يكتب سعيد منسب المنتمي للهامش والصادر عنه، بوجدانية صداحة، وإحساس صارخ باللغة وأوزان صفائها، وهو ما يجعلك بقدر ما تنزل لهذه القصيدة تجلس إليها، بقدر ما يزداد المعنى في التبلور والكثافة، نظرا لجمالية الهوية المتغايرة التي تنعم بها، وما يغشاها من سلطة إعمال الإغراء خاصتها، كقناة ملائمة لإشباع أفق انتظار القارئ. يمكن الذهاب للمستوى التركيبي أو التعبير النظمي، حيث القوالب الأسلوبية وقد أفرغها الشاعر من دلالتها النحوية، وأحْبلها امتلاءات تلمع بمرح في عملية قذف سعيد، بدلالات المعاني الرمزية وحمولتها الجمالية. إذ المتأمل لحقيقة هذا العمل الإبداعي، وفَعْلانيته الطليقة، يلتفت إلى ذلك التباين النوعي، الذي أكسب الشاعر طبعه الالتحاف بفضيلة الاختلاف، لتجد النسق عينه في الجملة السطرية هو غيره مع كل قراءة جديدة. القصيدة لدى هذا الشاعر، لا تصدر في فاعليتها ببناء لغوي تركيبي، ولا حتى بنظام إيقاعي موسيقي، هو في الأصل وبشكل خاص صورة جديدة تنسج انسيابيتها في زمن إنساني جديد، حيث يمثل الشعر سياقا زمنيا آخر، يختلف عن كل التمثلات العلمية والفلسفية الأخرى ..ديوان (أشواق اللوز) هو أحد المفاصل المحورية في تجربة سعيد منتسب الذي اخترقت إبداعيته جغرافيا أكثر من جنس أدبي. ومن جهة أخرى يمكن الحديث عنه كمنجز امتلك في ثناياه الوقاحة الضرورية لاقتحام اللامتواضع عليه، وخلخلة الأسس التي صارت كليشيهات لعدد من متربصي قصيدة النثر ومدعيها، إن الافتتان كقيمة معرفية وأخلاقية قبل جمالية، يشغل محور الانتباه المضاعف بهذه القصيدة، يتوخى هذا المعطى ذلك التحالف بين الشعر والفكر، الذي سخره تبعا لمسار السحر والإغواء، اللذان يعريان عن الانتماء لها ..هناك نقد قوي للفكر اليوم، لأن الإنسان قد لا يمكن أن يفهم كل شيء دون المجازفة أن يجعل كل شيء ماديا، في حين أن الآلهة والجمال والمعنى وكل المتخيل المرتبط بالأحلام والإبداع والوجود يعيش تحت تأثير العالم الذي يفتننا ..لهذا فهي قصيدة تقف عند الحدود الهشة، لملتقى تتلاحم فيه تقاطعات فلسفية، وابستمولوجية، وسوسيولوجية، ورياضية، غزيرة الكشف والتجلي دفعة واحدة. قصيدة جميلة هي بمثابة أفيون ..أي قارئ نهم يستطيع توضيح ذلك، إنها غداء مسكن للأعصاب، لذا من الطبيعي أن تثير فينا تأثيرا ديناميا، وهنا ما يدفعني للحديث عن ديوان (أشواق اللوز) ذلك أن قصائده لا تتأسس لحظتها وميكانيزماتها الإستيتيقية، دون الانطلاق من العالم لتعيد اكتشافه من جديد، وكذلك إعادة صياغة مبررات الوجود. فالقصيدة الخالصة لا يمكن أن تقنع بمهام وصفية تعيينية داخل فضاء مسكون بأشياء جميلة، فالقدرة على خلق الدهشة، وإعادة الاكتشاف، لم يتأتى لهذه القصيدة إلا باختراقها لميتافيزيقا اللحظة المشتركة، وتحويل اللغة إلى لحظة الإحساس بالجمال، فقصيدة سعيدة منتسب كلوحة شذرية نشاط يبغي تجسيد إرادة الجمال. .. كل تأمل عميق هو طبيعيا وبالضرورة نشيد /قصيدة تنزع نحو تحويل كل تأمل في الكون إلى تأكيد للجمال الكوني وهو ما يصلنا لظاه مع هذه المضيئة ما إن نضع الانتباه على لغتها، التي تقود الخيال، فحص ذلك، يدحرجنا إلى وضع اليد على دينامية كتابية جديدة. فالقصيدة التي