أندري فايدا، رومان بولانسكي، كريستوف كيشلوفسكي، ثلاثة أسماء لا يمكن للسينما البولندية أن تنساها أو تتخلص منها، ثلاثة عمالقة يمزجون التأمل بالحركة، الشعر بالصورة، الواقع بالخيال، الكلاسيكية بالحداثة، أنهم من أطلق السينما البولندية على خارطة السينما العالمية، فلا تزال السينما البولندية خاصة والسينما الاشتراكية عامة تعاني من أزمتين مهمتين أساسيتين: أولهما: أن القطاع العام يفرض نفسه بقوة على الإنتاج السينمائي هناك. وثانيهما: الوقوع في اسر التوزيع العالمي والاقتصار على التوزيع الداخلي. من هذا بقيت سينما العالم الاشتراكي تحت وطأة التوزيع المحلي على الرغم من كثافة الإنتاج السينمائي، وفي العالم العربي نعيش نحن تحت غزو السينما التجارية الأمريكية مفتقرين إلى السينما المؤثرة القادمة من بقاع العالم المختلفة بسبب هيمنة التوزيع الأمريكي على شركات الاستيراد في العالم، وهذا ساعد على تحقيق الحلم الأمريكي ونشر قيم الاستهلاك، على العكس من ذلك نرى أفلام السينمات الأخرى التي تسعى نحو هدف الوعي وليس هدف التجارة، من هذا نرى أن الفيلم في العالم الاشتراكي بقي أسير الصالات السينمائية الخاصة ونوادي السينما والمهرجانات الدولية السينمائية، وهذا ما أدى بالتالي إلى هجرة أغلب مخرجي سينما العالم الثالث إلى خارج بلدانهم مثل السوفيتي «أندري تاركوفسكي» الذي اتخذ من فرنسا مستقرا له ومواطنه «كونشالوفسكي» المقيم في أمريكا والبولندي «رومان بولانسكي» المقيم في أوربا وقبلها في أمريكا... وغيرهم الكثير، أن هجرة مثل هؤلاء المخرجين وغيرهم ساعد، بدون شك، على نشر سينما العالم الاشتراكي في بقاع العالم على الرغم من إثارة هذه الهجرات من سخط السلطة هناك. أندري فايدا: واقعية صادمة المخرج الكبير فايدا ولد عام 1926 وهو صاحب أفلام «ماس ورماد» و»إنسان من حديد» و»القنال» و»دانتون»، كان فايدا في الرابعة والعشرين حين قطع دراسته للرسم في أكاديمية الفنون الجميلة في كراكوف ليتفرغ للسينما كمحترف، يعتمد العمل السينمائي لديه على الواقعية الصارمة والصادمة واستخدام اللغة المحلية الدارجة مما شكل أسلوبا سينمائيا خالصا لديه، فهو يكره كل بناء متشابه لأنه يلغي الخصوصية المحلية مثل «العاشق الذي يضيع الطريق إلى بيت الحبيبة»، كما يكره السينما المتشابهة أيضا، وربط بين خيوط الرسم والسينما المستمدة من التقاليد الشعبية لبلده. ومما لا شك فيه أن فايدا كانت له تجربة فريدة وخاصة مميزة في السينما البولندية التي مرت بمنعطفات صعبة ولكنها رسخت أقدامها لتقف على أرض السينما العالمية الصلبة من خلاله مع زملائه (زانوسي وهوفمان وكافأليروفتش)، وترتبط تجربته الشخصية بما أنجزه في بولندا في المقام الأول ويقول في كتابه «الرؤية المزدوجة»: «كنت محظوظا جدا لوجودي في فترة بداية صناعة السينما البولندية». فقد ساهم في التعريف بسينما بلده كما ساعد على انتشار وتقبل الجمهور البولندي لهذه السينما (فصناعة السينما هنا مؤممة تماما من الإنتاج إلى التوزيع) كما يذكر هو في كتابه، بقي فايدا متأثرا بالمسرح لأنه المدرسة الأولى في الفن والأفكار ولكن هذا لم يؤثر على إبداعاته السينمائية فلكل فن لغته الخاصة. قدم فايدا واحدا من أهم أفلامه «إنسان من حديد» الذي يتحدث عن التمرد العمالي في بداية الثمانينات ومرورا بموقف الشارع البولندي المناصر له والمناهض للسلطة . وفي عام 1983 قدم فايدا في فرنسا فيلمه- دانتون- عن أحد قوادالثورة الفرنسية، والفيلم عبارة عن مشروع ضخم بتمويل فرنسي ويتحدث عن الأيام الأخيرة لحياة دانتون وقصة خلافه مع روبسبير الذي كان روبسبير يمارس العنف الدموي لتصفية معارضيه وأعدائه ولتثبيت دعائم الجمهورية الفتية مما أدى إلى اصطدامه مع رفيقه دانتون الذي يرفض هذا العنف البربري ويدعو الى التسامح وإفساح المجال أمام الحريات العامة والاعتماد