ميلوش فورمان، مخرج أمريكي من أصول تشيكية، ولد بمدينة براغ سنة 1932. أنجز مجموعة من الأفلام، من قبيل المسابقة (1963)، «عشاق المرأة الشقراء» (1965)، «النار، رجال المطافئ» (1967)، « تحليق تحت عش المجانين» (1975)، شعر (1979).. والدرس السينمائي الذي نترجمه في هذا العدد عن «دروس مهرجان كان»، كان من تنشيط الناقد الفرنسي ميشيل سيمون، حول مسار المخرج ميلوش فورمان، وحول طريقته في الإخراج في بلد اشتراكي، ثم طريقته حين انتقل إلى هوليود، وحول أسلوبه في التصوير، وحول علاقته بالأدب والاقتباس، وأيضا حول سؤال السينما كفن.. مع ما يتخلل ذلك من لحظات الحياة.. لا تخافوا، اقتربوا وأنصتوا. ستصابون بالخيبة! عندما كنت طالبا، وأشارك في هذا النوع من الأنشطة، كنت آمل دائما أن يكشف لي المتدخل السر أو الوصفة من أجل أن أنجز فيلما. وينبغي القول إنني كنت دائما أصاب بالخيبة، دائما.. وأن الأمر غاية في البساطة: أن تقول الحقيقة من دون أن تبعث على السأم. هذا كل شيء، ولكن هذا ليس سهلا إلى هذا الحد، ذلك أن الحقيقة، في أغلب الحالات، تكون باعثة على السأم. فأن تكتشف الحقيقة، فهذا نادر جدا، كما لو كان الأمر يتعلق باكتشاف ذنب une comète: أمر ممكن، لكنه نادر. هناك طريقة أخرى لتثير الإعجاب، وتتطلب أن تقول الحقيقة بطريقة عادية، لكن أن تقولها بطريقة مدهشة، بطريقة جديدة، بطريقة ممتعة، بطريقة حماسية.. لنحاول ذلك. يمكنكم أن تأخذوا موقفا عاديا. شخص ثري جدا، في الستين. هذه حكاية واقعية. متزوج من فتاة تصغره بضعفين. يلتقي مع شريك جديد لأعماله، ويريد أن يثير دهشته. يأخذه إلى بيته، ليريه حديقته ومنزله، لكنه يرى عبر النافذة، زوجته تمارس الجنس مع شاب غريب. يتظاهر الزوج وكأن لا شيء وقع، فيرافق زبونه إلى المخرج. هنا، نحن أمام حقيقة التي لا إثارة فيها. ويمكننا أن نحكي القصة نفسها بطريقة أخرى: الرجل، أثناء غذاء عمل مع زبون جديد، يأكل ويشرب بإسراف، يثمل ويرغب في إثارة دهشة الزبون، فيقول له: «تعال، سأريك كل ما أملكه.. أنت ترى هذه الحديقة؟ إنها لي.. وهذا المنزل؟ إنه ملكي.. وهذه المرأة التي تمارس الجنس؟ إنها لي.. هل ترى ذلك الرجل الذي يضاجعها؟ إنه أنا..». إنها القصة نفسها، ولكنها أكثر إثارة. الوصفة الرابحة. فكل شيء يوقف بالفعل على السيناريو: أساس كل فيلم جيد هو السيناريو، والكاتب هو من يقف وراء ذلك. من دون سيناريو جيد، ليس هناك فيلما جيدا.. ومن هنا، ينطلق كل شيء. بالفعل، كل التجديدات التقنية مدهشة.. خلال العشر دقائق الأولى، وبعد ذلك نشرع في التساؤل: من سيفتح الباب؟ كيف سيحكي لنا قصته؟ لو لم يكتب شكسبير هاملت، سيوجد العالم رغم ذلك، لكننا سنكون حتما أكثر فقرا على مستوى الحكايات. عندما بدأت في تشيكوسلوفاكيا، أو بالأحرى في تلك الفترة. في الجمهورية الاشتراكية التشيكوسلوفاكية، كنت أتوفر على هذا الطموح للكتابة. فهمت سريعا أن ذلك هو الأساس. وفي ليلة، بعد الطلاق، كنت وحيدا. وبينما كنت عائدا إلى بيتي في براغ متعبا ومحبطا، في حوالي الساعة الثانية صباحا، رأيت فتاة تتنزه في الشارع وهي تحمل حقيبة. ولما وصلت إلى البيت، بدأت أكتب عنها، وعن تلك الرؤية الليلية: حكاية فتاة تصل إلى براغ، وتمشي لا تلوي على شيء بحثا عن رجل كانت قد التقته في مدينتها الصغيرة، والذي وقعت على عجل في حبه، وطلب