أمواج البحر الأبيض المتوسط الراغية تلطم بكل قوة جدران قلعة قايتباي الشاهقة التي شيدت مكان منارة الإسكندرية الغابرة بعدما أنارت لعقود. (فلأقف هنا, ولأرى الطبيعة مليا, شاطيء بحر رائع, أزرق, أصفر, في صباح سماؤه صافية, كل شيء مفعم بالضياء). كأن قسطنطين كفافيس كتب هذه الكلمات من قصيدته ‹البحر في الصباح› في وصف هذا المنظر بالتحديد, كنت مأخوذة بسحر المكان وبسحر كلماته أيضا أنا التي أزور مدينته الأثيرة لأول مرة باحثة عن منزله هنا بين ملايين المنازل في الإسكندرية. وبدأت رحلة البحث.. : في صبيحة يوم سبت حار جدا بلغت فيه الحرارة في المدينة 45 درجة, رحت أبحث عن منزل كفافيس. في البدء سألت كثيرا من الأصدقاء المصريين عن العنوان وأخبروني جميعهم أنهم لا يعرفون شيئا عن المكان, بل منهم من لم يسمع باسم صاحبه قط. هل هو تجاهل من الإسكندرانيين للشاعر ولشعره أيضا؟ أم هي رغبة كفافيسية بأن يظل نسيا منسيا رتب لها هو نفسه قبل رحيله؟! تركت هذا السؤال جانبا وبحثت عبر موقع غوغل هو الآخر, صحيح أن لا عنوان محدد فيه لكن على الأقل عثرت على رأس الخيط. ففي إحدى الصفحات كتب أن المنزل يوجد في عمارة خلف مسرح سيد درويش, أشهر مسارح الإسكندرية الواقع في شارع فؤاد الشهير أيضا بمنطقة الرمل. أمام باب المسرح توقف سائق التاكسي, قطعت المسافة من فندق هلنان فلسطين مرورا بشاطئ ميامي الذي خصته فيروز بأغنيتها البديعة ‹شط اسكندرية يا شط الهوى› وصولا إلى المسرح, لا يشغلني سوى مصير منزل كفافيس: هل مازالت تلك البناية قائمة أم هدمت؟ هل سأجد المنزل أم لا؟ وإن وجدته هل سيكون مفتوحا أم مغلقا؟! تركت باب المسرح على يميني ولففت إلى حارة ضيقة نتأت على جوانبها عمارات بناؤها على الطراز الروماني, ومظهرها يوحي بأنها تعيش مرحلة الشيخوخة المتقدمة. سألت أشخاصا تجمعوا حول صينية شاي وسط الحارة, نهض أحدهم بحفاوة بادية وهو يشير إلى رأس الشارع قائلا: على طول, أول يمين, أول يسار.. هناك تجدين العمارة التي يوجد فيها المنزل! عندما انتهى من وصفه, شعرت كما لو أني احتسيت كأس ماء بارد في هذا الحر القائظ, ذلك أن جوابه بدد أي شك كان لدي بخصوص عدم العثور على المنزل. وصلت العمارة المنشودة, كانت بناية ضخمة مثل زميلاتها في الحي الشائخ دون باقي أحياء الإسكندرية. تحمل الرقم أربعة, شكلها الخارجي مهتريء إلى حد ما, نوافذها المتعددة تحتفظ بأفاريزها الإغريقية, وبابها الخشبي المصبوغ بلون دم الغزال مكسور قليلا من الأسفل. على يمين الباب علقت يافطات خمس, أعلاها كانت من الرخام الأسود وكتب عليها: في هذا المنزل قضى الخمس والعشرين سنة الأخيرة من حياته الشاعر الإسكندراني ق.