أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. هناك توضيحا لابد منه. إن الإختيار المطروح حاليا ليس بين الحداثة والتقليد، الجزائر مندرجة في عالمية العلاقات الإجتماعية والحداثة فيها مسألة عميقة. ولذلك يبدو لي أنه من الأفضل مقارنة الحركة الإسلامية، بحركات سنوات 1930 في ألمانيا وإيطاليا. ومن تضييع الوقت أن نطالب الإسلاميين ببرنامج، لأنهم يحتاجون لأسطورة ولا يمكن لهم أن يوسعوا قاعدتهم إلا إذا تجنبوا طرح المطالب الدقيقة والمحددة. كما أنه من باب تضييع الوقت أن نخاطر «بتشريح سريري (إكلينيكي) Un diagnostique clinique» لزعمائهم. وعندما يطالب السيد علي بلحاج من المؤمنين أن يُصَلّوا من أجله حتى يعطيه الله ذقنا وهو الرجل الأمرد، فإن هذا الطلب لا ينقص من قيمته أبدا. إن وظيفة الغدد الإفرازية ما تزال سرا كبيرا، ثم إنه من تضييع الوقت أن نحاول العثور في أوساطهم على رجال فاسدين، «ترابانديين» أو مهربين. ذلك كله عبث في عبث لكون إيمان الشعب يخلق أجساما مضادة للشك. ضد التشكيك وضد حجج أولئك الذين يعتبرون في نظره، من طينة أخرى. المشكلة الوحيدة التي يجب علينا معالجتها هي كيف نرد على الأزمة، ثم كيف نعيد ترتيب وتركيب مجتمع مفكك، وقطع الأوصال، في جميع المستويات. ألا تعتقدون أن هذا التفكك كان أقل قبل عام 1979؟ يمكن عند التدقيق في الوضع وفحصه في تمعن، أن نعتقد بأن نظام الرئيس الشاذلي بن جديد خول لنفسه مهمة وحيدة، هي التعجيل بتفكيك المجتمع. لقد دفع بومدين بمنطق الإتجاهات التي دشنها الإستعمار، إلى حدوده القصوى، فكانت ظاهرة النزوح القروي والهجرة، ولكن مع وجود إرادة بناء مجتمع صناعي. لكن بومدين أخفق. وقد حاول عبد السلام بلعيد في كتابين صدرا له مؤخرا، أن يفسر أسباب هذا الإخفاق، والعمل الذي قام به يستحق المناقشة، وسأساهم في ذلك. حقا إن بومدين ترك ميراثا لم يكن سهل التسيير أبدا، لكن وسائل تسييره كانت متوفرة وقد بُدِّدت وبُذِّرت. والإنفتاح الديمقراطي الذي حصل تحت ضغط أحداث خارجة عن سيطرة الحكم يخفي في طياته نزعة سلطوية، ولا ينبغي أن نخلط بين الديمقراطية وبين التعددية. إن تحليل الدستور وظروف الإعتراف بالأحزاب وقانون الإعلام وقانون الإنتخابات وإبقاء المجلس الوطني لكل نوابه من جبهة التحرير الوطني، كلها مؤشرات ذات دلالات عميقة. ولا أتوقف كثيرا عند العراقيل المتعددة التي وُضعت في وجه أحمد بن بلة، ولا الحدث الذي منعه من العودة إلى بلاده. لنقل في كلمة واحدة إن السلطة تركزت في القمة في الوقت الذي بدأ السوس ينخرها من الأساس. وقد ساعدت الرشوة على ذلك كثيرا. ونحن نلاحظ أن الفريق القيادي عوض مشروع مجتمع كان في حالة عطب كامل بتقنيات التلاعب، لكنه بدلا من أن يتواءم مع المصالح المتناقضة الموجودة في كل مجتمع حاول أن يلعب الأطراف المختلفة بعضها ضد بعض، حفاظا على وجوده. وقد تمكن بواسطة هذه اللعبة من تثبيت القوى السياسية. وهكذا نشأ الفراغ وأصبح العامل الديني والتضامنات الجهوية والروح العصرية، أصبح ذلك كله يكتسب أهمية خاصة، وهو أمر يترك انطباعا غير مريح، انطباعا بأن الجزائر عاجزة عن أن تعيش تطورا سياسيا يستند إلى نظام تمثيلي قائم على الإقتراع الكوني. ولا شك في أن التقليد المنطوي له وجود أو حظ من الوجود ضمن كافة الحركات القائمة، لكن مهمة أية قيادة تعتبر نفسها ديمقراطية هي أن تطبع قواعد قانونية تساهم بتغيير العقليات. إن الديمقراطية الشاذلية تتراوح بين العنف والإستقالة وتخلط أو تمزج العنصرين في بعض الأحيان. والناس في غالبيتهم لم يكونوا أعداء الشاذلي بن جديد ولكن الذين خاب أملهم، أو خيبوا فيه، يحاكمونه على أفعاله. إن الجزائريين يحتاجون إلى مشروع مجتمع يمكنهم في المدى المتوسط من تلبية مطالب الناس المعوزين. كان للجزائر مشروع اشتراكي لكنه لم يسفر عن أية نتيجة. إنكم تطلقون اسم الإشتراكية على عملية انتزاع الملكية السياسية من الطبقة العاملة في الإتحاد السوفياتي، والنموذج الذي أورثته تلك العملية للبلدان المتخلفة. وما حدث في شرق أوربا خلصنا من هذا التضليل، ولا تنسوا أنني لم أتوقف عن التنديد بهذا النمط من الإشتراكية، إلا أن الذي حصل لا يزعزع قناعاتي، ولا ينبغي لكم أن تنتظروا من أن أشيد بالليبرالية. أما في المدى المباشر، فمن الواضح أن النضال ضد النزعة الإسلامية السياسية، لا يتطابق على الفور مع النضال في سبيل أهداف اشتراكية. لقد أسفرت الإشتراكية على الطريقة البومدينية عن توحيد كافة الشرائح السكانية ضد الفكر الإشتراكي، ومنحت معنى لكل المطالب الليبرالية والمطالب البورجوازية الصغيرة، وولدت معارضة توشك الطبقة العاملة أن تندثر وتذوب فيها لأنها افتقرت طوال عشرات السنين إلى تمثيل حقيقي ينطق باسمها. والعامل لا يستطيع اليوم أن يمثل بما هو عضو في طبقة متميزة، ولذلك فهو معرض لتأثير نداءات التيار الإسلامي، كما لاحظنا ذلك في قسنطينة والحجار. والإشتراكيون يعرفون أنهم أقلية ويعرفون أنهم لا يملكون تأثيرا قويا، ويدركون أن أهدافهم عزيزة المنال بل غير قابلة للإنجاز. وهم يسيرون ضد التيار، لكن انشغالهم الأساسي ينصرف إلى خلق وضع يسمح للقوى الإجتماعية بأن تحدد كل واحدة منها مواقفها وتلزم مواقعها تجاه القوى الأخرى. لعلكم قسوتم كثيرا، في هذا الحديث على الإسلاميين.. أستطيع أن أسمح لنفسي بمثل هذه القساوة. فأنا بعكس الديمقراطيين الجدد، دافعت عن الإسلاميين حين كانوا ملاحَقين. ففي سنتي 1986-1987، وخلال محاكمة مصطفى بويطي، قام «صديقاي» الأستاذان حسين زهوان ويوسف فتح الله، بالدفاع عنهم باتفاق معي، لقد رافعنا، مع محامين آخرين عن 206 متهما. لذلك، فأنا ليست لدي أي عقدة في هذا المجال. بعد التفسير السوسيولوجي الذي جادت به قريحة الأستاذ الهواري عدي من جامعة وهران، وإثر التفسير الوارد على لسان المؤرخ الجزائري محمد حربي والمنشور بالعدد الذي يحمل تاريخ 25 يونيو - 15 يوليو 1990 من مجلة «منبر أكتوبر» النصف شهرية، الناطقة بلسان الرئيس أحمد بن بلة، نأتي إلى تفسير ثالث مختلف تماما، لكنه يلتقي مع التفسيرين الآخرين، كما سيلمس القارئ ذلك في أكثر من نقطة، ويلقي أضواء جديدة على العملية الإنتخابية الأخيرة. قيمة هذا التفسير تأتي من أنه صادر في جريدة المجاهد اليومية (عدد يوم الخميس 12 يوليو 1990)، أي في نفس اليوم الذي صدر فيه تحليل الأستاذ الهواري عدي بجريدة ليبراسيون، وبعد أسبوع من توزيع مجلة منبر أكتوبر المتضمن لموقف الأستاذ محمد حربي. مقال جريدة المجاهد، التابعة لحزب جبهة التحرير الوطني، صدر في نطاق الصفحات الداخلية المخصصة للآراء والمناقشات الحرة، ونشر تحت عنوان «أشياء لم تقل في الإنتخابات» بتوقيع السيد أحمد قادة، أحد مسؤولي جبهة التحرير في العاصمة. «لا شك في أنه كان من المتوقع أن تسجل الجبهة الإسلامية للإنقاذ تقدما كبيرا قد يصل إلى ما بين 25 و30 في المائة من مجمل أصوات الناخبين لتحتل بذلك المرتبة الثانية بعد الحزب الحاكم، الأمر الذي يعتبر نتيجة باهرة بالنسبة لتشكيلة سياسية ناشئة. كما أنه كان من المتوقع أن يهتز الموقع المهيمن لجبهة التحرير الوطني، بعد إقرار مبدأ التعددية المتجسد في تكوين حوالي عشرين حزبا، وهو توقع أكدته نتيجة الإنتخابات الأخيرة. أما الأمر الذي لم يكن متوقعا على الإطلاق فهو عملية التخريب الإعلامي الواسعة التي ذهب ضحيتها مناضلو جبهة التحرير الوطني، والتي استهدفت تنويمهم وجعلتهم يعتقدون بانتصار مؤكد». «وفي هذا الصدد فإن المزايدات التي قام بها زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ حين أعلن أن حزبه لن يحصل على أقل من 75 بالمائة من الأصوات، كان ينبغي لها أن تشكل ضربا من الإنذار بالنسبة لمناضلي جبهة التحرير. والواقع أن هذا اليقين لا يمكن أن يكون سوى نتيجة لوعود وضمانات مؤكدة لابد أن نبحث عن أصلها، وهو أصل لا يختلف بدون شك عن المصدر الذي قادنا إلى أحداث أكتوبر 1988. والحق أن قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ يدركون جيدا أنهم إنما وصلوا إلى تلك النتيجة التي سجلوها بفضل المكر والتزوير وبفضل «حياد» الإدارة». «ونحن لا نتردد في القول بوجود جهات في السلطة لها حساب قديم تريد تصفيته مع جبهة التحرير الوطني وأن الإستراتيجية التي اتبعوها كانت تفرض بل تحتم عليهم العثور على أداة صالحة لتحقيق هذا الغرض. وقد وجدوا هذه الأداة بسرعة فائقة في الجبهة الإسلامية للإنقاذ. أما المكان والزمان، وتحديدا انتخابات الثاني عشر من يونيو، فقد تم اختيارهما بعد إخفاق كافة المحاولات الأخرى التي استهدفت إثارة مواجهة بين جبهة التحرير الوطني والجبهة الإسلامية للإنقاذ. ومن أجل إنجاز هذه المهمة كان لابد من تضليل الناخبين وتشتيت أصواتهم بين مختلف الأحزاب النكرات، وهي عملية من طبيعتها حتما أن تضعف جبهة التحرير الوطني أمام الجبهة الإسلامية للإنقاذ. لقد كانت هذه الأخيرة تتمتع بأصوات مضمونة لابد أن تحقق بها اندفاعة هائلة». وتمضي جريدة المجاهد الناطقة بلسان جبهة التحرير، في تحليلها لأسباب الهزيمة الإنتخابية الأخيرة، قائلة : «يضاف إلى ذلك أن لوائح المستقلين التي فسرت خطأ بأنها وليدة تكتيك خاص بجبهة التحرير الوطني قد ضاعفت من انقسام الناخبين لفائدة المناضلين المنشقين الذين لم يتمردوا ضد حزبهم وبرنامجه أو عمله وإنما انتفضوا ضد قاعدة وجهت إليهم تهما باطلة. لكن هذه الهزيمة التي وضعت جبهة التحرير الوطني في المرتبة الثانية يجب أن يتم تحليلها في ضوء النسبة التي حصلت عليها، وفي ضوء نجاح المستقلين ثم في ضوء نسبة المستنكفين عن المشاركة، وهي عامل يحمل في طياته بذور عواقب وخيمة، إذا ما تأكد استمراره في المستقبل. ولو كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ حصلت بنزاهة على الأغلبية في الإنتخابات الأخيرة لَكُنَّا شعرنا بارتياح كبير لأننا قد نكون بهذه التجربة، غرسنا شجرة الديمقراطية في البلاد، لكن ذلك لم يحصل مع الأسف، بفضل سلسلة من التجاوزات والتعديات المختلفة المسجلة هنا وهناك والتي ترهن مستقبل الديمقراطية». «هكذا نلاحظ أن هذه التجاوزات ظهرت بعدة أماكن وكان من الصعب توجيه طعون ضدها. ويمكن لنا أن نستشهد بعدة وقائع أبرزها الإحتلال غير القانوني لمكتب التصويت وممرات المدارس من طرف مناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ الذين لم يترددوا في ممارسة ضغوط مباشرة على الناخبين، وضياع أوراق التصويت الخاصة بلوائح بعض الأحزاب وخاصة حزب جبهة التحرير الوطني، وهي أوراق اختفت من المكاتب، فيما حولت كميات أخرى إلى بلديات غير معنية، وسمح لأطفال يحملون عدة بطاقات بالتصويت من دون أن تكون لديهم أية وكالة تخولهم بذلك من طرف البالغين، كما شوهدت تجمعات من الأطفال والمراهقين كانوا يقومون باعتراض المواطنين ويحرضونهم على التصويت للجبهة الإسلامية للإنقاذ. ولابد من الإشارة إلى أن بطاقة الناخب لم تُطلب أبدا من المصوتين، كما أن هناك مواطنين يملكون بطاقاتهم كناخبين لم يستطيعوا أن يقوموا بواجبهم لأنهم لم يكونوا مسجَلين على القوائم الإنتخابية، في حين أن مبدأ الوكالات المقررة في حالة العجز قد تم تعميمه بصورة منهجية. وإذا كان التزوير قد بقي محدودا نوعا ما في لحظة فرز الأصوات بسبب تعزيز حضور ممثلي الأحزاب المتنافسة، فإن تلك الممارسة لم يكن لها أثر يذكر في النهاية، لكون النتائج قد تقررت أثناء عملية التصويت. على أن هذه التجاوزات التي حصلت في كافة المدن الكبرى لم تدفع الإدارة للتدخل من أجل فرض احترام القانون». «هكذا تم تسهيل العمل للجبهة الإسلامية للإنقاذ التي نجحت في فرض سيطرة مطلقة على عمليات التصويت بدءا من سير الإقتراع وحتى إعلان النتائج. وفي هذا الإطار لوحظ أنه تم نقل عدة صناديق للإقتراع من المكاتب إلى مراكز البلديات من طرف أشخاص ليست لديهم أية صلاحية. وهكذا فإن الأحزاب التي كانت تنتظر النتائج من أجل توجيه تُهَم بالتزوير إلى جبهة التحرير، حتى تبرر بهذا الموقف مقاطعتها للإنتخابات وهي مرتاحة الضمير، لابد أن تشعر بشيء من الندم، لأنها ربما لم تتصور قط أن يأتي التزوير من الجهة التي جاء منها. على أن ما أثار فضول الناخبين الذين شاهدوا بأعينهم هذه التعديات والتجاوزات، هو موقف الإدارة. ويتساءل الناس : لماذا لم تقم البلديات بوضع القوائم الإنتخابية بصورة نهائية بعد مراجعتها؟ ولماذا لم ترسل بطاقات الناخبين في الآجال المحددة؟ ثم لماذا أعطيت البطاقات التي لم يقم أصحابها بسحبها مباشرة، لأشخاص آخرين؟ ولماذا لم يتم التدقيق مع هؤلاء الأشخاص الذين صوتوا بهذه البطاقات من دون حضور أصحابها ومن دون إبراز وكالة رسمية بذلك؟ إنها أسئلة كثيرة تبقى معلقة من دون جواب. ثم إن عددا كبيرا من الموظفين الذين عُينوا للإشراف على سير عمليات الإقتراع، لم يتلقوا وثائق التكليف والإنتقال الضرورية في الوقت المناسب، الأمر الذي ترك فراغا كبيرا سارع مناضلو الجبهة الإسلامية للإنقاذ وملأوه بطريقة غير قانونية. ومن الواضح أن اللجان الإنتخابية لم تكن تستطيع أن تؤدي عملها بطريقة مرضية من دون أن تستفيد من مساعدة المراقبين الإداريين ومساعدة رجال الأمن الذين يبدو أنهم تلقوا أوامر واضحة بالتزام الحياد، بل التزام عدم الإكتراث وعدم التدخل. ومع ذلك، فنحن نلاحظ أنه حين كانت الإنتخابات تجرى في عهد الحزب الواحد، كانت عناصر الإدارة والأمن تبالغ في نزعتها التدخلية». «وإذا كانت الطعون المسجلة قد بلغت أربعمئة، فلابد لنا أن نسجل بارتياح أن هذه الإنتخابات جرت في هدوء كامل رغم أنها ألحقت ضررا فادحا بالتجربة الديمقراطية. كل هذا يقودنا مرة أخرى للعودة إلى تصريحات زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ والذي كان قد رأى حزبه سوف يحصل على نسبة 75 بالمائة. فهل كان الأمر يتعلق كما سبق لنا أن تصورنا ذلك يومها، بتهديد يهيئ الأجواء لعمل مثير وصاخب أم أن زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ، كان فيما يظهر، على معرفة سابقة بسيناريو معين، ربما كان هو نفسه، بطبيعة الحال من المشاركين في وضعه؟». لا يكتفي السيد أحمد قادة، أحد مسؤولي الحزب الحاكم بالجزائر العاصمة، في هذا المقال الذي نشرته له جريدة المجاهد بإلقاء المسؤولية على الإدارة، والأمن وأجهزة الدولة الأخرى، ولكنه يلقي نصيبا من المسؤولية فيما حدث على أعضاء جبهة التحرير الوطني أنفسهم. «هل ينبغي لنا رغم ذلك كله أن نعفي قيادة جبهة التحرير الوطني وقياداتها المحلية والإقليمية وحتى مناضليها من مسؤولية ما وقع؟ لا نعتقد أن ذلك ممكن. حقا إنه حصل نوع من المراهنة على الإدارة وحصل ضرب من الثقة فيها بعد أن التزمت بالسهر على نزاهة الإنتخابات وبالحياد. لذلك كان من الصعب اقتحام مكاتب التصويت، على غرار ما فعلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ. خاصة وأننا كنا متهمين بوجود نية لدينا في التزوير، كما كان يردد ذلك بدون توقف ولا انقطاع، أولئك الذين دعوا إلى مقاطعة الإنتخابات. لكن حضور المناضلين كان ضروريا ويقظتهم تشكل عامل ردع للتجاوزات الحاصلة. والواقع أن المناضلين تصرفوا وكأن جبهة التحرير الوطني، ما تزال الحزب الوحيد في البلاد. وقد سبق لنا أن لاحظنا وجود مثل هذه العقلية لدى اختيار المرشحين. صحيح أن الإختيار قد ترك القاعدة من أجل أن تتصرف وفقا لاجتهاداتها، لكن لوحظ أن الأعضاء المحليين في اللجنة المركزية سمحوا لأنفسهم أحيانا بالتدخل للتأثير في هذا الإختيار. وهكذا فإن توصيات اللجنة المركزية المتعلقة باستراتيجية العمل في الإنتخابات، لم يتم احترامها بما فيه الكفاية. لذلك رأينا أن اختيار المرشحين تم على أساس عشائري أو فئوي وليس في ضوء معايير الكفاءة والتمثيلية. وفي هذا المجال، لم يتم اللجوء لمواطنين غير مناضلين في الحزب، ولكنهم معروفون بسمعتهم الجيدة، وبعلاقاتهم الطيبة مع الآخرين، كما أوصت بذلك اللجنة المركزية. يضاف إلى هذا الخطأ أنه لم يجر أي تقييم موضوعي لعمل المنتخبين السابقين للإحتفاظ بالعناصر التي أدت واجبها على أكمل وجه وترشيحها من جديد لثقة المواطنين، وإنما وقع إتباع أسلوب آخر، هو إبعاد المسؤولين السابقين بطريقة منهجية. كان ذلك هو الأسلوب السائد فيما عدا بعض الإستثناءات القليلة». «وإذن، فإن تفصيل أو تشكيل القوائم كان له نصيبه السلبي في التصويت الذي حصل، كما أن المناضلين لم يتم إعدادهم نفسيا وتقنيا إذا جاز مثل هذا التعبير لكي يواجهوا بنجاح هذه الإستشارة التعددية الأولى. وبعبارة أخرى فإن السلوك المتسيب للمناضلين خلال اختيار المرشحين والذي حصلت أثناءه مواجهات سلبية فيما بينهم، كانت له عواقب وخيمة في المحصلة الختامية. من هنا ذلك الغياب الكامل في الحملة الإنتخابية، غيابا استمر حتى بعد الإغلاق الرسمي للحملة المذكورة، ثم استمر خلال عمليات الإقتراع». ويعود كاتب المقال، بعد فقرة النقد الذاتي هذه، ليلح من جديد على دور بعض المسؤولين : «من جهة أخرى، لابد لنا -يقول السيد أحمد قادة- من أن نشير إلى الضربات التي تلقتها جبهة التحرير الوطني من طرف عدد من المسؤولين الذين أدلوا بتصريحات متسرعة مثل الوزير الأول السابق [يقصد الكاتب بهذا التعبير السيد عبد الحميد الابراهيمي] والذين زعزعوا هيئة الناخبين الموالين لجبهة التحرير الوطني. وفي هذا المجال، يبدو أن صاحب قنبلة الستة والعشرين مليار دولارا نسي أن جبهة التحرير الوطني والبلاد كلها، مازالا يدفعان ثمن سياسته الإقتصادية اللامجدية التي اتبعت منذ سنة 1980، كما أنه نسي أن التطهير الذي طالبت به جبهة التحرير الوطني قد تعطل في عهد حكومته. هكذا برزت بلا حياء وبلا خجل انتهازية بعض مناضلي جبهة التحرير الوطني الذين لم يحترموا الإنضباط الداخلي وانساقوا وراء مصالحهم، ولم يعبأوا بضوابط الإلتزام السياسي، متصورين أنهم سيكسبون فوائد جديدة من مواقفهم الجديدة». ويعتبر كاتب جريدة المجاهد : «أن جبهة التحرير الوطني، التي شكلت درعا واقية، أو واقية صدمات بالنسبة لجميع السلطات التنفيذية التي تعاقبت على السلطة منذ الإستقلال، قد دفعت الثمن عن الجميع». ويرى «أن إدارة الحكومات المختلفة وطريقة تسييرها للشؤون العامة، لم تحاكم ولم يجر تقديرها بما يلزم من حزم وموضوعية. وهكذا، فباسم ضرورة بناء دولة القانون، أفسحت جبهة التحرير الوطني المجال لنمو إدارة أخطبوطية بيروقراطية، كانت بعيدة كل البعد عن أن تلتزم بجانب الشعب. كانت هذه الإدارة تقوم على المحسوبية، والجهوية والزبونية، تلك الأمراض التي ما فتئت جبهة التحرير الوطني توجه إليها النقد دون أن تقدم لها علاجا كافيا شافيا أثناء فترة زمنية يفترض أن يكون فيها الهجوم الكاسح لاقتلاع هذه الأوبئة هو القاعدة وليس مجرد الإنتقاد اللفظي. خلال هذه الفترة انتهى وهم إدارة جبهة التحرير الوطني مع إقرار نظام التعددية السياسية والتحاق عدد كبير من أعضائها بالأحزاب الجديدة». هناك عامل سلبي، آخر، أثر في الإستراتيجية الإنتخابية لجبهة التحرير، ألا وهو دخولها متأخرة بأسبوع كامل في الحملة الدعائية. وقد كان عدد المناضلين قليلا، وأظهروا عدم حماسة كبيرة في تعليق الملصقات على الجدران وفي توزيع المنشورات والمطبوعات وفي رفع اليافطات، وفي نشر أفكار الحزب وبرامجه بالمساجد والمؤسسات والشركات والأحياء، وإجمالا غابوا عن أماكن التجمعات الكبرى. كذلك سجل قصور كبير في تنظيم المهرجانات ببعض الولايات التي لم تتم فيها تعبئة كافة المناضلين والعاطفين. بعض هذه المهرجانات انقلبت أو تحولت إلى مجرد لقاءات بين المناضلين كما أن العقبات التي اعترضت نشاطات الجبهة في عدد من الجهات، مثل توقيف معلقي الملصقات بالعاصمة، ومنع تنظيم مهرجان بالساحة العامة في البليدة من طرف رجال الأمن، كل ذلك لم يثر انتباه أي شخص، ولم تتحرك السواكن أمام التسهيلات التي كانت تقدم للجبهة الإسلامية للإنقاذ، لتقود حملتها بالطريقة التي ترتئيها. كذلك فإن عدم حضور مناضلي جبهة التحرير الوطني في الميدان بجانب مناضلي وأعضاء الأحزاب الأخرى من أجل السهر على نزاهة الإنتخابات سهل عمل مناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ وضاعف من تأثيرهم على الناخبين في وقت كانت فيه اليقظة والتعبئة أمرَيْن ضروريَيْن. ثم إن اللجنة الإنتخابية الوطنية، بدلا من أن تتصرف كهيئة أركان عامة، حقيقية، تتدخل ميدانيا، كلما دعت الحالة لتعويض مظاهر الخلل والنقص، اكتفت بالتملص من مسؤولياتها الوطنية بإسنادها إلى لجان محلية أو جهوية أو إقليمية تفتقر إلى التجربة. تلك إذن، هي العوامل الداخلية والخارجية التي تضافرت لإضعاف جبهة التحرير وللإسراع بتآكل نفوذها. يتناول السيد أحمد قادة في فقرة أخرى من مقاله الطويل الذي استغرق صفحة وربع صفحة من جريدة المجاهد، يتناول مرة أخرى موقف الإدارة وتواطُؤَها مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ في هذه المناسبة فيقول : «إن الطريقة الخاطئة التي تمت بها عملية فرز الأصوات تكشف عن اتساع ظاهرة التزوير في المدن الكبرى بصورة خاصة. والغريب أن الإدارة التي تعودت على تنظيم عمليات الإقتراع والمجهزة بالوسائل التقنية الضرورية لم تستطع أن تتابع سير اقتراع الثاني عشر من يونيو 1990 وتتحكم فيه تحكما كاملا، ثم إنها لم تستطع أن تقدم نسبة المشاركة بصورة منتظمة، بل إنها انتظرت مضي ثمان وأربعين ساعة لتنشر النتائج النهائية. فهل معنى ذلك أن اتساع ظاهرة التزوير كان كبيرا إلى درجة يصعب معها استعمال الحسابات والتقديرات الواقعية لتقديم أرقام معقولة؟ لقد كان الهدف أو الهم الوحيد للإدارة هو التأكيد على حصول هذه الإنتخابات في هدوء كامل. ولابد أن نضيف -يقول السيد أحمد قادة- بأن تعدد اللوائح عقَّد المسألة أكثر من اللازم، علما بأنها معقدة أصلا لكونها انتخابات بلدية وولائية، عقدها وسهل عمل مناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ لاسيما في أوساط الأميين وتحديدا في أوساط النساء. كانوا يقولون للنساء صوتن على الرقم السادس للدفاع عن الإسلام ، ضد اللائكيين، الذين وُصفوا بأنهم ملحدون». ويستأنف الكاتب في هجومه لا على الإدارة هذه المرة، وإنما على الدولة، ملمحا بصورة غير مباشرة إلى الدور الذي قامت به بعض الدوائر الرسمية في محاربة الحزب الذي كان يوصف بأنه حاكم : «لا يستطيع أحد أن ينكر بأن عددا من أجهزة الإعلام الوطنية، وبقيادة وتوجيه أوساط عليا في السلطة لم تتوقف طوال سنتين عن مهاجمة جبهة التحرير الوطني ولم تتوقف عن تحميلها كل أنواع الخلل والتقصير في إدارة الشؤون العامة. وقد أدى ذلك الهجوم الإعلامي إلى تعبئة الرأي العام ضد جبهة التحرير الوطني وأسفر عن آثار وتأثيرات سلبية في أوساط الشباب. أما المجلس الوطني الشعبي فإنه، حين سمح لشخص واحد بالتصويت باسم ثلاثة أشخاص على أساس الوكالة، قد ارتكب مسا خطيرا بحرية التعبير، خاصة بالنسبة للمرأة. وسمح للجبهة الإسلامية للإنقاذ أن تنظم نفسها باسم التقاليد الرجعية. وهكذا رأينا المكاتب المخصصة لتصويت النساء يتم اجتياحها من طرف الرجال والأطفال». ويقول الكاتب في فقرة أخرى : «نستطيع أن نؤكد بأنه قد يكون من الضروري أن تعرف جبهة التحرير الوطني مثل هذه الهزيمة المبرمجة من طرف بعض الأوساط، وقد تكون هذه الهزيمة مخلصة منقذة، إذا عرف الحزب كيف يستخلص منها كل الدروس، لأننا واثقون من أن الشعب العميق ما يزال في غالبيته مخلصا للجبهة ثم إن انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ، رغم كونه حقيقة مؤكدة لا رجوع فيها، فإنه قد حصل بتلك الطريقة المعروفة التي رأيناها مع ذلك الموقف الحيادي الذي اتخذته الإدارة التي بادر زعيم الجبهة الإسلامية إلى توجيه الشكر إليها، بعد أن كان يهددها بالويل والثبور وعظائم الأمور. ومع ذلك، فنحن نعرف أن الإسلام ضد كل ألوان الغش، اللهم إلا إذا كانت الجبهة الإسلامية تعتبر الغش خديعة حربية ووسيلة تستعمل من أجل نصرة الإسلام». الجزائر في مفترق الطرق مشاهدات ومسموعات 8 - (الحلقة الأولى) صيف إسلامي ساخن وكئيب هما وجهان مختصران على ما بينهما من اختلاف وتناقض، أحوال البلد وهمومه، مخاوفه وهواجسه في صيف 1990. الأول محند آيت واكلي صاحب فندق، مقهى ومطعم الشاليه نورمان لعين طاية في الضاحية الشمالية للجزائر العاصمة. الثاني الدكتور مسعود، المختص في زراعة الكلي بمستشفى مصطفى الجامعي والرئيس الجديد لبلدية هذه القرية الإصطيافية الشاطئية الجميلة. الأول بدأ يدق أبواب العقد السابع، دون أن يفقد حيويته ونشاطه ورغبته العارمة في إنجاح مشروعه السياحي، والثاني يقف على عتبة عقده الرابع، ويبدد حياته العامة باستلام رئاسة مجلس بلدي، سيكون العمل الذي يمارسه فيه مرآة لهذه السلطة المحلية التي تعتبرها الجبهة الإسلامية للإنقاذ نواة للدولة الإسلامية في الجزائر. عاد محند واكلي إلى الجزائر، سنة 1986، بعد غربة في فرنسا دامت أكثر من ثلاثين سنة. وعاد إليها الدكتور مسعود في نفس العام بعد أن أمضى بضع سنوات في العاصمة الفرنسية أكمل فيها اختصاصه الطبي بمستشفى فيل جويف. الأول من الجيل الذي صنع الإستقلال. الثاني من الجيل الذي صنعه الإستقلال. الأكبر سنا يقول إنه لا يمارس السياسة، ولكن الأصدقاء الذين قدموه لنا قالوا لنا إنه قد يكون من أنصار حزب جبهة القوى الإشتراكية الذي يتزعمه السيد حسين آيت أحمد. الأصغر سنا، قال أمامنا بحضور عدد من الزملاء الجزائريين إنه من أسرة متدينة وكانت له قناعات سياسية منذ سن المراهقة. يتحدث الدكتور مسعود عن والدته بتلقائية وعفوية توحيان بوجود مكانة قوية لها في تربيته وصياغة وعيه، ويفهم السامع من كلامه أن الوالدة كانت مقاتلة في صفوف جبهة التحرير الوطني، وبقيت عضوا في الحزب الحاكم ولكنها كانت تبكي عند عودتها من اجتماعات القسمة (الفرع) وتكرر : «أراهم خانوا الشهداء». هذه المرة صوتت تلك المقاتلة لحزب ابنها واختارته بدلا من الحزب الذي كافحت في صفوفه طيلة حياتها، لأنه «يدافع عن القرآن والشريعة» على حد تعبيره. أما الدكتور مسعود فإنه لم يطلب أبدا، أن يصبح رئيسا لبلدية عين طاية، وإنما اختاره «مجلس شورى المدينة» وكلفه بهذه المهمة.. اختاروه أو عينوه وقالوا له : «راهي الأمة تزكيك» وقبل الدكتور المهمة انطلاقا من مبدأ : «المسؤولية تكليف لا تشريف». مجلس الشورى لعين طاية اختار أيضا نواب الرئيس، رغم كون القانون ينص على أن هذا الإختيار هو من صلاحية الرئيس. لكن القانون، إنما خُلق ليُخرق، حسب تعبير فرنسي معروف، والدولة المركزية في الجزائر، لا تريد أو لعلها لا تستطيع أن تدخل في صراع مع السلفيين والسلفيين الجدد، حول تطبيق القانون. بل هناك من يقول : «إن صمت الدولة ناجم عن اتفاق بين الطرفين». الدكتور مسعود ونوابه، وهم في غالبيتهم من أعضاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ عينوا إذن، من طرف مجلس الشورى المحلي. ومجلس الشورى هو ندوة الحكماء وتمثل فيه مختلف أحياء المدينة ويجتمع في أحد المساجد، وعادة ما يكون إمام المسجد عضوا فيه سيما إذا كان مناضلا في الجبهة الإسلامية للإنقاذ أو رجل دين فاضل لا غبار ولا عجاج صحراوي على سلوكه. ومجالس الشورى موجودة بجميع المدن والبلديات والمراكز الحضرية، وتقوم بدور السلطة الموازية، وتتولى بصورة خاصة مهمة التعبئة الإيديولوجية. أما الجهاز المحلي للجبهة الإسلامية للإنقاذ فيتولى الشؤون السياسية، بينما ينحصر دور البلديات في التنفيذ. الجهاز التنفيذي لبلدية عين طاية، يعطي عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ صورة مختلفة كليا عن الفكرة الشائعة. الدكتور مسعود رئيس هذا المجلس هو كما رأينا، طبيب مختص في زراعة الكلي، أي في واحد من أكثر فروع الطب تطورا، وأدقها تقنية، ونوابه يوجد بينهم المهندس المختص في الروبوتيك، أي في أحدث مخترعات التكنولوجيا الجديدة، كما يوجد بينهم الخبير الإقتصادي والمحاسب. قال لنا الصديق الذي رافقنا في تلك الجولة إلى عين طاية، ونحن نغادر مبنى بلديتها : «كثير من المحللين يخطئون في حكمهم على طبيعة التشكيلة الإجتماعية للجبهة الإسلامية للإنقاذ، حين يركزون على أنها تمثل جماهير المحرومين والمهمشين. هذا صحيح إذا شئت بالنسبة للقاعدة الشعبية العريضة، لكن لا تنس أن الجبهة الإسلامية هي كذلك مناخ عام يخترق كافة طبقات المجتمع، وقد اختارت لنفسها تأطيراً من نوعية متقدمة، ودعنا من المسألة الإيديولوجية، فهي إشكالية أخرى...». ولم يكن في حياة الدكتور مسعود ما يرشحه لأن يصبح رئيسا للبلدية. كان هذا الطبيب الشاب، قبل وقوع اختيار مجلس الشورى المحلي عليه، وجها رياضيا معروفا بصفته لاعبا ماهرا للكرة، وكان معروفا كذلك كواحد من أفضل لاعبي فريق مولودية الجزائر، ومولودية الجزائر، واحدة من الفرق الرياضية الوطنية ذات الشعبية الواسعة. إنها تشبه من بعض الوجوه فريقي الرجاء والوداد البيضاويين في المغرب، وفريقي الأهلي والزمالك المصريين. وأصدقاء الدكتور مسعود القدامى، الذين ما يزالون يقيمون مثله بعين طاية يذكرون أنه كان في مرحلة المد اليسراوي واليساري، قبل عشرين سنة، يرسل شعره على طريقة طلاب الحي اللاتيني ويدافع عن أفكار متطرفة. على أن ذلك أصبح ماضيا بعيدا يكاد يكون منسيا. اليوم، ما يهم الدكتور مسعود هو أن يدير بلدية عين طاية باسم الإسلام، وهو يقول في هذا الصدد : «علينا نحن اليوم أن نهتم بشؤون البلدية وأن نديرها على أكمل وجه، لأن عمل مجلس الشورى يتوقف وينتهي عند حدود معينة. طبعا سوف تأتينا التعليمات من الحزب، لأنه مهما كانت معارفنا بالإسلام متقدمة فنحن بحاجة للحزب وبحاجة إلى مناضليه. نحن لا نملك وسائل كثيرة ولا يمكن أن ننتظر وحين توجد بناية على وشك الإنهيار فلابد أن يتحرك السكان. والميزة الكبرى لمناضلينا هي أنهم يعملون جميعا بالمجان، وفي سبيل الله. والحزب أي الجبهة الإسلامية للإنقاذ أكثر من حاضر، بل إنه ينشر شبكته الأخطبوطية في سائر مستويات الحياة اليومية. وحين يحصل خلاف أو ينشب نزاع بين سلطات البلدية الجديدة، واختصاصات الوالي التابع لوزارة الداخلية، لا يأتي الحسم مباشرة من رئيس المجلس البلدي، وإنما يجيء من الحزب. والحزب قرر في الوقت الراهن بالأقل (لنقل حتى بداية الأسبوع الأخير من شهر يوليو، لحظة كتابة هذا المقال) عدم الدخول في امتحان قوة مع الدولة، أو فلنقل إن الدولة نفسها ما تزال متوارية عن الأنظار. ثم إن لكل مقام مقال. وهناك ولاة وولاة». حين زرنا بلدة عين طاية في بداية شهر يوليو، كان النقاش الدائر بالعاصمة مركزا كله حول السياسة العملية التي ستطبقها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في البلديات التي فازت فيها؟ هل سيمنع الإختلاط في الشواطئ؟ ماهو شكل «المايوه الإسلامي»؟ هل سيمنع الإختلاط في وسائل النقل؟ هل سيمنع في الأقسام المدرسية؟ هل ستخصص شواطئ للرجال وشواطئ للنساء؟ هل ستمنع تجارة الخمور والمشروبات الكحولية؟ هل ستغلق المطاعم التي تقدمها؟ وماذا سيكون أثر مثل هذه التصرفات على الحياة اليومية؟ وهل ستكتفي الدولة بالتفرج على السلفيين والسلفيين الجدد، وهم يفرضون مفاهيمهم على الحياة اليومية للناس، أم أنها ستلزمهم حدودهم؟ وما هي هذه الحدود؟ وهل الدولة ما زالت موجودة وقادرة على ممارسة اختصاصاتها ومسؤولياتها؟ وأسئلة كثيرة أخرى، يمسك بعضها برقاب البعض الآخر، وتأتي الأجوبة عنها كل يوم في شكل يوحي بوجود استراتيجية زاحفة تريد أن تُخْضِعَ البلد كله عبر سلطة البلديات، وأمام غياب الدولة،لضرب من الإسلام غريب يحمل معه نبرات التطهرية الوهابية الآتية من شبه الجزيرة العربية، أكثر مما يحمل ملامح ذلك الإسلام المتوسطي، الإفريقي المألوف والمعروف بتسامحه وتفتحه على جوانب معينة من الحياة اليومية الحديثة. في تلك الفترة التي زرنا فيها عين طاية لم تكن لدى المجلس البلدي أية تعليمات بشأن الطريقة التي يفترض به أن يدير بها شاطئ بلديته، وهو إحدى الرئات الطبيعية التي تتنفس منها العاصمة في فصل الصيف. «لا تعليمات لدينا حتى هذه اللحظة»، لكن لابد أن تصدر أوامر وطنية تشرح لنا كيف تكون الشواطئ الإسلامية الجزائرية. بالطبع من حق كل الناس أن يستحموا في البحر وأن يستريحوا إنما بشرط أن يحترموا الشريعة الإسلامية. أما المرأة فالقرآن فرض عليها الحجاب ومعنى ذلك أنه لا يجوز لها أن تستحم. أما الإختلاط، فالدكتور مسعود يظن أنه يجب الفصل أو التفريق بين الرجال والنساء في الحافلات. الواقع متقدم دائما على النظرية، وأكبر دليل على ذلك، هو ما تقدمه التجربة الجزائرية الجديدة. ففي الوقت الذي كنا نبحث فيه عن مؤشرات بداية تطبيق السياسة الإسلامية، الجديدة، شاهدنا في عين طاية مخزنا كان مخصصا لبيع المشروبات الكحولية يتحول لدكان بيع الأحذية. أما ذلك المهاجر العجوز محند آيت واكلي، صاحب فندق ومقهى ومطعم الشاليه نورمان، فإنه ما يزال صامدا رافضا كل ما يجري حوله. المكان، مكان الشاليه نورمان، قطعة من الجنة المتوسطية، كأنه خارج من رباعية الإسكندرية أو من إحدى روايات ألبير كامو أو إيمانويل روبليس. إنه مبني على الطراز الفرنسي، تنمو وراء جدرانه العالية أشجار الليمون والبرتقال والورود المختلفة ذات الألوان الزاهية الفاقعة، حين يدخل الزائر على هذا المكان يشعر بأنه خرج من الجزائر الإسلامية إلى جزائر أخرى ما تزال تقاوم، باحثة عن وسيلة تمكنها من الإفلات من تلك القبضة الحديدية الحريرية التي تمد شباكها بالتدريج على مختلف مظاهر الحياة. الطيور، تزقزق تحت الظلال، بين الأغصان وحتى فوق الموائد، والأسماك التي يقدمها محند آيت واكلي لزبنائه طرية ما تزال تحمل نكهة البحر والنبيذ جزائري وجيد، ونوافذ الغرف مشرعة على البحر، والغرف مملوءة برائحة النسيم المالح. وفي الممرات يشاهد الزائر، نساء عاملات ببلوزاتهن البيضاء، يحملن أكواما من القماش المكوي النظيف. النظافة هنا شيء ملفت، يخطف البصر. الأجانب يشعرون بأنهم في مكان مختلف تماما عن الأمكنة المماثلة، حتى داخل العاصمة. والمكان يبعد مسافة عشرين كيلومترا فقط عن قلب المدينة. هذا المكان يكاد يكون في الأجواء السائدة، نقطة خارج نطاق الجاذبية الأرضية. محند آيت واكلي الذي عاد إلى الجزائر في سنة 1986، مجذوبا إليها بإغراء الليبرالية الشاذلية وظف كل ما كان قد اقتصده طيلة سنوات الغربة في هذا المشروع. يتحدث الرجل بنبرة مسعورة، ناقمة عن تجربته، ويتكلم بمرارة وتشاؤم عن الآفاق المظلمة، المسدودة التي تنتظره. كان محند آيت واكلي عضوا في جبهة التحرير، وقد صدر عليه الحكم بالإعدام أثناء الحرب، كما صدر على زوجته الفرنسية بتهمة التواطؤ مع الإرهابيين. لقد كلفه مشروعه مليارين من السنتيمات ولكنه لا يملك حتى الآن الأوراق الضرورية. حكاية محند آيت واكلي مليئة بالتعقيدات والمتاعب الإدارية، وهي تعطي صورة صارخة عن سوء التصرف والإستهانة بالمسؤولية الذي ميز عمل بعض الأشخاص النافذين في ظل حكم الحزب الواحد. «كلهم يحبو ياكلو» ولكن محند آيت واكلي، الذي رجع من فرنسا بعقلية تحترم القانون، وخرج من تجربته كمناضل دفع الثمن غاليا لاستقلال وطنه، يصر على أن يتم كل شيء وفقا للحق. لذلك كان يدفع كل الضرائب والغرامات والإتاوات الكثيرة المفروضة عليه من طرف الإدارة الوصية رغم اقتناعه بأنها غير شرعية. كان يدفع كل الفواتير ويكرر : «والله مانعطيهم والو... شماتة وسراقين ينعل دين باباهم الكلاب». ويروي صاحب الفندق حكاية مدير في أملاك الدولة قال له ذات مرة : «انظر سيارتي العتيقة، إنها ميتة. أما فندقك إنه جميل»، يرويها ويضيف أنه رد عليه : «نعم، إنه جميل»، ويعطي الإنطباع بأن ذلك المسؤول الإداري كان يريد أن يحصل منه على رشوة لترتيب أموره. أربع سنوات مرت على رجوع ذلك الشيخ القبائلي المناضل العتيد، وهو ما يزال يدير مشروعه السياحي مع زوجته الفرنسية، من دون أن يتوفر على الوثائق القانونية. هذا الرجل خائف، خائف جدا من البلدية الإسلامية، لأنه لن يستطيع، عما قريب، بيع الكحول. «وإلا حَرْمُوا علينا بيع الشراب نْغَلْقُ»، يعلن الرجل ذلك ويضيف «ماعليهش، أراني كبرت وعشت وماراني نحوس على الدراهم، بالصح راني خايف على البلاد، الدراهم عندي كفاية، نقدر نعيش بلا خدمة حتى ليوم القيامة. ولكن بلادي تستحق خير من هذا الهم... بلادي تستحق حاجة مليحة. كيجيوا ليزيثرانجي عندي نحبهم يشوفوا ناس فاهمين ويعرفوا كيفاش يعيشوا». فندق ومطعم ومقهى الشاليه نورمان يدفع لبلدية عين طاية خمسين مليون سنتيم في العام، لكن رقم أعماله انخفض انخفاضا مروعا في هذا الصيف، وقد بدأت البلدية تمارس عليه ضغوطا قوية مباشرة وغير مباشرة لإقناعه بعدم بيع الكحول «والله ما نسمع لربهم واش يحبو؟ ماكافحناش باش نجيب عيدي أمين وآيات الله يحكموا فينا». هناك حرب غير معلنة بين الدكتور مسعود والسيد محند آيت واكلي، أو فلنقل إنها حرب بين صاحب الشاليه نورمان والجبهة الإسلامية للإنقاذ. وقد بدأت تلك الحرب بمناسبة الذكرى الأولى لحوادث أكتوبر. ففي تلك المناسبة (أكتوبر 1989)، وبينما كانت الجزائر كلها تحبس أنفاسها في انتظار مواجهة محتملة بين الجبهة الإسلامية للإنقاذ وقوات الجيش والدرك والشرطة، هجمت عصابة مجهولة على الفندق وحطمت أثاثه وتجهيزاته وألقت بأجهزة التلفزة الموجودة بالغرف، من النوافذ إلى الشارع. لم يكن محند آيت واكلي حاضرا عندما حصل ذلك الهجوم وهو يتساءل في مرارة : «ولكن ماذا فعلت لهم، لقد بدأت أعمل وعمري لا يتجاوز ست سنوات ولم أتوقف عن العمل حتى اليوم». لقد أصيب الرجل بأزمة قلبية حين شاهد الخسائر والإتلافات التي لحقت بمشروعه وأكد أنه لو كان موجودا في ذلك اليوم لأطلق النار على المهاجمين ولقاتلهم حتى الموت. لم يثبط ذلك الهجوم من عزيمة السيد محند آيت واكلي الذي أصلح ورمم ما خربه الآخرون. ما تزال العزيمة هي هي وما تزال إرادة الصمود والبقاء متوفرة. لكن الخوف أصبح طاغيا. لقد أرسل الشيخ العنيد أطفاله إلى فرنسا خوفا من أن يأخذوهم كرهائن ليضغطوا عليه بواسطتهم، وبقي مع والدتهم، زوجته الفرنسية، التي اختارت أن تظل بجانبه. والغريب في الأمر أن محند آيت واكلي، العضو السابق في جبهة التحرير، البالغ من العمر ستين عاما، يوجه للحزب الحاكم وللدولة نفس التهم التي يوجهها إليهما الشبان الذين انتفضوا في خريف الغضب، ويأخذ عليهما مآخذ مماثلة لتلك التي تصدر عن أعضاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ. إنه لا يفتأ يندد بعدم الكفاءة، وبالجشع والطمع والسعي المحموم وراء الكسب السريع والفساد. يقول ذلك كله ولكنه مختلف مع الأطراف الأخرى في العلاج : «لو أن الديمقراطيين تمكنوا من استلام السلطة، لكانت الجزائر أروع بلد في العالم». وفي انتظار حصول تلك المعجزة، يهيء العجوز القبائلي الأمازيغي العنيد نفسه لأسوأ الإحتمالات : «راني نحترم الناس لكل بالصح لازم هوما ثاني يحترموني». ورغم أنه يقف بثبات على عتبة العقد السابع، فهو يفكر بأنه لابد له من أن يتسلح من جديد : «إلا جا واحد يحب يديرانجيني انتيري فيه بالك نموت بالصح ما نخرج من هنا. أراني من البلاد وضحيت عليها ومارانيش من الخارج... وحتى قواد ما ينجم يقلع لي حق ولا يقلعني من هنا». تُرى، ما الذي يمكن أن يجمع بين الدكتور مسعود رئيس بلدية عين طاية ومواطنه محند آيت واكلي، صاحب فندق ومقهى ومطعم الشاليه نورمان؟ شيء واحد : هو حبهما للجزائر. لكن لكل واحد من الرجلين طريقته الخاصة في إظهار هذا الحب. الحب، حب البلد عند ذلك الشيخ العنيد يتجسد في تمسكه بحقه في بيع الخمر الجزائري الجيد، وتصريف شؤون فندقه ومعاملة زبنائه بأسلوب عصري وبذوق رفيع، وتقديم خدمات الإستقبال والإيواء والإطعام لهم بالطريقة التي تعود عليها. لقد جاء إلى هنا، مثل مئات إن لم نقل آلاف المهاجرين الآخرين بكل ما اقتصده من ثمرات جهده وعمله بعد أن سمع أن الحكومة تشجع المواطنين على استثمار أموالهم في مشاريع مربحة مقدمة لهم التسهيلات الضرورية لذلك. وكانت خيبته الأولى كبيرة حين أدرك الفجوة العميقة الفاصلة بين الخطاب النظري والممارسة الفعلية. وها هو يفكر في اقتناء سلاح ناري مرة أخرى ليدافع عن حقه بالبقاء، وحقه في أن يحيا فوق أرض بلده، تحت سمائها الصافية، كما يحلو له. أما الدكتور مسعود، فهمه الوحيد هو أن تصبح عين طاية بلدية إسلامية قائمة على الحق والعدل ليس فقط بالنسبة للذين يذهبون إلى المساجد ولكن بالنسبة لجميع المواطنين. وإذا كان محند آيت واكلي لا يكف عن رواية ذكرياته الفرنسية، ولا يتوقف عن الإشادة بحرية الأفراد والجماعات هناك، مع آهات وتنهدات يتحسر فيها على الماضي مكررا من حين لآخر : «يا أخي ماراني شي يهودي ولا نصراني»، فإن رئيس المجلس البلدي لا يكف هو الآخر عن التنويه بالعربية السعودية، ومع أنه لا يعرفها معرفة جيدة، فهو يستشهد بها في كل شيء بمناسبة ومن دون مناسبة، وخاصة في مجال زرع الكلي، ويقول إن المشكلة الأخلاقية قد حلت فيها تماما. وحين سأله بعض الزملاء الصحفيين الجزائريين، عما إذا كان مستعدا لقطع يد السارق لم يتردد في القول بأن «قطع اليد وبتر الرجل وجذع الأنف هي من باب إقامة حدود الله. وإذا وفرتم لكل إنسان ما يحتاج إليه في مجتمع إسلامي ثم ارتكب بعد ذلك معصية مخالفة الشرائع الدينية فلابد من قطع يديه». إنه مفهوم صارم للدين الإسلامي، جديد تمام الجدة على الجزائر وعلى المغرب العربي كله، والأكثر منه جدة وطرافة وغرابة، هو أن تصبح العربية السعودية المثل الأعلى والقدوة المنشودة في بلاد ثورة المليون شهيد، ذلك انقلاب كبير في الأدوار والموازين ومؤشر فاجع على درجة التردي والتدني الذي وصل إليه مخيال جماعات واسعة من الشباب الجزائري. لست أدري ما هي البلدية الإسلامية؟ وما هي السلطة الإسلامية؟ ولكن الذي لمسته ورأيته رأي العين، طوال الأيام التي أمضيتها بالجزائر بعد الإنتخابات البلدية والولائية الأخيرة، أن الحياة اليومية سوف تكون كئيبة، حزينة، متجهمة قاسية جدا. وكانت الحياة اليومية كئيبة، حزينة، متجهمة في الجزائر خلال السنوات الماضية بسبب عوامل كثيرة. أما بعد أن أتى الذين يسمونهم بالإسلاميين إلى السلطة البلدية، وأخذوا يستعدون للصعود إلى السلطة الوطنية المركزية، فإن هذه الحياة بدأت تضيف إلى الكآبة والحزن والتجهم، بوادر التقطيب والعبوس والجفاف. ولعل حلول مواعيد استلام الإسلاميين للسلطة مع موسم الصيف، وهو في كل المجتمعات الحديثة فصل الإسترخاء وعدم الإكتراث والتخلص من القيود، والإستسلام لتناوب الأمواج والأشعة، أو الذهاب إلى الجبال، لعل ذلك كله أن يكون في خلفية ذلك الإنطباع الثقيل الذي تتركه في النفس المظاهر الأولى للتحول الجديد. مدينة الكيفان (فور دولو Fort de l'eau أي برج الماء سابقا) الواقعة على مسافة عشرين كيلومترا شمال العاصمة، كانت معروفة في عهد الإستعمار، وفي السنوات الأولى للإستقلال، بأنها المكان المفضل لإمضاء أوقات ممتعة بعيدا عن صخب العاصمة واكتظاظها وهمومها. كان برج الكيفان أو برج الماء إسما رومنسيا يرتبط بهذه الحياة السهلة، الحرة المتحررة من كل القيود والإعتبارات. وقد اشتهرت هذه البلدة الشاطئية الجميلة التي أطلقوا عليها اسم باريس الصغيرة، بجودة صحون الأسماك وطراوتها ورخصها، وأيضا بجودة المركاز (النقانق). وكان الرجال والنساء، وخاصة المنتمين من بينهم إلى الطبقات المتوسطة يأتون إليها، لاسيما في العصريات والأماسي الصيفية وفي أيام العطل والأعياد فرادى وجماعات، يتزاحمون داخل مطاعمها ومقاهيها ويملأون الموائد المتناثرة على أرصفتها الواسعة، يأكلون الأسماك والمركاز، ويحتسون كؤوس البيرة والنبيذ الجزائري الجيد، يضحكون ويتندرون، يتبادلون النكات والقفشات في مناخ من اللامبالاة الكاملة. الأطفال يأكلون البوظة بأنواعها المختلفة، والرجال والنساء يلتهمون ثمار البحر بكل أشكالها وألوانها. مدينة برج الكيفان أو برج الماء، كانت من البلديات التي ضربت الرقم القياسي في ولائها الإنتخابي للجبهة الإسلامية للإنقاذ. لقد حصل حزب السيد عباسي مدني هنا على نسبة أربعة وسبعين بالمئة (%74) من الأصوات وفاز بأحد عشر مقعدا من خمسة عشر، تاركا لجبهة التحرير أربعة مقاعد. وهذا الموج القوي الذي استفاد منه السلفيون ضد الجبهة يعود إلى عوامل محلية ووطنية متعددة يأتي في مقدمتها أن المرافق السياحية المتطورة، والتجهيزات الفندقية والمقاهي والمطاعم والفيلات والبنايات التي تركها الأوروبيون غداة الإستقلال، حولت أو تحولت إلى أملاك خاصة. استحوذ عليها قدماء المجاهدين وأعضاء الحزب وضباط الجيش، الأمر الذي فجر نقمة عميقة في أوساط الشباب، ضد أثرياء عهد الإستقلال. كانت النقمة قوية وشاملة إلى درجة أنها عصفت بالتنظيم المحلي لحزب جبهة التحرير الوطني بمدينة برج الكيفان. والسيد محمد سعيد حداد الرئيس الحالي لبلدية برج الكيفان، كان في السابق، أحد مسؤولي حزب جبهة التحرير الوطني بنفس البلدة. وهو لا يرى أي فرق بين برنامج جبهة التحرير الوطني والجبهة الإسلامية للإنقاذ. ومشكلة البلدية الإسلامية في برج الكيفان. هي نفس مشكلة البلدية الإسلامية المجاورة لها شمالا في عين طاية. هل تحافظ بلدية برج الكيفان أو برج الماء على مرقصي سانتامونيكا، ولي سوليتير، أم تقوم بإغلاقهما؟ في الوقت الراهن، أي في منتصف يوليو 1990، لم تكن هذه المشكلة على رأس أولويات اهتمام المجلس البلدي الإسلامي في تلك البلدة الشاطئية الجميلة، التي كانت كما قلنا تسمى باريس الصغيرة. إنها ليست مطروحة بتلك الحدة التي تطرح بها مسألة فندق الشاليه نورمان في بلدية عين طاية. ويقول بعض العارفين الذين تداولنا معهم حول هذه النقطة أن السبب في تكتم المجلس البلدي الجديد بشأن هذه المشكلة الحساسة يعود إلى عاملين : الأول أن تلك الأماكن تدر مداخيل هامة على المؤسسة البلدية والثاني يرجع إلى أن سانتامونيكا ولي سوليتير، يملكها أشخاص يتمتعون بحمايات قوية في بعض أجهزة الدولة النافذة. زيارة خاطفة إلى مدينة دلس الشاطئية التي تبعد عن العاصمة بمسافة ستين كيلومترا إلى الشرق، تعطي صورة أخرى عن الهموم البحرية للبلديات الإسلامية خلال فصل الصيف الأول في عهد السلطة الجديدة. في هذه المدينة الواقعة بالساحل المتوسطي القبائلي، والتي يقال إنها أُسست من طرف عائلات أندلسية بعد سقوط الأندلس، حصلت مشادات عنيفة خلال السنة الماضية بين رجال السلطة والمسؤولين المحليين عن حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ. لقد بادر قادة التنظيم السلفي في صيف ذلك العام بتوزيع منشورات مطبوعة وملصقات جدارية تحرم ارتداء الشورت بالشاطئ وفي المدينة. وأثار هذا التدخل في شؤون الحياة الخاصة للناس غضب عدد من المصطافين. خاصة القادمين من فرنسا أو من المدن الداخلية. وحين حاولت الشرطة أن تقوم باعتقال أعداء الأزياء الصيفية الشاطئية القصيرة، بادر أصحاب المنشورات والملصقات الإسلامية بالإعتصام في مسجد المدينة، وكاد الأمر أن يتطور إلى مواجهة عنيفة. كاد الدم أن يسيل بسبب إصرار السلفيين المحليين على الإعتصام بالمسجد وإصرار السلطة على إخراجهم منه ولو بالقوة. ثم حلت الخصومة الصيفية في النهاية بتدخل مباشر من السيد عباسي مدني، زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ. هكذا خرج المعتصمون من المسجد، وألقت الشرطة القبض في وقت لاحق على زعيمهم أحمد خيضر، وقدمته للقضاء بتهمة الإخلال بالأمن العام، ومخالفة بنود الدستور، فصدر عليه الحكم بشهرين سجنا مع وقف التنفيذ. هذا الرجل البالغ من العمر أربعين سنة والذي يعمل مديرا لمدرسة ابتدائية هو الرئيس الجديد لبلدية دلس. وقد كان أحمد خيضر مثله مثل الدكتور مسعود رئيس بلدية عين طاية، والسيد محمد سعيد حداد رئيس بلدية برج الكيفان، مناضلا في حزب جبهة التحرير الوطني. ولا حاجة بعد اليوم إلى تحريم ارتداء الشورت أو فرض عدم الإختلاط بين الجنسين على الشاطئ. لقد كف الرجال عن ارتداء الشورت منذ شهور، وكفوا، ربما منذ سنوات عن مرافقة نسائهن إلى الشاطئ. وأما الأشخاص الراغبون في الإستمرار على نمط العيش الصيفي القديم، فما عليهم إلا أن يتوجهوا إلى شواطئ تيفزيرت أو شواطئ بجاية. وإجمالا، فما فهمناه من جولاتنا السريعة بالشواطئ القريبة من العاصمة، والواقعة كلها تحت إشراف مناضلين سابقين في جبهة التحرير الوطني، أو تحت إشراف شبان ينحدرون من أسر جبهوية انضموا جميعهم إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ، يوحي بأن الشواطئ سوف تنظم على طريق الحمامات الموجودة بالمدن. سوف تكون هناك حمامات للرجال وحمامات للنساء. يأتي الجميع، أي أفراد الأسرة في سيارة واحدة، ويقوم رب البيت بإنزال النساء والأطفال غير البالغين فوق الرمال المخصصة لهم ويذهب هو والأبناء الراشدون إلى الأماكن الخاصة بالذكور البالغين، ثم يعود قبل العصر لنقل العائلة. الجزائر في مفترق الطرق مشاهدات ومسموعات 8 - (الحلقة الثانية) صيف إسلامي ساخن وكئيب ولابد أن نشير هنا إلى أن كل الذين ترشحوا في الانتخابات البلدية والولائية الأخيرة، وقعوا على تعهد يلتزمون فيه بمنع الاختلاط بين الجنسين بالمدارس وعلى الشواطئ، وتحريم الدعارة وألعاب القمار ومنع بيع الكحول واستهلاكها. وقع أعضاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ هذا التعهد ولم تتدخل الدولة أو تحرك ساكنا، علما بأن كثيرا من هذه المجالات، تدخل في نطاق اختصاصاتها القانونية. وكل رؤساء وأعضاء المجالس البلدية الذين تحدثنا إليهم، خلال النصف الأول من شهر يوليو حول هذه المواضيع، كانوا يردون عن أجوبتنا بأنهم ما زالوا ينتظرون القرارات التطبيقية أو النصوص التوجيهية التي سيرسلها إليهم المكتب الوطني، أي القيادة العليا للجبهة الإسلامية للإنقاذ. وكانوا يبررون «التأخير» بغياب السيد عباسي مدني إلى العربية السعودية. ولسنا ندري إن كانت التعليمات بتطبيق الشريعة الإسلامية بحذافيرها قد صدرت إلى البلديات الجديدة. كما أننا لم نستطع أن نفهم حقيقة ودوافع صمت السلطات الوطنية. إن الحديث عن تطبيق الشريعة، بل مجرد التلويح بذلك، أمر يضع مشروعية الدولة، محط تساؤل وتشكيك، والمراقبون في العاصمة الجزائرية يتساءلون عما إذا كان هناك اتفاق ضمني، تترك الدولة بموجبه السلطات البلدية الإسلامية، تتصرف وفقا لما تعتقده «شريعتها الإسلامية»، مقابل السكوت عن مطلبها القديم بضرورة التعجيل بحل المجلس الوطني الشعبي وإجراء انتخابات نيابية مسبقة. ومنهم من يرى أن الدولة تراهن مرة أخرى على ردود فعل السكان، وتفضل أن تترك الإسلاميين يرتكبون الخطأ تلو الخطأ، لإثارة الرأي العام الشعبي ضدهم، ثم قطف ثمار هذا السخط في الانتخابات النيابية الآتية. وهناك طائفة من المراقبين، ترى أن موازين القوى اختلت لصالح الإسلاميين، وأن الدولة لا تملك قدرا معقولا من المصداقية، ولا حتى مقدارا ضئيلا من المسؤولية يسمحان لها بمنافسة الإسلاميين. فبالأحرى ردعهم أو وقفهم عند حدهم. في ضوء هذا التصور يجب أن نحاول فهم سلسلة من الوقائع التي عاشتها الجزائر، بعد الانتخابات الأخيرة،وهي معطيات تترك انطباعا قويا بأن الجبهة الإسلامية للإنقاذ بدأت بالفعل تمارس عملها كما لو كانت بالفعل المرجعية الوحيدة للسلطة. مقابل غياب ملحوظ للدولة. هناك مثلا ذلك القرار الغريب الذي اتخذه مجلس بلدية تيبازا الشاطئية، بمنع المصطافين من ارتداء الشورت بالمدينة، مع تحديد مقاييس حتى للمايوهات التي يجب أن يرتديها الرجال والنساء في الشواطئ. هذا الخبر نشرته وكالة رويترز البريطانية ووكالة الأنباء الفرنسية، ونشرته أيضا الصحف الغربية، وربما العربية. وبعد ذلك نشرت الوكالات خبرا آخر يقول بأن والي مدينة تيبازا، أصدر بيانا ينكر فيه على البلدية حقها في تحديد مقاييس اللباس الصيفي، ويبيح للمواطنين الراغبين في ذلك، حق ارتداء الشورت داخل شوارع المدينة.لكن ما لم تقله الوكالات، أو ما لم تنتبه إليه لتقوله، أو لعلها لم تكن تعرفه حتى تربط بينه وبين هذا الصراع حول الأزياء الصيفية، هو أن والي مدينة تيبازا، السيد بوركبة شقيق السيدة حليمة بوركبة حرم الرئيس الشاذلي بن جديد، يعد في نظر المراقبين العارفين بمجريات الشؤون الجزائرية واحدا من الولاة المنفتحين على الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وفي ولاية تيبازا يوجد القصر الرئاسي الصيفي للشاذلي بن جديد، وفيها توجد منتجعات ومصايف خاصة بكبار الرسميين، فهل هي مجرد مصادفة، أن يتم الاحتكاك الأول بين ممثلي السلطة الإسلامية الصاعدة، في ذلك الموقع بالذات؟ لقد أصبحت وسائل الإعلام الرسمية نفسها تتحدث عن خطورة الحالة السائدة في الجزائر، بعد الانتخابات الأخيرة، بنبرة قاتمة متشائمة. وأظن أن أهم تعليق صدر في الأسابيع الماضية، أي السابقة لنشر هذا المقال، هو ذلك النص الذي أذاعته وكالة الأنباء الرسمية الجزائرية على شبكة خطوطها الداخلية يوم الأحد (15 يوليو 1990)، ونشرته جريدة المجاهد اليومية الصادرة باللغة الفرنسية والتابعة لحزب جبهة التحرير، بعددها الصادر يوم الاثنين (16 يوليو) تحث عنوان : ماذا يفعل الديمقراطيون؟ يقول السيد أ مخلف، كاتب المقال. وهو من معلقي الوكالة : «ها هي موسيقى الراي تمنع بوهران، وها هي الشرطة الإسلامية تظهر بمستغانم، وها هي سيارة خاصة للنساء وواحدة مخصصة للرجال بمطار عنابة، وها هي امرأة تشكو زوجها أو تشتكي منه لمحكمة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الشلف، وها هي بلدية تيبازا تمنع ارتداء الشورت على المصطافين... إن هذه الأخبار المتفرقة المأخوذة من الصحافة اليومية الصادرة خلال الأيام الأخيرة، تبرهن لنا أن نظاما جديدا أخذ يستقر بموازاة النظام الدستوري، حتى لا نقول إنه بدأ يترسخ بإلغاء النظام الشرعي القانوني نفسه. ومن مدينة بريان، قدمت لنا التلفزة مشاهد مخازن منهوبة، محطمة تحترق، مرسلة دخانا أسود يمتد فوق السطوح المهدمة، وهي مشاهد صارت مألوفة لدينا منذ خمسة عشر عاما، وتذكرنا بصور بيروت الشهيدة التي تقتحم يوميا بيوت الجزائريين ولقد سقط قتيلان وعشرات الجرحى لأن إماما غير مسؤول دعا فوق منبر المسجد جزائريين إلى خوض الجهاد ضد جزائريين آخرين. إنها نتيجة رهيبة تماما، لا تتناسب إطلاقا مع القضية المطروحة، وهي مجرد نزاع حول نتائج الانتخابات المحلية. كان يمكن أن تحل هذه المشكلة بالطعن في النتيجة الرسمية، لكن هناك تيارا إسلاميا فضل اللجوء إلى الإلغاء والإقصاء والعنف، مستغلا فكرة مسبقة سخيفة بشعة، كان الاستعمار يروج لها قبل فترة قصيرة مفادها أن الطقوس الإباضية ليست طقوسا إسلامية». ويمضي معلق وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، يقول في ذلك النص الذي نشرته جريدة المجاهد : «عام 1975 أدى الهجوم بالرشاشات من طرف المليشيات المارونية، على حافلة فلسطينية في بيروت، إلى تفجير التراجيديا التي يتخبط فيها لبنان اليوم. وربما قلنا غدا، إن الاشتباكات التي حصلت بمدينة بريان، هي بداية تاريخ التراجيديا الجزائرية. وأمام هذه الصور التي تتلبد بها السماء والتي تنسف التراضي الاجتماعي الوطني، أمام هذا التحول الزاحف الذي يدخل تحولا جذريا على الحقل الاجتماعي، ويعرض الحريات الفردية لتهديدات خطيرة، ماذا يفعل الديمقراطيون ثم ماذا تفعل الدولة؟» يجيب معلق وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية على هذا التساؤل قائلا : «الديمقراطيون يتشتتون، وهم حين يتكتلون يتجاهلون بعضهم بعضا، وهذا التناقض في التعبير يلخص الوضعية الميدانية، ويجعل تشكيلة الديمقراطيين سديمية غائمة، قاتمة ملتبسة الحدود». فما هي وضعية الديمقراطيين؟ هناك «فوروم» الديمقراطيين الذي يقوده السيد بن ونيش ويقول إنه يضم المثقفين، ثم إن هناك «فوروم» ثانيا يدعو إليه الدكتور سعيد سعدي والأحزاب المنظمة لمسيرة العاشر من مايو، وثالثا ينادي به السيد حسين آيت أحمد. وقد دعا إثنان من هذه التجمعات إلى عقد لقاء في يوم التاسع عشر من يوليو. فهل يتعلق الأمر بنفس التكتل الذي يطالب به كل أنصار الحرية وحقوق الإنسان، أم أن الأمر يتعلق بمسيرتين متوازيتين وتقسيميتين كما يأمل ذلك أعداء الديمقراطية هنا وخارج الحدود؟