لم يكن التاريخ بالمنصف وهو يقدم إلينا الحقائق على مضض بخصوص المهدي بنبركة المناضل الأبي، ولا كانت الصفحات المنغرسة بعمق الكتب بقادرة أن تشبع نهمنا عن شخصية بهذا القدر ولو أن الصدفة أحيانا تكون أجرأ حين تضع بين أيدينا بعض المعلومات كماء سلسبيل قد لا يروي العطش بداخلنا لمعرفة ما قد حصل، ولكن على الأقل تمنحنا بعض الأمل بأن الصفحات المحذوفة من التاريخ كانت جائرة. قبل سنوات ليست بالقليلة وبالصدفة البحتة يقع بين يدي كتاب لا علاقة للعنوان بما في داخله، فعنوانه الذي أثارني صدقا كان هو السرقة والرشوة في تاريخ المخابرات الإسرائيلية ، عنوانا مثيرا ومستفزا لفكري، خاصة أن في فترة التسعينات حيث كانت حرب الجواسيس على أشدها والجميل في الأمر أنه كان من تأليف عضوين سابقين في المخابرات الإسرائيلية وتمت ترجمته من طرف باحثين ليبيين. ضاع مني الكتاب كما ضاع مني اسما مؤلفيه ومترجميه أيضا، لكن الحقائق المثيرة التي تضمنها بقيت عالقة سواء حول هروب الزعيم ياسر عرفات من الضفة الغربية، ذلك الهروب الذي ظل علامة استفهام شغلت فكر العديدين، وكذلك تسرب معلومات قيمة من المخابرات المركزية الأمريكية وغيرها، لكن الحكاية الأبرز التي شدت انتباهي كانت الاعتراف الصريح بما تعرض له الزعيم المهدي بنبركة من اختطاف وتعذيب، الشيء الذي أدى إلى وفاته ثم نقله على متن طائرة عسكرية إلى المغرب ثم باقي التفاصيل حول إخفاء معالم الجريمة من خلال إذابة جثته بمادة الأسيد، وكيف أن فرنسا أدانت استغلال أراضيها للإطاحة به، وحول ما تسرب من استغلال للمخابرات الإسرائيلية التي اعتقدت أن تقديم مساعدتها في ما حصل هو تقديم هدية لملك المغرب الحسن الثاني رحمه الله، لتكتشف بعد ذلك أن الأمر لم يكن كذلك أبدا وإنما هو مجرد تصفية حسابات بين أوفقير وزير الداخلية من جهة والدليمي القائد العسكري الذي لم يستسغ قط مواقف المهدي بن بركة من العسكريين وبين هذا الأخير وخاصة بعد أن طلب العاهل المغربي استقدامه ربما لفتح صفحة جديدة وربما لتأسيس حكومة أنذاك. هذه المعلومات التي استوقفتني كثيرا في هذا الكتاب كانت كفيلة بأن تجعل مادة التاريخ المقدسة بداخلي تتحرر من قدسيتها نسبيا لتدخلني مرحلة الريبة ربما في سن مبكر ولتعرفني أن قانون الاحتمالات الذي كنا ندرسه بمادة الرياضيات قد ينطبق أيضا على مادة التاريخ، وليس من باب ما خلص إليه الروائي الجزائري واسيني الأعرج لاحقا من أن التاريخ يكتبه المنتصرون، وإنما باكتشاف أن هناك ثغرات أشبه بمثلث برمودا تغرقنا إذا ما اقتربنا منها لأنها حيكت بطلاسم وحده الزمن كفيل بكشفها. حتى الآن لا أدري بعد كل هذه السنوات ما إذا كان الزمن قد أنصف أيقونة اسمها المهدي بن بركة وهو الذي كان من الممكن أن يكون عالم رياضيات ليس إلا، لولا اندلاع الحرب وتوجهه للجزائر لينغرس في الدفاع عن قضايا العالم الثالث وليصبح مصدر قلق للكيان الاستعماري ولغيره بعد ذلك. ولا أدري الآن بعد كل هذه الأشرطة السينمائية وكل ما قيل في الصحف وما كتبه المبدعون إن كان قد مُنِح ولو جزءا يسيرا مما يستحق من اهتمام المبدعين ممن آمنوا مثله بالحرية والمساواة، لكن عن نفسي ربما لم يجرؤ قلمي حتى الآن الكتابة عنه بشكل مباشر لكن ما قرأته في سن مبكر جعل طيفه يظهر من خلال معالم بعض الكتابات القصصية التي صدرت تحت عنوان «عيون القلب» بشكل بسيط، ولو أن فكرة الاتهامات المتبادلة وتصفية الحسابات بعد الاستقلال ظهرت جليا من خلال روايتي الأخيرة والتي ستصدر قريبا والتي عنونتها ب «رائحة الموت»، حيث يكون توجه الجميع قبل الاستقلال ضد المستعمر لكن بعده يتحول إلى محاولة إثبات الذات ومن هو الأكثر مواطنة من الآخر، مرورا إلى شد الخناق والتصفيات الجسدية. كل هذا لا يشفي الغليل فما زال المبدعون المغاربة في رأيي الخاص لم يستطيعوا تطويع أقلامهم في التعبير عن هذه الحقبة التاريخية لا كتأريخ وكتابة سيرة المهدي بن بركة وأمثاله، وإنما في طرح النموذج وتطور الفكر المغربي وتجسيد الاختلافات التي تلت فترة الاستعمار خاصة وأن تاريخنا حافل بمثل هذه الرموز، فالمجتمع المغربي على ما هو عليه الآن قد تشكل عبر تمخض أفكار وآراء وتطورها وصراعات ومواقف كانت حاسمة في أن تجعل الكفة تميل في اتجاه معين دون آخر، وليس بالضرورة إلى الكفة الأكثر صدقا ونضجا. ففي آخر المطاف، ونحن نقف على عتبة الذكرى السادسة والخمسين لاختطاف بنبركة، نحتاج أن نعيد كتابة تاريخنا إبداعيا على الأقل حتى نمنح شبابنا فرصة التعرف على بعض الأيقونات التي كانت فاعلة في استقلال المغرب وفي وضع اللبنات الأولى لمغرب اليوم. فعندما نتكلم عن خطبة طنجة الشهيرة وزيارة السلطان محمد الخامس رحمه الله لها لا يجب أن ننسى أن بن بركة كان منسقا لتلك الرحلة والمشرف عليها وأول من نشر بيانا بخصوصها باللغة الفرنسية، ولا أن ننسى دوره في طريق الوحدة التي تجاوزت بناء جسر من تراب الى بناء مدرسة تعليمية جديدة جمعت ما بين إدراك قيمة التعلم المهني والحس الوطني.