يأتي فيلم «البقرة » (2016) للمخرج الجزائري المقيم في فرنسا، محمد حميدي حاملا الكثير من التوابل والبوادر التي تجعله مرتبطا بفيلمه الأول "وُلِدَ في مكان ما" (2013)، في اهتمامه بموضوع الهجرة وما يرتبط بها، كمحور أساسي في السينما المغاربية بوجه عام؛ إذ ينكب عليها مخرجو الداخل والخارج معا، وينخرط في تشجيع إنتاج هذه العينة من الأفلام، وبنهم واضح، الأجانب أيضا مما يطرح أكثر من سؤال. يصور فيلم «البقرة» للمخرج الجزائري محمد حميدي قصة المزارع الجزائري «فتاح» (فتاح بُويَحمد) الذي يحلم بأن تشارك بقرته المدللة "جاكلين" في مسابقة "أحسن بقرة" ضمن فعاليات معرض باريس الزراعي، وهو ما سيتحقق بالفعل بعد أن وجهت له دعوة للمشاركة تلقاها سكان قريته باندهاش كبير. هكذا، سيركب الفلاح وبقرته البحر متوجها نحو مرسيليا، ثم سيواصل رحلته سيرا على الأقدام نحو مُجَمَّع "قرساي" للمعارض الكبرى في باريس، لم تكن الرحلة سهلة ولا خالية من المنعطفات والمفاجآت والاكتشافات التي وضعت نمط حياة صاحب البقرة أمام أسلوب الفرنسيين بكل يقينياته، وكذلك الأساطير المؤسسة له. مفارقات الشخصية يعتمد فيلم "البقرة" في بنائه الكوميدي على التناقض في المواقف والحالات، أو ما يصطلح عليه "كوميديا المفارقة"، فهو يقترح مقارنات لا تخلو من مبالغة وفجاجة وإن كانت مغلفة بشكل مقصود ببهارات من الواقع اليومي للناس، كتهريب المحروقات والتبغ على الحدود المغربية الجزائرية، والبيروقراطية المتهالكة، والفساد المركب المعزز بحوارات كوميدية تتكئ على نقد مسموم ومدسوس، سرعان ما يتم حله من خلال تقديم النموذج الفرنسي، فيما يشبه تذكيرنا بالمشاهد واللقطات الكولونيالية المعروفة. فلا تصدق المقارنة إلاّ مع وجود القرائن المبررة لها؛ إذ من الصعب فهم المسار الحداثي في الغرب، وتأثيره في الفرد والمجتمع، وانتظار نفس النتائج في المجتمعات المغاربية التي تعاني من النظام القبلي المبني على الولاءات والتحكم والتوجيه والطاعة وغيرها. يقارن الفيلم بين قرية "بولعيون" الافتراضية بالجزائر، والمصورة فعليا بالمغرب، والتي يمكن أن تكون في تونس بالنظر إلى التشابه الجغرافي والثقافي الكبير بين هذه البلدان الثلاثة، فضلا عن مخلفات الإرث الاستعماري الفرنسي المشترك على مستوى البنيات الإدارية والذهنية والثقافية؛ وبين القرى الفرنسية التي قطعها "فتاح" الذي لاقى مساعدات واستضافات متعددة من بعض المواطنين الفرنسيين الذين أحبوا شخصه الضحوك. إن لم نقل الكاريكاتوري الذي يرطن فرنسية من نوع خاص، ويقدم حكايات ومقالب تجعله يكون مثيرا للسخرية، حينما يخالف النموذج الفرنسي، ومثيرا للإعجاب حينما توافق ذلك النموذج أو تستدعيه ثقافيا، كما هو الحال أثناء حفظ الأغاني الفرنسية الكلاسيكية مثلا. يقدم الفيلم انفتاح "فتاح" وكأنه ذلك التلميذ المجتهد الذي يطبق الدروس بشكل آلي، فعندما يسكر يبالغ، فتخونه السيطرة على الذات، ويفقد الصلة بالواقع فيخرج من تلك الوضعية وينكر كل شيء أو يعترف به بعد الندم عليه، وكأنه خضع لجلسات ناجحة من التنويم المغناطيسي، أو بعد الجلوس على الأريكة الوثيرة لمحلل نفسي ماهر استطاع بحنكته ومهارته وضع أصبعه على كل الجراح فَطهّر نفسيته من كل الشرور المحدقة