تعتبر الديموقراطية من أكثر المفاهيم تداولا بين السياسيين والمهتمين بالشأن العام بصفة عامة ،لكنها أيضا من أكثر المفاهيم التباسا وغموضا لدرجة تؤدي إلى السقوط في التضليل بشكل مباشر . ولكي نستطيع أن ننفض غبار هذا الالتباس ، سننطلق من تحديد المعنى الأصلي لهذا المفهوم وشروط تطبيقه في الواقع ،كما حدده ومارسه واضعوه ، وذلك لكي نتمكن من مقارنته بالشكل الذي يتم الحديث عنه وممارسته في بلادنا . إن الديموقراطية في الأصل كلمة يونانية تتكون من كلمتين هما «ديموس «وتعني الشعب ،و»قراطيس « وتعني الحكم أو السلطة .هكذا فالمعنى الأصلي للديموقراطية يعني حكم الشعب بنفسه ولنفسه .ومعنى ذلك أنه في إطار الديموقراطية يكون الشعب هو مصدر السلطة داخل الدولة ، فهو الذي يختار الحكومة ، وشكل الحكم ،وبالتالي النظم السائدة في الدولة : الاقتصادية منها والاجتماعية وغيرها . نستنتج من كل هذا أن هناك شروطا دقيقة لتحيق الديموقراطية داخل الدولة منها: -1- أن الشعب هو الذي يختار حكامه ونوعية حكمه. -2-أنه يمارس عملية الاختيار بإرادة وحرية خارج أية ضغوطات كيفما كان نوعها مادية كانت أو معنوية. -3-أن عملية الاختيار الحر تكون نابعة عن وعي كلي بالفعل الممارس وبنتائجه وغاياته وأبعاده ،ومعنى ذلك أن الممارس شخص واع ، وبطبيعة الحال الوعي هنا مشروط بالمعرفة الموضوعية العلمية ، وبمستوى معين من الإدراك السياسي . -4-أن عملية الاختيار الشعبي هذه معناه التشارك والمشاركة ، أي إدماج الكل في عملية التسيير وهو ما يسمى الآن بالديموقراطية التشاركية . فهل الديموقراطية كما نتحدث عنها اليوم في بلادنا ،وكما هي ممارسة في الواقع مطابقة لهذا التحديد بكل تمظهراته ؟ بعبارة أخرى ،ألم يمارس التضليل بمختلف أشكاله على المواطنات والمواطنين أثناء عملية الاختيار الديموقراطي ( في انتخابات 07أكتوبر2016)وبشكل أقبر فيه وعيهم ، و غابت بواسطته إرادتهم ،وانتفت بمعيته حريتهم ؟ بطبيعة الحال ،إن معايشة الأحداث ،والاندماج في الواقع المعاش ، وتتبع مسيرة الشأن العام بدقة ، وامتلاك حزمة مهمة من المعرفة العلمية في هذا المجال ،و ركوب غمار التجربة السياسية لمدة زمنية لا يستهان بها تجعلني أحسم في الإجابة و بنوع من السهولة راسمة علامة النفي ذات اللاأين المترابطين وبدون التردد الذي من شأنه أن يترك ذرة من الشك في هذا الإطار . هذا الجزم تحدده المعطيات التالية : -1-ضعف نسبة المصوتين التي لم تصل حتى إلى النصف ،وباعتراف الجهات المسؤولة .فهل بتلك النسبة يمكن أن نتحدث عن اختيار الشعب ؟ -2 -نوعية أغلبية المصوتين ،أو بالأحرى طبقاتهم الاجتماعية والعلمية ،ذلك أن هؤلائك ينتمون إلى الفئات الهشة اجتماعيا واقتصاديا وعلميا بالخصوص مما يجعلهم أقل إدراكا وفهما لحقيقة الواقع بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، لأنهم معرضون للتضليل بسهولة وبواسطة الاستيلاب الإيديولوجي بكال أنواعه .فكيف يمكن أن نتحدث عن شرط الوعي هنا ؟ -3- طبيعة مجتمعنا المغربي الذي تسود فيه العاطفة و يخضع فيه الناس للانفعال أكثر من العقل تجعل عملية التحكم تتم بسهولة خاصة حينما يتم النقر على هذه الجوانب في الشخصية الإنسانية وبالأخص إذا تم ذلك بواسطة الآلة الدينية ،فالدين أداة طيعة لممارسة التحكم أي لصنع الأنماط.و الأوضاع المرغوب فيها سياسيا واجتماعيا، وأداة أيضا لسيادة الفكر التضليلي الرجعي خاصة في الظروف التي تسود فيها الأمية والجهل ، هذا الفكر الذي يخدم أجندات معينة ،وهي في الغالب أجندات خارجية أكثر منها داخلية .فهل بهذا يمكن أن نتحدث عن إرادة وحرية ؟ واضح من خلال هذا التحليل انتفاء كل شروط الديموقراطية الحقيقية في العملية الانتخابية التي عرفتها بلادنا ، في الآونة الأخيرة . من هنا لن يزهو هؤلائك بالنصر ، ولا يحق لهم أو لغيرهم في التشدق بتلك العبارة الجوفاء « لقد اختارنا الشعب « لأنه واضح بالملموس أن شروط الاختيار كانت منعدمة على الإطلاق ، وأن المشاركة في هذا «الاختيار «لم تكن ممثلة بالكيفية والنسبة المطلوبة لكي يجوز القول أن الشعب قد مارس حقه . ما هو موجود في بلادنا هو نوع من البشاعة السياسية التي تجعل المتتبع للشأن العام يحتار في أية خانة يمكن أن يصنف هذه الظاهرة الغريبة . ومن جهة أخرى يمكن القول بأن مسببات هذا الوضع تم إنباتها وتهيؤها طوال الخمس السنوات الماضية وذلك عن طريق تبخيس العمل السياسي بواسطة نشر الخطاب الرديء ، فشل السياسات العمومية في أغلب القطاعات ، جعل الجهاز التنفيذي يقوم بمهمتي التشريع والتنفيذ في نفس الوقت، مما جعل وجود المؤسسة التشريعية يكتسي طابعا صوريا فقط ، انتهاج خطاب المظلومية ،تتبع سياسة العصا والتنكيل بدل الإنصات والحوار ، بالإضافة إلى الإجهاز على مكتسبات الحركة النسائية ...والقائمة طويلة . فهل بكل هذه النقائص يمكن أن نتحدث عن الديموقراطية ؟ واضح جدا أن درب النضال من أجل تحقيق ذلك مايزال طويلا، ولكن ما ضاع حق وراءه طالب .