مرت رئاسة الحكومات بالمغرب، بمراحل متعددة، تبعا لميزان القوى اللحظي، وأيضا طبيعة الإطار القانوني (الدستوري) المنظم لدور قائد الفريق الحكومي كمؤسسة قائمة الذات. لكن، يمكن الحديث مغربيا، عن مرحلتين كبريين في تاريخ هذه المؤسسة التدبيرية. مرحلة ما قبل أول دستور في مغرب الإستقلال (دستور 1962)، ومرحلة ما بعده، التي تتوزع بدورها إلى مراحل متعددة، حسب النص القانوني الذي يتم تعديله مع كل تعديل دستوري. ما سنحاول التوقف عنده هنا، هو المرحلة السابقة على دستور 1962، باستحضار لمعطى استفهامي كبير هو: هل للمغاربة تراكم تاريخي في مؤسسة التدبير الحكومي، أم لا؟!.. ما تقدمه الوقائع المدونة تاريخيا، أن شكلا للدولة كان قائما في المغرب على مدى قرون، وأن ذلك الشكل تطور بالتفاعل مع نماذج كانت سائدة هنا وهناك عالميا. وإذا ما حصرنا النظر في حكم العلويين فقط، الذي يمتد إلى اليوم على مدى قرون أربع، فإن النماذج الدولية السائدة كانت هي، طريقة التدبير الأروبية (خاصة الملكيات الكبرى في باريس ولندن وستوكهولم وفيينا)، ثم طريقة التدبير العثمانية (نظام الحكم في الباب العالي بإسطنبول). والتفاعل مع تجربة هذين المرجعين في الحكم، في العالم آنذاك، هو الذي جعل المغرب، المتحقق فيه معنى الدولة منذ أكثر من 15 قرنا، يتميز بتراكم في التدبير المركزي العمومي له خصوصيته وله نظائره القائمة في العالم. وإذا ما استثنينا وزارات البحر والبريد والمكوس وحنطات الجيش، فإن منصب الحاجب ومنصب الصدر الأعظم (تقليد تركي) كانت له قوة أن يكون الرأس الأولى المسؤولة عن آلة التدبير العمومية، المحيطة بالسلطان والمساعدة له والمنفذة لخطته وسياسته ومنهجيته في الحكم. مما يعني، أنه كان هناك في المغرب، تاريخيا، شكل من أشكال «الوزير الأول أو رئيس الحكومة أو رئيس الوزراء» ضمن بينة التدبير الإدارية الكبرى التي إسمها «المخزن». لقد تواصل هذا الشكل التدبيري عموما، حتى مرحلة السلطان الإصلاحي الكبير، الذي لم ينصفه زمنه ولا ظروف البلد الغارقة في التخلف ولا ميزان القوى الداخلية والإقليمية المحيطة بالمغرب، المولى الحسن الأول. ففي عهد هذا السلطان بدأت تبرز واضحة أولى الخطوات الإصلاحية على مستوى بنية التدبير العمومي، خاصة في مجالات البريد والمالية والضرائب والجيش والعلاقات الخارجية، وأيضا شكل من تنظيم المجال الترابي لكل الإمبراطورية المغربية، الممتدة حينها، حتى بلاد شنقيط جنوبا وإلى بلاد توات ومنطقة تيندوف في الشرق الجنوبي. لكنه شكل تدبيري سوف يصطدم بالتطورات الدولية ل «القضية المغربية»، منذ مؤتمرات مدريد، وصولا إلى مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي امتد على الستة أشهر الأولى من سنة 1906. وسوف توجه له عمليا ضربة قاصمة، مع توقيع «معاهدة الحماية» يوم 30 مارس 1912، التي بموجبها تم تقسيم المغرب بين قوى دولية متعددة (فرنسا وإسبانيا، شمالا ووسطا وجنوبا. ثم طنجة كمنطقة دولية). مع مجيئ حكم حسابات القوى الدولية آنذاك مع بداية القرن العشرين (الإستعمار)، أصبح للمغرب إطاران تدبيريان عموميان. واحد أروبي حديث (مقيم عام ومجلس حكومي وتدبيري وإداري وقضائي، مع توابعهما من إدارة ترابية وتعليم وشرطة وجيش) والثاني مغربي كلاسيكي يحاول التعايش (الصدر الأعظم، ووزراء العدلية الإسلامية والأوقاف والحسبة وجيش مخزني كمثال). لكن السيادة كانت في الميدان للحكومات الإستعمارية سواء الفرنسية أو الإسبانية، وتترك للسلطان شكلا للشراكة في الحكم، ظل محصورا في مباركة قرارات المقيمين العامين في الرباط وتطوان (علما أنه في المنطقة الخليفية التي تقع تحت نفوذ مدريد بالشمال، كان هناك خليفة سلطاني). والتحول لن يقع سوى مع الملك الوطني محمد الخامس، الذي تدرج رفضه لهذا المنطق التدبيري، منذ سنة 1947، وتصاعد سنة 1951، وبلغ دروته يوم 20 غشت 1953، أي بقرار باريس نفيه وإزالته من العرش والحكم مع ولديه (الأمير الحسن والأمير عبد الله، وهما أميران رفضا التخلي عن والدهما للتاريخ). عمليا تواصل هذا المشهد التدبيري، حتى عودة محمد الخامس من منفاه سنة 1955. ومع هذه العودة، التي تمت في إطار محادثات متعددة لباريس، مع الجسم السياسي المغربي (آقطاب البنية الكلاسيكية للمخزن من صدر أعظم وتوابعه. وكذا أقطاب الحركة الوطنية