لا يستقيم الحديث عن تطور السينما بالمغرب دون الحديث عن روادها، ومساءلة مرجعياتهم الفكرية والثقافية، ولا يمكن الحديث عن أزماتها وتضارب أساليبها دون استيعاب الاختلافات الحاصلة بين مختلف أجيالها الذين منحت مقترحاتهم الفنية رؤى فيلمية مختلفة حاولت الاشتغال بطرق مختلفة على ما يعتمل ويروج داخل المخيال المغربي. ولتسليط الضوء على هموم واحد من أهم روادها نناقش في هذا الحوار المقتضب بعض القضايا التي تشغله شخصيا، وتعني الشأن السينمائي المغربي والعربي معا خاصة وأن في جعبته ما يزيد عن عشرة أفلام روائية ووثائقية. o كان فيلمك الروائي الطويل «الشرگي» مؤسسا لما يمكن أن نسميه الإرهاصات الأولية لسينما مغربية مستقلة عن الشرق والغرب.. إلى أي حد يمكن أن يصدق هذا المعطى؟ n طفلا هتفت باستقلال المغرب في أزقة طنجة، ولم يقل لنا حينها أن ما وقع في «إيڤيان» كان مجرد «استقلال في إطار ترابط متبادل» ما بين المُسْتَعْمِر/المُسْتَعْمَر. لم أومن طول ممارستي بسينما مغربية، وناديت دائما بتأسيس سينما عربية بنبوغات قطرية. للثقافة المغربية خصوصية مَيَّزَتْهَا عن الشرق وهي الرشدية. عبر كل من ابن رشد و أبي بكر بن طفيل في أعمالهما عن قطيعة مع صوفية ابن سينا وابن عربي بإنتاجهما للفكر العقلاني والإلحاح على جدوته. كان ذلك في محور جغرافي واجتماعي وتاريخي، هو محور غرناطة- مراكش الذي دام لمدة قرون (أتكلم عن أدب الفقهاء كما أخذته عن شيوخي وليس عن مجذوبي شوارع المغرب العربي من ذوي الطموح السياسي كطبقة اجتماعية مسيرة). للثقافة المغربية جذور شرقية-غربية إلى يومنا هذا. لما شاهدت السينما العالمية بالخزانة السينمائية بباريس تعمق في تفكيري وإحساسي وقراراتي أنني أنتمي إلى إحدى الثقافات العالمية الكبرى وهي الثقافة العربية وأن أي إنتاج ثقافي عربي عليه أن يطرح مجددا في الساحة الثقافية العالمية العطاءات العربية في الآداب والعلوم والفنون. وعند مشاهدة لفيلم غنائي راقص رائع للمخرج الهوليوودي مينللي تبادر إلى ذهني ما قاله الأفغاني في «كتاب الأغاني» عن متيم المغنية البغدادية الجميلة الموهوبة! وعروبتي، أنا، هي مغربيتي. وهذا هو معطاي من «الشرگي» إلى «ثلاثية طنجة». o تلقيت تكوينك بفرنسا، وكنت من المنفتحين على الفكر الغربي، وعن «رولان بارت» وغيره كما أنك عشقت الشرق (مصر تحديدا)، وصورت فيلما بالقاهرة سميته «سيدة القاهرة» فضلا عن إنجازك مؤخرا لشريط وثائقي عن طه حسين.. كيف تشرح لنا هذا التساكن؟ n تتكلم البطلة رشيدة في مشهد من فيلمي «قفطان الحب» مع أمها بالفرنسية وتخاطبها هذه الأخيرة بالعربية. التساكن أدق وصف في هذا النطاق. كان الناس يسكنون بأزقة طنجة وفي عماراتها المتكونة من يهود ومسيحيين ومسلمين. وكانت اللغات تتساكن كذلك وتتداخل بالأزقة كما بالقاعات السينمائية (مصرية وإسبانية وإنجليزية وفرنسية). كنت أنتظر بمكتبة الحريشي بالسوق الداخل بلهفة كبيرة وصول منشورات القاهرة: «الكواكب» و»كتابي» و»الأدب». وكانت تقرض لي المكتبة الأمريكية، باللغة العربية، كتابات «ثورو» و»مارك توين». وتعرض المكتبة الفرنسية أفلام رونوار. لقد سافرت للدراسة بفرنسا وبحقيبتي «عصفور من الشرق» مقتديا عن كل وعي بتوفيق الحكيم وهو يملأ حقيبته بكتب عربية عند قصده باريس. بعد هذا، عَبَرْتُ في كل مراحل حياتي، وباستمرار، الجسور من ضفة لأخرى. فأخرجت أفلاما بالقاهرة كما بباريسوطنجة وفاس والأندلس. أليس طه حسين أول من حلل كون الثقافة العربية لم تترعرع وتعطي أحسن ثمارها إلا بالاحتكاك مع الثقافات الإنسانية الأخرى؟ o تسبب لك تصوير فيلم «سيدة القاهرة» في «منع» مؤقت من الدعم بدعوى صرف الأموال خارج المغرب.. ما الذي حدث بالفعل؟ n آه من السذاجة. كنت أومن بمثل الوطن العربي الأعلى. حاولت التسلل كما تعلمتها من استراتجيات ماي 68 بفرنسا، بمعنى أن تدخل المؤسسة من بابها الرسمي وأن تغيرها من الداخل، فتستغل هيمنة معينة على السوق لإدراج ثقافة مغايرة بغرض استلاب سينما الشباك. وفعلت ذلك بصعوبات وبطولة! ولما أنجزت الفيلم اتهموني بالاعتداء على الهوية المصرية في القاهرة، وبكوني لست ذا هوية مغربية في الرباط... وكان الحكم صادرا من نقاد ولجان ومجموعات حرفية ومثقفين، هم على قيد الحياة والسلطة، يتشدقون بالعروبة... فكان هذا لي بمثابة ما وصفه سيجموند فرويد بتلك «الغرابة الغريبة» Unheimlich التي كانت تعلن في الحقيقة عن نهاية الحلم بعالم عربي. لم يعد هناك فضاء ثقافي عربي كما أسسته السينما المصرية أو المثقفون الشرقيون في اللحظة المعاصرة. أصبح كل قطر عربي يريد أن يهيمن على سوق الكتاب والفيلم والأغنية، فقط لا غير، ليبرهن على «وطنيته»، ومنها على السلطة. فانطلاقا من تجربة «سيدة القاهرة» في 1991 ظهرت في المغرب السينما التجارية المغربية وتفشت عقلية الشباك المعروفة، الأمر الذي لم يكن كافيا لإقناعي بالتضحية والتنازل عن رغبتي في ثقافة عربية طبعا (وهذا ما عبرت عنه في خاتمة فيلم «طنجاوي» بأغنية «وطني حبيبي، وطني الأكبر أكبر» بصوت عبد الحليم حافظ العذب) o كانت أفلامك الثلاثة الأخيرة ذات إيقاع مختلف عن أفلامك الروائية القصيرة، وفيلمك الروائي الأول، فهل يعزى هذا الاختيار إلى تفاعل مع إيقاع الزمن في المجتمع المغربي والعربي أم هو اختيار جمالي للتركيز بشكل مكثف على ما يعتمل داخل المجتمع الذي تنتمي إليه؟ n هناك في ثلاثية طنجة («طفولة متمردة» (2005) و»عذارى وسنونو» (2008) و»طنجاوي» (2013) فعلا زمن مضاد كما أن هناك ثقافة مضادة أيضا. فعندما كانت المجتمعات العربية تعيش بالإيقاع الإقطاعي الوسواسي عبر القرن العشرين لزم اختيار الخطاب الجمالي المرتبط في الكتابة السينمائية بتقطيع وتعدد اللقطات والاعتماد على نظريات التركيب ونبذ الظلماتية اللئيمة شكلا ومضمونا بنوع من سرعة الصراخ. ثم تلاها «الانفتاح» والاجتياح والهيمنة الرأسمالية الهستيرية.. ونشأت، بالفعل، عندي رغبة في الإشادة بالفن البطئ الهادئ التأملي الباطني. ويتوارد هنا، من جديد، المحلي والشخصي مع العالمي ومع الآخر؛ إذ اكتشفت أن المخرج البرتغالي «مانويل دي أوليڤيرا» والتايواني «هو هياوو هسين» قد مالا، مثلا، إلى اختيار هذا الإيقاع المغاير. o توظف في أفلامك اللقطة المشهد، وتَتَعَمَّد الطول وبطء الإيقاع.. ما الخلفيات الفنية لذلك؟ n المخرج الياباني «ميزوغوشي» هو مؤسس اللقطة المشهد. إنهم يكررون، بسخاء، في السينما الفرنسية الثرية اللقطة المشهد إلا أنني تعلمت مع السينما المصرية الفقيرة ماديا والثرية فنيا وتقنيا الاكتفاء باللقطة الفريدة وهي جيدة بحيث يتفادى طاقم التصوير والممثلين ارتكاب الخطأ أثناء الأداء. لقد ساهمت ظروف الإنتاج القاسية في فرض الاختيار الفني. صرت أدرب الممثلين طويلا بينما يُحَضِّرُ التقنيون الإنارة والكاميرا، وأثناء التصوير يجذبني أداء الممثلين الجيد فلا أجرؤ ولا أرغب في مقاطعتهم، فتطول اللقطة وأنا سعيد بها ومتيقن بأن المُشَاهِد سيسعد بها كذلك. o تعيش بين فرنساوطنجة وتسافر إلى القاهرة باستمرار، وتكتب باللغتين العربية والفرنسية.. هل تعتقد بأن الإنسان المغربي شخص منشطر بينهما أم أن المسألة تعود إلى قناعات شخصية؟ n الصدف والحظ أتاحا لي أن أتواجد في باريس إبان ثورة العلوم الاجتماعية بها، والتي تمت على يد «رولان بارت» و»جاك لاكان» و»ليڤي شتراوس». وبالقاهرة كانت الصداقة مع صلاح أبو سيف ومخرجي الموجة الجديدة التي أتاحت لي التعرف على نجيب محفوظ وأنا معجب جدا برواياته. الثقافة العربية متوسطية على مستويات التوظيف والتكامل والتطوير أما الانشطار الحقيقي الذي يهدد كل عربي فهو أن يكبت انتماءاته اليونانية والفرعونية وتاريخ المتوسط المعاصر الذي لن ينتظره لكي يواكبه؛ وأن يكبت صوت العرب القدامى الذين دعوا بكل قواهم لهذا الانتماء الهائل الواسع المنفتح وهم الذين حذروا من جهالة الانكماش والانطواء. o قلة هم المخرجون الذين يزاوجون بين الكتابة والإخراج.. هل يكمل بعضهما الآخر في تجربتك أم أن المسألة أعقد من ذلك بالنظر إلى جوهر لغة الكتابة ولغة الصورة؟ n هناك جوهر لكلا اللغتين مع أن الأدب أكبر الفنون المُؤَسِّسَة للغة السينمائية نتيجة ما أغدقه الحكي والأشخاص والأنواع (دراما، كوميديا، أفلام تاريخية...) والأشكال لتتكلم السينما، وهذا أدب محض. فانطلاقا من تلك الأرضية، وفضلا، عن تأثيرات الموسيقى والرسم والهندسة،، كذلك أبدعت السينما لغة ونحوا وصرفا وبلاغة خاصة بها مما يفسر قلة الجمع بين الكتابتين إلا أن لإيزنشتاين و»روسلليني» و»ستيا جيت راي» و»جودار» و»تروفو» كتابات مهمة جدا في التنظير. وربما، أعطت السينما نوعا أدبيا جديدا يتجلى في أدب الاستجواب والحوار. o كرست جزءا كبيرا من أفلامك لنقد النظام الأبوي (البطريركي) في المجتمع المغربي.. فكيف يمكن أن تقوم السينما بتشريح الظاهرة الأبوية أو الهيمنة الذكورية في مجتمعاتنا؟ n اقرأوا أيها الإخوة العرب من جديد كتاب فرويد «موسى والتوحيد». إن جذور الأبوية عميقة في الثقافة المتوسطية، ومتشعبة من جهة نشأة الأديان والتركيب الاجتماعي وعلاقة الإنسان بالنفسي والخيالي والجنسي. فتلك الظاهرة هي محور سيكولوجيا القرن العشرين. تخلصت اليهودية والمسيحية وما زلنا نتردد ونتعثر. والظاهرة من هواجسي، وبالتالي، فهي تهيمن على أفلامي. o حاولت أن ترسم معالم سيرتك الذاتية في أفلامك الأخيرة.. لماذا هذا الاهتمام بالذات؟ وهل يمكن للمبدع أن يتخلص من الرقابة الذاتية للحديث عن سيرته؟ n انتقلت السيرة الذاتية في الحداثة من وهم إفشاء سر الأسرار القديم إلى اعتبار الروائي، أي الأدب، أصدق مدخل للغوص في التحليل النفسي والجماعي. وهكذا نشأ مفهوم الرواية الذاتية الجديد «Auto fiction»، فليست المسألة متعلقة بالرقابة بقدر ما ترتبط بواقع الخطاب وقدرته على التعبير، وبالتالي التحرر من الكبت والمسكوت عنه والموسوس، وعلم النفس يفرز بين التحليل المنتهي للمتكلم الذي يخترق ويتحرر، ويعود التحليل النهائي للمتكلم الذي يحتاج إلى سنين طويلة لتقصي ما يكبله ويمرضه. o لم تلاق أفلامك الأخيرة إقبالا نقديا وجماهيرا مميزا.. كيف تفسر ذلك؟ n الأمر ليس كذلك بأوربا وأمريكا. لقد قمت خلال السنوات الأخيرة بجولة بأفلامي بالجامعلت الأمريكية كبركلي و شيكاغو، مثلا، وبالمهرجانات العربية بواشنطن ومنيابوليس، مثلا، فتوافد الطلاب وسألوا واهتموا وكان هذا أحسن جزاء واعتراف للمخرج المؤلف. فشأن أفلامي الأخيرة شأن أفلامي الأولى: كان الإقبال النقدي والجماهيري عليها بالمغرب منعدما ولم يظهر الاهتمام بها إلا سنين عديدة بعد رواج الأفلام بالغرب. لقد عرض فيلمي الأول «سي موح» بالمغرب 42 سنة بعد إخراجه!