ب كافافيس 1863/ 1933 وكتبت نفس الجملة باليونانية أيضا. في أسفل يافطة كتب منزل كفافيس الدور الثاني وفي التي تعلوها كتب: سفارة اليونان, القسم الثقافي, متحف كفافيس. فتحت إحدى ضلفتي الباب الموارب فلاح أمامي سلم طويل بدرج عريض ذكرني بشكل العمارات التي بنيت إبان فترة الاستعمار الفرنسي في مدينة الدارالبيضاء المغربية التي قدمت منها. صعدت الدرج بسرعة إلى الطابق الثاني, وهناك على اليمين كان الباب الذي كتب في لافتة بيضاء بجانبه ‹منزل كفافيس› بثلاث لغات: اليونانية والإنجليزية والعربية. لكن الباب كان مغلقا!! كم أنت مخاتل أيها الكفافيس في موتك كما كنت في حياتك, حاضر وغائب, جلي وغير ظاهر, كائن لكن كما لو كنت غير موجود.. هل يعقل أن أعود أدراجي دون زيارة بيتك بعد كل هذا البحث المضني؟! في الإسكندرية التي احتضنت أكبر مكتبة في العصور القديمة, ولد وعاش كفافيس أشهر الشعراء اليونانيين وأميزهم, حياة الشاعر الذي كان تاسع إخوته كانت بسيطة جدا على عكس شعره الذي كان كثيفا وعميقا. رحل اليونانيون عن الإسكندرية وبقي هو في هذه المدينة التي كانت تشبهه مثلما كان يشبهها, فحياته كانت خليطا من الثقافات المتعددة مثل مدينته التي كانت مزيجا من الثقافات أيضا ومن البشر والأجناس والديانات والحضارات, لذلك استحق عن جدارة أن يلقب بالشاعر السكندري. وإذا كان الإسكندر الأكبر بنى الإسكندرية وجعلها محورا للحضارة العالمية فإن كفافيس أعطاها زخما شعريا وأدبيا عالميا وهو ما جعل السفير اليوناني في مصر كريس لازاريس يعتبر كفافيس والإسكندر الشخصيتين اللتين لا يمحى ختمهما بين مصر واليونان. داخل منزل الشاعر: ضغطت على زر الجرس. لم يتأخر الرد كثيرا فسرعان ما فتح محمد محافظ المنزل الباب وعلى محياه ابتسامة عريضة قائلا: تفضلي. من شدة فرحي مازحته قائلة: هل الأستاذ كفافيس موجود؟ اتسعت ابتسامته أكثر وقال: كفافيس غادر منذ زمن طويل لكنه موجود هنا في كل زاوية. ثم أعطاني تذكرة للزيارة لم يتعد ثمنها الخمس جنيهات. هذه الشقة التي كان يقطنها كفافيس مقابل أجر يدفعه شهريا لمالكها, تحولت بعد وفاته إلى بنسيون, وبعد سنوات من ذلك اهتدى الملحق الثقافي لسفارة اليونان في الإسكندرية حينها كوستيس موسكوف إلى ضرورة الحفاظ عليها كأثر للشاعر الراحل, فقام ضمن نشاط المؤسسة الهلينية بتحويل الشقة إلى متحف بعدما أقنع صاحب البنسيون بالتخلي عنه مقابل مبلغ مالي كبير, وأبرم عقد كراء جديد مع مالك الشقة الذي رفض أن يبيعها للمؤسسة إلا إذا أرادت اقتناء العمارة كلها. وقد أعاد موسكوف الشقة التي مازالت مكتراة حتى يومنا هذا كما كانت عليه أيام كفافيس, بعدما نجح في استعادة ما تبقى من مقتنياته ومتعلقاته الشخصية التي بيع منها ما بيع وأرسل منها إلى اليونان ما أرسل. المنزل الذي كان خاليا من أي زائر آخر, هو مثل باقي المنازل والشقق المصرية التي اعتدت مشاهدتها في الأفلام والمسلسلات, ومن النظرة الأولى تلاحظ أنه بيت زهيد الأثاث, بسيط الفرش, وشبيه أيما شبه بشعر وقصائد ساكنه طيلة الخمس وعشرين عاما, كان البيت معتما أكثر منه مضاء على الرغم من انتشار اللمبات والفوانيس العربية والأباجورات والشمعدانات والمصابيح في السقف كما في الزوايا. وهذا ليس أمرا غريبا على كفافيس الذي كان ميالا للعتمة مكتفيا بشمعة واحدة كما قال في قصيدته ‘لكي تأتي' : (شمعة واحدة تكفي, ضوءها الخافت أكثر ملاءمة, وسيكون ألطف حين تأتي أشباح الحب).