بها، وحرّر لاوعيه من كل المكبوتات. ينم اختيار الممثلين على معرفة كبيرة بجودة الأداء الدرامي في المغرب والجزائر، وذلك ما عكسه فيلما المخرج الأول والثاني على حد سواء، لأن هذا الخلط له أصول بين فناني المغرب والجزائر، وقد سبق المسرح والغناء السينما، وكان الوصول إلى الجمهور الجزائري أو المغربي مجرد مسافات لا أقل ولا أكثر، لأن اللهجات واللغات واحدة تقريبا، والثقافة متشابهة مع فروق بسيطة، فبالرغم من رمزية البقرة المقدسة والمِدْرَارَة للخير واليسر في بعض الأساطير والديانات والثقافات، إلاّ أنها تظل الرمز الكوني للإبداع كعنصر يمكن أن يجلب السعادة للناس في أحلك الظروف وأقساها. رسائل سياسية يتشابه هذا الفيلم، بشكل أو بآخر، مع بعض الأفلام المغاربية الأخرى من قبيل فيلم "طينجا" (2004) للمغربي حسن لكزولي، و"باريس بأي ثمن" (2013) للتونسية الفرنسية ريم خريسي، فالأول يطرح مسألة العودة إلى الوطن الأصلي، والثاني ينتصر لعودة البطل إلى باريس كخلاص من كل المشاكل التي لحقت به ببلده الأصلي؛ ويمكن إضافة فيلم "العِجل الذهبي" (2014) لصاحبه حسن لكزولي خير مثال على الأفلام المغاربية الباهتة التي سقطت في الابتذال، رغم الأموال المهمة التي رصدت لإنتاجها، لأن رسالتها كانت مبهمة، وغير قادرة على فهم ما يجري بالداخل، فضلا عن تكريس صورة نمطية متجاوزة من حيث السياق الزمني. نشير هنا إلى فيلمي "البلديون" (2006) للمخرج رشيد بوشارب، و"المسيرة" (2013) للمخرج البلجيكي نبيل بن يدير اللذين أتيا للدلالة على التباس علاقة فرنسا بأبناء مستعمراتها الذين اكتسبوا المواطنة الفرنسية بفضل قدرتهم الكبيرة على الاندماج، وتزويد فرنسا بالأطر، وإخراجها من الانطواء على نفسها، وتأزيم شعارات الثورة (الحرية، الإخاء، المساواة) التي أظهرت التجربة أن العلاقة مع الآخر كفيلة بنقلها من مستوى الشعار إلى الفعل، أو انكشاف أبعادها الطوباوية. يبرز الدمج بين الممثلين المغاربة والجزائريين، وتصوير الديكورات الجزائرية في المغرب، أن التواصل المغاربي لا يحتاج إلى حجج للتدليل عليه، فهو أمر قائم بفعل الأواصر التاريخية والآمال والآلام المشتركة، وأن بعض الرهانات الخارجية التي تدعم الانفصال والتشتيت والتخريب قد تعود إلى ضعف معيّن في الأفق الاستراتيجي لقوى الإنتاج التي تراهن على بعض الأشخاص أو الجهات التي لا تفهم البعد الفني لما تقوم به، فالمسألة المغاربية ليست مجرد صراع بين أشخاص أو أنظمة، وإنما هي صمام أمان لأوروبا والبحر الأبيض المتوسط عموما، وتلك الرسالة السياسية التي قدمها الفيلم بطريقة تحتاج إلى الكثير من القفز على الكليشيهات لاستيعاب فحواها. فليست المشكلة في أن تمر بعض الدول والحضارات العريقة من نكبات، ولكن عدم قدرتها على الاستفادة من الأخطاء الإستراتيجية كفيل بفتح المجال لقنّاصي لحظات الضعف للعب في الماء العكر. قلما تسلم مثل هذه الأفلام من تكريس الرؤية المتعالية للآخر على حساب تحقير الثقافة المحلية، وتقويض النموذج الأصلي، ولكن الآليات الذاتية للسينما تخفي صيغا تعبيرية من شأنها أن تسير ضد نوايا صناع الفيلم، فمسألة البدائل (تعويض الأماكن والأشخاص) تمنح لتلك البدائل قراءات وتجليات تنفلت من عقال اللحظة الخاصة بصناعة الفيلم.