يعالج فيلم «طواف فرنسا» للمخرج الفرنسي، من أب جزائري وأم سودانية، رشيد جعيداني قضايا هامة وشائكة تهم فرنسا اليوم وفي المستقبل أكثر من أي زمن مضى، خاصة وقد سبق له أن خَبِرَ الساحة السمعية البصرية الفرنسية جيدا؛ إذ مَثَّلَ عدة أدوار في السينما والتلفزيون. يطرح العمل السينمائي الجديد للمخرج رشيد جعيداني المعنون ب"طواف فرنسا" (إنتاج 2016) سؤال الهوية داخل المجتمع الفرنسي الذي انعكس عليه ماضيه الاستعماري بشكل لم يكن متوقعا، فالمكون المغاربي والأفريقي بات جليا داخل مختلف مجالات الفعل الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي. وهو الأمر الذي يبسطه الفيلم بشكل مباشر تارة، وغير مباشر تارة أخرى عبر سلسلة من الأسئلة المأزومة، غير البريئة، المشحونة برواسب التاريخ، والحاملة لقلق الحاضر والمستقبل، والمتوجسة من مآلات التمزق، ومفاجآت الهوية الهجينة، وذلك على لسان مخرج من ذوي الهويات المركبة، الذي انتبه إلى قيمة الفعل السينمائي في التعبير عنها منذ أن بدأ مشواره الفني كمساعد في الإخراج في فيلم "الكراهية" (1995) للفرنسي ماتيو كاسوفيتس. ودون الأفلام، تردد المجلات الفرنسية المتخصصة أسئلة كثيرة من ذلك النوع، وأهمها: من هو الفرنسي؟ ما معنى أن تكون فرنسيا؟ ما التحولات الجذرية التي يعرفها المجتمع الفرنسي اليوم؟ إلى أين تسير فرنسا؟ مقابلة بين جيلين يقابل المخرج بين جيلين مختلفين من الممثلين، وهما جيرار ديبارديو وصادق المنحدران من منظومتين ورؤيتين مغايرتين للدلالة على حصر فرضية الصراع الذي تؤول إليه كل مشكلات المجتمع اليوم، والمتمثلة في صعوبة تعايش الفرنسيين من ذوي الأصول الغربية مع غيرهم من الإثنيات المختلفة؛ إذ صرنا نلاحظ أن كل المشكلات تشير أو يتورط فيها أبناء الفئة الثانية، الحاملين لأفكار مضادة لنمط العيش على الطريقة الغربية أو الذين يحسون بالتمييز والعنصرية والكراهية والإقصاء وغيرها. كان ديبارديو حاضرا، ولكنه لم يكن مقنعا، فشخصية الفنان التشكيلي كانت مُتَجَاوِزَة له بالنظر إلى عدم قدرته على تقمصها كحالة نفسية ووجدانية، وعدم اشتغاله على الجانب الحركي المتعلق بها خصوصا وأن الفنان التشكيلي له طريقة خاصة أو طرق متعددة تتعلق بطريقته في الإمساك بالفرشاة التي يرسم بها. وهنا تصبح كفاءة بعض المخرجين الذين يختارون كبار نجوم السينما في أعمالهم الأولى، فيتسيدون عليهم ويتجاوزونهم فيبتعدون عن عمق الشخصيات التي يمثلونها. اعتمد المخرج تقنيات أفلام الطريق التي ترتكز على الكاميرا المتحركة، الموضوعة في الغالب على السيارة، وتنويع زوايا الالتقاط التي تساهم في تكثيف الحركة، وخلق جمالية تُحَرِّكُ الثابت وتجعله متحركا وسائرا مع إيقاع الفيلم كما هو معروف في بعض الأفلام المشابهة مثل "نيويورك – ميامي" (1934) للمخرج فرانك كابرا، و"العنزة" (1981) لصاحبه فرنسيس فيبر. لم يكن السفر إلاّ مناقشة عمومية لتلك الطرق الملتوية والغريبة التي تمنح بموجبها فرنسا المواطنة الجزئية أو المشروطة لبعض "مواطنيها"، وهو ما لا تودّ السينما الفرنسية تناوله أو تتحاشاه عن قصد لتبتعد عن الحرج. غالبا ما تكرس الأفلام التي تهتم بالفنانين التشكيليين بحثها السينمائي لخلق عالم منسجم مع العوالم اللونية للفنان موضوع الفيلم، فتقترح على المتفرج رؤية منسجمة مع أعماله الفنية، وبما أن الفيلم مخصص لاقتفاء أثر الفنان التشكيلي