رغم أنه تساءل في قصيدته الشهيرة ‘المدينة' : ( إلام أظل في هذه العتمة؟ حيث من أي وجه جئت لا أرى سوى خرائب في حياتي السود, حيث قضيت سنين وسنين, أضعتها وخربتها تماما). هذه العتمة تلف المرايا المعلقة في أرجاء البيت أيضا, فالمرآة الكبيرة التي وضعت على يمين الباب فوق طاولة عتيقة لا بريق لها, وباقي المرايا الأخرى تكاد تكون كلها غامقة اللون, ويقال إن الشاعر اختارها هكذا قصدا حتى لا تعكس وجهه بوضوح. بجوار المرآة عند المدخل يوجد حاجز خشبي مزخرف على الطريقة الأندلسية وعلى جانبه الآخر طاولة وضع فوقها تمثال يجسد وجه كفافيس وعلى مقربة منه وضع مجلد ضخم يدون فيه الزوار كلماتهم عند انتهاء زياراتهم للمنزل, وأخبرني محمد أن بحوزتهم ثلاث مجلدات ملأى. على يمين هذه الطاولة يوجد مدخل يؤدي إلى المطبخ والحمام تدلى على جانبيه ستار بلون بني غامق, بعده يوجد باب غرفة ستراتيس تسيركاس الكاتب والصحفي والصديق الذي كان يقيم فيها كلما زار كفافيس, هذا الأخير كان محور عدة كتب لتسيركاس الذي يقال إنه أفضل من كتب عن كفافيس كما أجرى معه حوارا مطولا نقله عبر مؤلفاته. وقد عرضت في الفترينات الزجاجية المنبسطة داخل الغرفة كتب كثيرة من بينها كتاب نور الدين بومبه ‹قصة الأديب اليوناني الكبير ستراتيس تسيركاس› والتي ترجمها ينى ميلاخرينودى وراجعها الدكتور نعيم عطية. بالإضافة إلى رواية ستراتيس ‹المنتدى› وهي الرواية الأولى من ثلاثية مدن جامحة وترجمها صمويل بشارة عن اليونانية وراجعها نعيم عطية كذلك. في نفس الغرفة, توجد مجموعة من الصور لكفافيس ولعائلته اليونانية الثرية التي اشتهرت بتجارة القماش والملابس قبل أن تنهار تجارتها, بالإضافة إلى كتب وضعت داخل فيترينات زجاجية مسجاة وسط الغرفة. في وسط الشقة انبسطت ثلاثة زرابي من النوع التركي يغلب عليها اللونان الأزرق والأحمر, فيما تناثرت صور كفافيس باللونين الأبيض والأسود على مختلف الجدران, تارة واقفا يضع يده في جيبه ويلف وشاحا حول عنقه وتارة أخرى مرسوما وهو يرتدي نظارة طبية. في صدر الشقة تنتصب فترينة عتيقة, تضم كما ظهر خلف زجاجها مجموعة من الكتب والأوراق. وكان للدكتور نعيم عطية حظ وافر فيها إذ وضع كتابه الشعر اليوناني القديم, إلى جانب كتابHellenic drama in performance لصاحبه الدكتور غابرييل وهبه, وإلى جانبهما وضع كتاب عن ندوات الآثار اليونانية المصرية وكانت جميعها للبيع. فيما باقي الكتب في الفترينة كانت للعرض ومن بينها ديوان ‘كفافيس شاعر الإسكندرية' والذي ترجمه عن اليونانية الدكتور نعيم عطية, بجانبها وضعت الطبعة الثانية ل ‘قصائد من كافافيس' وهي دراسة وترجمة عن اليونانية لنعيم عطية أيضا. في الرف الذي يعلوها وضعت نسختان من كتاب لكوستيس موسكوف أعدته ماريلينا عريفا وترجمه عن اليونانية صموئيل بشارة, بالإضافة إلى ديوان موسكوف أيضا POEMS OF LOVE AND REVOLUTION وبجانبه نسخة انجليزية لمجموعة من قصائد كفافيس تحت عنوان: Poems of c.p.cavafy والتي أعدها Desmond o'grady , أما في الرف العلوي فوضع كتاب بعنوان THE KAVAFIS