على الجماهير لإيقاف هذه المذبحة مما يدفع بروبيسبير إلى إرسال رفيقه إلى المقصلة. وقد أشارت الصحافة الفرنسية بأصابع الاتهام إلى فايدا واسمعوه كلمات مثل «أنه يشوه التاريخ الفرنسي» و»كيف لبولندي أن يخرج فلما عن دانتون الفرنسي» حتى وصل الأمر إلى «ميتران» الذي قرأ السيناريو وأشاد به وهو مأخوذ عن مسرحية «دانتون» للكاتبة البولندية «ستانسلافا بشيبييشيفسكا» وكتب السيناريو له السينارست الفرنسي الشهير «جان - كلود كارير». و حصل فايدا على أهم جائزتين سينمائيتين، السعفة الذهبية في كان عام 1981 على فلمه «إنسان من حديد «، وجائزة أوسكار خاصة عن مجمل أعماله السينمائية عام 1999. * رومان بولانسكي: واقعية الشر الآخر هو رومان بولانسكي ولد من أبوين بولونيين في باريس عام 1933 وعندما أصبح في الثالثة عادت أسرته إلى بولندا ولتستقر هناك ولكن عقد الأسرة انفرط اثر الحرب العالمية الثانية، لقد عاش بولانسكي حياة مرعبة شبيهة بأبطال أفلامه، فأبواه قتلا على يد النازية، وفي عام 1969 قتلت زوجته الممثلة «شارون تيت» على يد عصابة من الهيبيز وهي الحادثة المروعة الثانية في حياته، هو نفسه يهرب من أمريكا إلى فرنسا بعد إدانته بتهمة ممارسة الجنس مع قاصرة. جاء بولانسكي إلى السينما ومعه القسوة وهي ليست سوى نتيجة مباشرة لمأساة حياته الطفولية، كما ادخل إلى السينما الفضائح المختلطة بالانحراف، بعد تخرجه من المدرسة العليا للسينما في مدنينة ووج البولندية نحا منحى عبثيا وهذا ما جاء في أفلامه الأولى القصيرة وهي عبارة عن صور رمزية، فرض بولانسكي نفسه على المستوى العالمي من خلال أفلامه الشهيرة «السكين في الماء» عام 1962 وفيه نتعرف على العوامل الرئيسية التي ستظهر في أعماله اللاحقة مثل استخدام عدد قليل من الممثلين، والتزامه بوحدة المكان، عام 1965 يخرج فيلم( النفور) وعام 1966 يخرج «قاع الجوال» وهو الفيلم الذي أحدث اضطرابا في صفوف السينمائيين المتزمتين فهذا الفيلم يقف في منتصف الطريق بين مسرح العبث وأعمال كافكا، ويتضاعف ولعه بالأعمال الشيطانية ليخرج فيلميه الشهيرين «طفل روز ماري» و»الحي الصيني» وكان مقتل زوجته هو الفصل الأساسي الذي أدى به إلى إخراج رؤية جديدة مرعبة وجميلة ل( ماكبث) والذي أنهى به طريقته التقليدية في الإثارة غير الاعتيادية، ثم جاء أجمل أفلامه وأروعها «تيس» مع النجمة «ناستاسيا كينيسكي». في منتصف الثمانينات يخرج «القرصان» ويخرج عن مسرحية الكاتب التشيلي «أرييل دورفمان» فيلمه القوي «العذراء والموت» ثم يقدم عام 1999 فيلمه الشرير الجميل مع جوني ديب ولينا أولين المعنون «البوابة التاسعة» وفيه رؤية نفسية مضيفا عليها لمسته الخاصة ليتحفنا بجمالية الشر، الفيلم يدور حول جماعة من عبدة الشيطان حيث نتتبع خطى البطل جامع الكتب الذي يبحث عن كتاب سحري قديم قام بتأليفه الشيطان نفسه!! في البدء لا يقتنع البطل بمثل هذه الأمور ولكن توالي الوقائع الغريبة التي تحصل له تجعله يؤمن شيئا فشيئا بهذه الوقائع ومن هنا يقودنا «بولانسكي» لندخل مع بطله إلى المتاهة حيث نتقصى بحذر العالم الآخر ونقتفي مع البطل خطوات الشيطان في جهنم «المدينة وأضوائها الساحرة»، عالم غريب تختلط فيه الأوهام بالأحلام بالواقع بالمتخيل. بولانسكي العجوز صرح لمجلة «فآنيتي فير» في عددها لعام 2000 انه يشعر بالندم لعدم صنعه المزيد من الأفلام لأنه يجد سعادته في العمل، ونقول انه يكفينا أن يصنع فيلما واحدا وبهذه الجودة والبراعة الإخراجية في إثارة موضوع مهم وحساس دون أن يفقد المشاهد حس المتعة والتشويق والرعب، وهذا ما حققه عام 2002 حين خطف سعفة كان الذهبية وعدة ترشيحات لجوائز الاوسكار عن فيلمه الرائع والمهم جدا «عازف البيانو». * كريستوف كيشلوفسكي: الواقعية الشعرية آخر البولنديين الذي اقل ما يمكن أن يقال عنه انه شاعر سينمائي يتفرد برؤية خاصة