الشباب بتعدد أدرع تلك الحركة الكبرى والوازنة والمؤثرة في الميدان، خاصة في حزبي الإستقلال والشورى والإستقلال) والمصلحي (القواد والباشوات). مع تلك العودة ولد شكل جديد للتدبير العمومي في المغرب، لم يكن له سقف دستوري تنظيمي، عرف عمليا بحكومات يترأسها رئيس حكومة وليس وزير أول أو رئيس وزراء. وكان أول رئيس للحكومة هو القايد مبارك لهبيل البكاي. الرجل الذي كان يعرج بسبب إصابته في الحرب العالمية الثانية ضمن الفرقة المغربية التي توجهت إلى إيطاليا. وكانت في الحقيقة حكومة تدبير أعمال وتنظيم انتقال سلطة، وأساسا تنظيم مفاوضات الإستقلال مع باريس ومدريد. وبعد سنة 1956، تم تجديد الثقة في البكاي مرة أخرى كرئيس أول حكومة في المغرب المستقل. ليدخل المغرب طبيعيا في فترة تدافع هائلة ومتسارعة من أجل نحت شكل غير مسبوق لتنظيم التدبير العمومي. فكان الصراع بين تيارين، واحد مديني متقدم حديث، شبابي، منتمي للحركة الوطنية، منظم حزبيا، قوي جماهيريا، وله مرجعيات كونية في تنظيم الدولة. والآخر كلاسيكي، سليل النظام المخزني القديم، يرى ضرورة إعادة تنظيم الدولة من خلال عصرنة «المخزن». وكانت ملامح الصراع والتجادب الطبيعية بالمعنى التاريخي للكلمة، تتوزع بين شكل حكومة غير واضحة الإطار المؤسساتي التنظيمي (بسبب غياب دستور للبلاد)، وبين مجلس تأسيسي قبل بخروجه إلى الوجود الملك الوطني محمد الخامس يترأسه الشهيد المهدي بنبركة (شكل من البرلمان المعين الذي من مهامه مراقبة العمل التأسيسي للحكومة الجديدة في المغرب الحديث العهد بالإستقلال، وكذا وضع القواعد لملامح إطار دستوري للمغرب المستقل). حكومة البكاي، التي كانت خليطا من الوزارء من كل الآفاق، حزبيين وغير حزبيين، كان طبيعيا أن لا تعمر طويلا، لأن شرط المرحلة وتطوراتها وتفاعل منطق الصراع بين قوى المجتمع المغربي الجديد (مجتمع ناهض) كان لابد أن يفضي إلى حكومة سياسية. فكانت حكومة أحمد بلافريج الأولى، ثم حكومة عبد الله إبراهيم غير المسبوقة. وهما التجربتان الحكوميتان السياسيتان بامتياز، خاصة حكومة عبد الله إبراهيم، التي كانت حكومة تأسيسية لنموذج المغرب الذي يجب أن يذهب بسرعة قصوى صوب نظام للدولة الحديثة بالشروط اللازمة سياسيا وقانونيا وتدبيريا (عمليا نموذج الملكية البرلمانية). لكنها حكومة ظلت تشتغل ضمن منطق الصراع داخل مربع السلطة، الذي لم يفرز بعد نصا تنظيميا قانونيا وطنيا عاما هو الدستور. بالتالي كانت الإجتهادات تتم بالحس الوطني الذي هو وقود الصراع مع بقايا الإستعمار والمصطفين في صفه من إطارات كلاسيكية للقواد والباشوات. وكانت تترجم من خلال آليات تدبيرية تأسيسية حاسمة في بناء الدولة الحديثة، خاصة ما أنجز على المستوى القانوني في مجال القضاء. ثم ما أنجز على مستوى الإقتصاد، من تحرير للعملة المغربية ومنحها الإستقلالية والمناعة، وكذا وضع مخطط اقتصادي فلاحي وصناعي يضمن الإكتفاء الذاتي الوطني ويسمح باستقلالية القرار الإقتصادي المغربي ومناعته. وهنا برزت كفاءة رجل دولة مثل المرحوم عبد الرحيم بوعبيد وبزغ نجمه السياسي أكثر. ولأن التحرك الحكومي ذاك، كانت له قوى مناهضة، وهي قوى وازنة ومنظمة. ولأن منطق الصراع تطور إلى الأسئلة الطبيعية لشكل الحكم (هل ملكية كلاسيكية مخزنية مطلقة أم ملكية حديثة مؤسساتية وبرلمانية)، فإن إسقاط تلك الحكومات السياسية كان واردا وتحقق مع نهاية عقد الخمسينات من القرن العشرين. وكان لولي العهد حينها الأمير الحسن (الملك الحسن الثاني بعد ذلك)، دور واضح وأساسي. والنتيجة هي أنه تدخل الملك الوطني محمد الخامس، ليحسم مؤقتا ذلك الصراع، بأن أصبح ليس فقط ملكا، بل أيضا رئيس حكومة، ما لبث أن تخلى عن إداراتها لولي عهده الأمير الحسن، الذي أصبح وليا للعهد، قائدا للقوات المسلحة ورئيس حكومة. وعاد تداول إسم الراحل أحمد بلافريج لتشكيل حكومة «وحدة وطنية» لم يكتب لها النجاح. ومع بداية تململ الملك محمد الخامس، لإعادة تنظيم العائلة السياسية، تأسيسا على روح النضال الوطني من أجل الإستقلال (أي روح «ثوة الملك والشعب»)، حتى اختطفه الموت فجأة، أثناء عملية جراحية بسيطة بمصحة القصر الملكي بالرباط. فدخل المغرب مرحلة تدبير حكومي جديد، سيصبح لها إطار مرجعي قانوني وتنظيمي محدد تبعا لنص دستور 1962. وتلك بداية مرحلة أخرى.