INTERNATIONAL SYMPOSIUMS وبجانبه تم وضع كتابين آخرين أصدرتهما سفارة اليونان في مصر. في غرفة نومه وضع إلى جانب سريره إبريق قصديري بلون الزهر رسمت عليه أزهار بالأبيض والأخضر فوق صحن قصديري أيضا, إلى جانبه حامل خشبي للمصحف الشريف دون أن يكون عليه مصحف. في الزاوية المقابلة للسرير وضعت كومودينة بطوابق, على يمينها كرسي وعلى يسارها كرسي وفوقها وضعت مزهريتان من زجاج أحمر وأبيض فيهما عشب يابس يتوسطهما إبريق نحاسي من الطراز العثماني.. وصوره ملأت جدران غرفة النوم هي الأخرى. نافذة الغرفة انسدلت عليها ستائر بيضاء اللون تخفي مساحات من الزنك والمتلاشيات والنفايات المتراكمة فوق السطوح, أعتقد أنها كانت حديثة النشأة ولم تكن على ما هي عليه الآن أيام كفافيس الذي نقل أصدقاؤه قوله في إحدى المرات بينما كان ينظر من نافذة بيته: (أي مكان أجمل من هذا يمكن أن أستقر فيه وسط مراكز الوجود هذه, مبغى وكنيسة للغفران ومستشفى يموت فيه المرء). وعلى الأرجح قد تكون هذه النافذة ملهمته عندما كتب قصيدة ‹النوافذ› التي قال فيها: (في تلك الغرفة المعتمة هنا, أي أيام منهكة قضيت, صاعدا هابطا كالمذهول لأجد النوافذ, إن فتح نافذة واحدة, حسب, سيكون ارتياحا لي, لكن ليس لهذه الغرفة نوافذ). إلى جانب الحائط المقابل للنافذة وضع سرير كفافيس وكان بدرابزين نحاسيين عند الرأس كما عند الأرجل وهو سرير روماني التصميم. يتكون الدرابزان معا من أعمدة حديدية متوازية, وعند الأرجل اشتمل السرير على صليب توسط الدرابزين فيما علق بساط ذو نمنمات إيرانية أو تركية على جانب الجدار بحذاء السرير. الغرفة المقابلة لغرفة النوم كانت عبارة عن صالون, وبالإضافة إلى صوره التي غطت الجدران هنا أيضا, توجد مجموعة من الكراسي ذات الطابع الأندلسي موزعة على أنحاء غرفة الاستقبال لكن أكثرها لفتا للانتباه هو كرسي كان أعلاها جميعها, وعلى عكس مضربات الكراسي الأخرى التي كانت باللون الأحمر كانت مضربة هذا الكرسي باللون الأصفر وباطن ظهره بالأصفر كذلك, وفي أعلاه نحت من نفس المادة الخشبية التي صنع منها شعار تتوسطه علامتا صليب, ويحيط به من كل جانب حصان, أما مقبضا الكرسي فقد انتهى كل واحد منهما برأس شبيه برأس أفعى. في زاوية من الغرفة تم وضع قناع الموت الخاص بكفافيس, وهو تمثال من الجص درج اليونانيون على صنعه عند وفاة الشخص, من خلال سكب مادة الجص أو الشمع أحيانا على وجه الميت بهدف الاحتفاظ بصورة طبق الأصل عن وجهه وهذا ما تم فعله مع كفافيس لدى موته أيضا. ولعل ما يثير الانتباه أكثر في الغرفة هو لوحة زيتية ضخمة علقت في إطار خشبي بني يتماشى مع لون الأرضية الخشبية يظهر فيها شخص يرتدي زيا عسكريا شبيها بزي الباشاوات ويضع طاقية حمراء وقد تدلى على خصره سيف في غمده, ويقول محمد محافظ المنزل إن الصورة لصحفي يوناني اسمه نيكول هيكل عاش في الإسكندرية في نفس الفترة التي عاش فيها كفافيس وكان أول من أسس جريدة ناطقة بالفرنسية في مصر, وحسب محمد أيضا فإن الصورة لم تكن ضمن أشياء كفافيس لكن تم وضعها في المنزل بعدما