ثم هناك التحالف الوطني للديمقراطيين المستقلين بقيادة مصطفى التومي، وهو تنظيم يطمح لتكتيل كافة المواطنين المؤمنين بالديمقراطية، بصرف النظر عن معتقداتهم الإيديولوجية أو المذهبية، وهدفه الأول هو تحقيق انتصار روح التسامح والتضامن المميزة للمجتمعات العصرية المتطورة. «أخيرا، هناك الأحزاب الأخرى، وخاصة جبهة التحرير الوطني التي إذا تجددت وتطهرت من الدساسين و«الغطاسين» الذين تغلغلوا في صفوفها أثناء السنوات الأخيرة، إ، تجددت كما يوحي بذلك البيان الصادر عن اللجنة المركزية في دورتها الأخيرة، فإنها سوف تشكل سدا منيعا أمام القوى الرجعية، ولكن هل تستطيع الجبهة أن تتجدد؟» «إنها تساؤلات كثيرة لا تسمح في الوقت الراهن بالحكم على أداء وفعالية القوى الديمقراطية الوطنية، ولا توحي بأنها قادرة على الفوز بمعركة الانتخابات النيابية الآتية، سيما وأن مؤسسات الدولة تصرفت حتى الآن بكثير من الحذر الملحوظ تجاه التحديات والتجاوزات التي أشرنا إليها سابقا. لكن هذا الحياد المتفهم، بدأ يتطور نحو تدخل أكثر تطابقا مع روح الدستور الذي ينيط بالدولة مسؤولية الدفاع عن حريات الأفراد وحقوقهم. هكذا رأينا والي تيبازا يتخذ قرارا يلغي به قرار المجلس البلدي الذي يحرم ارتداء الشورت على المواطنين، وقد اتخذ الوالي مبادرته انطلاقا من أن تصرف المجلس البلدي كان غير دستوري، فيما أعلنت بلدية تيزي وزو استعدادها لاستقبال مهرجان موسيقى الراي بعد أن منعته بلدية وهران». أهم القرارات التي اتخذتها المجالس البلدية الإسلامية حتى منتصف شهر يوليو، كانت ذات طابع ثقافي واقتصادي. فقد صوت مجلس بلدية قسنطينة في اجتماعه الأول على قرار يقضي بمنع الاختلاط في المدارس، ابتداء من حلول العام الدراسي المقبل. ويبدو أن هذا التصويت مرشح بأن يكون بمثابة اختبار أو جس نبض في لعبة القط والفأر الجارية بين السلطة المركزية والبلديات الإسلامية. ويتساءل المراقبون بالجزائر العاصمة، عن السر الكامن وراء اختيار مدينة قسنطينة مسرحا لهذه المناوشة، كما يتساءلون عن سبب الصمت الذي التزمته وزارة التربية الوطنية أمام هذا التحدي. وزير جزائري سابق، كان عضوا في حكومة السيد قاصدي مرباح علق أمامنا على مبادرة المجلس البلدي قائلا : «لا تنسوا بأن مدينة قسنطينة، مدينة عبد الحميد بن باديس وعاصمة جمعية العلماء، كانت منذ بداية عهد الاستقلال وحتى اليوم القلعة الأولى للتيار السلفي السياسي. وقد حقق أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ فيها هيمنتهم الإيديولوجية، من قبل أن يظهروا سيطرتهم السياسية الكاملة بمناسبة الانتخابات البلدية والولائية الأخيرة. لكن مشكلة الاختلاط قضية ذات طابع وطني يفترض أن لا تحسم إلا بواسطة قانون مركزي، يتم اتخاذه على مستوى البلد كله. بل إن هذه المشكلة هي بامتياز من نمط المشاكل المزيفة التي جاءتنا من الشرق. لقد كنا نحسب أننا تجاوزنا مثل هذه القضايا، وأنه صار من البديهيات العصرية أن يختلط الصبيان والصبايا فوق مقاعد الدراسة بالابتدائي والثانوي، تمهيدا لاختلاطهم في الجامعات». وأضاف الوزير السابق، في حديثه إلينا، وهو يهز رأسه استغرابا وحسرة على مستوى التدني الذي وصلت إليه الأوضاع في الجزائر : «لو طلب رأيي في الأمر، لاقترحت أن تبادر الدولة على الفور، ومن خلال وزارة التربية الوطنية بإصدار بيان تعلن فيه إبطال قرار المجلس البلدي وتعتبره لاغيا وغير قانوني. لكنني ألاحظ أن الدولة بقيت صامتة، ولم ترد حتى الآن، على موقف يعتبر خرقا سافرا لصلاحياتها. الدولة تبدو مشلولة أو متواطئة، بل هناك إشاعات تقول بأن صديقنا الأستاذ محمد الميلي وزير التربية الوطنية، قد يذهب ضحية اختبار القوة الأول هذا بين الدولة الوطنية المركزية وبين حزب عباسي مدني. إنه، كما سمعت، معتكف في بيته منذ أيام، وقد يخرج من الحكومة بمناسبة التعديل الوزاري المنتظر». ويستطرد الوزير السابق : إذا لم تبادر الحكومة بإلغاء هذا القرار الصادر في قسنطينة، فإن تطبيقه في السنة الدراسية الآتية، سوف يعني أشياء كثيرة، في مقدمتها أن السلطة المركزية تخلت تماما عن الدور الذي يجب أن تنهض به وفقا لأحكام الدستور. وماذا يبقى للدولة إذا كانت المجالس البلدية تستطيع أن تسن قوانين خطيرة، مثل قانون تحريم الاختلاط الذي يمس حياة ومستقبل الأجيال الصاعدة؟ هل مشكلة ارتداء الشورت في الصيف أخطر من قضية الاختلاط هذه؟ لماذا أصدر والي تيبازا على الفور قرارا إداريا يبطل به موقف المجلس البلدي، ولم يصدر والي قسنطينة أي شيء في هذا الموضوع؟ أخشى أن يدخلنا الإخوان المسلمون، عبر قضية الاختلاط هذه، في معركة الحجاب والسفور التي عرفتها مصر في حقبة العشرينات. سيكون ذلك ارتدادا كبيرا إلى الوراء، وسيدخلنا هذا الوضع في متاهات فكرية وسياسية ربما تكون لها عواقب وخيمة على تطورنا.ثم إنه ليس من المؤكد أن كل البلديات الإسلامية ستحذو حذو مدينة قسنطينة، ولكن من غير المستبعد أن يستنفد النقاش حول هذه المسألة طاقات يمكن لنا أن نصرفها في مجالات أكثر عقلانية وأقرب إلى هموم العصر الذي نعيش فيه. «إنني -يقول الوزير السابق- ما زلت في الواقع مدهوشا أمام عجز الدولة المركزية وسكوتها وتواطئها أمام هذا التطاول الغريب على ما هو من صميم مسؤولياتها. أليست التربية الوطنية، وبالتالي المؤسسات المدرسية التابعة لها حكرا على الدولة؟ ليس لدينا حتى الآن قطاع للتعليم الحر أو التعليم الخاص، كما هو الأمر عندكم في المغرب، وليس لدينا تعليم ديني مؤسسي، مثل ماهو الشأن في فرنسا، حتى نقول إن الدولة تسمح بنوع من الحرية في هذا الحقل الاستراتيجي. إن ميزانية التربية الوطنية تستحوذ على عشرة بالمئة من الدخل الوطني الخام، والتعليم بمراحله المختلفة قطاع عام، بل هو القطاع العام بامتياز. وليس من حق أية سلطة محلية، حتى ولو رفعت لواء الإسلام أن تتخذ قرارا يغير من طبيعة العلاقات والمناهج التربوية والمعاملات في حقل استراتيجي مثل التربية الوطنية». أول حزب صدر عنه رد فعل مناهض لقرار المجلس البلدي في قسنطينة، كان حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية بزعامة الدكتور سعيد سعدي، لقد أصدر هذا الحزب بيانا يعلن فيه : «من واجب الديمقراطيين أن يؤكدوا إصرارهم على حماية دولة القانون. إننا نلاحظ أن سلطة الدولة يجري قضمها بانتظام من طرف أطماع لا ينتظر أصحابها الوصول إلى السلطة الوطنية لإظهار ادعاءاتهم الحقيقية. ونحن -يقول حزب التجمع في بيانه- نلاحظ أن الحريات العامة تداس في أكثر من مكان في البلاد. وبصرف النظر عن استقالة الدولة، فإن التجاوزات الحاصلة تعني المجتمع كله». أعضاء النخبة الجزائرية منقسمون بطبيعة الحال، بشأن هذه الظاهرة الجديدة، ظاهرة زحف الإسلام السلفي على السلطة. يقول الروائي الطاهر جاعوط، في مقال له بعنوان : السماء تسقط فوق رؤوسنا، نشره بعدد مجلة ألجيري أكتياليتي المؤرخ ب18 يوليو 1990. «علامات هذا الزمن رهيبة، تثير الاكتئاب والقرف. الفظاعات التي ارتكبت في بريان، وجاءت تصدع الإيقاع الألفي لحياة وادي ميزاب المنتجة والهادئة، تعطينا برهانا عن ما يمكن أن يقود إليه التعصب والإقصاء حين يصبحان فضائل مركزية. ومع الأسف، نلاحظ أن هذه التظاهرات ليست معزولة، وإنما هي حلقات، ربما أكثر الحلقات خشونة من نسيج اجتماعي متداخل متحرك، من الصعب أن نمسك به، تختلط فيه أكثر أنواع القلق مشروعية، بالتساؤلات المحيرة ويرتبط ذلك كله بانبعاث أشكال من الشعوذة والممارسات المضللة التي كنا نظنها انتهت إلى الأبد. فنحن نجد بالقرب من بعض المساجد باعة متجولين محصنين من كل رقابة، يعرضون التمائم والطلاسم والأيقونات ومساويك (جمع مسواك) من نوع خاص وصورا خارقة وأفاويه وتوابل وأعشاب وكثيرا من الوصفات السحرية. ولكن الشرطة التي نظفت آخر جيب من جيوب السوق الموازية في الأيام الأخيرة، تتراجع دائما أمام هذه الجزر الخارجة عن سلطة القانون، وهو قانون يعطي الانطباع في الفترة الأخيرة بأنه يشك في مشروعيته. إن القانون ينسحب، يتراجع طاويا ذنبه بين رجليه، كلما أظهر الدين والمقدس ومخلفاتهما أنيابهما كوحوش مفترسة». ويمضي الطاهر جاعوط في استعراضه لمظاهر الانتكاسة المقبلة التي تعيشها الجزائر : من بين الحروز المعروضة للبيع بطاقات بريدية، تمثل كائنا له ساقا امرأة وصدور ورأس سمك مكتوب عليه : «هذا خلق الله»، ثم صور للسماء تصور خوارق ومعجزات مكتوبة أو مخطوطة في الفضاء. لعلها من النوع الذي تحدثنا عنه في مقال سابق وبينا أنه مصنوع من أشعة اللازر». «هكذا في زمن المكوك الفضائي، نرى الجزائريين يدخلون في حالة انخطاف أو يسقطون في أوضاع محبطة، وهم ينظرون إلى السماء. إنهم يعيشون عصر انفعالات الإنسان البدائي المرعوب من ظواهر الطبيعة الكبرى. وقد كان الغوليون les gaulois القدامى (يقصد أجداد الفرنسيين الحاليين)، يعيشون تحت هلع سقوط السماء فوق رؤوسهم، كانوا كذلك قبل ألفي سنة. أما نحن فقد سقطت السماء على رؤوسنا ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين». ويتساءل الطاهر جاعوط : «كيف وصلنا إلى هذه الحالة؟ ومن ذا الذي كان يتصور قبل عشر سنوات فقط، أن أراذل تافهين، هستيريين يبشرون بالقيامة والانتقام والحقد، يصبحون الرموز المحببة للشباب الجزائري أو من ذا الذي كان يعتقد بأن هذا الشعب، وهو ليس أكثر حماقة من غيره، يشكل تربة خصبة، مستعدة لاستقبال أكثر اللاعقلانيات استعصاءً، وأكثر الضلالات والتضليلات وقاحة، لتزرع وتنمو وتخصب عندنا؟ والحقيقة أن هناك مؤسسات كبرى، مؤسسات عملياتية مؤثرة جدا كانت تعمل في هذا الاتجاه، ومن بينها المدرسة التي سيطرت فيها الشعوذة والانطواء على الذات وإلغاء الآخر واستبعاد الإنسية والعقلانية والتفتح. وهناك التلفزة، تلك الوسيلة الإعلامية السحرية، حيث تنتشر الخطب الرجعية والبرامج شبه العلمية، مع هدف واحد هو محو التساؤل وخلق الروح النقدية من خلال إرجاع كل شيء إلى حقيقة عليا واحدة. ومن بين المواعظ التي قدمت على شاشاتنا الصغيرة في شهر رمضان الأخير، واحدة كانت تشكل هجوما صريحا ضد الديمقراطية وأخرى تهاجم الحداثة بعنف لا مثيل له. ومع ذلك، فالتلفزة خدمة عامة في دولة تدعي أنها ديمقراطية ولا يوجد في أي نص من نصوصها أي التزام بالعودة إلى العصور الوسطى أو العصر الحجري». ثم ينتقل الكاتب من وصف هذه الظاهرة المرضية إلى علاجها ليقول : «إن الشعب الضائع والذي تعرض للسحق مدة سبع وعشرين عاما، يخضع اليوم لخطاب رجعي فات أوانه، ولابد له من أن يكتشف البديهيات مرة أخرى، وأولى هذه البديهيات أنه لا يوجد حل في الماضي لمشاكل الحاضر. ولو أن هذا الحل موجود، لكان يكفي المصريين واليونانيين أن يضغطوا على جرس الماضي ليعود إليهم الازدهار وليصبحوا من جديد في طليعة الأمم. لقد تطورت كل حضارة في نطاق ظرفية تاريخية دقيقة معروفة، غذتها قرون طويلة من الأعمال التمهيدية. ولا يمكن أن تنبعث الحضارة المصرية ولا الحضارة اليونانية ولا الحضارة اللاتينية، وتسترجع الشكل والجوهر اللذين ميزاها منذ قرون. ولا يمكن أبدا كذلك بعث الحضارة الإسلامية في شكلها الأموي أو العباسي، فبالأحرى في شكل حضارة عهد الخلفاء الراشدين». «وفي هذا الوقت الذي بدأت فيه التعددية تستقر في الأفكار وتغزو حقل التعبير، نجد أن حقولا أخرى تبقى مغلقة بإحكام، بعيدة أو مبعدة عن أي تنازل تجديدي أو أية مقاربة موضوعية. ومن بين هذه الحقول المحصنة ضد الجدة، حقل المقدس. هناك خطباء ووعاظ يتناوبون على شاشتنا الصغيرة بخطابات تنتمي إلى القرون الوسطى، بينهم من يخبروننا بأن أبواب الجنة تبقى مفتوحة يومين في الأسبوع (يومي الإثنين والخميس لمن يهمه ذلك)، كما أن الجنة هي سوق الفلاح : (سوق الفلاح اسم يطلق في الجزائر على المخازن التجارية الكبرى المؤممة أي تلك التي تملكها الدولة). والحق أننا نود أن نسمع في بعض الأحيان مفكرين أو خطباء يملكون آراء عصرية أو رؤية إنسانية. وفي هذا الصدد، فإن حضور السيد المهدي المنجرة وظهوره على التلفزة في الآونة الأخيرة، يشكل حدثا كبيرا ويبشرنا بأيام قادمة تستحق أن نعيشها. إن مثل هذا الحضور يمزق الحجاب السميك الذي يثقل كواهلنا بجموده. إن خطاب المنجرة يندرج في المعرفة المعاصرة، ويشكل قطيعة مع التظاهرات المخيفة لفكر ظل جامدا متحجرا منذ قرون، يرفض الجدل والحوار ويميل إلى الإلغاء والإقصاء وإصدار الأحكام القطعية». [على الطريق، نشير إلى أن تنويه الكاتب بالأثر الطيب الذي تركه الدكتور المهدي المنجرة في الجزائر، يترجم شعورا عاما لمسناه عند قطاعات واسعة من المشاهدين الجزائريين. ويتعلق الأمر هنا بمداخلات ومحاضرات قدمها الأستاذ المهدي المنجرة، في نطاق الندوة التي نظمها معهد دراسات المستقبل الإسلامي الذي يوجد مقره بلندن، بالتعاون مع معهد دراسات الاستراتيجيا الشاملة الجزائرية في النصف الأول من شهر يوليو الماضي]. يختتم الروائي الطاهر جاعوط مقالته النقدية ضد السلفية الجديدة بقوله : «لقد رأينا ما حصل لنجيب محفوظ وما حصل لمحمد عبد الوهاب وآخرين من قبلهم ومن بعدهم. ومن النادر أن تولد ظاهرة جميلة، أو يهب نسيم الحرية أو تنشأ فكرة لها صلة بالتقدم، من دون أن يرفع الأزهر أو المؤسسات المماثلة له عقيرتهم بالاحتجاج. فما هو الطريق الأسلم لإنقاذنا من هذا الوضع الذي نعيشه وهو ليس على كل حال غرقا كاملا، لكن يخشى أن يصبح كذلك؟ إن خلاصنا يكمن في تطوير النظرة النقدية، وإعادة الاعتبار للعقلانية وزرع التساؤل في قلب الدوغمائيات والأيقان» (المصدر أسبوعية ألجيري أكتياليتي، عدد 12-18 يوليو 1990). أما الروائي رشيد ميموني، فله نظرة مختلفة عبر عنها في مقال نشرته له مجلة جون أفريك تحت عنوان : «الإسلاميون والتلامذة السيؤون» (عدد 18-24 يوليو 1990) بدأ بقوله : «لقد أثار انتصار الإسلاميين في الانتخابات البلدية الأخيرة بالجزائر، حالة من الذعر الحقيقي داخل فرنسا، سببها النبرة التشاؤمية التي عالجت بها وسائل الإعلام الفرنسية هذا الحدث، فوراء الصورة المثيرة للملتحين بملامحهم المتجهمة، كانت تتراءى أشباح بحر أبيض متوسط مكتظ ببواخر نقل اللاجئين. وعلى العكس من ذلك، فقد استقبل كثير من الناس نتائج الانتخابات بفرح بالغ في الجزائر. وأنا لا أتحدث هنا بطبيعة الحال عن المناضلين الأصوليين، ولكنها أول مرة يخرج فيها المواطن الصغير إلى الشارع، مع وجود إحساس لديه بالعزة المستعادة. ويتذوق بالتذاذ طعم الصفعة التي وجهها لنظام كان يضطهده منذ فترة طويلة ويسلط عليه المنغصات والإزعاجات والإهانات». ويأخذ رشيد ميموني نمادج من الحياة اليومية ليدعم بها رأيه : «إنني أجهل تماما اسم صديقي «طاكسي ألفين»، ولكنني أتذكر رقم تسجيل رخصته، فقد التقيته يوم جمعة بالحانة المألوفة على مسافة بضعة أمتار من مسجد كان مكتظا بالمصلين، كان صديقي يتذوق بيرته. إنه يملك في كلامه تلك الدقة الشرسة للعصاميين. وقد رد بدون أدنى تلكؤ على سؤالي واعترف لي بأنه صوت للجبهة الإسلامية للإنقاذ. وحين أفهمته أنه قد لا يستطيع في هدوء واطمئنان الاستمرار في تناول شرابه المُزْبِد، اكتفى بهز كتفيه. إنه لا يؤمن بأنهم سيقدمون على ذلك القرار. وهو يرى في الحزب الإسلامي المعارضة الحقيقية الوحيدة للنظام، وقد احتج أمامي بمثل شعبي يقول : «لو كان الصوف ينْبتْ على كتف السَبعْ يقلالو مْوَالينْ البْرَانيس». وهو يعتبر أن جبهة التحرير الوطني استعبدت الشعب مدة طويلة وجزت صوفه وأن الإسلاميين كشفوا ذلك». «أما الطاهر، صاحب الحانة فما يزال متفائلا، ويعتقد أن البلدية الجديدة لن تجبره على تغيير تجارته. ولهذا الرجل فكرة واضحة عن الطريقة الفعالة لإثارة الخلاف في صفوف المستشارين البلديين الملتحين، ثم لإثارة الناس ضدهم. يكفي في رأيه أن تقدم الدولة عشرين شقة لكل بلدية تترك للمستشارين حرية اختيار المستفيدين السعداء، وسط ألف واحد سبق لهم أن وجهوا طلبات للسكن». ويرى رشيد ميموني : «أن الخوف الهائل الذي تتحدث الصحافة الأجنبية عن وجوده في أوساط النساء، إنما هو من فعل بضع نساء يرتدن فندق الجزائر، ذلك المقر المتميز للصحفيين الغربيين. والغريب في الأمر أن النساء غير المحجبات اللائي يمكن أن يشاهدهن المرء بشوارع العاصمة يظهرن أكثر اطمئنانا، وهن يعتقدن أن نجاح الجبهة الإسلامية للإنقاذ سوف يجعل قادتها أعمق شعورا بمسؤولياتهم وسوف يعرفون كيف يطوقون تحديات وتجاوزات أتباعهم المعتصمين. أما في البلديات الصغيرة داخل البلاد، فإن انتصار الإسلاميين يمثل أملا حقيقيا. ويرى السكان في هذا الانتصار بداية لنهاية عهد الفوضى والتسيُّب والرشوة والمحسوبية الذي ميز أغلب البلديات. وقد تأثر الناس كثيرا بالنداءات الداعية إلى إضفاء صبغة أخلاقية أكثر على المجتمع، وهم ينتظرون من المناضلين الدينيين أن يتكفلوا جديا بالشؤون البلدية. والناس مقتنعون بأن الإداريين الجدد، سوف ينشغلون باحتياجات السكان ويعرفون كيف يقومون بنقل الأزبال وتصليح الطرقات وترميم الإنارة الكهربائية وتوزيع انقاطاعات الماء بعدالة. كما أنهم سوف يفرضون على العاملين في البلديات تصرفا جديا واحتراما لائقا في تعاملهم مع المواطنين. ويدرك الناس بشكل جيد أن الجزائريين ظامؤون جدا للاحترام. لقد خرجوا من عهد الإهانة والاستغلال أيام الاستعمار، إلى زمن مماثل في ظل السلطة الوطنية، وما تزال ذاكرتهم الجماعية تحتفظ بالإحساس بهذا الجرح العميق. وسوف أستشهد بماوتسي تونغ، لأقول إن السلطة في الجزائر كانت تلميذا سيئا. فهي لم تأخذ أي درس من أكتوبر 1988، ولم تفقد مثقال ذرة من غطرستها. ومن أجل مكافحة البضائع المستوردة تهريبا، وصل إلى نسب عالية جدا، لم تجد وسيلة أفضل لذلك من أن يقوم رجال الجمارك بإهانة الجزائريين العائدين من الخارج ببعض الهدايا الصغيرة للأطفال أو ببضع قطع غيار لسياراتهم، والحال أن مصالح الجمارك، تعرف المهربين معرفة جيدة فلماذا لم تتوجه إليهم مباشرة؟» يتابع رشيد ميموني تحليله للوضع الجزائري فيقول : «لقد كانت مظاهرات أكتوبر سنة 1988 الضربة الإنذارية الأولى، وكانت الأصوات التي أعطيت للجبهة الإسلامية للإنقاذ في شهر يونيو 1990، بمثابة الضربة الإنذارية الثانية، وفي الضربة الثالثة للمدفع، سوف تنهار جدران قلعة جبهة التحرير الوطني ويدخل الأصوليون حقيقة إلى الساحة. حينئذ، تسقط الأقنعة المترنحة». إن وجود سلطة تتسم بعجز وعقم لا حدود لهما يبدو أنه يقودنا ببطء، ولكن بشكل حتمي ولا رجوع فيه، إلى هذا الاستحقاق. والمثقفون وحدهم هم الذين يظهرون قدرا من عدم الارتياح. ومن أجل تعزية أنفسهم أو تسليتها، نجدهم ينسبون للشاذلي بن جديد عقلية ميكيافيللية ومهارة في المناورة، تخرجان عن حدود المألوف. ويقول هؤلاء المثقفون إن الرئيس أراد عن قصد تشجيع صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بهدف تفكيك جبهة التحرير الوطني التي ظهر «باروناتها»، وغالبيتهم من فريق بومدين، أنهم أعداء له (أي الشاذلي بن جديد). هكذا يجري تفسير الإجراءات اللاشعبية التي اتخذت ضد التراباندو (حركة التهريب)، قبيل الانتخابات ببضعة أسابيع، ووفقا لهذه الرؤية، سوف تبدأ المرحلة الثانية بإنشاء حزب خاص بالرئيس، حزب قادر على كسب الانتخابات التشريعية. أما الإسلاميون، فليس في نيتهم أن يبقوا مكتوفي الأيدي. لذلك، فإن البلاد تعيش في حالة من الانتظار، وعباسي مدني والشاذلي بن جديد ينظر كل واحد منهما للآخر، وينتظر الهفوة التي قد يرتكبها. الجزائر في مفترق الطرق - مشاهدات ومسموعات 9 - (الحلقة الأولى) الفتنة في وادي ميزاب... خيل إلينا ونحن نتابع لقطات من شريط مصور أنجزه قسم التحقيقات في التلفزة الوطنية الجزائرية عن الصدامات الدامية التي حصلت في مدينة بريان بولاية غرداية. في وادي ميزاب بالجنوب الجزائري، أننا نرى مشاهد من الحرب الأهلية اللبنانية، أو مناظر من المواجهات الجارية بين القوات الإسرائيلية وأهالي قطاع غزة. كانت شوارع المدينة فارغة من المارة وأبواب المحلات التجارية مغلقة والواجهات والجدران محطمة وسحب كثيفة من الدخان مختلطة بالغبار، تجوب الفضاء في انتظار هبوب رياح قوية تبددها في الفراغ، إنها آثار تلك الإنفجارات والحرائق التي عرفتها مدينة بريان ليلة يوم السبت 22 يونيو 1990، بسبب خلافات نشبت بين الجبهة الإسلامية للإنقاذ ولائحة المستقلين الفائزة في الإنتخابات البلدية والولائية. في لقطة أخرى