{إلى روح والدي الذي علمني المقاومة فجعلت من الفعل إكسير حياتي} هناك إجماع على أن من بين المقتضيات المستقبلية للديمقراطية، إيجاد موقع للتنظيمات المدنية باعتبارها عاملا حاسما في التحولات التي ستعرفها المجتمعات غدا. فالازمة السياسية أضحت تطبع الأنظمة التقليدية، مما يفيد بأن سبل التجاوز كامنة فيما بات يصاحب المجتمع المدني من طموحات تستدعي حتما تدبر مصيره داخل دوائر القرار. إنه المسعى الذي لا مندوحة منه على حد قول «موراتينوس» MORATINOS شرط تفعيل مبدئي المسؤولية والإنخراط العملي. فماذا عن واقعنا الجمعوي؟ إن المتأمل فيما يعنينا لا يمكنه التغاضي عما يعتري هذا الأخير من صعوبات على مستوى: التكوين المعرفي، التنظيم، التدبير المعقلن، الإستقلالية، فآفات الإرتزاق، إختزال العلاقة بالأجهزة التمثيلية في الحصول على المنح والدعم، الفهم التبخيسي للسياسة - التي لم تعد جنحة، مجالا للتضليل كما لم تعد تقبل أن يمارس الوهم باسمها - جميعها مؤشرات لحالات غير سوية. فكيف لمجتمع مدني كهذا أن يؤسس لرابط اجتماعي... مجتمع تعيش فيه الديمقراطية الداخلية إغتيالا ممنهجا؟ كيف القبول بوضع جمعوي يظل على رأس مكوناته أشخاص بعينهم طيلة عقدين وما يزيد، حتى خول لهم ملكيتها. يروم الرابط الإجتماعي، إخضاع الأفراد لترابطات تجعلهم بتفرداتهم ينتظمون وفق رهانات قوية، كالمرتبطة بالقيم باعتبارها أساس التعاقدات التي تتولد عنها الحركية الرامية للإصلاح وتصحيح المسارات بما فيها المتعلقة بالعمل السياسي. إن الإحالة على المشهد القادم من الضفة الأخرى ليس من باب الإنبهار أو التسويق وإنما هي دعوة إلزامية للمزيد من الإستيعاب. الأزمة السياسية برأي غالبية الملاحظين، ليست في واقع الحال إلا وجها من وجوه التفكك والإنحلال الذي يعرفه الرابط الإجتماعي برمته. فانحطاط العمل السياسي، الأزمة الإقتصادية، إنعدام الإدماج في عالم الشغل، العطالة، الطرد والتهميش، هشاشة الترابط الأسري، العزلة، الفقر، والفردانية، دون الحديث عن العنف جميعها مؤشرات وعلامات تجسد الحالة المرضية التي أصبحت الطابع المتميز للعالم المعاصر: انزعاج وخلخلة عامة تمس بنية وعمق المجتمع. بمجمل القول، باتت السياسة تعاني من جراء هذه الحالة المرضية للمجتمع. ففي ظل هذه الشروط ليس هناك ما يمكن انتظاره من مجتمع صار أكثر انحطاطا وانهيارا مما مضى، فلن تكون السياسة بفعل المصير المشترك إلا انعكاسا له، فالمجتمع لا تدبره إلا السياسة التي يستحقها (كما هو متداول ومأثور ). إن هذه الإنطباعات والتي يتقاسمها الجميع قابلة أيضا للنقاش، فإذا كانت هناك علامات تشير إلى معنى ضآلة الروابط الإجتماعية وعدم تماسكها، فإن هناك من المؤشرات ما يشير إلى ولادة أشكال جديدة ومخالفة، تتخذ من التواصل، المشاركة إحدى منطلقاتها المركزية. إن هناك نظاما جديدا للرابط الإجتماعي بدأ يرسم هياكله في الأفق مما سيجعله لا محالة وبكل تأكيد تمهيدا لمظاهر ومعالم جديدة لرابط