أهدتها إحدى السيدات للقسم الثقافي بالسفارة اليونانية. في الغرفة الخامسة والأخيرة والتي تجاور غرفة نومه, عرضت كتب كثيرة في فترينات زجاجية وضعت في الوسط, من بينها كتب بالانجليزية عن حياة كفافيس وعن أعماله الكاملة وقصائده بالفرنسية بتقدمة من EDMOND JALOUX من الأكاديمية الفرنسية, وكتب بالبرتغالية والإسبانية والروسية والسويدية والعبرية والتركية والإيطالية والأذربيجانية واليابانية والألمانية والبولندية والهولندية والعربية طبعا وكان من بين الكتب التي بالعربية ديوان ‘الضفاف الأخرى' الذي ترجمه الشاعر والمترجم العراقي المقيم في المغرب سعدي يوسف والأعمال الشعرية الكاملة لقسطنطين كفافيس التي ترجمها وقدم لها المصري رفعت سلام بعد عمل جهيد استلزم منه خمس سنوات. رجل الاقتصاد الذي أصبح شاعرا: يعتبر كفافيس أبرز شاعر يوناني في عصره, بل الشاعر اليوناني الأكثر تأثيرا في القرن الذي عاش فيه, لم يكن شاعرا غزير الإنتاج ولا مدرار الكتابة, لكنه كان يكتب وفق نسق فريد وخاص به فقط, كان ينتج قصائد صغيرة الحجم وقليلة الأبيات, محدودة الكلمات لكن كبيرة المعاني, لنقل إن قصائده كانت مركزة وموجزة ودقيقة, يستعمل فيها أصغر عدد ممكن من الكلمات ليرسم لنا أكبر عدد ممكن من الصور, ما قل ودل هذه هي قصائد كفافيس. في مقاله كتب دانييل روندو إن كفافيس (زاول لفترة من الزمن الصحافة ثم لم يلبث أن أصبح موظفا ثم رئيس قلم في وزارة الهجرة وأسر أحد زملائه إلى كاتب سيرته روبير ليدل: بأن وتيرته في العمل كانت محدودة) وربما هذا ما يفسر تقلبه بين عدة وظائف ومهام إلى جانب أنه كان على الأرجح دائم البحث عن العمل الأقرب إلى نفسيته وطبيعته المعقدة, وقد عمل كفافيس في المحاسبة كما عمل موظفا في مصلحة الري التابعة لوزارة الأشغال العامة وسمسارا في البورصة, وقد شاهدت خلال زيارتي لبيته صورة قديمة لبورصة الإسكندرية التي كان يعمل فيها والتي تم هدمها فيما بعد. ولعل طبيعة عمله انعكست بشكل واضح على علاقته مع اللغة, إذ أوجد لنفسه قاعدة قد يصح أن نطلق عليها قاعدة اقتصاد اللغة, فأتت كتابته وظيفية وشعره خاليا من أي صور مجانية, وكانت قصائده زهيدة وقصيرة لا تحتوي على لغة زائدة أو مفتتنة بنفسها, نصوصه غير مطولة وفيها انعكاس لكونه رجل اقتصاد يعرف حق المعرفة أن القيمة لا ينتجها الكيف بل تنتج في ظل توازن دقيق بين الكم والكيف وبين العرض والطلب, وأنه في اللغة يتم إنتاج هذه القيمة بتوازن دقيق بين الدال والمدلول وهو ما كان يتقنه كفافيس غاية الإتقان. إلمام كفافيس بالاقتصاد وعمله فيه لا ينعكس فقط على لغته وقصائده بل يطال أيضا شقته الإسكندرانية التي عنوانها التقشف كذلك, لا وفرة في أثاثها ولا بذخ في ديكوراتها, المكتبة صغيرة والأثاث قليل والسرير ضيق والكراسي معدودة.. لم تكن حياته شيئا وعمله الإبداعي شيئا آخر مثل كثير من المبدعين, بل كانت حياته صورة لعمله الإبداعي وعمله الإبداعي كان صورة لحياته, ومن خلالهما كرس مقاومته الشديدة لصلف الحياة وتطرف العالم بطريقته الخاصة ووسيلته