شاهدنا سطوح المنازل المزابية القديمة، مغطاة بنساء صامتات يغزلن الآفاق بنظراتهن وحولهن أطفال صامتون أيضا نستطيع أن نقرأ في عيونهم ما خلفته تلك المعركة في نفوسهم الغضة من مشاعر الخوف والحيرة. قال لنا أحد الزملاء الذين أنجزوا ذلك التحقيق المصور أن الأطفال لم يعودوا يخرجون إلى الشارع لأن آباءهم يخافون من أن تتجدد المعارك وتفلت من سيطرتهم، ولذلك فهم يلعبون داخل تلك البيوت المفتوحة على السماء، ويتركون طرقات المدينة خاوية. وفي أسفل المدينة تقوم المقبرة الإباضية التي امتلأت تلك اللحظة بأعداد غفيرة من الرجال بأزيائهم البيض النظيفة، وهناك خط أزرق يمثل قوى الأمن التي تجمعت في هذه المناسبة بموازاة الطريق الوطني المُعَبَّد المتجه إلى العاصمة. أما إذا امتد النظر باتجاه الشرق، فإنه يشاهد سطوح شرفات حي كاف حمودة، وأغلب سكانه من العرب المالكيين السنيين. سطوح وشرفات المنازل هنا أيضا مكتظة بالمتفرجين والمتفرجات الذين يحاولون متابعة وقائع ما يجري في الطرف الآخر. ولم يكن أحد يتحدث عن هذه الأشياء قبل الآن. لم يكن أحد يقول هؤلاء عرب سنيون، مالكيون، وهؤلاء بربر أو أمازيغ إباضيون. لكن هذه التفرقة المذهبية والعرقية، برزت إلى السطح في الجزائر، خلال الإنتخابات الأخيرة، وأخذت تهددها في صميم وجودها كدولة وككيان. الإدارة المركزية أو الدولة، لم تعالج الوضع بما يستحقه من الجدية، ولم تنتبه على ما يبدو إلى خطورته. حقا إن والي مدينة غرداية عاصمة ولاية وادي ميزاب ورئيس دائرة مدينة بريان قد حضرا مراسيم دفن السيد يحيى دادون وابنه صالح البالغ من العمر ستة وعشرين عاما واللذين قُتِلا صباح يوم الأحد 23 يونيو بطلقات نارية، من طرف جار عربي سني مالكي. تمت عملية الدفن في صمت، وتفرق المشيعون من دون وقوع أي صدام بينهم وبين جيرانهم، وتفرق الشباب المزابيون الذين قاموا بدور الحراسة أثناء تشييع الجنازة. القتيلان، الأب البالغ من العمر أربعة وسبعين عاما والإبن البالغ ستة وعشرين عاما كانا مزارعين. وقد ألقيت في هذه المناسبة خطبة ذَكَّرت بأن الوالد حفر بيديه بئرين وغرس عشرات الأشجار، ليكون قدوة لأبناء الجيل الصاعد ويُفْهمهم بأنه لابد من الاستمرار في فلاحة الأرض والاعتناء بها. تاريخيا كانت الأرض، ثم التجارة، ثم الصناعة، الأرباح المستخلصة من الأرض تستثمر في التجارة، والفوائد المتأتية من هذه الأخيرة، تُستغل لإنشاء الصناعات، والفوائض المترتبة عن هذه وتلك تُبنى منها المدارس والمساجد. يحصل ذلك كله للحفاظ على الحياة في بيئة وادي ميزاب ولتحقيق استمرارية تنظيم اجتماعي عمره أكثر من ألف عام... إنها ألف عام من العزلة أنشأت مجتمعا متميزا متماسكا في جنوب الجزائر، وخلقت شبكة واسعة لها امتداداتها في مجموع أنحاء القطر الجزائري. وبفضل هذا الجهد أصبح المزابيون يسيطرون على التجارة الصغيرة داخل كبريات المدن الجزائرية، مثلما يسيطر أهل الجنوب في المغرب، وتحديدا سكان منطقة سوس منهم على نفس القطاع داخل الحدود المغربية من الكويرة إلى طنجة، ومن العبارات المألوفة في لغة الحياة اليومية أن المرأة إذا أرادت أن ترسل ولدها أو ابنتها لشراء بعض الإحتياجات المنزلية تقول له: «روح عند المزابي»، تماما مثلما تقول صُنُوُّهَا المغربية «سير لعند الشلح» ومثلما، أن أهل سوس هم سادة التجارة الصغيرة يمارسونها في العيون والدار البيضاءوالرباط ومكناس وفاس وطنجة، فإن أهل وادي ميزاب يكادون يكونون نسخة طبقة الأصل من أبناء عمومتهم المغاربة، إذ أنهم يمارسون نفس الدور بالجزائر العاصمة ووهران وقسنطينة وعنابة وسكيكدة. واللهجة الميزابية أو المزابية، واحدة من اللهجات الأمازيغية، لا تختلف كثيرا عن اللهجات الحية المستعملة عند أمازيغ المغرب. وهي قريبة أيضا من اللهجة الجربية أو الجرباوية (نسبة لجزيرة جربة التونسية). وأهل جربة في تونس، أمازيغ مثل أهل سوس وأهل وادي ميزاب. نقصد من هذه الإشارة السريعة لبعض المعطيات الخاصة بوادي ميزاب، التنبيه إلى أهمية وخطورة أحداث مدينة بريان. إن هذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها اثني وعشرين ألفا هي أصغر مدن وادي ميزاب السبع، سنا، إذا جاز مثل هذا التعبير، وأسرة دادون الأمازيغية الإباضية، تؤكد في الأحاديث التي نشرتها لها الصحافة الجزائرية، بعد وقوع تلك التراجيديا أنه لا توجد، ولم توجد قط أية خلافات أو منازعات شخصية بينها وبين جيرانها السنيين المالكيين العرب. ولعل مشاعر الحقد أو الخوف هي وحدها التي تفسر تلك الطلقات النارية الطائشة التي أودت بحياة الرجلين. ولكن تطور الحقد والخوف،حتى انفجرا في تلك الصورة الدامية؟ المعلومات التي نشرتها الصحف الجزائرية تشير إلى أن المتهم، حين مَثُلَ أمام قاضي التحقيق، برر تصرفه بحجة الدفاع المشروع وادَّعَى أن زوجته قد أهينت داخل منزله. ولكن لماذا حدث ما حدث بمدينة بريان حيث تتساكن وتتعايش الأسر العربية السنية المالكية جنبا إلى جنب مع الأغلبية الأمازيغية المزابية الإباضية من دون مشاكل ولا صدامات، منذ سنوات طويلة؟ في تلك الأثناء اتصل ممثلو الجماعة المزابية بالقيادة الوطنية للجبهة الإسلامية وقدموا لها وجهة نظرهم وهي تتلخص في أن الفتنة خرجت من المسجد ويجب أن تتوقف انطلاقا من المسجد. ونقلت أوساط مطلعة عن المزابيين قولهم إن استقبال السيد عباسي مدني لهم، كان فاترا. وحسب هذه الرواية التي سمعناها من مصادر إعلامية وسياسية بالعاصمة، فقد قال زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ لزواره القادمين من الجنوب : «إن تكوين لائحة المستقلين يعتبر طعنة غادرة موجهة ضد الجبهة الإسلامية للإنقاذ. فلماذا لا تلتحقون بصفوفنا، ما دمتم مسلمين؟ لا تخافوا ولا تقلقوا فإننا سوف نعوض لكم الخسائر». وكان جواب المزابيين «إن الأحزاب والمنافسات الجارية بينها من صميم طبيعة العمل السياسي، ومن حق كل واحد أن يبحث عن الأداة المناسبة في هذا الصراع الديمقراطي. ثم إن الجبهة الإسلامية للإنقاذ لا تساوي الإسلام بالضرورة. وكيف يمكن تعويض الموت؟». بعد هذه المقابلة بين وفد المزابيين وزعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ عباسي مدني، اتُّخِذَ قرار بإرسال وفد إلى عين المكان. وجاء الوفد إلى مدينة بريان وكان مؤلفا من مختلف تيارات الحركة الإسلامية، إذ نجد فيه مندوبين عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ومندوبين عن جمعية الإصلاح والإرشاد التي يتزعمها الأستاذ محفوظ نحناح، وممثلين عن حزب الأمة الذي يقوده الدكتور يوسف بن خدة الرئيس السابق للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. جاء هذا الوفد من العاصمة وقابل الوالي، والقادة المحليين للجبهة الإسلامية للإنقاذ وشيوخ القبائل العربية ووجهاء الجماعة المزابية، وانتهت هذه اللقاءات الأولى بنتيجة إيجابية تمثلت بالموافقة على اقتراح تقدمت به الإدارة، يقضي بتكوين لجنة مصالحة تتألف بالتساوي من شخصيات تنتمي للجماعتين. كما تألفت لجان فرعية بنفس الطريقة، تعتبر امتدادا للجنة الكبرى في مستوى الأحياء. وكانت أحداث مدينة بريان، قد انفجرت بعد إعلان فوز لائحة المستقلين المؤلفة أساسا من المزابيين الأمر الذي أثار نقمة الجماعات العربية التي تناضل في غالبيتها ضمن صفوف الجبهتين (جبهة التحرير الوطني والجبهة الإسلامية للإنقاذ). ولأن هذه المواجهة حصلت غداة وقوع أول تجربة انتخابية تعددية في تاريخ الجزائر المستقلة، ثم اتخذت طابعا عرقيا وطائفيا (عرب ضد أمازيغ وسنة ضد إباضية) فقد خشي الجميع أن تكون إنذارا باندلاع حرب طائفية على الطريقة اللبنانية. لقد كانت جبهة التحرير الوطني، وهي الحزب الوحيد الذي حكم البلاد منذ الاستقلال حتى اليوم تعد لوائحها الانتخابية وفقا لتوازنات طائفية وعرقية مدروسة، وكان انعدام حرية التعبير والتنظيم، يترك لدى المراقب انطباعا قويا بأن المسألة الإثنية والطائفية لم تعد قائمة في هذا البلد، ثم جاءت أحداث مدينة بريان بمثابة كاشف، ألقى الضوء فجأة على هذه التناقضات النائمة. في الماضي كانت جبهة التحرير الوطني تحرص ضمن سياسة التوازن، على تقديم عدد مضاعف، أي ثمانية وخمسين من المرشحين لملء التسع وعشرين مقعدا ببلدية المدينة، من بينها ستة عشر مقعدا مخصصا للمزابيين. كان رئيس البلدية إذن، من هذه الطائفة وكان بطبيعة الحال مناضلا بالجبهة، لكن جهاز الحزب المحلي ومراكز منح القرار فيه، كان بيد العناصر العربية المالكية السنية. واليوم وبعد إقرار مبدأ التعددية الديمقراطية، أصبح ممثلو الجماعتين المزابية الإباضية الأمازيغية، والمالكية السنية العربية ينددون بنفس اللهجة العنيفة بما يسمونه هيمنة حزب جبهة التحرير. والآراء هنا متباينة. فهناك القائلون بضرورة إنهاء السيطرة الإباضية، والداعون إلى ضرورة إنهاء النزعة التعصبية لجبهة التحرير الوطني. ويقول المعارضون إن جبهة التحرير الوطني حين قامت بتشكيل لائحتها «لعبت» لعبة الوحدة الوطنية وأنها ذهبت ضحية هذه اللعبة. لقد شكلت لائحة مؤلفة من الإباضيين والمالكيين بهدف تجنب الإنقسام العرقي والطائفي. هذا ما يقوله أنصار حزب السيد عبد الحميد المهري. أما أنصار السيد عباسي مدني المحليون، والذين استمعنا إلى عدد منهم في العاصمة فَيَرَوْنَ أن الهدف من تكوين تلك اللائحة الموحدة، كان تقسيم العرب وإضعاف الجبهة الإسلامية للإنقاذ. أما في الأحياء المزابية، كما ذكرت مجلة «ألجيري أكتياليتي» الأسبوعية، فإن جبهة التحرير الوطني تجاوزت كل الحدود في بحثها عن الأصوات. لقد استعملت هي الأخرى المساجد وذلك أمر لا يقبله الإباضيون. لهذا تدخل شيخ الجماعة من أجل وضع حد للأمر. وقد انطلقت الدعاية في المساجد لفائدة رئيس البلدية السابق الذي كان أيضا عضوا في مجلس القسمة (فرع الجبهة المحلي). وذكر لنا صحفي جزائري، أن تعيين رئيس البلدية السابق ضمن المرشحين الجدد، أفقد الجبهة ما تبقى لديها من مصداقية، وأنه عمق بالخصوص مشاعر النقمة لدى العرب القاطنين بالمدينة. ويقول هؤلاء، وفقا لتلك الرواية، إن رئيس البلدية منح قطعا أرضية للبناء كان عدد من أهل السنة المالكيين قد دفعوا أموالا للحصول عليها منذ سنة 1983. وهناك رواية تقول بأن زوجة رئيس البلدية، أجهضت ليلة الثالث والعشرين من يونيو تحت تأثير الرعب الناجم عن مظاهرة صاخبة شارك فيها عشرات الشبان المزابيين كانوا يهتفون فرحا واحتفالا بنجاح القائمة الحرة. لقد تجمع الشبان المزابيون المتظاهرون أمام منزل رئيس البلدية وأخذوا يهتفون : «خلاص، مليون في الحيط ومليون في الجيب». وسمعنا رواية أخرى تشير إلى أن هؤلاء الشبان انطلقوا عبر الأحياء العربية المالكية وأطلقوا بعض الهتافات الإستفزازية العنصرية وأعلنوا أنهم أحرار وطالبوا برحيل العرب من المدينة. كل هذه الحكايات سمعناها بالعاصمة دون أن نستطيع التدقيق في نصيبها من الصحة أو الخطأ. قال لنا أحد الأساتذة الجامعيين المحايدين العارفين بشؤون المنطقة : «كل شيء ممكن». الطريقة التي يتم بها استغلال الإسلام في المجال السياسي أججت كل النعرات والانتماءات والولاءات العرقية والجهوية والطائفية. والنزعة المتطرفة، الإباضية، الأمازيغية أو البربرية موجودة وتعبر عن نفسها بهذه الطريقة أو تلك. وقد وزعت منشورات تتضمن أفكارا معادية للعرب. ولا ينبغي أن ننسى أن مدينة غرداية عاصمة ولاية وادي ميزاب، رغم موقعها الجغرافي في الجنوب، تتوفر على تجهيزات طباعية من أرقى ما هو موجود في البلاد كلها. ويقال إن إعلان النتائج بمدينة بريان أدى إلى حصول تقارب وصل حد التحالف بين جبهة التحرير الوطني والجبهة الإسلامية للإنقاذ، الأمر الذي خلق ضربا من الإنقسام العمودي داخل المجتمع. هكذا ظهر العرب وكأنهم يؤلفون تكتلا واحدا وظهر البربر وكأنهم في صف مقابل. وهناك شهود عيان ذكروا أن أحد مناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ تلا يوم الثالث عشر من يونيو، أي غداة الإنتخابات البلدية والولائية نصا باسم «الجبهتين» يتضمن مطالبة أو بالأحرى عريضة تطالب بإلغاء النتائج المعلنة. تمت تلاوة ذلك النص أمام مئات من الأشخاص كانوا يستعدون لتنظيم مسيرة منعتها الإدارة. وكان النص قد حرر باسم الجبهتين وباسم سكان بريان «المؤمنين بالديمقراطية». لكن مندوب جبهة التحرير الوطني أكد أنه لا صلة لحزبه بالأمر. لنعد إلى الوقائع. توجد بمدينة بريان ثلاثة مساجد مالكية من بينها مسجد واحد مازال قيد الانجاز، وفقا لتكتيك بناء «المساجد الحرة» الذي سبق لنا أن شرحناه بالتفصيل في حلقة ماضية من هذه المقالات. ولنقل في اختصار شديد هنا إن «تكتيك بناء المساجد الحرة» يقوم على مبدأ التسويف والمماطلة في إكمال صرح المسجد، حتى لا تقوم الدولة بضمه إلى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية. ومادام المسجد، غير مكتمل، فإن الدولة لا تهتم به، وهذا ما يسمح للسلفيين والسلفيين الجدد باستغلاله في خطة التحريض السياسية التي يمارسونها ضد الحكومة وضد الأحزاب الأخرى. والمعروف في مدينة بريان، أن ذلك المسجد غير المكتمل واقع تحت سيطرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ. والخطب والمواعظ التي تُلقى داخله ذات طابع سياسي واضح، والسؤال هو : من الذي كان يخطب في ذلك المساء، داخل ذلك الفضاء الديني الذي يفترض أنه يُخصص للعبادات والعبادات وحدها؟ زيد أم عمرو؟ الروايات المتوفرة هنا متناقضة، متضاربة ولكنها تُجمع على القول بأن خطباء المسجد معروفون بتطرفهم. وهناك رواية تقول إن بعض المصلين اختصموا وتعاركوا بشأن الميكروفون ومكبر الصوت. أستاذ جامعي من وادي ميزاب، يقيم بالعاصمة، قال لنا ضمن نقاش أجريناه معه حول أحداث مدينة بريان : «لاشك أن «عبارات الجهاد في سبيل الله» انطلقت من أحد المساجد ضد الجماعة أو الطائفة الإباضية، تلك واقعة لا يجادل أحد في صحتها. وأظن أن الذي أضفى على هذه الكلمات طابعا دراميا هو أن السيد عباسي مدني وعلي بلحاج، زعيمي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، كانا قبل وقوع الإنتخابات البلدية والولائية، قد هددا بإعلان الجهاد إذا لم يحصل حزبهما على الأغلبية، أو إذا تدخلت الدولة لتزوير الانتخابات. وكانت النفوس مهيأة في جميع أنحاء البلاد لمثل هذه المواجهات. وما حصل بمدينة بريان، كان يمكن أن يحدث بأية جهة أخرى من البلاد. وقع الصدام الأول مع منتصف الليل بمقهى «عربي» بين عدد من الشبان العرب السنيين المالكيين ومجموعة من الشبان الأمازيغ الإباضيين. وكان ذلك الصدام البسيط أمرا عاديا لا يخرج عن نطاق المشاحنات والمناوشات المتقطعة التي وقعت بين شباب الطرفين طوال الحملة الانتخابية وطوال الفترة التالية للطعن، الذي تقدمت به كل من جبهة التحرير الوطني والجبهة الإسلامية للإنقاذ. ونحن نعرفُ أن جبهة عباسي مدني وجبهة عبد الحميد المهري، تقدمتا بالطعن ضد «القائمة الحرة» التي فازت في المسابقة باسم «الفجر الجديد». كما نعرف أن هذه القائمة الحرة مؤلفة مائة بالمائة من الأمازيغ الإباضيين. بينما قائمة الجبهة الإسلامية للإنقاذ مكونة مائة بالمائة من العرب السنيين المالكيين. أما جبهة التحرير الوطني، فقد شكلت قائمة مختلطة من الطائفتين. وفي النهاية انتصرت القائمة الحرة وانهزم الحزب الحاكم كما انهزم منافسه القوي الذي يريد أن يحل محله في جميع المجالات». ويمضي محدثنا في تحليله وروايته للوقائع قائلا : «حصلت المواجهة الأولى بمقهى يملكه رجل مزابي يقع بالمنطقة الفاصلة بين المجموعة العربية والمجموعة المزابية. في تلك المنطقة تختلط أنواع التجارة على مسافة بضعة أمتار من مقر الولاية ومقر البلدية ومقر الدرك. وبمعنى آخر فإن وجود كل هذه المؤسسات الرسمية بالقرب من المكان الذي انطلقت منه الشرارة، لم يردع المهاجمين عن ارتكاب حماقاتهم. ومما يؤكد أن العملية مخططة ومبيتة، هو اختيار الوقت، لقد قامت جماعات من العرب السنيين المالكيين في الساعة الواحدة والنصف صباحا، بالهجوم على مقهى السيد شلات. كان المهاجمون مسلحين بالهراوات والمناجل وقنابل مولوتوف وقد تدفقوا على المكان وهم يهتفون : «الجهاد في سبيل الله». ويجب أن نؤكد أن المقهى الذي تعرض للهجوم لا يبيع المشروبات الكحولية التي لا أثر لها بهذه المدينة. ولو أن صاحب المقهى كان يبيعها لكان هناك ما يبرر نسبيا هذه الهبة «الجهادية» بعد منتصف الليل. لا، المقهى لا يبيع سوى المشروبات الحلال، والكحول لا وجود لها أصلا بمدينة بريان كلها، والمهاجمون اختاروا ذلك الوقت المتقدم من الليل لعلمهم بأن السلطات نائمة وغائبة عن الساحة. ويقول السيد شلات صاحب المقهى إنه نجا من موت محقق بأعجوبة يعود الفضل فيها إلى جيرانه العرب السنيين المالكيين الذين فتحوا له باب منزلهم وأدخلوه إليها وأحكموا إغلاقه وراءه حماية له من عدوانية بعض العرب. نجا صاحب المقهى من الهلاك، لكن المعتدين أحرقوا محله». يأخذ الأستاذ الجامعي نفسا عميقا من سيجارته ويستأنف حديثه : «نشوب الحريق في المقهى دفع عشرات من الشباب الأمازيغ المزابيين إلى التدفق من المدينة القديمة لصد المهاجمين، وقد استمرت المعركة بين الطرفين حتى الساعة الثالثة صباحا وانتهت بإطلاق الرصاص. هذه في الأقل هي الرواية المتداولة في الأوساط الشعبية. والسلطات لا تؤكدها ولا تنفيها. أما «الوقائع الأخرى فتؤكد أن الهجوم المزابي المضاد حصل يوم الأحد وطُبق فيه المبدأ القرآني : «العين بالعين والسن بالسن». فقد أُحرقت محلات تجارية يملكها العرب، ومحلات تجارية يملكها المزابيون ومصنع للحبال، كما نهبت منازل وأحرقت من قبل الفريقين، هكذا أُحرق منزل مهندس الأشغال العامة حجاج با أحمد، رئيس «القائمة الحرة، الفائزة في الانتخابات». الصحفية الجزائرية مليكة عبد العزيز، التي زارت المدينة في أعقاب هذه المصادمات لإنجاز تحقيق صحفي عنها، نشر بمجلة «ألجيري أكتيالتي» الأسبوعية (عدد 5-11 يوليو 1990) تقول من جهتها : «وصلت قوات الشرطة في أمواج متتالية يوم الأحد 24 يونيو وأكملت انتشارها صباح ذلك اليوم. الأطراف المشاركة في النزاع تتهم قوات الأمن بالميوعة والتواطؤ، وتقول إنها تركت الناس يمارسون أعمال النهب والتخريب ولم تتدخل إلا من أجل تفريق التجمعات الحاصلة على طرفي الطريق الوطني أو من أجل الفصل بين المتظاهرين أو لمنع حصول مواجهات جديدة. وهذه التهم موجهة أساسا لقوى الدرك والشرطة المحلية في الدائرة، لأنها لم تبادر بالتدخل الوقائي بدءا من يوم الخميس حين بدأ الناس يخزنون غالونات البنزين ويكدسونها بصورة غير مألوفة. أما بعد وقوع الأحداث فقد انصبت الإنتقادات على الاعتقالات التعسفية، وعلى المداهمات والمطاردات التي جرت من دون تحريات دقيقة وشكلت خرقا صريحا للقانون. وينكر السيد والي غرداية، عاصمة وادي ميزاب أن يكون حصل شيء من هذا القبيل، ولا ينفي أن يكون بعض الأشخاص الملاحقين والمتابعين، حوكموا في غياب المحامين. لكن مسؤولية الدفاع عن النفس أمام المحاكم قضية فردية. وفي الوقت الراهن (الأسبوع الأخير من شهر يونيو) صدرت أحكام تتراوح بين ستة أشهر وستة عشر شهرا ضد أربعة أشخاص فقط من جملة أحد عشر