منها أن تلحق به إلى براغ حيث يسكن. تتوفر على العنوان، ولكنها لا تعرف المدينة، وتعبر المدينة حاملة حقيبة. كان ذلك بداية سيناريو، لفيلم «عشاق المرأة الشقراء» (1965). وحين، وصلت إلى أمريكا، في بداية السبعينيات، وجدت وضعية مختلفة جدا: فهمت أنه لتكون كاتبا 100%، عليك أن تكتب بلغة رضعتها منذ طفولتك مع الحليب، وتكلمتها بطلاقة وسرعة أثناء مراهقتك. وطبعا، ليس هذا هو المتوفر في حالتي. ولهذا، قررت أن أركز على الاقتباسات بالنسبة للروايات والمسرحيات والكوميديات الموسيقية. كان ذلك هو لوح النجاة. هناك طريقتان للقيام بالاقتباس: إما أن تستلهم من الرواية، وتصور المسرحية.. وإما أن تبدع رؤية سينمائية جديدة، انطلاقا من رواية أو مسرحية.. ذلك أن ما يصلح للأدب لا يصلح ضرورة للسينما.. فمثلا «تحليق تحت عش المجانين» Vol au- dessus d'un nid de coucou رواية تمت كتابتها وكأن كل شيء فيها مرئي وأعيد تشكيله بعيون هندي شيزفريني. بالنسبة، سيبعث ذلك على السخرية في السينما. لذلك، أخذت القصة الأساسية، والأحداث، والشخصيات، لأحكي كل ذلك بتصور آخر، وفق رؤيتي السينمائية الخاصة للعالم. إن السيناريو الجيد، يكتب بشكل جماعي. اشتغلت مع جان كلود، وبوك هنري.. وفي تشكيكوسلوفاكيا مع إيفان باسر. أحب مناخ التعاون، وتلاقح الأفكار. وحسب تجربتي، فالتعاون الجيد والسعيد لكتابه السيناريو يساوي نصف الإخراج. نصور كل الفيلم مسبقا، قبل عملية التصوير. أعشق العمل مع كتاب سيناريو قادرين على لعب كل المشاهد عن طريق كتابتها، وعن طريق اللعب بالحوارات التي تتضمنها. كنا نقوم بذلك بيننا، وكانت أذني تستقبل الحوار وتميز بين الجيد والرديء. فهناك حوار يمكن أن يظهر أنه حقيقي وهو مكتوب، لكن عندما تستمع إليه يظهر لك زيفه، والعكس صحيح أيضا: أحيانا، يظهر أن ما هو مكتوب مزيف، لكن الشفوي يكشف أنه حقيقي. فالانتقال إلى الشفوي هو الحقيقة الأولى للفيلم. فالسيناريو الوحيد الذي كتب لي بشكل كامل، قبل أن أهتم به، وقبل أن أدخل عليه تعديلات، هو سيناريو فيلم «لاري فلينت» Larry flynt (1996). إنها المرة الأولى التي يقع لي ذلك: طلبية كاملة كتبها سكوت ألكسندر ولاري كاراشزيوسكي. لكن الأمر لم يكن سيئا، لأنني أحببت سريعا السيناريو. إنه سيناريو جيد، من أول صفحة إلى آخرها. فحصت كل سطر، كل مشهد، كل كلمة، لأعرف هل هو شيء أستطيع القيام به أم لا، واستطعت أن أجعل كل المشاهد مرئية، كل أنواع المشهد. وهكذا، أدركت سريعا أنه يتوافق مع فهمي للحقائق. وما زلت أفضل أن يكون السيناريو منسجما مع حقيقتي الخاصة. كان فيلمي الأول، الذي قمت بإخراجه، فيلما وثائقيا «المسابقة» Le concours حول المقابلات مع عازفين موسيقيين ومغنيات بمدينة براغ، في بداية سنوات الستينيات. ولم أنتقل إلا بعد ذلك إلى التخييل. وبقي جزء من ذلك في أفلامي، ولو كان جزئيا، من التلقائية الوثائقية تقريبا: أن تقبض على لحظة عابرة، على شيء ليس متوقعا تماما. في تشيكوسلوفاكيا، وحينما كنت أدرس السينما، لم تكن الفكرة تماما هي تقليد الأساتذة الكبار، ويليام ويلير، جون فورد، إيزنشتاين، روني كلير، مارسيل كارني. فطموحنا هو التحدي، الاستفزاز، الإلهام، والسينما المتحررة من تاريخها. وأيضا يتعلق هذا الطموح بمواجهة الغباء المطلق للأفلام التي تم إنتاجها في هذه المرحلة بالبلدان