الوحيدة للمقاومة وهي الكتابة. الإسكندرية حياته وموته: المكان كان مؤثرا في حياة كفافيس الذي كتب عن علاقته المعقدة مع هذا العنصر الذي يحملنا ونحمله أيضا, وهذا ما ذهب إلى قوله بمهابة في قصيدته الشهيرة ‹المدينة› (لن تجد أرضا جديدة, ولا بحارا أخرى. فالمدينة ستتبعك, وستطوف في الطرقات ذاتها, وتهرم في الأحياء نفسها. وتشيب أخيرا في البيوت نفسها) كفافيس صنيعة المكان وقد فشل في العيش في أي مكان آخر غير الإسكندرية التي غادرها وعاد إليها, طاردته أينما كان, لاحقته أينما حل مثل ظله, شكلت له ولعشاقها الكثر الجنة والخراب, الحياة والموت, الفتنة والسلام, البداية والنهاية, وكلما حاولوا الابتعاد عنها عادوا إليها بعاطفة أكبر وانغماس أشد. وهذا ما حدث مع كفافيس الذي كان عاشقا للإسكندرية رغم خرابها, كانت هذه المدينة قادرة على تأجيج مشاعر إنسانية قوية في نفسه, خصوصا وأنه كان شاهدا على الخراب وعلى وطأة برابرة الاستعمار البريطاني التي رزحت تحتها مدينته, فكان أن كتب واحدة من أعظم قصائده وهي ‹في انتظار البرابرة› التي تختزن كل تلك المشاعر التي عاشها (لم غدت عابسة وجوه القوم؟ لم تخلو الشوارع والساحات سريعا؟ والكل يعود إلى داره غارقا في الفكر؟ لأن الليل قد هبط ولم يأت البرابرة, ولأن أناسا قدموا من الحدود وقالوا إن ليس ثمة برابرة. والآن ماذا نفعل بدون برابرة؟ لقد كان هؤلاء نوعا من حل) قصيدته الشهيرة هاته قال فيها باختصار إن الشعوب يصنع لها دائما عدو لتخويفها به, وأن صناعة الغول آلية من آليات استغلال المجتمعات وإبقاء الشعوب في القبضة, لا يوجد برابرة بل تتم صناعتهم, كل دولة تصنع غولها وتضبط الناس بالشرور التي تقول إن الغول سيأتي بها. هذا باختصار هو مضمون هذه القصيدة العالمية التي اتخذها الكاتب الجنوب إفريقي الحائز على جائزة نوبل للآداب جون ماكسويل كويتزي روحا لروايته التي حملت نفس العنوان "في انتظار البرابرة". كتب كفافيس في قصيدته المدينة: (ستؤدي بك السبل دائما إلى هذه المدينة, فلا تأملن في فرار, إذ ليس بك سفينة, ولا من طريق, وكما خربت حياتك هنا, في هذه الزاوية, فهي خراب أنى ذهبت).. فرغم توقه إلى خوض تجربة الحياة في مدينة أخرى والعيش في جزيرة يونانية تعيده إلى الجذور القديمة فقد ظلت الإسكندرية المرأة الثابتة في حياة كفافيس وإن عشق بعدها فإنه يعود إليها, هي الحب الحقيقي والأول والأخير, هي عالمه الشعري اللامتناهي. وهذا ليس غريبا على مدينة مشتهاة مثل الإسكندرية التي أسقطت كثيرا من المبدعين في حبائلها, ولعل أبرزهم الشاعر والكاتب الانجليزي لورانس داريل الذي أصبح سكندريا قحا وكتب في محبوبته رباعية الإسكندرية متغنيا بمفاتنها وكاشفا لأسرارها وتاريخها. كفافيس وتقاطعات مع بيسوا وكافكا: الشاعران قسطنطين كفافيس وفيرناندو بيسوا, والكاتب فرانز كافكا, ثلاثي منفصل توحده أشياء كثيرة مشتركة, هذا الثلاثي عاش في الفترة ذاتها تقريبا وهي بدايات القرن العشرين. كافكا ولد في 3 يونيو 1883 وبيسوا في 13 يونيو عام 1888 وكفافيس في 29 أبريل 1863, وهذه