سياسي ولمعمارية غير مصرح بها لنظام سياسي مرتقب. ترابطات إفتراضية يتمحور السؤال الأولي فيما إذا كان الأمر يعني فعل التفكيك أو إعادة التركيب للرابط الإجتماعي أم أن المسألة مرتبطة بهما معا. فالخلاف يكمن في كون المصطلح الأول ينظر إليه دون أن تصاحبه تعليقات وتوضيحات، في حين يظل الثاني مجهولا، كأنه غير قابل للرؤية والتحديد، علما أنه وبجانب العزلة والانطواء على الذات، هناك كذلك الإعتبار المتزايد لفعل التقارب الاجتماعي سواءا كان واقعيا أو افتراضيا. كما أنه لا ينبغي إغفال كون الأشخاص يعبرون - بضم الباء- على الأقل وفي متوسط الحال عوامل وسياقات اجتماعية متعددة - كتغيير مجالات العمل، العائلات المركبة، الأصدقاء، الترفيه، الشبكات - طوال حياة باتت أكثر امتدادا، مفتوحة ومتعددة الأنشطة. إن الجميع على بينة إذن من أن الرأسمال الاجتماعي وشبكات الإستئناس والتعايش تختلف من حيث إيجابياتها بحسب الرأسمال الثقافي الذي أصبح لا يتوقف - بدرجات مختلفة- عن الإرتفاع داخل أفراد المجتمع، أما فيما يرتبط بالتصاعد العمودي لتكنولوجيا التواصل: الهاتف النقال، الأنترنيت، مرورا بالرسائل الإليكترونية، جميعها آليات باتت تسمح وتمنح فرصا للقاء مستمر، مما ضاعف من العلاقات وفتح أفاقا جديدة للإتصال والترابط بين الشبكات - هذا واقع لا يمكن تجاهله - لقد صار العالم أكثر مما مضى مجتمعا يتميز بقوة الإعلام والتواصل. صحيح وبالتأكيد الإعلام ليس دائما اتصالا وبأن التواصل لا يوحي دائما بالعلاقة أو الترابط والاتصال الحقيقي. فكثيرا ما يعبر عن هذه العلاقات الإجتماعية الجديدة بالسريعة بل وتوصف على أنها ظرفية، محدودة زمنيا، قابلة للزوال، مصطنعة ومتغيرة إلى درجة أنها توحي بأن الأفراد ينسون في غالب الحالات، الإشارة إلى العلاقات بدون حضور جماعي ضمن احتكاكاتهم الإجتماعية، لكن من يجرؤ على القول بأن علاقة بعيدة المسافة، يتم اختيارها إراديا عن سبيل الإتصال الشبكي، هي بالضرورة أقل جدوى وأقل عمقا من علاقة قريبة يفرضها المكان أو الفضاء، الوسط، العادة والتقاليد مثلا؟ إنه لا يجب إطلاقا التقابل بين هذين الشكلين من الإستئناس والعشرة، لأنهما مثل زمنين يكمل بعضهما البعض ولا يمكن حلول أو إحلال أحدهما مكان الآخر. فالمتعاطون للأنتيرنيت لهم مؤانساتهم الواقعية، والتي تتعالى على متوسط ما يجري بين الأفراد. إن الأمر لا يتعلق هنا بإجراء تحكيم بين الخلخلة وتقوية الرابط الإجتماعي، بين عمق و ضعف العلاقات، ولكن لتحديد القول، هناك ديناميكية جديدة للرابط الإجتماعي أضحت سارية المفعول. هذه الديناميكية لم تتضح بعد ميكانيزماتها لدى الكثيرين، ذلك لأنها تجدد باستمرار ضوابطا وطرقا للتواصل، كما أنها غير خاضعة في جزء منها للحسابات الدقيقة على مستوى أكثر وأقوى مجالات العلاقات، بعبارة أخرى، إن جانبا من الإنتماء الإجتماعي لا يرتبط إطلاقا بالمؤسسات التي تحظى الآن بتقدير أكثر، فالزواج وبالرغم من أنه يلقي قسطا وافرا من