الفرنسي جون فيرني (1714-1789) حين قام بجولة فنية حول موانئ فرنسا تلبية لطلب لويس الخامس عشر الذي أراد أربعا وعشرين لوحة تعكس أهم الأنشطة المميزة للمدينة، فما كان منه إلاّ أن أبدع خمس عشرة منها فقط، ويتعلق الأمر بالمدن التالية: مرسيليا، باندول، تولون، أنتيب، سيت، بوردو، بايون، لاروشيل، روشفور ودييب، ودارت اللوحات الأخرى حول بعض التفاصيل من نفس المدن. ونالت تلك الأعمال شهرة كبيرة نتيجة القدرة الهائلة التي أظهرها الفنان على مستوى التقاط التفاصيل، وهندسة فضاء اللوحة، والمزج بين الألوان إلى أن صار واحدا من أهم رسامي البحار والمحيطات. في سياق الاهتمام بالفن داخل السينما، كان فن "الراب" حاضرا ما دامت قصة الفيلم مبنية في جزء كبير منها على مرافقة المغني الشاب فاروق، ابن العشرين حَوْلا، وهو المضطر إلى الاختفاء لبعض الوقت عن مدينة باريس نتيجة تصفية حسابات ضده، وتعويض ابن الفنان الذي اعتنق الإسلام ضدّ رغبة أبيه، والعمل سائقا لسيارته ومساعدته أثناء رحلته على إنجاز اللوحات الفنية المطلوبة. أهمية الأغاني كانت الرحلة ذريعة فيلمية لاختبار مدى قدرة الفرنسي الأصلي على تحمل عقلية مغايرة ذات مرجعيات ثقافية وعقدية مختلفة. كانت كلمات الأغاني عاكسة للشعور بالتهميش، مستفزة ومنتقدة لما يعانيه الشباب من ذوي الأصول المغاربية أو الأفريقية من قلق ولا طمأنينة داخل مجتمع يزداد اختناقا يوما بعد يوم، وما ذلك التوليف بين التشكيل وموسيقى الراب إلاّ نوع من النظرة التي يريد المخرج أن يرى بها الوضع الراهن للمجتمع الفرنسي. رؤية تحمل في ثناياها نوعا من التنافر المقصود بين جماليات الفن التصويري البحري والراب الحديث، لأن الهوة عميقة بينهما، ولكن النتيجة لم تكن غريبة لدى متتبعي موجات المزج الموسيقي، ولا غير متوقعة لمن يرصد المتاهات الفنية التي دخلتها الموسيقى في الزمن الرقمي. لم يسلم السيناريو من هِناتٍ على مستوى ضبط العلاقات بين الشخوص، وإقحام بعض المواقف المفتعلة كتلك التي قام بها جيرار ديبارديو وهو يقلد مغني الراب أو مساعدة الفتاة للفنان والسائق المرافق له بعد أن تعطلت سيارتهما لتتحول علاقة الفتاة بفاروق، فجأة، إلى حب وهيام، وكذلك الطريقة المفتعلة التي يعانق بها الفنان رفيقه بعد أن فهم معاناته، ويتحول بسرعة قياسية من أقصى معاداة المهاجرين المسلمين، المكتومة في صدره، والمعلنة بشكل ملتبس، إلى مناصر لهم ومتفهم لجدية تصوراتهم، وأحقيتهم بالعيش في بلد لم يعرفوا سواه. لم يسلم الفيلم، أيضا، من تقديم بعض الكليشيهات المعروفة عن أبناء المهاجرين أو الفرنسيين من أصول مغاربية كعدم رغبتهم في الاندماج، والميل شبه الفطري للتخريب وإضمار العنف ثم التصرف غير المناسب في بعض الحالات، وهو ما لم يكن سياقه مناسبا، بل كان مقحما من أجل إرضاء صناديق الدعم ومحاباة بعض الجهات السياسية. لا ينفصل هذا الفيلم عن غيره من الأفلام الفرنسية التي تقدم علاقات الغيرية المركبة بشكل سلبي، وإن ارتأى الفيلسوف الوجودي سارتر الآخر جحيما في سياق بحثه عن الأنا في مقابل الآخر، فالخطاب الفيلمي يضمر في عدة مشاهد حمولة مضادة لمبادئ الحرية والمساواة والتآخي التي تتخذها الجمهورية الفرنسية شعارا لها، وما انفكت تسوقها كقيم إنسانية عليا من شأنها أن تضمن انتقال النموذج الفرنسي في التعايش الجماعي المبني على ميثاق أخلاقي عملي إلى كافة بلدان العالم.