الفترة كما هو معلوم شهدت حربين عالميتين مدمرتين سقط خلالهما عدد لا يصدق من القتلى يقارب 98 مليون شخص. حينها اتضحت بجلاء الهمجية التي تحيط بالبشرية وإن ظلت متسترة وراء حجاب القيم والحداثة والأنوار, لذلك فإن من جايل هذه المرحلة لاشك أنه عاش تمزقا كبيرا, وهؤلاء الثلاثة عاشوا هذا التمزق خلال هذه الفترة المظلمة من تاريخ البشر. سواء كفافيس أو بيسوا أو كافكا كان موظفا بسيطا ومنطويا على نفسه, يكاد الواحد منهم يكون بدون أي مزايا تثير الانتباه أو تلفت اهتمام الناس إليه, لكن في مقابل هذا الهدوء المسيطر خارجيا كان الداخل حيا متوهجا وعاجا بالطاقة والأفكار, طاقة إبداعية هائلة جعلت كلا منهم يكتب أبدع وأعظم النصوص الأدبية والشعرية في العالم, فمحدودية علاقتهم بمحيطهم الخارجي كان يقابلها إدراك كبير وانغماس عميق في هذا العالم الذي أدركوا كنهه وحقيقته في دواخلهم, وهذا معطى يؤكد أن الإنسان أولا وأخيرا هو جوهر داخلي لا مظهر خارجي. النفور من السفر كان قاسما مشتركا بين هؤلاء الثلاثة أيضا, كان قطعة من العذاب بالنسبة لهم ولا أحد منهم كان يفضل السفر سوى عبر كتاباته, بل إن الشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا على سبيل المثال لم يخطو خارج الثلاث كيلومترات من لشبونة خلال حياته كلها.. هم الثلاثة عاشوا في نفس المكان طوال حياتهم فيما كان داخلهم عبارة عن رحلة طويلة لا تنتهي, وكلهم اعتبروا أن أجمل رحلة هي تلك التي يعيشها الشخص في داخله. كفافيس كان يشعر أن البشرية هرمت وأصبحت في طور التحلل, وهي نفس النظرة التي كانت لدى كافكا الذي كان يعتبر أن الناس يعيشون العقاب دون أن يتسنى لهم البحث عن الجريمة التي أوجبت هذا العقاب. يقول روهان باموق في مقالة نشرت في النيويورك تايمز ‹في قصائد كفافيس كثير من الطاعنين في السن، فكفافيس لم يكن يثق في المستقبل، وتلك آية أخرى من آيات حكمته.' السمة الثالثة المشتركة بين هذا الثلاثي المتفرد هي أن أيا منهم لم يكن مولعا بالنشر, فأهم كتب بيسوا ‹اللاطمأنينة› صدر بعد وفاته وليس في حياته, كافكا أحرق ما يربو عن تسعين بالمئة من أعماله وحتى وهو على فراش الموت كتب رسالة لأحد أصدقائه يرجوه فيها رجاء أخيرا بأن يحرق كافة مخطوطاته غير المنشورة لكن صديقه ذاك لم يفعل لحسن الحظ. أما كفافيس فلم يستعجل هو الآخر نشر أعماله الشعرية, ورغم كونه بدأ الكتابة في سن مبكرة إلا أنه لم ينشرها إلا وهو في الخمسينات من عمره, وكان يمزق أيضا قصائده وكلما كتب مثلا سبعين قصيدة خلال عام واحد كان يترك منها أربعة أو خمسة قصائد فقط, وحتى عندما طبعت قصائده لأول مرة كان يكتفي بتوزيعها على أصدقائه فقط دون أن يعمل على إرسالها إلى النقاد أو الجرائد. هذه الخصلة التي ميزت هذا الثلاثي بشكل خاص تنم عن شعور طاغ لدى هؤلاء الكبار بأن العالم أسوأ مما يحتمل كتاباتهم أو أن كتاباتهم لن تغير شيئا في عالم أضحى أكثر سوءا وصلافة, وهو ما يكرس تمزقهم بين هذا العالم الصلف وبين ثرائهم الداخلي المشبع. في الحب أيضا كانوا على قلب رجل