الإهتمام، فإنه لم يعد الشكل، النمط القائم، الطاغي على الحياة العائلية والاجتماعية، فالعلاقات على مستوى العمل تركت المجال لعلاقات أخرى خارج الإطار. فوسائل الاتصال اللاسلكي مثلا ربحت الرهان في وجه الزيارات، العلاقات الإنتخابية، وكذا في وجه العلاقات الانتقائية... إلخ. إن العلاقات الإجتماعية بمجموعها أضحت غير منظمة، أكثر تلقائية، مرتبطة بمجالات معينة وبشبكات تتقلب كالشرط الذي كان يؤسس سابقا لخرائطية واضحة ونهائية، الأمر الذي يبدو معه الحديث عن إعادة تركيب وتأليف الرابط الإجتماعي حديثا ذو أهمية مقارنة بالحديث عن الخلخلة والتفكك. قيمة الرابط الإجتماعي إن تغيير شكل، توجهات الرابط الإجتماعي ساهمت هي الأخرى في تحويل وتوجيه فحوى المضامين والقيم، ليحل محل الرابط المؤسساتي، الحبيس الإستعمالات، الشروط والأمكنة، رابط آخر يتمحور حول الفرد ورغباته... رابط يعتبر أكثر بناءا، وأقل خضوعا. هناك الكثيرون اليوم من يتعذر عليهم الفهم الجيد، إذ أن الفردانية لا تعني الإنطواء على الذات، بل هي علاقة تؤسس بدءا وانطلاقا من الذات. فمن خلالها يمكن لكل فرد محاورة الآخرين على أسس من الحرية، الاستقلالية و المساواة. هذه الفردانية العلائقية والتي لا تنتمي إلى الرابط الإجتماعي ولا إلى الأهداف والمصالح الشخصية تعود في جوهرها إلى إطار ذو خصوصية استثنائية واجتماعية. إنه الإطار الجمعويAssociative إن الأمر هنا لا يتعلق بإصدار حكم قيمة ولا بإعلان الحب للبشرية أو الإنسانية. إنها واقعة تشبه ميكانيكية المسار المتواصل للفردانية داخل وضمن محاكمة معلنة في حق الحضارة كما يعبر عن ذلك المفكر الألماني « نوربير إلياس «NORBET ELIAS ، فبقدر ما يعنى الفرد بذاته كما هو، لا أحد يشبهه، بقدر ما يرى في نفسه وبصورة منطقية وشرعية، أنه مساو للآخرين. لقد حصل الإنتقال بصورة أللاشعورية وبدون وعي، من تساو عن طريق التماثل والمشابهة إلى تساو عن طريق الإختلاف: من هوية ذات بعد جماعي إلى هوية ذات طابع مفرداتي. فهكذا وبشكل تناقضي صرف فإن - الأنا - تعد مصدر المساواة باعتبارها حرة، مستقلة، قادرة على بناء وخلق شبكاتها العلائقية أو العلاقاتية، إن الفرد بذلك يقترب من نموذج الجمعية الحرة التي تقرن وتربط التساوي بالتعدد، علما بأن هذا لا يعني أن العلاقة الجمعوية تنفي ثقل الجماعات النافذة ذات التأثير، أو تطمس فردانية الانطواء على الذات وكذا المصلحة الشخصية الدقيقة، ذالكم أن هذه العلاقة بمقدورها خلق التطابق، كما أنها تستطيع أن تعيد تنميط مجموع العلاقات الإجتماعية. من هنا تكمن دلالة الأمور، بحيث يتواجد بدون شك، مفتاح الديناميكية الإجتماعية السياسية التي تعيشها اليوم المجتمعات الديمقراطية. يمكن عطفا عما سلف سرد آلاف النماذج، فضاءات وحالات متعددة: ففي حظيرة الأسرة مثلا حيث العلاقات بين الآباء وبين الأبناء والآباء، تشبه إلى حد بعيد وقوي تلكم التي تربط بين الشركاء الأحرار، إذ وفي إطار المعاش اليومي