عن الحياة البشرية في الوحدة والألم وغربة النفس وهذا طريقه إلى الإبداع، أفلامه دروس عميقة في السينما لأنه يكشف كيف تستطيع السينما أن تكون شعرا سحريا خالصا ونافذا ومؤثرا ويصبح الفيلم قصيدة عن الآلام والوحدة داخل النفوس البشرية المعذبة، ولكن طريق الأمل يضاء وسط التمزق وينار نحو الخلاص. كل عمل من أعمال «كيشلوفسكي» هو محاضرة عن قدرة السينما في النفاذ إلى عمق المأساة الإنسانية والى عمق جوهر الحياة، أخرج كيشلوفسكي أفلاما مميزة مثل «الحياة المزدوجة لفيرونيك» و»الوصايا العشر» وفيه يقدم رؤية جديدة وعصرية حديثة للوصايا، أما فيلمه «قصة حب قصيرة» فهو يتحدث عن حياة الشاب توميك ذي ال19 ربيعا، يعيش وحيدا في شقته وهوايته الوحيدة إلى جانب عمله كموظف في مكتب البريد هو مراقبة «ماجدا» الفنانة التي تعيش في الشقة المقابلة لشقته، وتمضي به الحياة على هذه الوتيرة المملة، في الصباح يذهب إلى عمله ويعود إلى غرفته مساءا يقرأ الرسائل التي تصله من صديقه الوحيد، يأكل، ينام، يصحو ليلا ليراقب ماجدا وحيدة أو مع أصدقائها، ماجدا لا تعرف أن هنالك من يراقبها ويعيش كل لحظة من لحظات حياتها بصمت، تبدو ماجدا اكبر منه فهي في ال30 تقريبا، هي أيضا وحيدة، ولكي يسحبها إلى عالمه الخاص يبدأ بإرسال رسائل لها وهي تأتي إلى البريد لاستلامها ولا تعلم أن من تستلم منه الرسائل هو من يبعثها، وهو من يعرف دقائق تفاصيل حياتها، يتصل بها هاتفيا ويبلغها بأنه هو من يفعل ذلك وانه يراقبها، تنظر ماجدا من الشباك لترى مئات من النوافذ المضيئة وتقرر أن تشارك في اللعبة، يفضح توميك نفسه ويلتقي ماجدا في المقهى ويصارحها بحبه وتصطحبه إلى بيتها وتقول له: «الحب أكذوبة لا يصدقها غير الساذج». يسقط توميك سريعا صريع هذه الصراحة وهو الذي عاش هائما في دنيا الحب، ويموت داخله ذلك الشيء الذي بناه لحبيبته، يعود إلى شقته وهناك ينتحر، تعلم ماجدا بانتحاره تتمنى لو انه عاش، لو أنها لم تقل له ما قالت، في المشهد الختامي الجميل يقدم كيسلوفسكي بشعرية بطله توميك وهو يعود إلى غرفته وهناك تكون ماجدا بانتظاره وتنظر من الشباك إلى غرفتها المقابلة لترى ماجدا الأخرى الوحيدة الشقية البائسة التي سكبت الحليب على المائدة في ثورة غضب، ترى ماجدا الأخرى وترى توميك الجميل يأتي ليقف الى جوارها، حصل هذا الفيلم على جائزة مهرجان كان عام 1989. آخر ما قدمه كيشلوفسكي قبل رحيله للعالم الآخر فيلمه «ثلاثة ألوان» وهو بثلاثة أجزاء «أبيض» و»أزرق» و «أحمر»، وهي ألوان العلم الفرنسي التي ترمز إلى الحرية والمساواة والتآخي، وكانت هذه الثلاثية هي نهاية هذا العبقري فقد كان مرهقا بعده يعتزل الفن والعمل السينمائي حتى وفاته عام 1996 وقد حصل مرة أخرى على جائزة مهرجان كان عن جزء «أزرق»، وهو فيلم جميل جدا يحكي عن حياة الوحدة التي تعيشها البطلة «أدتها ببراعة الفرنسية جوليت بينوش» بعد وفاة زوجها وابنها في حادث سيارة وتعجز هي عن الانتحار واللحاق بهما ثم تبدأ تتشرب معطيات المحيط «الناس، الأصوات، الحركة» لتؤلف منها سيمفونية جميلة تكون هدية لزوجها الراحل وابنتها وكل من يحيط بها، وقدم فيه صورة شعرية رائعة للحياة والحب والموت، وكانت الصورة المعبرة الصامتة أبلغ أثر وقدم درسا سينمائيا وكأنه يطبق مقولة أن السينما صور نابضة وليس حوارا، يرافق ذلك التدفق الصوري الهائل الموسيقى الأخاذة والمؤثرة التي الفتها البطلة في مخيلتها والتي كنا نستمع إليها معها حين تصغي وتسمع حركة الحياة، يذكر إن جزء ازرق فاز أيضا بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا إضافة إلى جائزة أفضل ممثلة، فيما فاز جزء أبيض بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين، فيما فاز جزء أحمر بجائزة نقاد نيويورك ونقاد لوس انجليس كأحسن فيلم أجنبي كما رشح ل3 جوائز اوسكار ول 4 جوائز البافتا.