غالبا ما كان مفهوم الحكامة في حلته الضبطية داخل المقاولة يتسم بالجفاء و عدم الوجدانية، إلا أنه بدخول عالم التربية أصبح في بعض السياقات موضع انتقاد: بحيث ارتفعت أصوات بعض الباحثين منددة بمخاطر اعتماد مشرع للمقاربة الحكامية في الأوساط التربوية بمقدار غياب تفكير حقيقي في أسسها الايستمولوجية، و بمقدار هيمنة منطق السوق و الاقتصاد على عالم مجال التربية، بمقدار هشاشة الأوساط السسيولوجية و الاقتصادية التي ستعتمدها مهما كان الثمن لتنمية روح تدبيرية منطقية يكون اعتماد هذه المقاربة مخاطرة لا شك فيها. إذا أرادت المنظومة التربوية استعمال مفهوم الحكامة في إقامة توازن بين غايات المدرسة الاستعمالية و المعرفية و الثقافية فيلزمها أن لا تنحاز إلى إمبريالية زمن يحمل وصمة التنافسية عليها على المستوى التعاقبي الدياكروني أن تقيم تقاطعا بين الزمن الأفقي، المكون من المعارف المحمولة في كل تسير و بين الزمن العمودي الذي يربط بين السياق و الحكامة المعتمدة فيه، إذن هنا يمكن تحقيق زمن فيه الزواج بين السياق و الحكامة. قبل اليوم و بعشرات السنين لم يكن مفهوم الحكامة قد استقر في الحقل التربوي على الرغم من أنه قد أدخل و منذ زمن بعيد في تخصصات أخرى، و ما زال يعاني من التأثير القوي للتسيير الكلاسيكي القائم على الفردانية إلى درجة تجعله يكاد لا يختلف عنه في شيء و خصوصا في السياقات التي لا تناسب تطبيقه. إن اختيار الاعتماد على منطق الحكامة لتسيير الشأن التربوي ليس أمرا مجانيا و لم ينشأ من فراغ، إنه استجابة لضغط سياسي أكيد يبين أن المقاربة التيلورية لتنظيم الشغل في المقاولة تقوم على مبادئ التركيز على الإنتاج الكثير بالتكلفة القليلة و التسيير في هذا المجال يستلزم الضبط و التحكم في سيرورات العمل المقاولاتي، و قد استمر هذا الوضع حتى العقد الأخير و ضمن هذا المنظور ظل التسيير و التدبير يعتمد على النتائج. لقد سمحت مقاربة الحكامة في عالم التربية بتنمية مقاربات تنسجم و الانتظارات الاجتماعية ألم يكن Mindere خلال تلك الفترة يعرف الحكامة بأنها عملية تغيير سلوك التسيير الإداري فقط. بهذا الاختبار انحازت الحكامة بعزم إلى المنظور السلوكاني التقليدي بتنظيم التسيير الإداري و تنظيم التعلمات في وحدات متسلسلة لم يكن بوسع المدرسة أن تنكر اقتداءها بالنموذج التيلوري و هو النموذج التنظيمي للعمل المهيمن في المقاولة. لقد كانت المدرسة بذلك معلنة عن تبعيتها للمنطق المعمول به في عالم المقاولة ضمن منظور للمر دودية، لقد ألهمت التبلورية و النزعة السلوكية الحديثة التيار القوي لمقاربة السائد منذ عقود في عالم التربية. أما اليوم فإن تعقد الوضعيات المهنية أصبح يتطلب التسيير الكلاسيكي المنظم حكامة من نوع خاص تتماشى مع الحقل الذي ستطبق فيه و التخلص من مقاربة السير الكلاسيكي المستمدة فلسفتها من تعاليم بيداغوجية التمكن ,لكن ما سبق لا يعني البتة التخلي عن فكرة التسيير و إنما الذي عدل هو استعمالها . لقد سبق أن تعرضت فكرة التسيير الكلاسيكي للمراجعة من حيث الاستعمال. و قد حصلت هذه المراجعة حتى قبل الظهور الصاخب لمفهوم الحكامة أداة منظمة في مجال التدبير البيداغوجي لقد قبل Perreroud و استعمل فكرة الحكامة البيداغوجية و احتفظ بفكرة الحكامة أداة منظمة للمجال البيداغوجي فكرة التسيير الكلاسيكي في مجال التسيير الإداري. تبقى صالحة دوما شرط أن يتم بتعدد إطار آخر ضمنه تسند لها فيه وظائف و استعمالات مغايرة لما كانت عليه كالتوافق و الاشتراك و التشارك و التفاوض... بالإضافة إلى هذا ليس للسلوكية الفردانية أن تحتكر مفهوم التسيير و لا مفهوم الحكامة فيه ذلك أنه بالإمكان المزاوجة بين المفهومين داخل أبدالات أخرى دون أن تؤدي المزاوجة بالضرورة إلى تناقض و تضاد، إذا كان إصلاح المناهج الدراسية لا يعد و كونه مسألة كلمات, فلماذا إذن هذا التوجه نحو مقاربة الحكامة؟ يبدو أن المقاربة بالحكامة قادرة على تقديم مجموعة من الإجابات الملائمة للانتظارات الاجتماعية التي تبحث عن أشخاص بوسعهم التأقلم مع هذا المفهوم الجديد بحيث نلح على أن الحكامة يجب أن تطبق في سياقات تناسب الأهداف القائمة عليها ,فمثلا الحكامة في التدبير الإداري تروم تحقيق انسجام بين آليات التنظيم و التنسيق و الأهداف المنشودة أي بمعنى آخر تأقلم بين ما هو موجود مع المنشود، لذا فالواقع الاجتماعي و الاقتصادي الذي يميز مجتمع مميز بخصوصياته يلح على التسيير و التدابير أن يواكب و يوافق خصوصيات هذا المجتمع، فمثلا في ظل مجتمع غير مهيكل و مؤ طر على استساغة الأنماط المؤطرة للحكامة كالتشارك مثلا ,فكيف سيشارك المجتمع مع المؤسسات في ظل غياب هذا المفهوم إذ لا مناص هذا من اجتتات مفهوم الفردانية أولا و التسلط في اتخاذ القرارات و حب النفس و انعدام الضمير المهني...إلخ. لنأخذ مثلا التفاوض كمفهوم مؤ طر لمفهوم الحكامة فهل في ظل مجتمع يتعصب لآرائه مازالت تطغى عليه النزعة الذاتية أن يتفاوض أفراده فيما بينهم حول المصلحة الفضلى التي تجمعهم؟ إن مفهوم الحكامة ضمن مجال التربية يجب أن ينقى الميدان من الالتباسات الأولى للمفهوم على مستوى استقراره في أذهان الأفراد و الجماعات بحيث يرجى أن تقترح مقاربة حكامية منسجمة مع خصوصيات المجال التربوي بكيفية تجعلها قابلة للاستعمال للتنظيم الإداري و البيداغوجي و التخطيطي للبرنامج بنظرة حكامية استباقية لما قد يشكل عائقا أمام سيرورة هذا المجال و ذلك بأن تقترح و تسمح للمدرسات و المدرسين بتعلم كيفية الإبتعاد عن التسيير الإداري و البيداغوجي الكلاسيكي و اعتماد التسيير الحكامي وفق السياقات و الوضعيات و الأزمنة التي يستعمل فيها هذا التسيير. إطار نظري ينقصه التماسك : تشكو مقاربات مفهوم الحكامة، و هي موضوع شبه إجماع في حقل التربية، من غياب إطار نظري كامل، لقد غازل عديد من المتخصصين في التربية هذا المفهوم، و ذلك منذ سنوات، غير أن مناطق ظل مازالت قائمة لم تنل بعد حظها من استعمال هذا المفهوم، و اليوم هذا المفهوم كلمة تتردد على الشفاه تبدو و كأنها أمر نفيس كل يطلب الحصول عليه، لكن ما حقيقة هذا المفهوم؟ على الرغم من أن جملة من الموافق تبدو متباعدة , فإن نوعا من التوافق يبدو أنه يحيط بتعريف المفهوم ، لكن هل هو كاف؟ يقترح عديد من الباحثين و المنظمات الرسمية أحيانا مقاربات ذات طابع فضفاض فمنظمة التعاون و التنمية الاقتصادية على سبيل المثال تعتبر الحكامة بأنها « القدرة على الضبط و تحسين الإنتاج» هذا التعريف فضفاض يطوي في طياته مفاهيم كلية بعالم المقاولة و مفاهيم تليق بعوالم أخرى. و قد نجد الحكامة عند D'Haimant 1988 « هي مجموعة آليات و صناعات و درا بات بتجويد الإنتاج و تسمح بأداء دور أو وظيفة أو نشاط ما دورا سليما.» و يحاول آخرون تدقيق التعريف طلبا لمقاربة أدق لمفهوم الحكامة و ذلك بفعله تحديدا عن مفاهيم تحاقله كمفهوم العقلانية في التسيير و الضبط و التمكن، الإحاطة...، إذن فالحكامة في تصور هؤلاء لها طابع التأليف بين آليات إذا تم تنسيقها سمحت بإدراك تسيير و تدبير معقلن و مضبوط يروم تحقيق إنتاج جيد بأقل تكلفة. إذن حسب هذا التصور فالمفهوم هنا فضفاض و لا يمكن لنا تبنيه في مواقف التربية و التعليم لأنها مجال يضاهي مجال الاقتصاد في حقوله التي يتعامل معها بحيث نزكي الطرح الذي يقول بأن لكل مقام مقال إذن فمجال التربية لا يمكنه تبني هذا المفهوم بهذا التصور الفضفاض. لذا نقترح على هذا الحقل أن يتبنى حكامة أكثر خصوصية تتوفر على مجموعة متنوعة و غنية بالمعارف التنظيمية و التنسيقية و الصناعات و التصرفات النموذجية و الإجراءات المعيارية و أنماط من الاستدلال الشيء الذي يتوافق و هذا الحقل لأن الإنتاج المقاولاتي ليس هو الإنتاج المدرسي. والخلاصة فإن الصيغ التقليدية للتسيير الإداري و التربوي، تلك التي أنتجتها دوافع سياسية ذات المنزع الفرداني لم تعد ملائمة. و عليه يصبح غير مجد الاكتفاء بهذه الصيغ كما هي بل يجب تطعيمها بمنطق حكامي يتوافق مع سباق التسيير و التعلم. و أريد أن أنبه المدرسات و المدرسين إلى أن ما قدم لهم من آليات تنضوي تحت حجة الحكامة يشكو من عدم الانسجام فما عليهم إلا المزاوجة بين ما هو جيد و مناسب من النظام التسييري الكلاسيكي و بين ما هو جيد و مناسب من نظام التسيير القائم على مبدأ التواصل و الاشتراك و التشارك و التفاوض... للتوصل إلى نظام حكامي موافق لسياق التسيير و التعلم. مازالت الحاجة قائمة إلى بحث و تنظير و مفهمه، تمكن من تعريف نموذج سليم لتطوير مقاربة الحكامة في الوسط المدرسي. إن المنظورات المعلن عنها في النصوص و البرامج كلها أمور هامة وواعدة و الواجب ألا يتم إفسادها بالغلو في تعميم المفهوم رغم وجود ضبابية فيه.و الحال أن الأدوات مازالت في طور البناء على أساس أن المؤشر الأساسي لمجموع هذه الصعوبات هو اسنداد السبيل حاليا أمام كل تقييم للحكامة نفسها، من أين لنا بالتقييم إذا كنا في جهل بموضوع التقييم؟ * أستاذ باحث في علوم التربية