يفرض حضور الشبكات نفسه كوجه هندسي للجمعية، وكذا الأنترنيت كمجاز تكنولوجي. إن لوحة نظام المواصلات الشبكية المجردة والتي تقدم - أو ترسل - من المركز، تمثل القاعدة الأعلى أو النموذج المحتذى و الأصلي لمجمل العلاقات الجمعوية. صحيح أن مجموع التكنولوجيات الحديثة لم تتطور من باب الصدفة و لكن لكونها كذلك تتناسب من جهة أولى الإستعمالات الإجتماعية الجديدة، ومن جهة أخرى كونها تتطابق والإطار الجديد للرابط الإجتماعي، المتمثل اليوم في الإنتشار العجيب للتجمعات نفسها: فهناك جمعيات لا حصر لها وغير مصرح بها: كالجمعيات المحلية، المتعددة المشارب و الإهتمامات، و كذا المنظمات الغير الحكومية ONG و التي لم يكن ظهورها على الساحة الدولية أمرا فجائيا أو من قبيل المصادفة. إنه يستحيل علينا فهم ديناميكية انتشار هذه الجمعيات والمنظمات دون العودة إلى التطور الذي عرفه الرابط الإجتماعي نفسه والذي يشكل اليوم دعما، حافزا ومحركا لها. فبغض النظر عن هذا الإنتشار للعلاقات الجمعوية التي تتسم بالقوة بمقتضى العلاقات الإجتماعية وسياقاتها المتعددة، فإنه من الضرورة، بل لا مناص من الإشارة إلى المكانة التي تحتلها هذه العلاقات بداخل المخيال العام أو الجماعي. بالتأكيد هناك نوع من المسافة، الحذر والإحتراس تجاه المؤسسات والمنظمات التجمعاتية - الأحزاب السياسة، النقابات، الإدارات العمومية، المقاولات - إن هناك قاسم مشترك، إطار جامع فيما بينها، في حين تبقى الجمعية وحدها الغير الخاضعة لهذا المنطق، لذا فهي التنظيم الوحيد - إلى جانب الأسرة - الذي حصل باستمرار على قاعدة كبيرة من الشعبية والتي تحولت وتتحول، استنادا للأبحاث الميدانية والتحريات المتعددة، إلى استفتاء شعبي عام، حقيقي، ذلك أنه وبشكل تلقائي يتعاطى الأفراد ويسعون لذلك بصورة مثالية، ليجدوا أنفسهم عند نهاية المطاف داخل علاقة جمعوية، بينما كانواإلى وقت قريب بعيدين عن هذا الواقع. إن هذه الديناميكية الجمعوية لا يمكن أن تتطور بحكم كونها ترتبط بثلاث أطروحات اجتماعية ذات أبعاد طويلة المدى، فكانت على الدوام تحمل طابعا إيجابيا: متابعة مسار الفردانية باعتبارأن حالة الفرد تقاس من خلال حركية علاقته بالعالم. إن نسبة مكانة العمل وقيمه وكذا تقييم الزمن (الحر) أي الوقت الثالث الذي يلائم ويناسب الإستقلالية كما هو الشأن بالنسبة للجمعية. إن هناك تقدما مستمرا للرأسمال الثقافي كوسيلة للإعداد سلفا للفردانية العلائقية ولمضاعفة الدوائر والحلقات الإجتماعية، إلا أنه على الرغم من ذلك فإن صعوبة الرابط الجمعوي كامنة في كونه مازال لا ينظر إليه بعين الرضى، فلا أحد يتجرأ على المطالبة بأن يكون العالم محكوما ومسيرا بفكر جمعوي. إنها الرؤية الكارثية لعالم مبتور، مفكك الأوصال، الصامد مجاملة ومراعاة، ليخفي بداخله حركات جد عميقة، تتسم، بل تعج حقيقة بالإيجاب، إذ تفسر في أكبر جوانبها هذه الرؤية المأساوية التي يرسمها الجميع للمجتمع أو العالم المجتمعي.