ثمة مخرجون سينمائيون بارزون في تاريخ السينما العالميّة، يشكلون علامات مميّزة أو انعطافات تاريخيّة في هذا الفنّ الخطير لا يمكن نسيانها على الإطلاق. ومن هؤلاء المخرج الانجليزي المخضرم "آلان باركر" الذي دأب على تقديم تحف سينمائيّة بنفحة جمالية تحطم الجدار الذي يحول دون تجاوز الإنسان للصنميات الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة والعقد المتراكمة نتيجة لطرق التربية والتعليم الخاطئة والمسلمات التقليدية في العلاقات الإنسانية. إن آلان باركر، في مختلف أفلامه، لا يتكلم عن حرب بعينها، رغم أن تيمة الحرب تبدو إلى حد بعيد لازمة موضوعية متغيرة في معظم أعماله، بل تؤشر بحضورها إلى مجمل متغيرات عالمنا الواقعي المضطرب سياسيا وأخلاقيا . أخرج آلان باركر العديد من الأفلام، ولعل أشهرها «مايدنايت إكسبريس»/ قطار منتصف الليل (1978)، «الطائري» (1984)، «الشهرة' (1980»، «قلب الملاك» (1987)، «ميسيسيبي تحترق» (1988)، «مرحبا بكم في الجنة» (1990)، «الطريق إلى ويلفيل» (1994)، «إيفيتا» (1996)، «حياة ديفيد غيل» (2003).. في ما يلي مقابلة صحفية أجراها معه جان مارك بانيس على موقع « Tellement Ciné».. شكرا لموافقتك على إجراء هذه المقابلة، رغم أنني أعرف جيدا أنك لا تحب المقابلات. صحيح، فأنا لست من المعجبين بها، فقد مرت 40 سنة وأنا أقوم بهذا حتى أصبحت أشعر بالملل حين أتكلم عن نفسي. ما هو الدور الذي تلعبه السينما في حياتك اليوم، بالنسبة لك كمحترف وأيضا كمشاهد ومتتبع للأفلام السينمائية؟ آلان باركر: جوابي سيكون غريبا بعض الشيء، في الحقيقة السينما ليست مهمة جدا في حياتي الآن، كان ذلك منذ 40عاما، لكنني اليوم وصلت لنقطة تشبعت وسئمت منها، لذا أصبحت أهتم بأشياء أكثر أهمية، أمضي وقتا أكثر مع أعمال فنية كالرسوم المتحركة. أظن أن المخرجين القدامى لا يقومون بصناعة أفلام جيدة، هناك بعض الاستثناءات طبعا، لكن أغلبها يميل إلى التكرار أو لا يرقى للمستوى المطلوب، لا أريد أن يتوقف قلبي وراء كاميرا. o موت بهذه الطريقة سيكون مبهجا، أليس كذلك؟ n مبهج؟؟ لم يكن الموت مبهجا يوما. الصحفي: هل تفكر في عمل جولة سينمائية؟ أم أنك تفضل أو بالأحرى، ما الذي تفضل عدم القيام به؟ آلان باركر: أنا لم أقم بالجولة، كمخرج استعملت الاتجاه الأمريكي وتلقيت ضربات موجعة من جراء استعماله، ارغب في حياة أكثر تحضرا، هذا هو سبب توقفي. على الرغم من كل الجوائز التي حصلت عليها كالأوسكار والبافتا؟؟ آلان باركر: عندما انتهي من أي عمل فني لا أسعى إلى إرضاء كتَّاب الأعمدة والناس في هوليود. صناعة فيلم تتطلب العمل كفريق، وأعتبره فنا تعاونيا مكلفا معنويا وماديا، عادة ما استغرق عامين لإخراج عمل للنور، لكن يجن جنوني إذا لم يرقهم، دعني أقول لك أن هذا هو الاستثمار الأقل رهبة/قوة. الصحفي: هل لك أن تعطيني مثالا عن الصعوبات التي واجهتها في تقديم فيلم؟ لم يكن الأمر سهلا، كما كان الشأن في تصوير فيلم منتصف الليل السريع، فقد تم تصويره بسجن لمدة 6 أيام في الأسبوع ولمدة 3 أشهر، لم تكن سهلة، وأيضا كان استعمال العنف ببعض المشاهد يؤثر على الفريق. عاطفيا كيف تصفه؟ عند تصوير فيلم منتصف الليل السريع شعرت أن الادرينالين ارتفع فجأة، أكرر أن العمل كفريق ليس بالعمل الهين ،خصوصا إذا كان التواصل ضعيفا بين أفراد العمل، كما حصل بفيلم «الجدار»،لقد كانت واحدة من أصعب تجاربي. أتذكر أنني شاهدت الفيلم، كان عمري 14 سنة، لماذا كان صعبا بالنسبة إليك؟ من ناحية واجهت مشاكل إنتاجية، وبالتالي لم يكن من السهل العمل مع روجير وترز، فهو رجل معقد للغاية.تناولت الفيلم من رؤيتي الخاصة، لقد كان كل شيء بالفيلم يؤلمني.أحيانا يمكن أن نصنع فيلما سيئا في حين أن الظروف يمكن أن تكون جيدة. هل «روجير واترز» تحدث بشيء بعد عرض الفيلم؟ الغريب في الأمر أنه أحب الفيلم؛ وعبر عن افتخاره به، ورغم كل المشاكل التي واجهتنا خلال التصوير فقد كان لها وقع مميز، ربما بسبب غرورنا المتشابه. هل واجهت صعوبة في إقناع «بوب جلدوف» للموافقة على دوره؟ في الواقع لا، الدور كان من نصيب «روجر وترز»، لكن تخيُّلي ودراستي للسيناريو جعلتني أرشح «بوب جيلدوف» بقوة لهذا الدور، كنت متأكدا أنه سيتقنه. تستعين بالموسيقى في أفلامك، هل الموسيقى نقطة انطلاق أم أنك تراها شخصية في أفلامك؟ طبيعة الفيلم تحدد الموسيقى التي سأشتغل عليها، «بينك فلويد» عمل متشبع بالموسيقى، كذلك فيلم «ايفيتا»، لقد استخدمت ألبوم مقاطع موسيقية كان سببا في نجاح أفلامي، وكما هو الحال بالنسبة لفيلم «فام ودو كومبنتمانت»، تم توزيع وإنشاء الموسيقى خلال تصويرهم، الموسيقى تكون جزءا مهما في عملية المتن الحكائي. اختيار الموسيقى تتقنه أثناء عملية التصوير أم أثناء كتابة السيناريو؟ سؤال مهم، أتذكر خلال تصوير فيلم منتصف الليل، أنني التقيت صاحب استوديو اقترح علي بدوره العمل مع «جورجيو»، اعترف أنها كانت تجربة رائعة وتستحق المحاولة، لقد قدم العمل أفضل مما كنت أتصور. هل تتعامل بطريقة تقليدية مع الأشياء الميكانيكية؟ أغلب أفراد عائلتي نجارون ورسامون، أبي رسام ،كما كان يعمل لحساب شركة كهرباء، حيث كان يشارك في رسم لوحات أمام المباني، لذلك أجيد الميكانيك بالرغم من أنني لا أحب ذلك .... أنا كاتب ومخرج، الكتابة بالنسبة لي هي ميكانيكيتي. هواية الرسم هل جاءت متأخرة؟ خلال طفولتي، كنت أرسم طوال الوقت، كنت أود الولوج لمدرسة فنون، لكن والدي اكتفي بتسجيلي بمدرسة عادية، أنا أعشق فنا اسمه الرسم. أظن أنني ما زلت أخصص وقتا أكثر لممارسة هوايتي المفضلة. هل تعرضت لأي صدمة بعد عرض أي فيلم من أفلامك؟ كنت بصدد تصوير مشهد بفيلم قطار منتصف الليل السريع،حيث تقوم الشخصية باقتلاع لسان الأخرى بواسطة أسنانها، عند انتهائنا من تصوير المشهد، طلب مني فريق العمل استراحة نظرا لفظاعة المشهد، اضطررت لتوقيف التصوير لحين هدوء أعصاب الفريق. أدركت حينها أن للفيلم تأثيرا حقيقيا، بعض الأشخاص وجدوا صعوبة في الرجوع لقاعات السينما، ظنا منهم أن جميع الأفلام قد تكون مصورة بهده الطريقة، وبالتالي أيقنت أنني أحمل على عاتقي مسؤولية تجاه الجمهور. لقد اكتشفت أن الفيلم استطاع أن يلعب بمشاعر الناس، بينما أنا اعتبره مجرد وظيفة. هل هو شعور مخيف أو بالأحرى قوي؟؟ أمر مخيف طبعا، أنا أفهم جيدا معنى الخطر، ويمكنني تحديده في عدم إنجاز العمل وإتقانه بدقة، وأيضا عند محاولة تحريك مشاعر الناس يمينا وشمالا، سواء فرحة عارمة أو حزن. بفيلم «ميسيسيبي بورينغ» حاولت إظهار العنف والظلم، وهذا واضح من خلال التصوير والكتابة، هل تعتقد أن عرض مثل هذه الأشياء أصبح شيئا مألوفا ومبالغا فيه؟ شخصيا لا أومن بالرقابة، لكن في نفس الوقت نستطيع فرض رقابة ذاتية، في فيلم «منتصف الليل السريع» اضطررت للاستعانة بشخص مريض عقليا، و تفاجأ فريق العمل من جرأتي هذه؛ أما أنا فكنت أفكر كيف سيكون المشهد جيدا. أسعى جاهدا لتحمل مسؤولية المشاهد، سواء من خلال الكتابة أو على مستوى التصوير. ما الذي سيلهمك لاختيار سيناريو فيلمك المقبل؟ لا أظن أن ذلك ممكنا، ليس لأنه لا يوجد هناك المزيد من القضايا التي أود طرحها، بل بالعكس، لدي الكثير من النصوص التي أحتفظ بها في درج منزلي، وأعتبرها أفضل أعمالي،لأنها فعلا أعمال مصورة في ذهني بدون كاميرات ودون إغفال الموسيقي. شيء مذهل تعاونك الفني مع «جورجيو مورودر»، هل تداوم على سماع آخر الإنتاجات الموسيقية؟ وأي نوع موسيقي ستؤثث به فيلمك المقبل؟ سؤالك جيد، عادة عند بداية كتابتي لسيناريو معين، ترافقني موسيقى بذهني اعتمدها كمرشد، إضافة إلى أن اثنين من أبنائي يعزفون بآلات مختلفة، حتى أنهما لعبا موسيقى لفيلمي الأخير، أما بالنسبة لفيلم «بيردي» فقد طلبت من «بيتر غابريال» أن أدرج مقاطع بالفيلم، و كانت النتيجة مرضية للطرفين، منذ ذلك الحين بدأنا العمل سويا. هل تبدأ من نقطة بداية محددة عند بدء كتابة سيناريو فيلمك؟ أسوأ الأفلام ننتظرها لساعات من أجل مشاهدتها، لكن بمجرد خروجنا من القاعة ننسى أحداث الفيلم، شخصيا اعتبر هذا فوضى. أنا أحمل على عاتقي مسؤولية أن أضع القصة في قالبها و تحديد الشخصيات والزمكان ..... يجب فعلا مشاهدة الفيلم والاهتمام بما يحكي. ما أدعو طلاب المعاهد السينمائية إليه ،هو تحديد وجهة نظر محددة للفيلم، وعدم إغفال أي جانب لصناعة الفيلم، ربما أفكر بطريقة كلاسيكية، هذا لأنني أنتمي لجيل مختلف والفيلم بزماننا كان له مدلول آخر. حركة الكاميرا كانت واضحة بفيلم «الطائر» هل واجهت صعوبات تقنية في تنفيذه وإخراجه؟ أكبر تحد واجهته هو تصوير «الطائر يحلق»، للأسف خلال تصوير المشهد الثالث تحطمت الكاميرا المخصصة لمثل هذه المشاهد، فاضطررت للعمل بكاميرا أخرى، كان كل همي هو إيجاد طريقة أكثر إبداعا لتصوير الطائر. في الوقت الراهن الكاميرات أصبحت أصغر حجما وبتقنيات جد متطورة، تسهّل عملية التصوير، لكن في ذلك الوقت كان علينا التعامل مع كاميرات وتقنيات مختلفة، مستقبلا في حالة تعطل أي جهاز ،فإن أفراد الطاقم يفكرون ،بشكل جدي، في إيجاد حل من أجل التمكن من إكمال التصوير في ظروف ملائمة، أستطيع أن أقول أنني تمكنت من تصوير الرحلة الوهمية للطائر، و توضيب المشاهد بطريقة جد محترفة. لم نتحدث عن فيلم «الملاك الأزرق» وحالتك النفسية خلال تصويره؟ اسم الكتاب الأصلي «فالين انجين» للكاتب «ويليام جنسبورك»، أعدت صياغة القصة عدة مرات لدرجة انه كان علي إيجاد اسم آخر للفيلم غير ملاك القلب. لأنك تعرف نهايته إلى أين ستؤدي؟ أعرف إلى أين تتجه قصتي، إنه تمرين بالنسبة لي أستمتع وأنا أقوم به، لذلك أنا قادر على الكتابة حتى ولو كنت محاطا بالخطر، وهذا ما حدث معي عندما جلست بحانة محاولا الاستماع للمحادثات، كنت أريد تزويد السيناريو بالعناصر المحيطة بي لجعل القصة أكثر واقعية. من اقترح اسم «روبير دينيرو» لبطولة فيلمك؟ التقيته ثلاث مرات، وعرضت عليه الدور فرفض، ثم بدأت بالبحث فاتصلت ب»براندو» لكنه رفض هو الآخر. أما دور الشيطان فقد تركته «لجاك نيكلسون» غير أنه رفض أيضا، قبل التصوير بأسبوع اتصل بي «ميكي روك» و»ظي نيرو ديريدان» للحصول على دور نهائي بالفيلم. فكرة مشهد البيضة مستوحاة من الكتاب أم أن تفاعل الممثل مع المشهد جعل منه رمزا؟ لا، أنا مخترع المشهد، فكرة كسر البيض جعلتني أفكر في عظام ميكي ورك تتكسر، أظن أنه أحب المشهد وأتقنه. في أحد تصريحاتك تقول إن الممثل الجيد تعرفه من خلال اللقطة الثالثة إذا كان محترفا أم أنه هاو فقط ، وأنه من الضروري على الطاقم التقني أن يكون دوما على استعداد. بالتأكيد، فأبطال الفيلم الحقيقيون هم من يقفون وراء الكاميرات، أنا أكن لهم كل الاحترام، فأحيانا يخرج الممثل عن النص أو يخطئ، لذا على فريق العمل التدخل بسرعة لأن اللقطات أو المشاهد الأولى هي التي تسلسل طريقة المشاهد الأخرى، وعند انفعال الممثل سيفقد سيطرته وبالتالي سيؤثر على الجميع. أستنتج من حديثك أنه في بعض الأحيان اللقطة 23 تقدم لنا صورة أولية عن العمل؟ لا ليس ضروريا، فبحسب تجربتي من النادر جدا أن يتحسن المشهد ليحصل الاستقرار. بعض المخرجين يصلون إلى حدود 70مشهدا، حينها يبدأ الممثلون بالعمل كالآلات مبرمجة، اعتقد أنه إذا وصلنا إلى هذه النقطة فمن المؤكد أن هناك خطبا ما.