تجسد وجود وحياة الافتتان، تمكننا من التساؤل من خلال الصور اللذيذة التي تخلقها والتي بها تتحسس العالم - مثلما أن العلم يبدع المفاهيم- الصور التي تأتي بها ليس لها جامع مع الإدراك العمومي. إنها ليست مستجمعَة بل جديدة. القيمة المعرفية المركزة التي قامت عليها الإشغالات الخيميائية، تتمثل في هذا الارتكاز الأساسي على خاصية التحويل، وانصهار المعادن، والمواد، قياسا فيما بينها، من أجل صياغة تشكيلات أخرى في بحث إنجازات كبرى كالذهب مثلا أو الحياة الأبدية، وقد حاول الممارسون بكل الطرق إخفاء وسائلهم ونتاجهم، جاعلين الممارسة مدرجة بالسرية ومفعمة بالغموض، والحوادث الغريبة، وهو ما نلحظ نظيره داخل ديوان (أشواق اللوز) حيت الشاعر يشتغل بأدوات المحو والصقل المبرح لجملته السطرية، التي أرساها على غير نموذج تردف نسغها عليه. وهذا لا يجعنا نفوت أن سعيد منتسب، شاعر مقلد بشكل مفضوح وبيّنْ، مع كل قصيدة جديدة أنظر إليه بعينين واضحتين وقلب يرتعش، وهو يحاكي مع سبق الإصرار والتأكد غيمة تنزف مطر مطر مطر مطر يرتشف بياضه. وبياض يسقي ينابيع كلمات حَرضها على سفك الفتنة أمامك. أستحضرها وتعبيريتها اللغوية والجمالية، التي يسيطر منتسب على مادتها الأدبية، بالشكل الذي يتيح له إقامة بناء فني متماسك على مستوى السطح الفونولوجي والتركيب الدلالي، فالطبيعة الترميزية للغة، التي تضمن لها صيرورة متجددة في نهر الشعر، هي نظام من العلامات حقيقتها ليست رسالة وإنما كامنة في ذات النظام لا خارج عنه، بمعنى أنها نص جمع بصيغة المفرد، فاللغة الشعرية عنده ليست مجرد انزاح عن النثر بل هي ذات قانون خاص بها، ولا يمكن تحديدها إلا من خلال تكويناتها الإبداعية الذاتية، لا قياس على مرادفات مدرسة نقدية أو منهجية أسلوبية، إن هذا الديوان الذي يتخذ من فاعلية الفتنة مسلكه العام، الاقتراب من جديد طرحه الشعري، يقتضي الكشف عن خصوصية أدواته في التعبير عن ذات شاعره بما هو كوة عن ذلك، مجازيته لا تتناقض في شيء مع مفهوم الواقعية أو الموضوعية الجمالية، فرادته تصدر عن معايير متعالقة، البهاء وحده يلحم حلقاته. لا أولي عناية بقصيدة إلا بقدر ما تكون قادرة على أن تكون نموذج ذاتها، خاضعة لإيقاعها الخاص، تفعل قوتها effecteur puissance وهو ما أحاوره هنا مع أيقونة سعيد منسب هذه ، فلغته في تراكيبها لغة انسيابية، تتجه نحو الأمام ما يحقق لها امتلاء نحوي ودلالي في انتشارية تخترق مفاصل القصيدة عموديا وأفقيا، ما يزيد المعنى في التبلور والكثافة، على مستويات متعددة بما هي نص جمع يفترض ملاحقتها بقراءة متعددة. حصلت هذه القصيدة إذن. وانفتحت دائرة الانتباه الفرح بها. وقبلها تم بعدها، كان فاعلها/ المجاز الإستيتيقي، منخرطا في بناء خياراتها الإستراتيجية، وظف فيها مختلف الوسائل المساندة على بلورة غايتها الكبرى، المتمثلة في الهيمنة المطلقة على كامل النثر مضمارها، وذلك بعد أن ساعدت جمالية الهوية المتغايرة التي تنعم بها، على إيجاد (خورزميات) تلاءم الشعر في النثر، فما أصعب الشعر.. تحققه فعلا والحصول عليه في قصيدة النثر. ما أخطر قصيدة النثر.. والكتابة انطلاقا من جغرافيتها المتوحشة ما أصعب قصيدة النثر.