واحد أو كادوا, كافكا وبيسوا عاشا معا قصة حب كانت منذورة للفشل منذ بدايتها, كافكا عشق فيليس بيير وجمعتهما علاقة حب طوال خمس سنوات قبل أن تنتهي نهاية فاشلة وقد تبادلا خلال تلك الفترة قصص حب كافية لتجمع ضمن مجلد كبير لاحقا. كان كافكا وفق ما أكده صديق له يدعى برود معذبا برغباته الجنسية, إذ كان يعتبر الجنس عملية مرعبة ومخيفة بل كان يذهب حد اعتبار العملية الجنسية عملية قذرة, فيما كان فيرناندو بيسوا يكاد يكون بدون حياة جنسية, وحبه الكبير والغريب والفاشل لأوفيليا التي كانت خطيبته لفترة قصيرة انتهى أيضا نهاية غير سعيدة, بقيت فقط الرسائل التي تبادلاها خلال فترة العشق والتي نشرت لاحقا في كتاب أيضا بعدما جمعتها ابنة أخت أوفيلييا. هذا النكوص العاطفي الذي عاشه كل من كافكا وبيسوا تقاسمه معهما أيضا كفافي الذي عاش دون قصة حب حقيقي, بل كان ذا ميول جنسي مثلي وهو ما كان يشعره بالعار خشية أن ينكشف أمره ويعلم الناس بحقيقة انجذابه للغلمان. كفافيس, وهنا نعود إلى خصلة التخفي التي ميزته, كانت حياته كلها تخف دائم, أخفى ميوله الجنسي مثلما أخفى كتاباته وقصائده, عاش في الإسكندرية كأنه لا يعيش فيها اكتفى منها بشقته وحانة صغيرة كان يتردد عليها وعلى مكتب عمله فقط, (الجنتلمان اليوناني الذي يرتدي قبعة من القش كان يغادر شقته ليلتحق بمكتب العمل. قال دانييل روندو) حتى في قصائده لم يتخلى عن تخفيه, فبعث رسائل وصاغ أفكارا تحت ستار الثقافة اليونانية القديمة والتراث الهليني فكان ينتقد المسيحية والوطنية والشوفينية, ويعبر عبر شعره عن التلاقي المشترك لعالمين اثنين, اليونان الكلاسيكية والشرق الأوسط القديم منتجا بذلك الأدب السكندري الذي كان كفافيس ميالا فيه إلى الحفاظ على التوازن, لا يعترف بمواطنة عربية كاملة ويستحضر العصور القديمة لحتى يخيل إليك أنه يعيش في العصور الهلينية وأن الزمان توقف به هناك.. كان يونانيا عاش في الإسكندرية وسكندريا عاش في اليونان! وانتهت الرحلة..! في قصيدته الشهيرة إيثاكا قال كفافيس (ضع إيثاكا نصب عينيك دائما, اجعل بلوغها غايتك, لكن حذار أن تستعجل الرحلة..) بعد سبعين عاما خاض خلالها الرحلة وأثبت أن مسارها أهم وأجمل بكثير من الوصول إلى هدف الرحلة.. وصل كفافيس إلى النهاية وهدأ صوته إلى الأبد يوم التاسع والعشرين من أبريل عام 1933. مات كفافيس إثر معاناة طويلة مع مرض سرطان الحنجرة, ودع الإسكندرية التي فقدته بعدما رقد طويلا في المستشفى اليوناني بها, ذاك الذي تنبأ بوفاته فيه قبل سنوات من موعد الرحيل, وقد علقت في منزله ثلاثة صور للمستشفى واحدة تظهر بابها الخارجي وصورتان تظهران الغرفة والسرير اللذين احتضناه إلى أن فقدته الإسكندرية.. (أنصت إلى متعتك الأخيرة, إلى الأصوات, إلى الآلات المدهشة للفرقة الغامضة وقل وداعا, وداعا للإسكندرية التي تفقدها). عدت إلى مدخل باب المنزل, دونت كلمة في سجل الزوار, شكرت المحافظ الذي ظل محافظا على ابتسامته منذ بداية الزيارة, ثم غادرت منزل كفافيس يخامرني شعور بأن رحلتي إلى الإسكندرية اكتملت.