الاشتراكية.. كان علينا أن نقوم بالعكس، لكن من دون أن نقلد الكلاسيكيين، لأننا كنا نرى أن كل تلك الأفلام تجسد الكذب المضاعف، الكذب حول الكذب. كل شيء كان اصطناعيا، لا شيء حقيقي. والنتيجة، أن تحركنا كان يقودنا إلى إظهار أي شيء على الشاشة، يكفي أن يكون حقيقيا. كان ذلك يثير إعجابنا، ولا شيء كان يعجبني أكثر من رؤية وجه طبيعي على الشاشة. كان الأمر منعشا كالعثور على الذهب في غرفتك الخاصة. غير أنه في مهنة السينمائي، وعلى عكس الشعر أو التشكيل نفسه، نكون على علاقة ببنية، وبتنظيم. ففي تشيكوسلوفاكيا، طبعا، كانت العلاقة بالدولة الاشتراكية، بإنتاج الدولة. وفي أمريكا، بعد ذلك، هناك الشركات الخاصة، الاستوديوهات، المستقلة أم غير المستقلة، فالأمر ليس مهما. ففي كلتا الحالتين، هناك (...).. ... هذا هو العمل، لكن في أحد أفلامي، كان هنالك هذا الشكل من الارتجال، بالنسبة لفيلم «عشاق المرأة الشقراء» مثلا، نجد مشهد الجنود الثلاثة الصاعدين فوق الطاولة، ثم عندما يتبع البطل بنات جديدات، هكذا فوق ضربة رأس... وقد وظفت هذا الارتجال في فيلم «تحليق فوق عش المجانين»، في المشهد الذي نشاهد فيه المرضى يتكلمون، ثم في المشهد الآخر حين تدخل الممرضة الضخمة لتزور مريضا؛ وضعت كاميرا رئيسية أمام ممثل رئيسي، وأخبرت الآخرين أن الكاميرا الثانية ستتجول أينما رأت ذلك مناسبا.. هي فرصة لجعل المشاهدين منتبهين، حتى التقنيين والممثلين تجعلهم منتبهون، رغم أن هذان الأخيران لا يشعران – البتة- أنهما محور اهتمامي.. بل يظلا، في الآن ذاته- مركزين وهادئين، في الوقت الذي تتحرك الكاميرا بينهم لتنقل لحظات جميلة جدا. أبدأ التفكير في الممثلين حالما تنتهي كتابة السيناريو وليس قبلا، إنه أمر مغرٍ (آه !!! سيشاركني توم كروز، جاك نيكولسون...،) لكن قد تكون وسيلة أخرى لقبول أشياء – في السيناريو- غير مُفَكر فيها بشكل دقيق، فضلا عن شخصيات ليست مركبة ومرسومة. اختيار الممثلين هو مرحلة ثانية الأهم في الفيلم بعد مرحلة السيناريو.. فمن الممكن التوفر على سيناريو جيد ومخرج موهوب، لكن إذا لم يؤمن المشاهدون بالممثلين الذين يشغلون الشاشة، لن ينجح الفيلم !! إذن، فأنا أكرر محاولات عديدة، قراءات متكررة، وتسجيلات اختبارية، خصوصا لكي أتيح للممثلين المختارين أن يتمرنوا على أداء أدوارهم.. فقبل أن أوزع أدوارهم، فهم يبدؤون في العمل بشكل حقيقي، ليصبحوا ممثلين دون أن يعلموا ذلك.. إذن فهم يظلون منفتحين عليكم، يناضلون من أجل أدوارهم.. عندما نوقع عقد العمل، يبدأ الممثلون في البحث عن اليقين في أدوارهم، ويتيحون لأنفسهم على الأقل فرصة الإنصات إليكم.. بتعبير آخر، كل الأدوار تُلعب قبل التصوير، بل وأنني لا أشتغل في بلاطو التصوير!! فمرحلة اختيار الممثلين هي المرحلة التي نقوم فيها بترتيب أدوار الشخصيات، وهو أمر مهم جدا.. اختيار الممثلين والممثلات ذوي الأدوار الصغيرة مقارنة بأخرى كبيرة والعكس بالعكس.. لأن الأدوار الثانوية تَعد أهم من الأدوار الرئيسية، فقط لأنها التي تعطي للفيلم تلوينا، نبرة، وأصالة.. للممثل الرئيس الحظ الأوفر في الفضاءات والمَشاهد لغواية المتلقي والتأثير فيه، قد يحبه أو يكرهه.. أما الأدوار الصغيرة فهي لا تلقى نفس النصيب من الفضاءات، وعليها أن تؤثر على متلقيها بشكل سريع وقوي.. وهو السبب الذي يجعلني