالمستبدين الذين عاثوا في الأرض فسادا. قد يُبْعث على حين غرة في ميدان التحرير أو في أية ساحة عمومية من بقاع المعمور مرتديا اللباس التقليدي أو العصري لمشاركة الناس فرحتهم، وتوحيد كلمتهم، وحفزهم على اجتثاث جذور الاستبداد»إنه، كما ينبعث المارد من القمقم، كما يخرج الحوت الضخم رأسه من المحيط سيعود في اللباس الصعيدي في ميدان التحرير، أو يضع على رأسه الطاقية والشال كما يفعل «المعلم» في أفلام المليجي وفريد شوقي» ص256. ما لم ينبعث المهدي، سيظل الحال على ما هو عليه، ويبقى خلق لله في حيرة من أمرهم، تعوزهم الحيلة وتضيق بهم سبل العيش. سعى السارد- بتشخيص الوضع العربي الحالي والبائد- أن يتمثل «الانسداد التاريخي» أو ما سماه جورج لوكاش «بالشفافية الفارغة». وهي عبارة عن حاجز من الزجاج يكشف عن الأفق الرحب لكنه يحول دون الوصول إليه. واستطاع، بما أوتي من قدرات لغوية، أن يسرد الوقائع بلغات وأساليب تقتضيها الضرورة. فهو عندما يتحدث عن مغامراته في «بين المدينة» وساحة التحرير ومراكش يستعمل اللغة المتداولة لتحقيق نسبة عالية من التواصل والمكاشفة. ويُغلِّب، في هذا الصدد، «الرؤية مع» حرصا على «الفهم النفسي» للذات، وحفْزها أكثر على البوح والمناجاة والمُسارَّة. ولما ينقل أخبار المهدي يضطر إلى استخدام الأساليب العتيقة، والحوارات الخالصة، و»الرؤية من خلف» أي كل ما يسعفه على تمثل الظرفية التاريخية، وتعرُّف أهواء الشخصيات التاريخية وسرائرها وتطلعاتها. إن انتقال السارد بين اللغات لم يتم بطرقة جزافية، وإنما صدر عن سعة فكره ووعيه، وهو ما أهله إلى تشخيصها بطريقة فنية، وإقامة الفروق والتمايزات فيما بينها بالنظر إلى طبيعة المتكلم وإرغامات المقام، وتشييد صروحها على خلفية حوارية (مقاومة الاستبداد والظلم في أي زمان ومكان). تنتهي الرواية بخيبة أمل «.. لكن هذه النتيجة، هذا الشعور الملازم لها، ليس له نعت آخر سوى: الاعتراف بالخيبة»ص259. وهي الخيبة التي طبعت كثيرا من الروايات العالمية التي واجهت المشكل الأخلاقي للطوباوية سعيا إلى تحقيق أحسن العوالم والظفر بالمبتغى. إن إخفاق السارد أو خيبة أمله عمق لديه الإحساس بالتناقض الوجداني متأرجحا بين المسعى المتوقع والحلم المنشود وبين اليأس المتنامي أو زيف الحنين وبطلانه. وما عليه- في مثل هذا الوضع- إلا أن يؤدي الثمن غاليا، إما أن يتخلى عن مواجهة المشكل أو يبقى متشبثا بنزعته البطولية إلى أن يتحقق مراده. توحي الرواية - رغم يأس السارد- بالاختيار الثاني، وهو ما سيفتح الطريق أمام إمكانات سردية أخرى، ويحفز على منح المهدي المنتظر أدوارا وأبعادا جديدة، ويحتم العبور من السيرة التاريخية إلى السيرة التخييلية. وتجسدت خيبة الأمل أيضا على مستوى تعمق المسافة الجمالية بين المؤلف والسارد. راهن المؤلف على إيهام قرائه بأن مشروعه السردي يتوقف على تدوين سيرة المهدي بأمانة وحصافة. وبمجرد أن أوكل هذه المهمة إلى السارد توطد الميثاق التخييلي، الذي أضحى- بمقتضاه- غير جدير بالثقةunreliable (6) وهو ما جعله ينزاح عن المهمة التي أسندت له، ويتمرد على الصورة التي أراد المؤلف أن يضفيها عليه حتى يجعل منه النظير واللَّبيس(7)، ويوسع هامش المناورة للتصرف في الأحداث كيفما يشاء، وينتقي ما يناسب طبعة ومزاجه، ويساير موقفه من الوجود. وهو ما أدى إلى توارد «المؤشرات التخييلية» في السرد التاريخي، ومحاكاته بطريقة ساخرة (ارتسامات جمعة بسيوني ودرية شرف الدين من الصورة التي قدمها السارد عن المهدي)، والكشف عن مفارقاته التي تتجلي في « التعبير عن مشاعر الشخصيات وأفكارها حيال الواقع بطريقة أكثر وضوحا مما استطاعة رجال ونساء العصر الحقيقيون»(8). هوامش: 1 - سعيد بنسعيد العلوي، ثورة المريدين، المركز الثقافي العربي،ط1، 2015. 2 - المقصود هو محمد بن تومرت (الذي ادعى المهدية (المهدي المنتظر) والإمامة (الإمام المعصوم). ومحمد المهدي هو شخص يؤمن المسلمون بأن الله تعالى سيبعثه في آخر الزمان لنشر العدل بين الناس، ومحاربة ما شاع في الأرض من فساد ومنكر. 3 - ميثاق التحقق (contrat de véridiction): يزعم السارد بقول الحقيقة، وهو يعلم مكر اللغة وخداعها من جهة و سذاجة القارئ (تصديق قول كاذب) أو حساسيته المفرطة من جهة ثانية (التشكيك في قول صادق أو تكذيبه). 4 - الكتاب المعروف هو " أخبار المهدي بن تومرت وابتداء دولة الموحدين" أما الكتاب المفتقد هو " السر المرقوم في أخبار العصوم". وهما لأبي بكر الصنهاجي المكنى بالبيدق. 5 - هو أبو القاسم أحمد بن الحسين قسي (توفي 546 ه). كان متأثرا بمحمد بن تومرت فادعى المهدية وتسمى بالمهدي. فكثر مريدوه وأتباعه مقتدين به ومسترشدين بأفكاره الصوفية. أقنع أحد مريده محمد بن يحيى الشلطيشي (ابن القايلة) بأن يداهم المرابطين في قلعة مرتلة والسيطرة عليها. وهو ما تحقق وقوى من طموح ابن قسي لتحرير الأندلس وإجلاء المرابطين عنها. ولما خاب ظنه هرب قاصدا عبد المؤمن بن علي الذي غفر له وحماه. 6 - يكون السارد غير جدير بالثقة (indigne de confiance) لما يتصرف أو يتحدث في تنافر مع المعايير الضمنية للمؤلف. انظر: Wayne C .Booth, « Distance et point de vue » in Poétique de récit, Seuil, 1977,p105. 7 -" لو قلت إن مهدي الروائي عبد المولى اليموري (وبالتالي شخصي المتواضع) هو غير المهدي كما يمتلأ جمعة بسيوني في الحديث عنه بطلا لمسلسل رمضاني في ثلاثين حلقة "، ثورة المريدين ص 255. 8 - Georges Lukacs , Le roman historique, trad de Robert Sailley, Paris Payot ;1965,p67.