أركز اهتمامي على الأدوار الثانوية. إنه لأمر يجعلني أحمق عندما أشاهد أدوارا ثانوية لممثلين تتشابه فيما بينها.. أحدهم يظهر على الشاشة دقيقة واحدة ليختفي خلال عشرين دقيقة أخرى ثم يظهر بعد ذلك من جديد !! لا أستطيع أن أجزم إن كان هو أخ العشيق أم هو النجار !! لهذا، وجب على المخرج ترتيب وجوه وشخصيات الممثلين والممثلات.. ليتسنى للمشاهد أن يدرك ذلك من خلال الشاشة. إلا أن المعيار الأساس يظل نفسه دائما: أأصدق ما تراه عيناي أم لا؟ إذا اخترتم جيدا ممثليكم، فأنتم – بذلك- غير ملزمين بإعادة تصوير اللقطات مرة ومرتين وثلاث مرات... فهذا يكفي.. وإذا لم تنجحوا في ذلك، تأكدوا أن الأمر لن يكون يسيرا. شخصيا لا أحب تكرار أخذ اللقطات لاسيما عندما يتعلق الأمر بالمقاطع المرتجلة، لأنكم كلما أعدتموها ستستشعرون التكرار وستتلاشى العفوية في العمل. عموما، في أعمالي لا تكون الكاميرا نجمة: مؤثرات الكاميرا لا تهمني، فأنا أعطي الأهمية للقطات ولتأطيرها، حيث أنني أشتغل مع نفس مدير التصوير «ميروسلاف أوندريك» منذ تشيكوسلوفاكيا. هناك أفلام (وأخص بالذكر أماديوس) حيث العمل فيها كان معتبرا من حيث الإضاءة.. فإذا كانت القصة قوية يمكن للكاميرا أن تكون خجولة، وإذا كانت قصة الفيلم ضبابية فعلى الكاميرا أن تؤدي وظيفتها كساحرة، أما إذا كانت القصة قوية جدا، بإمكان الكاميرا أن لا تخدم هذه القصة.. تظل البساطة هي الأفضل في تشيكوسلوفاكيا، والولايات المتحدة وكل أنحاء العالم. إن العلاقة بين مدير التصوير والمخرج مهمة جدا، بالرغم من أننا نشكل أقوى الأعداء على بلاطو التصوير.. فإذا كان الاثنان (المخرج ومدير التصوير) يسعيان إلى الكمال، فإنه من المستحيل – تقريبا- أن يتعاونا، لأن الأفضل للمصَور أن يشتغل دون ممثلين، أو أن يصور ديكورا ثابتا، أو أن يكون كل شيء مضاء ومُعدا. كل لقطة أو إطار يتحولان إلى لوحة كبيرة على شاشتكم. بالنسبة لي، إن الفيلم المثالي يُنجز من دون الكاميرا ومن دون المصور لأنهما يُخجلان الممثلين دائما.. إذن يجب التوصل إلى حل توافقي. إن الموسيقى تساعدني كثيرا، وأنا أحب أن أتوفر على الموسيقى قبل أن أبدأ الفيلم. في فيلم «شعر» كما في فيلم «أماديوس» بحثت على الموسيقى قبل بدء التصوير وقد تسلينا وساعدنا ذلك كثيرا في التفكير والإلهام بل وأعطانا إيقاعا خاصة على بلاطو التصوير.. إن التعاون مع المؤلفين الموسيقيين أمر مميز، إنهم أكثر حُمقا من لاعبي الشطرنج، لا يمكنني أن أكلمهم، لا أفهمهم.. في فيلم «التحليق فوق عش المجانين» لم أكن أريد سوى أن تنقذ الموسيقى نهاية الفيلم، فمن دونها لكان الفيلم كارثة !!.. وعندما وصل «بوكاس» كنت قلقا (علي أن أعترف بذلك) أخذ حقيبته، ووضعها فوق الطاولة، فتحها وأخرج منها عشرات الكؤوس، وطلب كأسا كبيرة وأخذ يملأ كل الكؤوس ماء.. ثم بدأ يلعب بضرب الكؤوس ليُكون موسيقى.. كان مشهدا رائعا !! بعد ذلك أضاف منشارا كهربائيا وبطارية، كان هذا كل شيء ليؤلف موسيقى فيلمي.. كان شيئا جميلا.. السينما، الموسيقى، والحوار.. امتزاج مكتمل، لا يزعجني بل على عكس ذلك، بإمكان الموسيقى أن ترفع القدرة على الكلام. وأخيرا، وجب أن أشير إلى ثقة قصوى ألمسها في فيلم «أماديوس»: عندما تشاهدون هذا الفيلم تأكدوا أنه مجاز هوليودي، و»موزار» هو كمُستخدم داخل استوديو هوليودي.. كما أنا !..