شخصا اعتُقلوا في هذه المناسبة». ويبدو أنه قد حصل خلاف،في المستوى المحلي بين مسؤولي الحزب الحاكم الذين انقسموا إلى فريقين : فريق يدعو إلى التحالف مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ وفريق يرفض هذا التحالف، وكان عدة آلاف من المزابيين الإباضيين الأمازيغيين (البربر) قد انخرطوا في جبهة التحرير الوطني بعد خريف الغضب الجزائري (أكتوبر 1988) يراودهم الأمل بخلق جبهة ديمقراطية حقيقية تقوم بردم الهوة بين الأغلبية السكانية والأقلية السياسية. وبتعبير آخر كان البربر الذين يشكلون الأغلبية العددية بوادي ميزاب قد انضموا أفواجا أفواجا إلى الحزب الحاكم، وفي تصورهم أنهم سيتمكنون من ترجمة التفوق الديمغرافي إلى تفوق سياسي، ولكنهم خرجوا بسرعة من الجبهة وانتهزوا الفرصة الأولى السانحة، فرصة الإنتخابات البلدية والولائية لإعطاء أصواتهم لتلك القائمة الحرة. ويبدو من المعلومات التي نشرتها الصحافة الجزائرية أن القيادة الروحية للطائفة الإباضية، التي تمثلها هيئة عليا يطلقون عليها اسم : «مجلس عمي سعيد»، حاولت في وقت سابق للإنتخابات، أن تتلافى سقوط الجماعة في متاهات التقسيم على أساس طائفي، فأصدرت توصيات تدعو فيها نخبة المدن الميزابية السبع، إلى تشكيل لائحة مستقلة عن الأحزاب السياسية تتمثل فيها كافة الحساسيات، لكن عددا من العناصر الإباضية تمرد على الشيوخ وفضل أن يرشح نفسه في إطار جبهة التحرير الوطني. ثم حصل إخفاق آخر للمساعي الوحدوية حين رفض العرب أن يرشحوا أنفسهم على القائمة المستقلة للميزابيين. لقد تم تكوين قائمة مختلطة بمدينة كرارة التي تبعد عن بريان بمسافة مائة كيلومتر. هكذا أخفقت الوحدة بمدينة بريان لكون العناصر العربية القيادية في الجبهة الإسلامية للإنقاذ إعترضت عليها بسبب وجود مرشح مستقل في القائمة الحرة ينتمي إلى حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية. وحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، الذي يقوده الدكتور سعيد سعدي يرفع راية اللائكية، أي فصل الدين عن الدولة، وهو أمر لا يقبله السلفيون ولا السلفيون الجدد، بعد أن جعلوا من الإسلام مطية لتحقيق برنامجهم السياسي، والدولة الإسلامية، كما يراها السيد علي بلحاج، الرجل الثاني في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، تستند إلى ثلاثة أركان هي القرآن والسنة والمذاهب الأربعة، ولا تعترف بالمذهب الإباضي، لا تعترف به رغم أنه أقدم المذاهب من الوجهة التاريخية، استقرارا ورسوخا في الجزائر وهذا التجاهل للمذهب الإباضي، من طرف القوة السياسية الكبرى الجديدة، خلق رد فعل قوي في صفوف شباب الطائفة الاباضية، وجعلهم يرفضون بدورهم توجهات الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وقد تشكلت قائمة الجبهة الإسلامية للإنقاذ من العناصر العربية السنية المالكية وحدها وبدت في أذهان غالبية سكان المدينة وكأنها مؤلفة من عناصر دخيلة على المنطقة. ومنذ سنتين تقريبا والسكان ذوو الأصول العربية، الموزعون بين انتماءاتهم وولاءاتهم القبلية إلى عشائر قديمة وحديثة، يركزون مطالبهم حول الحصول على قطع أرضية لبناء المساكن. والمعروف أن بعض قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ ينتمون لعشيرة الغزلية. والمعروف كذلك أن بطنا كاملا من هذه العشيرة أو «عرشا» منها، وفقا للتعبير الجزائري، غادر حاسي الدلعة بولاية الأغواط، الواقعة في الهضاب العليا، في بداية حقبة الثمانينيات. عرب الغزلية غادروا موطنهم الأصلي بسبب الجفاف والبؤس وندرة الكلأ والماء، وجاءوا ليستقروا بضواحي مدينة بريان الأمازيغية. وهناك عرب آخرون قدموا من مناطق الجلفة، وحاسي بهباه وبوسعادة والمسيلة بحثا عن العمل في حقول النفط بحاسي الرمل، أو حاسي مسعود أو في ورشات العمل بوادي ميزاب، سواء كانت هذه الورشات تابعة للخواص الميزابيين أو تابعة للدولة. وقد دخل أبناء العرب البدو إلى المدارس وتخرج منهم المئات وأصبحوا يشكلون كوادر فعالة في التعليم وأيضا في الجبهة الإسلامية للإنقاذ. تلك وقائع مادية ملموسة يمكن التأكد من صحتها بسهولة، لكنها مع ذلك مرفوضة من قبل أصحابها، أي العرب السنيين المالكيين. تقول الصحفية الجزائرية مليكة عبد العزيز في التحقيق الذي نشرته لها أسبوعية «ألجيري أكتياليتي» (الجزائر-الأحداث) : «هناك شخص يدعى حَرْمَة، وهو مجاهد سابق كان رئيسا للبلدية خلال السنوات الأولى للإستقلال يقدمه رفاقه على أنه من «الشرفاء»، يؤكد أن جده هو ولي مدينة بريان. ويعتبر هذا الشيخ، في اعتقاد أصحابه بمثابة الذاكرة الجماعية للتاريخ، وهو يؤكد أن العرب كانوا موجودين ومقيمين في مدينة بريان من قبل أن يستقر فيها المزابيون الإباضيون. ولكن من المستحيل أن نعرف الأصل العشائري للشيخ حَرْمَة هذا. والواقع أن مدينة بريان تضم أفخاذا وبطونا (أعراش بالدرجة الجزائرية) من عشائر أولاد يحيى، وأولاد سيدي الشيخ وأولاد نايل وأولاد زيدو الغزلية... فكيف يمكن، في هذه الحالة إعلان مشروعية تنبع من أصل مشترك؟ لقد وجد الباحثون عن هوية لهم طريقة للتسامي الإيديولوجي، ووجد الطامعون في السلطة أداة لتحقيق غرضهم عند الإسلام المالكي والجبهة الإسلامية للإنقاذ، بل إن المتطرفين من هؤلاء العرب السنيين المالكيين يرددون «أشياء-معارف» ومعلومات مزعومة عن الإباضيين تصفهم بأنهم «خونة ومتعاونون مع الإستعمار الفرنسي». وهناك شخص قدمته الصحفية بالحرفين الأوليين من اسمه (ب.ل) وقالت إنه ذهب إلى درجة إخراج بقايا مصحف زعم أنهم أحرقوه فكيف يصدق أحد أن الإباضيين المعروفين بتشددهم واحترامهم الحرفي لتعاليم الدين، يُقْبِلُون على ارتكاب مثل هذه الحماقة؟ وحدهم الشبان الأميون الذين لا يملكون ثقافة تاريخية أو دينية يمكن لهم أن يصدقوا مثل هذه الأكاذيب : (المصدر : (مجلة «ألجيري أكتاليتي» -الجزائر الأحداث- عدد 5-12 يوليو 1990). الجزائر في مفترق الطرق - مشاهدات ومسموعات 9 - (الحلقة الثانية) الفتنة في وادي ميزاب ... أحداث مدينة بريان كانت طوال شهر ونصف، أي ابتداء من وقوعها في النصف الأخير من شهر يونيو، إلى نهاية شهر يوليو 1990، الموضوع الطاغي في مناقشات السياسيين والمثقفين الجزائريين الذين رأوا فيها مؤشرا خطيرا ينبئ بدخول عنصر الطائفية الدينية المضاعفة بالنعرة العرقية والعنصرية إلى فضاء الرهانات السياسية. وقد أفردت الصحافة الجزائرية خلال هذه المدة عدة تعليقات وتحقيقات للصراع الجديد، الطارئ على المغرب الأوسط، والذي يبدو أنه يشكل في وجه من وجوهه امتدادا لبعض الرؤى والإجتهادات السائدة ببعض أقطار المشرق العربي. يقول الشيخ عدون، وهو أكبر مرجع روحي في الطائفة الإباضية : «في الأصل» كانت توجد بمدينة بريان قبيلتان عربيتان مالكيتان تعيشان جنبا إلى جنب مع الإباضيين، كنا جيرانا، وكنا نتعايش من دون مشكلة، ثم جاءت عشائر عربية أخرى من وادي دلعة والأغواط واستقرت بالمنطقة، ومن هنا بدأت المشاكل ونحن نلاحظ أن كثيرا من المالكيين، وليس جميع المالكيين، يستمدون معارفهم عن الإباضية من كتب الفن في عصر الفتنة والإباضيون متميزون عن حركة الخوارج وليسوا من الكافرين، لكن الفهم الذي يخلط بين الإباضيين وغير المسلمين، لعب ببعض النفوس وأثر فيها. وهكذا رأينا مفتي المملكة العربية السعودية، يقول أن الصلاة غير جائزة وراء إمام إباضي. كما أن الجامعة الإسلامية بالمدينة، تعتبر الإباضيين طائفة لابد من محاربتها. وقد أدت هذه المواقف إلى إثارة مشاعر الحقد والضغينة بين أنصار المذهب الإباضي وأتباع المذهب المالكي. ولابد أن نستثني من هذا الكلام نسبة كبيرة من المالكيين العارفين بالحقيقة والذين يتعاملون مع الإباضيين كإخوة على كل حال هناك عقد متبادل بين أنصار المذاهب المختلفة، وصل إلى درجة أن بعض الناس أقدموا على إحراق منازل المسلمين وهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعا. الشيخ عدون صاحب هذا الكلام ولد مع مطالع هذا القرن أي أنه يبلغ اليوم تسعين سنة، ويمثل أعلى سلطة معنوية وسياسية في وادي ميزاب، إنه شيخ مشايخ قبائل وادي ميزاب، يتولى الإشراف على رابطة الحياة التي تدير عدة مؤسسات ومنشئات ونوادي مدرسية وثقافية، يتابع الدراسة فيها حوالي خمسة آلاف طفلة وطفل، وهذه البنيات المدرسية تعيش من التبرعات والهيئات التي يقدمها لها المحسنون الإباضيون، ويتولى الشيخ عدون رئاسة قدماء المدارس ورئاسة مجلس «العشيرة» ورئاسة رابطة التراث التي أُنشئت منذ ثلاث سنوات من أجل جمع كل الآثار والوثائق المطبوعة والمخطوطة ذات العلاقة بالفكر والتاريخ والإباضيين في وادي ميزاب ويقول الشيخ عدون برئاسة الهيئة المسماة «مجلس عمي سعيد» وهي عبارة عن هيئة تمثل فيها الحركة الإباضية بوادي ميزاب وورقنة، عبر مندوبين من المجالس القبلية المحلية، ومجلس عمي سعيد هو بمثابة برلمان وحكومة وادي ميزاب. إذ يجتمع أعضاؤه مرة في الشهر لدراسة كل القضايا الإجتماعية والسياسية التي تهم الجماعة. وقد سمى التنظيم المركزي للإباضيين «مجلس عمي سعيد»، تيمنا ببركة ولي يدعى سعيد، عاش بوادي ميزاب قبل ثلاثة قرون وبالإضافة لسلطته السياسية والمعنوية، فإن مجلس «عمي سعيد» له أيضا سلطة قضائية، تجعله بمثابة محكمة استئناف في الجهاز القضائي الاباضي، كما أن الشيخ عدون، يعطي دروسا بمعهد «الحياة» منذ تأسيسه عام 1925 بمدينة كرارة، إنه يعلم في هذا المعهد اللغة العربية وتاريخ الحضارة العربية الإسلامية. يقول الشيخ عدون : «توقفت عن التدريس منذ ثلاث سنوات من أجل التفرغ لإدارة المعهد، هذا المعهد الذي يضم ثلاث مستويات: المستوى المتوسط والثانوي والعالي، ونحن نملك خمسا وثلاثين مؤسسة مدرسية مفتوحة للمسلمين المالكيين إذا أرادوا أن يدخلوا إليها». ثم يعود إلى الأحداث الأخيرة الحاصلة بمدينة بريان ويعلق عليها قائلا : «وقف شخص داخل مسجد مالكي بمدينة بريان ونادى بالجهاد، وغدا سوف تنظم مسيرة ضد الاباضيين ولم ينهض أحد ليقول كلاما مناقضا. هناك إذا إجماع واتفاق : لم نسمع من قال أن هذا الموقف خاطئ، حدث ذلك في بيت الله، والحقيقة أننا أمام نزاع سياسي يتأثر بالمنافسة القائمة بين الأحزاب، إنه صراع بين لائحة المستقلين واللوائح الأخرى، لكن المؤسف أن هذا الصراع أخذ شكل مواجهة بين المذاهب ونحن نوجه اعتذارنا لحكماء بريان وغيرهم ممن يعرفون حقيقة الإباضية ويحترمونها وهناك علماء كثيرون من بينهم عباسي مدني الذي قال في خطاب له أمام الملأ أن وادي ميزاب في مستوى الإسلام ثم الشيخ محفوظ نحناح الذي يعتبر أن الإسلام الأصلي موجود بوادي ميزاب ...إننا نجد هذه القناعة عند علماء مسلمين أخرين مثل الشيخ عبد الحميد ابن باديس والشيخ البشير الابراهيمي وهم أصدقاء الشيخ بيوض مؤسسو جمعية العلماء أمثال الشيخ العقبي والشيخ العربي التيمني والشيخ مبارك السيتي. في ذلك الحديث الصحفي الذي نشرته أسبوعية ألجيري أكتياليتي : عدد 12-18 يوليو 1990) يكشف المرجع الروحي الأعلى للطائفة الإباضية النقاب عن مواجهات أخرى لم تكن معروفة : «لقد دعوا أيضا إلى الجهاد من فوق منابر ومنارات مساجد غرادية عام 1985، دعوا إلى الجهاد ضد الإباضية وأحرقوا المصانع والمخازن والمستودعات والمنازل، وكانوا وراء قتل الناس. أهدروا دم المسلمين، قتلوا رجلا في رمضان من ذلك العام واعتبروا ذلك ضربا من الجهاد، وقد أصدرت محاكم غرادية والأغواط الحكم بالإعدام على هؤلاء القتلة، لكن محكمة البليدة برأت ذمتهم وأطلقت سراحهم ونحن نعتبر هذا التصرف نوعا من العنصرية والفساد». «نحن نؤاخذ على إخواننا المالكيين أنهم ينكرون مذهبنا وينددون به، ويقولون أن الجزائر يجب أن تَحْكُمَ وفقا للمذهب المالكي وحده ولا يعترفون بالمذاهب الأربعة الأخرى حقا أن المذهب الحنفي يشكل أقلية في بلادنا، لكن المذهب الإباضي موجود في جميع أنحاء البلاد، غير أن الإباضية تُعتبر وكأنها شيء تافه لا وجود له أصلا. إنها تعتبر كذلك في رأي السلطة المركزية ولست أتحدث هنا عن الرئاسة، وإنما عن بعض الوزراء. ونحن نعتبر هذا الموقف بمثابة ظلم مطلق، وأنتم تعرفون أن الإباضية مشهورة بثقتها واحترامها وحرصها على العلاقات الطبية ومساهمتها في حرب التحرير الوطنية، ولقد قامت الإباضية بأعمال جيدة ينكرونها اليوم عليها، إننا نؤاخذ بعض إخواننا المالكيين على مثل هذه المواقف». ويضيف الشيخ عدون في نفس الحديث : «نحن نؤكد أن المالكيين والإباضيين استقروا بالمنطقة في وقت واحد ونعرف أن المالكيين القدامى شديدو الأسف على وقوع الأحداث وهم يناهضون حصول أي نزاع أخوي، وقد استطعنا في كرارة، بعد مواجهات سبتمبر 1989 أن نؤلف لجنة سِلْمٍ ونصائح تضم أعيان المالكيين والاباضيين، وتمكنا بفضل الجهود المكثفة من التوصل إلى التفاهم. وفي الانتخابات وضعنا أنجح لائحة في الجزائر كلها لأنها لائحة موحدة، مستقلة، وُضعت باتفاق الجميع أي الإباضيين والمالكيين الذين عملوا معنا كإخوة في الإسلام. أما الشيخ محمد بن الشيخ، مساعد الشيخ عدون فيعالج نفس الوقائع قائلا : «إن الإباضيين والمالكيين يتعايشون كجيران منذ ألف سنة، ويتعاونون في التجارة والصناعة والمراعي، وحين حضر إلينا في الأيام الأخيرة أحد أعضاء المكتب الوطني للجبهة الإسلامية للإنقاذ، حدثناه عن واحد من شيوخنا عمره سبع وتسعون سنة يؤكد أنه لم يشاهد قط في حياته الطويلة مثل هذه الأحداث، صحيح أن عمر مدينة بريان لا يتجاوز ثلاثمائة وخمسين سنة ولكننا لم نعرف قط في الماضي شيئا من قبيل الذي حصل هذه الأيام. صحيح أننا أيضا شاهدنا واقعة ولا سابقة لها ألا وهي قيام إباضي بالهجوم على مالكي. أما أن تشن حملة واسعة بهذه الصورة وأن نوشك على الدخول في حرب أهلية فذلك أمر جديد كل الجدة على تاريخنا. والواقع أنها ليست حربا بين المذاهب وإنما هي حركة أملتها الغيرة والمنافسة بين الأحزاب. ونحن نتأسف في زمن الديمقراطية والشفافية أن لا يكون ممثلوا الجبهة الإسلامية من المسلمين الحقيقيين. إنهم لا يطبقون مبادئ الجبهة الإسلامية كما تفهمها القيادة، أي عباسي مدني وعلي بلحاج ومحفوظ نحناح، والحقيقة أن هؤلاء الناس هم من جبهة التحرير الوطني ولكنهم غادروها عندما اقتنعوا بأنها آيلة للسقوط والغرق، غادروها والتحقوا بالجبهة الإسلامية للإنقاذ للاحتفاظ بمواقعهم الاستراتيجية. وكان رد فعلهم العنيف ناجما عن نجاح القائمة المستقلة. ذلك هو السبب وهو فيما ترون سياسي وإذا فإنه لا تناقض لا بين المذاهب ولا بين الأشخاص، ثم إن مثل هذا الوضع لا يمكن أن يرضي جبهة التحرير الوطني ولا الجبهة الإسلامية للإنقاذ ولا أي حزب من الأحزاب السياسية الأخرى. إن أحدا لايرغب في الفوضى أو العنف أو الاضطرابات أو استعمال السيف». أحداث وادي ميزاب، وتحديدا المواجهة الدامية التي تمت في مدينة بريان، أثارت مخاوف عميقة في الأوساط السياسية في الجزائر ودفعت الروابط المختلفة ووجوه المجتمع المدني إلى رفع عقيرتها بالإحتجاج ضد غياب الدولة هكذا نجد الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، التي يتولى رئاستها الشرفية الأستاذ ميلود الإبراهيمي، تبعث لجنة تحقيق إلى عين المكان وتعقد اجتماعا (يوم 12 يوليو 1990) تصدر بعده بيانا «تعبر فيه عن قلقها الكبير والعميق أمام الأحداث الخطيرة التي ارتكبت في مدينة بريان والجزائر كلها». وتقول الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان «إن انتقاد نتائج الانتخابات أو غيرها لا يمكن أن يتم بواسطة العنف أو الإقصاء و الإلغاء، وإنما فقط باستعمال كافة الوسائل المنصوص عليها في القانون وباللجوء إلى الطعون الشرعية. وحين قررت الرابطة إرسال ثلاثة من أعضائها إلى عين المكان، فإنما أرادت أن تساهم في تجاوز النزاع الذي قد يستمر ويتسع ويقودنا نحو انحراف خطير يشجعه الموقف المتذبذب والمتناقض والمتسبب الذي تنهجه السلطات الرسمية وتهدد به استقرار البلاد. إننا نريد تجاوز هذا النزاع بواسطة الحوار بين الأطراف المختلفة.ضمن احترام الكرامة الإنسانية وعن طريق تضامن لا يعتريه الوهن لا في سيرورته الزمنية ولا في كثافته، حماية وترسيخا للوحدة الوطنية ولابد أن يتم تقديم الذين ارتكبوا الجريمة والذين أوحوا بها، لابد من تقديمهم إلى القضاء.كما يجب على الدولة أن تعوض الخسائر المعنوية والمادية التي لحقت بالضحايا». الحزب الوطني من أجل التضامن والتنمية الذي يقوده المهندس رباح بن الشريف أصدر هو الأخر بيانا أعلن فيه : «أنه يسجل بكامل الأسف الأحداث المؤلمة التي عرفتها مدينة بريان ويرى أن قوى خفية تلاعبت بدون شك ببعض العقول البسيطة ويؤكد الحزب الوطني للتضامن والتنمية، إن الديمقراطية ليست مجرد اختيار ولكنها مصدر عالمي يستند التنافس السلمي بين الأفكار وإلى الصراع الإيديولوجي والاعتراف بحق المغايرة، وأمام المشاكل الجماعية والعرقية، يوجه الحزب نداء إلى كافة القوى الديمقراطية من أجل العمل على إيجاد تسوية سلمية للنزاع تستند إلى الحوار والتشاور في نطاق احترام القانون، كل الأحزاب والهيئات والروابط اتخذت مواقف مماثلة أجمعت فيها على ضرورة التعجيل بإطفاء جذوة الفتنة الوليدة في وادي ميزاب. وما فعلته التنظيمات السياسية والمدنية فعله المثقفون أيضا، ومن النادر، منذ وقوع تلك المأساة في الأيام العشرة الأخيرة من شهر يونيو، وحتى نهاية شهر يوليو أن يصدر مقال أو تعليق في صحيفة من الصحف الجزائرية دون أن يتضمن إشارة إلى أحداث بريان بما هي مؤشر إلى ما يسميه البعض طلائع الحرب الأهلية اللبنانية. الأستاذ الجيلالي ساري، من جامعة الجزائر يرى : أن أحداث مدينة بريان ليست على الإطلاق ثمرة لظروف اعتباطية، بل إن تغطيتها من طرف أجهزة الإعلام، إضافة لتصريحات بعض السلطات لم تكن أبدا في مستوى المسؤوليات، إن ما جرى في مدينة بريان، يُعتبر سابقة خطيرة ونظرا لبعض العوامل المحددة والمعروفة جدا فهي ذات أبعاد تفاقم من خطورتها في المستويات المحلية والجهوية والإقليمية، كان ينبغي استباق الأحداث وتوفير الشروط اللازمة للتحكم في مسارها والسيطرة عليه. لا أبدا إن الأمر لا يتعلق إطلاقا بوقائع معزولة من صنع «متطرفين» أو «هامشيين» إننا أمام مؤامرة حقيقية، وبإزاء ضربة قوية موجهة ضد الديمقراطية تستهدف إحداث زعزعة شاملة وبلبلة عميقة. وحين قرر الجناة أن يستهينوا بنتائج الاقتراع فإنما أرادوا أن يوجهوا طعنة مباشرة إلى الشرعية القائمة، لذلك فإن أحداث مدينة بريان تخصنا جميعا وتخص سائر المؤمنين، لماذا بادر إِمَامٌ يقال إنه غير مسؤول بإشعال الحريق ويزرع الحقد وبتقسيم إخوانه؟ فهل تستمر في إطلاق مثل هذه الأوصاف على جميع أولئك الذين لا يترددون في خرق قوانين الجمهورية؟ إن دستور الثالث والعشرين في فبراير 1989 هو تتويج لمسيرة طويلة تخللتها تضحيات لا نهاية لها وهو ملك لجميع الجزائريين». ويمضي الأستاذ الجيلالي ساري في تحليله لأبعاد أحداث وادي ميزاب : «وهكذا فإن أحداث مدينة بريان هي أخطر. إن هذه المدينة مثل كافة المدن الميزابية إنما هي تجسيد طامح وصاخب للجهاد الأصيل، أي الجهاد الذي يفوق حدود الطاقة البشرية، الجهد المبذول منذ قرون ضد طبيعة شحيحة وهذا الجهاد، أي هذا الجهد هو سبب معجزة وادي ميزاب، ذلك الوادي الذي صار خصبا بفضل ألف تضحية وتضحية ونشأت فيه حضارة عمرانية أدهشت المهندسين المعماريين والمعاصرين حتى أنهم اعتبروها نمطا حضاريا في الحياة والسلوك يثير الإعجاب والتحريض على التقليد. إنها واحدة من أغنى وأروع مناطقنا، بل هي واحدة من أكثر مقومات تراثنا ثراء. والإباضية جزءا لا يتجزأ من التراث الجزائري ولا يمكن أن نواجه ما يحصل بعدم الاكتراث، لذلك فإن أي مساس بمدينة بريان إنما هو اعتداء مباشر علينا، وتهديد فعلي للسلم المدني. وحين بادرت القوى المرجعية، قوى التعصب والظلامية بمهاجمة بريان، فإنما كانت توجه ضرباتها لدستورنا. ويذهب الأستاذ الجلالي ساري على أبدع من ذلك فيقول : «إنهم الأعداء الألداء لإسلامنا ولهويتنا الجزائرية والمغاربية. ألا فلتتحمل الأغلبيات الجديدة في البلديات مسؤولياتنا الكاملة مع احترام قوانين الجمهورية. ألا فلتبذل جهودها أولا وقبل كل شيء لمواجهة مشاكل الحياة اليومية الحيوية، مثل توفير الماء الصالح للشرب، وتنظيف الشوارع، وحل مشاكل الصحة، ومكافحة الأمراض المعدية... أما الاختلاط في المدارس والحق في الترفيه عن النفس والحق في الاختلاف، فهي مكتسبات غير قابلة للتفويت وقد دافع عنها بحزم مؤسس للتجديد في الجزائر، الإمام ابن باديس» (المصدر جريدة المجاهد عدد 19 يوليو 1990). ومما لا جدال فيه أن الأجواء التي تمت فيها أحداث مدينة بريان، وأضفت عليها طابعا دراميا لعله يتجاوز دلالتها الحقيقية، بل إن ما حدث بالجزائر، في هذا الصيف، سواء قبل الانتخابات البلدية والولائية أو بعدها، يثير من التساؤلات وعلامات التعجب أكثر مما يقدم من الأجوبة وحتى تبقى في سياق الوقائع ذات الطابع الإنفجاري، نورد هنا معطيات ومعلومات عن سرقات متعددة انصبت على مادة الدنياميت ولابد لنا أن نسجل هنا بأن الروايات المتصلة بسرقة المواد الإنفجارية والأسلحة، ومحاولات الإغتيال ضد الرئيس الشاذلي بنجديد تكاثرت بشكل يسترعي الانتباه خلال شهري يونيو ويوليو الماضيين، وكانت المادة المفضلة لإذاعة الرصيف، والتلفون العربي، بل إن الصحف الجزائرية والأوساط السياسية الرسمية تناولت هذه الموضوعات بصورة علنية إما لتكذبها أو لتقدم عنها معلومات تزيد من البلبلة السائدة في الشارع، هكذا سمعنا مثلا في شهر مايو، أي قبل حلول موعد الانتخابات عن حدوث سلسلة من الهجومات الليلية الغامضة على عدد من مستودعات الأسلحة والذخائر والمتفجرات، بأماكن مختلفة من البلاد. ومرة أخرى، كانت مجلة «ألجيري أكتياليتي» (الجزائر الأحداث) عدد 5-11 يوليو 1990) سَبَّاقَة في الكشف عن بعض الإختلاسات المحيرة، إذا نقلت عن مدير مشروع بناء سد في منطقة جيجل بوسط الجزائر قوله : «وقع حادث السرقة يوم الخميس 17 مايو 1990 في الساعة الثالثة صباحا، علما بأن ورشة البارود هنا من أقوى الأوراش حراسة ومن أكثرها استجابة لمتطلبات الأمن، وأننا استقبلنا لجنتين للرقابة واحدة من إدارة المناجم والثانية من الولاية، وإن الإنارة والمراقبة وطريقة التحكم في المداخل والمخارج دقيقة للغاية، ولكن السرقة حصلت فعلا وأثارت مخاوف عميقة من أن تتعرض أوراش البارود المماثلة لعمليات سطو مشابهة، لقد سرق المهاجمون حوالي أربعمائة وخمسين كيلوغراما من مادة «ألجيرانيت» التي تعتبر من أقوى أنواع المتفجرات وأكثرها تدميرا، سرقوا تلك الكمية وسرقوا معها كل اللوازم الأخرى من صواعق وفتائل وأسلاك وغيرها»، وحسب رواية مدير المشروع «كان عدد المهاجمين ستة أو سبعة أشخاص، قاموا بتكبيل الحراس ثم شحنوا ثمانية عشر كرتونا يتضمن كل واحد منها خمسة وعشرين كلغ من المتفجرات، إضافة إلى التجهيزات والأعتدة الأخرى الضرورية لاستعمالها»، وفي رأي ذلك الموظف السامي أن عملية السطو هذه قد تكون من فعل صيادين يريدون استخدام هذه المتفجرات لاصطياد الأسماك في عرض البحر الأبيض المتوسط، أو ربما تكون من عمل لصوص يريدون بيع المواد الانفجارية في السوق، حتى تستعملها المقالع الخاصة. تجدر الإشارة إلى أن تلك الورشة التي تعرضت لعملية السطو الليلية تلقت بالإضافة للجنتي المراقبة، بانتظام عدة زيارات تفتيشية أو تفقدية من قبل إدارة الدرك الوطني المكلفة بمراقبة تسجيلات حركات البضائع والمخزونات وحتى نظام الرقابة والتحكم، ويقول المسؤولون عن إدارة ذلك السد الذي يتم إنجازه الآن، إنهم سجلوا قبل حادث السطو سرقات بسيطة اقتصرت على قطع غيار، وأنهم قدموا شكوى بذلك إلى إدارة الدرك لكن هذه الأخيرة لم تعزز نظام الحراسة والمراقبة. كان المسؤولين الذين نقلت المجلة تصريحاتهم مجمعون على القول بأن موقع السد وورشة الرصاص التي تضم المواد المتفجرة، موجود في منطقة شديدة الوعورة. إن الورشة تقع في خانق-مأزق مسافته أربعة كيلومترات ويكفي أن يتم إغلاق المخرج الوحيد المؤدي إليها لمنع أي شخص من مغادرتها، وهناك أوراش مجاورة لها تخضع لحراسة أقل لم تتعرض لأي سطو معنى هذا أن الإقدام على اقتحام هذا المكان يتضمن الكثير من المخاطرة، وهذا ما جعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن الذين نظموا عملية السطو لم يكونوا يبحثون عن متفجرات فقط إنما هو تعبئة الرأي العام، والشيء المؤكد، هو أن الفاعلين يعرفون المنطقة معرفة جيدة، ويعرفون الورشة ويعرفون مكان المتفجرات، وعادات الناس ونظام المراقبة، أو فلنقل أن لديهم معلومات دقيقة عن هذه الأشياء ولا ينبغي أن ننسى أن ثلاثمائة عامل يشتغلون بانتظام في المشروع، إضافة إلى ألف عامل آخرين سبق لهم أن ساهموا فيه، ثم غادروا الأوراش للبحث عن أعمال أخرى. حين وجه الصحفي الذي قام بالتحقيق سؤالا لضابط الدرك بمدينة جيجل، اكتفى في رده عليه بتأكيد حادث السطو، من دون الإفاضة في شرح التفاصيل، وقال له : «إذا كان الأمر يهمك، فأنا أستطيع أن أقول لك بأن أربعة أشخاص ماتوا اليوم في حوادث السير، يمكن لي أن أكلمك في هذا الموضوع»، تحاشى ضابط الدرك الإجابة على تساؤلات الصحفي بحجة ضرورة المحافظة على سرية التحقيق ثم أضاف «أنتم تنتقدوننا لكوننا لم نتوصل بعد إلى نتيجة، والسبب هو الديمقراطية في الماضي كان يكفينا أن نلقي القبض على أول مشبوه ثم ندفعه للإعتراف في ظرف بضع دقائق». أما اليوم فلا حق لنا في «أن نضرب أحدا»، ينقل الصحفي عن الحراس العمال قولهم أنهم «وجدوا في اليوم التالي لحادث السطو حارسا عسكريا مهملا، منسيا وسط الأعشاب» ويقول أنه نَقَل بسيارته في طريق عودته إلى مدينة جيجل شخصا كان ينتظر على قارعة الطريق، وكان ذلك الشخص أحد المسؤولون الكبار عن بناء السد وخلال الدردشة التي تمت بينهما، ربط الرجل بين عملية شباب مدينة جيجل، أمام دار الولاية تعبير عن احتجاجهم على سياسة الشركة الوطنية للنقل بواسطة السكة الحديدية التي تجلب اليد العاملة من خارج المنطقة بدلا من أن تأخذها منها مباشرة وتساهم بالتالي في محاربة البطالة، وقد هدد الشباب بتخريب السكة الحديدية. الحادث الثاني متصل أيضا بالسكة الحديدية، وبالخط الجديد الذي كان يفترض أن يدشنه الرئيس الشاذلي بنجديد يوم 19 مايو، أي بعد مرور يومين فقط على حصول عملية السطو والمعروف أن زيارة الرئيس الشاذلي بنجديد لمدينة جيجل قد ألغيت وألغيت معها مراسيم الاحتفال بالخط الجديد الذي أخرج المدينة من عزلتها التاريخية وربطها بالشبكة الوطنية وفتح أمامها آفاقا واعدة سوف تحولها إلى واحد من الموانئ النشيطة في وسط الجزائر، وقد كان أمرا ملفتا للنظر فعلا أن يصل القطار لأول مرة إلى مدينة جيجل الجبلية الشاطئية، وأن لا يحضر الرئيس هذه المناسبة التاريخية. لنذكر أن عملية سطو مماثلة على المتفجرات حصلت ليلة عيد الفطر الماضي على بعد ستة كيلومترات من مدينة تلمسان، وأن المهاجمين اختلسوا هذه المرة ثلاثمائة وخمسين كيلوغراما من المواد الإنفجارية القوية، ولنشر إلى أن السلطات لم تتمكن حتى كتابة هذا المقال (يوم 25 يوليو) لا من اعتقال الذين سرقوا الديناميت من ولاية جيجل في الوسط الشمالي للبلاد، ولا العثور على الذين ارتكبوا نفس العمل بولاية تلمسان قرب الحدود المغربية، وبغض النظر عن المشاكل التي تطرحها أمثال هذه السرقات، فالناس في الجزائر مصابون بحالة من الذعر الشديد ويتساؤلون عن مصير الأوراش الأخرى التي قد تتعرض لأعمال سطو مشابهة لتلك التي وقعت بولاية جيجل وتلمسان. إن وجود تلك الكمية من المتفجرات، في أيد مجهولة أصبح يقلق راحة المواطنين، بل إنه وضعهم في حالة نفسية تجعلهم جاهزين لتصديق أي شيء وقد عززت هذه الإختلاسات الإعتقاد السائد بوجود تنظيمات شبه عسكرية سرية، تعمل في الخلاء وربما تهيئ لأعمال عنف منافية للقانون وما يثير انتباه الناس هو الطابع الإحترافي المتطور الذي يتسم به عمل سارقي الديناميت إنهم يشبهون فرقا صدامية، وفي الوسائل التي يستعملونها وفي أساليب الإقتراب من الهدف وفي اختيار الغاية من الهجوم تم حتى في ترك بصماتهم (الحزام العسكري) في عين المكان. هل هذه التنظيمات شبه العسكرية السرية موجودة فعلا؟ أم أن هناك جهة أو جهات تريد تسليط الأضواء على الجيش أو استشاراته في تحريضه؟ وما هي الجهة التي من مصلحتها أن تخلق مثل هذه التصورات التي تتثير مشاعر الخوف عند الرأي العام، وتقلل من مصداقية الدولة؟ أسئلة تبقى معلقة من دون جواب، لكنها أي الأسئلة أو بالأحرى الوقائع التي أثارتها توسيع الآفاق أمامنا لرؤية أحداث وادي ميزاب في إطار أعم وأشمل، وإذا كان المهاجمون المجهولون قد سطوا على المتفجرات في ولايتي جيجل وتلمسان وخلقوا بعملهم هذا حالة مدمرة من الرعب داخل الرأي العام الجزائري، فإن الذين دعوا إلى الجهاد في ذلك المسجد المالكي غير المكتمل بمدينة بريان قد وضعوا عبوات من «الديناميت النفسي والفكري»، أغلب الظن أن مفعولها سيبقى ساريا لفترة غير قصيرة في جسم الديمقراطية الجزائرية الوليدة وقد لا تكون هناك أي صلة بين جميع هذه الوقائع، ولكن حصولها في فترة زمنية واحدة، هو الذي يمنح اللحظة الراهنة من تاريح المغرب الأوسط شحنتها المبهمة وديناميتها الملتبسة. الجزائر في مفترق الطرق - مشاهدات ومسموعات 10 - (الحلقة الأولى) الشاذلي بنجديد أو الرجل الثالث «أنظر جيدا إلى هذه الصور الثلاث، عساها تعطيك فكرة عن طريقة الرئيس الشاذلي بنجديد في معالجة المشاكل» : هكذا خاطبني زميل جزائري وهو يضع أمامي، فوق مكتبه، ألبوما من اللقطات المختلفة للرئيس الجزائري. أخذت أقلب الصور من دون أن أدرك على الفور مغزى الملاحظة الصادرة عن محدثي، وهو مسؤول سابق في الإعلام، أتيحت له فرصة الاحتكاك المباشر بقادة الدولة والحزب على مدى العشرين سنة الماضية، وصار من العارفين بخفايا الأحداث وبخلفياتها. تصورت في البداية أنها مجرد نكتة، وحين أدرك الصديق الحيرة التي أوقعني فيها، ابتسم واستعاد الصور الثلاث وأخذ يشرح لي في جدية ساخرة : «هذه الصورة الأولى، تمثل الشاذلي بنجديد في سنته الرئاسية التالية لوفاة هواري بومدين. إنه كما ترى ما يزال بشواربه الغليظة التي جاء بها من وهران، وهذه الصورة الثانية تختلف عن الأولى، ولعلها ترجع إلى بداية ولايته الثانية، وهي كما تلاحظ تتميز برقة الشوارب، لقد أصبحت الشوارب خيطا رقيقا يكاد يكون غير مرئي. أما الصورة الثالثة، فلا نجد فيها أثرا للشوارب على الإطلاق. وفي استطاعتك أن تؤرخ للمراحل المختلفة، في حياة رئيسنا بالأطوار والتقلبات الطارئة على شنباته أو «شلاغمه»، كما نقول في دارجتنا الجزائرية. إن الطريقة التي عالج بها خليفة هواري بومدين مشكلة شواربه الكثة، بدءا من تشذيبها وترقيقها إلى حلقها في النهاية، هو نفس الأسلوب الذي اتبعه في تجاوز العقبات التي اصطدم بها خلال السنوات العشر الماضية» قد يكون من المبالغة أن نفسر شخصية رجل مثل الشاذلي بنجديد، بمثل هذه الخاطرة العابرة التي توحي إلينا بها تلك الصور الثلاث، ومع ذلك، فإن هذه المقارنة، رغم طابعها الساخر، ربما سهلت علينا مقاربة أسلوب الرئيس الجزائري في التعامل مع الأشياء. ولنبدأ من البداية. والبداية كانت في شتاء عام 1978. في شهر نوفمبر من ذلك العام، عرف الجزائريون أن العقيد هواري بومدين، الذي انتخبوه رئيسا لهم قبل سنتين (10 دسمبر 1976)، مصاب بمرض خطير يستعصي على العلاج. وعرفوا أنه سيذهب إلى موسكو للمعالجة، وأدرك المسؤولون أن عهد ما بعد بومدين، أخذ يلوح في الأفق القريب. ولابد من إعادة هيكلة الحزب والدولة والجيش، تحسبا للطوارئ، وقد اجتمع مجلس الثورة، وهو السلطة العليا آنذاك، اجتمع في الثلاثين من هذا الشهر، وقرر تعيين العقيد الشاذلي بنجديد «منسقا للشؤون العسكرية»، وكلفه بالإشراف على الاتصالات مع قادة المناطق العسكرية، ومع جهاز الأمن العسكري، وأيضا بإدارة وزارة الدفاع. والتفسير الذي قدم يومها لتبرير هذا الاختيار، يتلخص في أن الشاذلي بنجديد هو أقدم الضباط السامين وأعلاهم رتبة، لكن هناك عاملا إضافيا يتمثل في أن هذا الضابط كان يشغل منذ شهر سبتمبر 1964، قيادة المنطقة الغربية الجنوبية المتاخمة للمغرب، وكانت هذه المنطقة، منذ انفجار النزاع المسلح حول الصحراء المغربية، تمثل ثقلا خاصا بالنسبة للجيش والدولة. وكان الشاذلي بنجديد، بصفته القائد العسكري لناحية وهران، يشرف فعليا على وحدات الجيش المختلفة المرابطة بتلك الجهات الإستراتيجية من الحدود المغربية الجزائرية، أثناء سنوات المعارك العنيفة ما بين الجيش المغربي وجماعات جبهة البوليساريو المتمركزين داخل التراب الجزائري. ثم توفي العقيد هواري بومدين يوم 27 دسمبر 1978، وحين انعقد المؤتمر الاستثنائي لجبهة التحرير الوطني (يوم 29 يناير 1979) من أجل اختيار خلف له، كان جهاز الأمن العسكري، وعلى رأسه العقيد قاصدي مرباح، قد اختار الشاذلي بنجديد لخلافة الرئيس الراحل. أثناء أحد اللقاءات التي أجريناها مع العقيد قاصدي مرباح، في شهر يونيو الماضي بمنزله في حي حيدرا بأعالي الجزائر، سألناه عن الدور الذي قام به في انتقاء الشاذلي بن جديد لرئاسة الجمهورية، فكان جوابه : «لابد أن نتذكر ظروف تلك المرحلة. والأمر المهم في نظري، وما شرحته للجيش، هو ضرورة احترام المشروعية وضرورة احترام الدستور. كان يبدو لي مهما أن يبقى الشعب موحدا وأن يظل الجيش موحدا كذلك، في هذا الإطار العام، قمت بالعمل الذي قمت به مع شخصيات أخرى كانت موجودة. وليس صحيحا ما يقال من أنني كنت أملك سلطات واسعة، وإنما كانت لدي سلطات أوسع لأن بومدين عينني منسقا لجميع مصالح الأمن. اختارني لهذه المهمة أثناء مرضه. وبهذه الصفة قمت بالدور الذي استطعت أن أقوم به، ربما لأنني كنت أثناء تلك الفترة واحدا من أقدم إطارات الجيش في المستوى المركزي، والواقع أن الظروف جعلتني أحتل موقعا مارست انطلاقا منه عملا يحركني فيه هدف واحد، هو الدفاع عن المصالح الوطنية. كان يبدو لي من الأهمية بما كان في ذلك الوقت أن تسوى مشكلة الخلافة في نطاق الهدوء والأمن، وأن لا تحصل انحرافات أو تجاوزات، لأننا كدولة نملك مصالح لابد لنا من أن ندافع عنها، كما لابد لنا من ترسيخ بعض التقاليد. ولا ينبغي، كلما طرحت مسألة السلطة، أن تصل الأمور لحد إراقة الدماء، أو أن تحصل مواجهات تؤدي إلى إضعاف البلاد. هذا هو المفهوم الذي كان يحركني كمسؤول، وأعتقد أن النتيجة التي توصلنا إليها في تلك المرحلة، جعلت الأجانب يؤخذون إعجابا بالصورة التي سارت عليها الأمور عندنا، وكنت على اقتناع عميق بأن الطريقة التي ستنظم بها مسألة الخلافة، سوف يكون لها انعكاس كبير على سمعة الجزائر ومكانتها الدولية. وكان مجلس الثورة قد عين الشاذلي بنجديد منسقا للجيش، وقام الجيش من جهته بمساندته، حتى أصبح مرشح مجلس الثورة لرئاسة الجمهورية». هناك عدة شهادات تتصل بلحظة خلافة بومدين، تؤكد هذا الكلام الذي سمعناه من السيد قاصدي مرباح، حول الموقف الحاسم للجيش في اختيار الشاذلي بنجديد رئيسا للجمهورية. يقول السيد عبد السلام بلعيد في كتاب، المصادفة والتاريخ Le hasard et l'histoire»» : «بالنسبة لي وبالنسبة لعدد من المناضلين، كان هناك خطر من وقوع تجربة ساداتية في البلاد، وكان هناك رجل يمثل هذا الخطر، هو السيد عبد العزيز بوتفليقة. لقد كان بوتفليقة يطرح آراء واختيارات في المجال الاقتصادي وفي مجال التنمية الداخلية ثم في الميدان الدبلوماسي، توحي بأنه سيفرض اتجاها مخالفا لبومدين. ثم إنه خلال الشهور التي سبقت وفاة الرئيس، حاول أن يحصل على بعض التعاطف مع جهات أجنبية، وتحرك كثيرا لهذا الغرض. الأمر الذي يوحي بأنه كان يتوقع أن تفتح مسألة الخلافة قريبا، لقد سعى بالخصوص سعيا حثيثا للحصول على تأييد قصر الإليزيه. فبمناسبة عيد الرابع عشر من يوليو، أرسل برقية تهنئة باسم بومدين إلى جيسكار دستان، ولكنه عمل في نفس الوقت على إشعار باريس بأنه صاحب فكرة البرقية ومحرر نصها. وكانت تلك البرقية تتضمن عبارات غير مقبولة. وحين قدمت ملاحظة حول هذا الأمر إلى هواري بومدين، وجد أنها بالفعل تشتمل على «كلمات زائدة عن اللزوم» حسب تعبيره. ويضيف عبد السلام بلعيد في وصفه لظروف الصراع حول خلافة بومدين : «صيف عام 1978، تميز عندنا بسقوط نظام المختار ولد داداه في موريتانيا، وبالمعطى الجديد يمكن أن يدخله هذا الحدث على تطور مشكلة الصحراء الغربية. وقد تمت مشاورات في هذا الخصوص بين باريس والجزائر. هكذا انتهز عبد العزيز بوتفليقة الفرصة، ليقوم بزيارة جيسكار ديستان بقصر الإليزيه، مرتين في شهر واحد. وحين استقبله بومدين بجزيرة بريوني، حيث كان يمضي فترة استراحة، بدعوة من تيتو، بعد مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية بالخرطوم، خاطبه بهذه العبارات : «لابد أن تقول لي هل أنت وزير خارجية جيسكار ديستان أم وزير خارجيتي أنا؟ لقد أديت له زيارة أولى للتشاور، وكان عليه هو في المرة الثانية أن يرسل لي وزير خارجيته، ولم يكن مطلوبا منك أن تسارع مرة ثانية لزيارته في مكتبه». يورد عبد السلام بلعيد هذه الرواية التي تدل على انزعاج بومدين من تصرفات وزير خارجيته ويعلق عليها قائلا : «لم يهتم عبد العزيز بوتفليقة للأمر. وخلال عودة بومدين من موسكو، قبل بضعة أيام من دخوله في الغيبوبة التي ستؤدي إلى وفاته، رتب عبد العزيز بوتفليقة الأمور بطريقة جعلت الطائرة العائدة من الاتحاد السوفياتي تحلق في الأجواء الفرنسية. وكان بومدين قد قام بعدة رحلات إلى الاتحاد السوفياتي من دون أن يحلق في الأجواء الفرنسية أو يوصي بسلوك خط يجبره على المرور من الفضاء الجوي الفرنسي، لكن عبد العزيز بوتفليقة، في اللحظة التي كان يستعد فيها لمرافقة بومدين، في رحلة لاشك أن كثيرا من الاعتبارات تجعله يعتقد بأنها الأخيرة، حرص على توفير فرصة جديدة، تتيح له توجيه رسالة أخرى، وربما إشارة إلى جيسكار دستان. وفي الملابسات المميزة لعلاقات الجزائر وفرنسا في تلك الفترة، بدا محتوى تلك الرسالة غريبا لدى كثير من الناس، بمن فيهم الذي وجهت إليه تلك الرسالة، أي الرئيس الفرنسي جيسكار دستان، ومن المحتمل أن عبد العزيز بوتفليقة في تلك اللحظة التي بدأت التخمينات فيها تغزو عقله وتجعله يحلم بالقيام بدور وطني. في هذه اللحظة، شعر بلا شك بضرورة تقديم عربون إلى قصر الإليزيه، مع توقيع بومدين، تعبيرا عن استعداداته الجيدة للمستقبل. ويأتي وزير الصناعة والطاقة إلى بيت القصيد، في حرب الخلافة التي سوف تنتهي بتعيين الشاذلي بنجديد رئيسا للدولة : «بعد وفاة بومدين، شعر الكثيرون وأنا من بينهم بالتهديدات المحيقة باستمرارية السياسة المتبعة في عهده، وتجندوا من أجل سد طريق الخلافة في وجه عبد العزيز بوتفليقة الذي كانوا يرون فيه تجسيدا لكل ما هو ضد بومدين. ومن أجل تبديد هذه السمعة، أجبر بوتفليقة زملاءه أعضاء مجلس الثورة، على السماح له بإلقاء الخطاب التأبيني للرئيس الراحل، لكنه لم يقنع أحدا بتحوله المفاجئ إلى تبني خط سياسي سبق له أن ندد به في فترة ماضية قريبة. يعدل عبد السلام بلعيد عن حكمه الصارم ضد بوتفليقة، ويكشف أيضا عن تناقضات موقفه، من إشكالية الخلافة، في فقرة أخرى حين يقول : «خلال مناقشة أجريتها معه، عرضت عليه كل الأسباب التي تجعلني أقتنع بأنه الرجل المؤهل لخلافة بومدين. والواقع أنه لم يكن هناك شخص لديه أي أوهام حول المشاعر الشخصية لنواة مجلس الثورة تجاه سياسة بومدين. لكن عبد العزيز بوتفليقة، بسبب مواقفه السابقة، كان يستقطب معارضة جميع المتخوفين من استمرارية الخط السياسي الذي يمثله. وكانت هناك أطراف أخرى تعمل في الظل، وتنتظر انتهاء فترة الحراسة المشددة، لتعلن بعنف متصاعد ومتزايد، عداءها لخط سياسي كانت اضطرت للموافقة عليه وأنفها راغم، وسوف يظهر أحمد طالب الإبراهيمي، الذي كان يصطف آنذاك وراء اليحياوي. سوف يظهر مواقف وميولا موالية للغرب أكثر من تلك التي تلصق عادة ببوتفليقة، والمعروف أن أحمد طالب الإبراهيمي لم يدخر جهدا في توجيه الانتقادات لرئيس الدبلوماسية الجزائرية، في عهد هواري بومدين، على أن الهم الأول للجميع، كان يتركز في ضرورة تجنب نشوب أزمة في تلك الظروف الدرامية الناجمة عن مرض بومدين ووفاته. وهذا الهم، أصل ذلك التنويم والتخدير اللذين حالا دون كشف ثورة مضادة، كانت خيوطها تنسج في الخفاء تحت واجهة الوحدة الوطنية». ويوضح عبد السلام بلعيد، في ذلك القسم من كتابه المعنون «وفاة بومدين وعواقبها السياسية»، كيف أن الصراع حول الخلافة، برز حتى في لحظة تشييع الجنازة، فيقول جوابا على سؤال وجهه إليه الأستاذان الجامعيان، علي الكنز ومحفوظ بلون، بشأن رد فعل الطبقة السياسية الجزائرية على الحدث : «شكلت الوفاة تشجيعا بالنسبة للبعض وأحرجت آخرين، كل الذين كانوا يستعدون لتغيير الأشياء وقلبها أحرجوا. وكان الناس مصابين برعب شديد. وهناك أشياء غير معروفة. هناك وزير عضو في مجلس الثورة، اقترح نقل جثمان بومدين، مباشرة من قصر الشعب في طائرة سمتية (حوامة-هليكوبتر) إلى مدينة قالمة، موطنه الأصلي. وذلك في رأيه، تجنبا لقيام مظاهرات شعبية بالعاصمة. كان ذلك الوزير مرعوبا ولا يريد أن يجد نفسه وجها لوجه أمام الجماهير. بعض الرسميين قالوا : «لا ينبغي أن نقيم تشييعا رسميا، وإنما نكتفي بتشييع بسيط في قصر الشعب، ثم تنقل الحوامة الجثمان للمطار ومنه تحمله الطائرة إلى المدينة قالمة. ثم حاولوا بعد ذلك أن ينقلوه من قصر الشعب بالطائرة السمتية إلى مقبرة العالية». يروي عبد السلام بلعيد وقائع تلك اللحظة الدرامية التي تبين أن المسؤولين الرسميين كانوا مختلفين، حتى من قبل أن يدفنوا الرجل، وكانت فرائصهم ترتعد خوفا من الفراغ الذي خلفه غيابه، يروي كيف أن العسكر حسموا الأمر : «في النهاية، كان رجال الأمن والجيش هم الذين قرروا ما ينبغي عمله ورسموا الطريق للانطلاق من قصر الشعب نحو المسجد الكبير ومنه إلى مقبرة العالية. لكن عند الخروج من المسجد، كان عدد الجماهير الغفيرة كبيرا وغير قابل للمراقبة أو السيطرة. وكان هناك شبان يهتفون بالرسميين : «سوف تخونونه». وعند ملتقى الطرقات، حوصرنا وتكاثرت الجماهير، حتى أصبح من المستحيل الاستمرار في التحرك. وهنا بدأ بعض الناس يرتعدون واقترحوا الاتجاه نحو الميناء والمرور من هناك هربا من حصار الجماهير. لكن وجد أشخاص أكثر ذكاء لاحظوا أن الناس ينتظرون منذ الصباح الباكر لمشاهدة جثمان الرئيس وقالوا : «إذا فعلنا ما تنصحوننا به، فسوف تحدث مظاهرة بالجزائر العاصمة». ويجب أن نعرف بأن التقاليد الإسلامية تقتضي حمل الميت إلى قبره، وأن محاولة الاستيلاء على التابوت ليست تعبيرا عن التعصب كما تصور ذلك الأوروبيون، وإنما هي ضرب من التعبير عن احترام بعض الطقوس المقدسة عند المسلمين. ولدى الخروج من المسجد، بدأت بعض السيارات تتجه نحو الطريق الشاطئي، لكن رجال الأمن أعادوها من حيث ذهبت، واعترضوا على تغيير اتجاه الجنازة، وأحضروا سيارات مجهزة بخراطيم ضخ المياه لفتح الطريق للموكب الجنائزي وسط الجماهير الحاشدة. وهكذا اخترق الموكب العاصمة حتى مخرج مدينة الحراش، وهكذا قام عدد من الشبان الذين لم يتمكنوا من رؤية الجنازة بالهجوم على السيارات الرسمية لدى عودتها. ويعود عبد السلام بلعيد ليروي مرة أخرى، كيف تدخل الجيش لوضع حد للنقاش الدائر بشأن ما بعد بومدين، وكيف اختار الشاذلي بنجديد خليفة له على أساس ضمان الاستمرارية، قائلا : «كنت مترددا في ما يجب أن أعمله، ولكنني قلت في النهاية لنفسي إن الاستمرار أمر ممكن، لقد مات بومدين، لكننا من حسن الحظ نملك ميثاقا يرسم لنا خطا سياسيا واضحا ونملك دستورا. ونحن نستطيع أن نستمر في نهج نفس السياسة. وهذا الاستمرار، لا ينفي إدخال بعض التحسينات. ولقد بدأ بومدين، وهذا أمر من النادر أن يتم التطرق إليه بالتفكير في تقديم المحصلة عام 1977. وكان بومدين قد دعاني إلى لجنة إعداد المخطط لمؤتمر الحزب. وكان من المفروض أن تعالج الأمور من هذا المنظور، وقد دافعت عن مثل هذا الاتجاه، لكنني شعرت بأن الأمور لن تكون مثلما كانت في السابق. وحين مرض بومدين، بدأ أعضاء مجلس الثورة يجتمعون فيما بينهم ويتحدثون عن تغيير كل شيء وعن قلب كل شيء، عن تصفية مسألة الصحراء وعن قلب السياسة الاقتصادية، إلخ... ولم تظهر أية صعوبة فيما بينهم. وجاء تدخل الجيش واتخاذه موقفا واضحا، جاء يضع حدا على الفور لمطامح دعاة الخيانة. وهكذا قدم تعيين الشاذلي بنجديد لخلافة بومدين، باعتباره عربونا على الإخلاص للخط الثوري الذي رسمه هذا الأخير. وقد وجدت نفسي في المكتب السياسي المنبثق عن المؤتمر الرابع لحزب جبهة التحرير الوطني، وكنت عضوا في اللجنة المكلفة بتنظيم حملة شرح حول انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية. وحدث أنني تحدثت شخصيا في مهرجانات علنية بولايتي سطيف وبجاية، وركزت خطابي على معاني الوفاء والاستمرارية في اختيار الشاذلي بنجديد خليفة لبومدين. كما أن جميع أعضاء المكتب السياسي الذين شاركوا بهذه الحملة، قالوا كلاما مماثلا في تعيين الشاذلي بنجديد : المصدر كتاب : «المصادفة والتاريخ» (صفحات 296 حتى 299). بجانب الشهادة التي نقلناها مباشرة عن العقيد قاصدي مرباح، مدير الأمن العسكري، والفقرات الطويلة التي استشهدنا بها من كتاب عبد السلام بلعيد، توجد شهادات أخرى استمعنا إليها من أعضاء سابقين في مجلس الثورة، ومن ضباط كبار في الجيش، ومن مسؤولين سابقين في الحزب، تصب في نفس الاتجاه، أي تؤكد أن اختيار الشاذلي بنجديد لخلافة بومدين، جاء من الناحية النظرية ترجمة لرغبة التيارات المهيمنة داخل الطبقة السياسية الجزائرية الحاكمة، في الاستمرار على خط الرئيس الراحل، وكان من الزاوية العملية قرارا فرضته الأجهزة النافذة في الجيش. وقد كان الانطباع السائد لدى الرأي العام الخارجي، سواء منه العربي أو الأجنبي، غداة غياب هواري بومدين، أن معركة الخلافة سوف تدور بين رجلين هما العقيد محمد الصالح اليحياوي، مسؤول حزب جبهة التحرير آنذاك، والسيد عبد العزيز بوتفليقة، وزير الخارجية. كان ذلك هو الاعتقاد الراسخ عند الجميع. وقد روى لنا السيد محمد الصالح اليحياوي، «أن مجلس الثورة انتهى من المداولات التي أجراها بعد وفاة الرئيس، إلى ضرورة احترام بنود الدستور الذي ينص على أن يقوم رئيس المجلس الوطني الشعبي بتولي رئاسة الدولة وكالة، إلى أن يتم اختيار مرشح جديد لمنصب الرئاسة خلال المدة الزمنية المنصوص عليها في الدستور». ويضيف محمد الصالح اليحياوي في شهادته : «بالفعل كلفت شخصيا، مع الأخ الشاذلي بنجديد الذي كنا قد اخترناه لتنسيق الشؤون العسكرية، كلفنا من طرف مجلس الثورة بمقابلة الأخ رابح بيطاط، رئيس المجلس الوطني ومفاتحته في الأمر. ووافق السيد رابح بيطاط على الفكرة، وأعطانا تعهدا شفويا باستعداده لتحمل مسؤولياته. كانت أمامنا قضية شكلية، فالدستور ينص على قيام رئيس المجلس بالنهوض بمهام رئيس الدولة في الفترة الانتقالية»، لكن صيغة تقديم المرشح لمنصب الرئيس بعد انتهاء تلك المدة، لم تكن قد حسمت بعد، لأن مؤتمر الحزب لم يكن قد انعقد ليبت فيها ويحسمها نهائيا. السابقة الوحيدة التي كانت لدينا هي عملية ترشيح هواري بومدين عام 1976، من قبل مؤتمر الإطارات. وكانت الأفكار الرائجة يومها في أفق تحضير المؤتمر الرابع للحزب، تتلخص في مشروعين، واحد يرى أن الرئيس، الذي هو الأمين العام للحزب، ينبغي أن يتم ترشيحه لمنصب الرئاسة من طرف المؤتمر العام الذي ينتخبه أمينا عاما أيضا، ومشروع آخر يرى أن اختيار الرئيس، يجب أن يكون من اختصاص اللجنة المركزية. كان أصحاب الفكرة الأولى يرون أن اختيار المرشح الرئاسي من طرف المؤتمر، يعطي الفرصة للمناضلين من أجل الاختيار بين عدة مرشحين عن طريق الاقتراع السري والديمقراطي، وهو أسلوب يجعل مؤتمر الجبهة، الذي يخصص لمثل هذا الاختيار، يشبه إلى حد ما ما يحصل في الانتخابات الأولية داخل بعض الأحزاب الغربية، خاصة الحزبَيْن الأمريكيين الديمقراطي والجمهوري. أي أن المرشح يجب أن يفوز بالأغلبية داخل الحزب قبل أن يتقدم إلى الناخبين. أما الفكرة الثانية، وهي أقرب إلى مفهوم المركزية الديمقراطية الذي كنا نتبناه كحزب ثوري اشتراكي، فكانت تحصر اختيار المرشح لموقع الرئاسة في اللجنة المركزية للحزب. وإذا لم تخني الذاكرة، فإن هذا المشروع الثاني هو الذي كان يحظى بتأييد أغلبية أعضاء اللجنة التحضيرية. لكن وفاة بومدين فاجأتنا ونحن لم نعقد المؤتمر بعد. ويضيف السيد محمد الصالح اليحياوي، في حديثه إلينا عن الملابسات المحيطة باختيار الشاذلي بنجديد رئيسا للجمهورية : «افترقت مع الأخ الشاذلي بنجديد، بعد لقائنا مع السيد رابح بيطاط، وفي تصوري أن مشكلة اختيار المرشح الجديد للرئاسة لم تحسم، إلا بعد أن نتوصل داخل مجلس الثورة إلى صيغة بشأنها، ولكنه كلمني هاتفيا بعد يوم أو يومين وقال لي بالحرف : يا أخي الله غالب، راهم الجماعة فرضوا علي نترشح للرئاسة». لم يرو لنا السيد محمد الصالح اليحياوي تلك النكتة أو الدعابة التي انطلقت من الجزائر، وطافت عالم السياسة والصحافة ورددتها وروجتها الدوائر الإعلامية والسياسية المهتمة بتطورات الجزائر. تقول تلك الدعابة : «إن المسؤولين الجزائريين وجدوا أنفسهم، بعد وفاة هواري بومدين، أمام مرشحين اثنين، أحدهما معرَّب هو محمد الصالح اليحياوي، والآخر مفرنس أو مزدوج اللغة والثقافة هو عبد العزيز بوتفليقة»، وأنهم، أي المسؤولون، قرروا أن يختاروا رجلا ثالثا محايدا». وهذه الدعابة على ما فيها من قساوة، تشكل حكما استباقيا أو مسبقا صائبا في كثير من الوجوه، على شخصية الرئيس الشاذلي بنجديد. ولكنها أيضا، كما سوف تثبت التبدلات اللاحقة، تكشف عن وجود ذكاء فطري عملي، مكن الرجل حتى الآن من اجتياز المراحل الصعبة التي مر بها حكمه، بحد أدنى من الخسارات. هذا «الرجل الثالث المحايد»، الذي تقدمه تلك الدعابة على أنه لا يتقن العربية مثل محمد الصالح اليحياوي ولا يحسن الفرنسية والعربية مثل عبد العزيز بوتفليقة، يجيد ما يمكن أن نسميه فن تحويل الهزائم إلى انتصارات، وهو شديد البراعة في الخروج من المأزق. والدعابة الأخرى التي بدأنا بها هذا المقال، رغم ما قد تثيره من ابتسامات ساخرة، تقدم لنا مع النكتة الخاصة بالحياد اللغوي مفاتيح هذه الشخصية العربية الإفريقية. نعم، وصل الشاذلي بنجديد فعلا إلى الجزائر العاصمة في الفصل الأخير من سنة 1978، أثناء احتضار هواري بومدين، وجاء إليها قادما من مدينة وهران (وهران الباهية... وهران الزاهية كما تقول الأغنية الشعبية)، وهو يحمل شوارب كثة غليظة كثيفة صلبة. وحين ارتقى إلى منصب الرئاسة في السنة التالية (1979)، شذبها دون أن يمس طولها، وفي سنة 1982، تحولت إلى خيط رقيق أبيض لا يكاد يدرك، ثم انقلبت إلى بقية من ظل في العام اللاحق، واختفت نهائيا سنة 1983. كل هذه التحولات الطارئة على الهندام، واضحة في تلك الصور التي قدمها لنا ذلك الزميل الجزائري في مكتبه بالعاصمة، ونصحنا بأن نقرأ من خلالها أسلوب خليفة هواري بومدين في التعامل مع الأشياء. والنكتة المتصلة بالحياد اللغوي، والدعابة المتعلقة بالصور، تكشفان لنا بعض أعماق الرجل. حقا، إن الشاذلي بنجديد لا يجيد فن الخطابة السياسية، ومن التحريات التي قمنا بها لإعداد مواد هذا المقال، خرجنا بخلاصة لعلها تفسر كثيرا مما يحدث الآن أمامنا في المغرب الأوسط : إن الشاذلي بنجديد يكره الخطابة، بل لعله لا يستطيع الخطابة المرتجلة في المهرجانات والاجتماعات الشعبية، وإنما يحرص على الحديث في نطاق ضيق أمام اللجان، والإطارات، وهو خطيب قصير النفس، يخيل إلى سامعه أنه يردد أسطوانة واحدة مسجلة، محفوظة تتردد فيها نفس التيمات والكلمات، وفقا للظروف المستجدة. وأريد أن أبادر هنا، قبل الاسترسال في استكمال رسم صورة الرجل، إلى أنني لا أستهدف ذمه أو التشهير به أو تجريح شخصيته، وإنما أسعى إلى تقديم ظاهرة سياسية تاريخية، عاينتها وسمعت عنها الكثير من الذين عاينوها وعايشوها. الجزائر في مفترق الطرق - مشاهدات ومسموعات 10 - (الحلقة الثانية) الشاذلي بن جديد.. أو الرجل الثالث الشاذلي بن جديد ليس خطيبا سياسيا، وهذا سر ضعفه وسر قوته. ولعله أن يكون سببا قويا من أسباب صعود التيار الأصولي الإسلامي أو التيار السلفي والسلفي الجديد في المغرب العربي الأوسط. والأمر كذلك، لأن الخطاب، أي الكلام بمعناه العام والمطلق والعادي جدا، كان ولا يزال منذ أن وجدت المجتمعات البشرية وانقسمت إلى حكام ومحكومين، مسيَّرين ومسيِّرين، قادة وتابعين، السلاح الأمضى في ممارسة السلطة. هذه قاعدة عالمية، تكاد تكون بمثابة القانون الفيزيائي أو الرياضي في صرامتها وكونيتها، القدرة على التبليغ والتوصيل والتواصل، ثم الإقناع فالتجنيد حاجة أصيلة مركبة في طبيعة العمل السياسي، سواء تعلق الأمر بأكثر المجتمعات الصناعية الراقية المتطورة, وفي عصر التلفزة والإذاعة ووسائط الإتصال الجماهيري والأقمار الصناعية والتطورات اليومية العاصفة، يصبح الخِطاب المقرون بالصورة المحروق الاستراتيجي اليومي الضروري لممارسة السلطة. ها هو فيديل كاسترو يحكم جزيرة كوبا الشيوعية منذ ثلاثين سنة بالكلام والكلام وحده، على مسافة تسعين ميلا من شواطئ فلوريدا الأمريكية. وقد كسب ممثل من الدرجة الثانية يدعى رونالد ريغان المعركة ضد خصومه الديمقراطيين، وكسب المنافسة ضد الاتحاد السوفياتي، لأنه عرف كيف يتحدث وكيف يوصل أفكاره وقناعاته البسيطة إلى أعداد واسعة من سكان الولايات المتحدة، حتى أنهم أطلق عليه صفة «المُبَلِّغ الكبير Le grand communicateur». وها هو ميخائيل غورباتشوف، يدشن عصرا جديدا في تاريخ الإنسانية كلها، لأنه تمكن بواسطة خطاب سياسي جديد، متجدد وجريء من وضع أصابعه على مكامن الداء الذي كان ينخر أجساد الدول والمجتمعات الشيوعية. الزعيم الصيني ماو تسي تونغ قاد هو الآخر المسيرة الكبرى لبلده ثم الثورة الثقافية بالخطاب وبالكلام اللذين كانا يحركان ملايين الناس ويدفعاها إلى السير على الدروب المرسومة لها من قبل الزعيم. والجنرال شارل ديغول، قلب أحوال فرنسا بسبب خطاب ألقاه من لندن يوم الثامن عشر من يونيو1940، وأصبح يُسمى رجل الثامن عشر من يونيو، ثم أخرجها من ورطة حرب الجزائر، وأنقذها من الفاشية العسكرية وأنشأ الجمهورية الخامسة، واستعاد نفوذ البورجوازية الرأسمالية المرعوبة بعد ثورة الطلاب والعمال في ربيع 1968... فعل ذلك كله بفضل عبقريته الخطابية.. والراحل عبد الناصر، أثار صحوة عربية شاملة بسبب الخطابات السياسية التي كان يلقيها في المناسبات المختلفة وتستمع إليها الجماهير العربية في المشرق والمغرب... بالطبع ليس الخطاب هو كل شيء في ممارسة السلطة، لكن من المستحيل تأسيس سلطة سياسية من دون خطاب. هناك أيضا الظروف وعلاقات القوى والقدرة الإقتصادية والتكنولوجية والتطور العلمي وما إلى ذلك من عوامل تدخل كلها في الحساب عند تقدير أداء أو فعالية شخصية قيادية، في مكان محدد وفي زمان معين. وهناك بالطبع ما قد يحصل من توافق بين الظرفية التاريخية والشخصية الكارزمية. ولعل أبرز التجارب التي نشأ فيها مثل هذا التوافق، هو ذلك التطابق الذي شهدناه في التجربة الإيرانية. لقد أسقط الخميني نظام الشاه محمد بهلوي بالكاستيلت. ثم قاد الشعب الإيراني بعد ذلك في حربه مع العراق بواسطة الوعود التي كان يقدمها لشبابه بالدخول إلى الجنة. وأنا هنا لست بصدد تقييم التجارب السياسية التاريخية أو إصدار أحكام عليها، وإنما أريد فقط أن أنبه إلى المكانة الاستراتيجية المركزية التي يحتلها الخطاب، بالمطلق في عملية صناعة القرار السياسي وتحريك المجتمع المدني. من هذه الزاوية، يخيل إلي أن الجزائر تشكو مما أسميه «العجز الكارزمي Le déficit charismatique». وهذا العجز الكارزمي عبارة جديدة وجدت نفسي أتلفظ بها تلقائيا، في اللغة الفرنسية أثناء نقاش طويل دار بيني وبين السفير رضا مالك بحضور الأستاذين الجامعيين، علي الكنز ومحفوظ بنون مؤلفي كتاب : المصادفة والتاريخ الذي استشهدت به في فقرات سابقة، إنها عبارة آتية من مخزون الذاكرة وعسى أن تكون قد ترسبت في الذهن من قراءتي لماكس فبير، إن العجز الكارزمي أو غياب هيبة الدولة إنما هو في الواقع ثمرة لانعدام الخطاب السياسي. وإذا كانت جميع الشعوب، تحتاج في إدراكها، وفي تحديد مواقفها من مختلف المشاريع التي تقدمها إليها نخبها السياسية، إلى رموز ملموسة تمارس عليها مختلف أصناف الإسقاطات، وذلك بغض النظر عن درجة نموها أو تخلفها. فإن هذه المسألة تأخذ في الجزائر طابعا دراسيا. لقد اكتسب أحمد بن بلة شعبيته بفضل خُطبه الشهيرة وبسبب قدرته على التحريض والتبليغ والتوصيل، واكتسب هواري بومدين هيبته بسبب منجزاته ومواقفه وبدرجة ثانية مقدرته الخطابية، ولأن هذا البلد كان مقطوع الجذور بتراثه الحضاري العربي الإسلامي، وكانت لغة التفاهم اليومي فيه مشكلة في حد ذاتها. وكانت لغة الخطاب السياسي فيه ولا تزال إشكالية مستعصية الحل فإنه كان وما يزال يحتاج إلى زعماء من طينة خاصة وفترة الشاذلي بن جديد تميزت بغياب الخطاب السياسي في مستوى المؤسسة الرئاسية، غياب نشأ منه وعنه فراغ عميق تدفق منه وملأه الخطاب السلفي وكان الجزائريون مثلهم في ذلك، مثل شعوب الأرض قاطبة، يحتاجون إلى من يكلمهم بلغة يفهمونها، أو على الأقل يتفهمونها فإذا بهم يجدون أنفسهم أمام الفراغ، وأمام الصمت. والطبيعة، كما يقول المثل، ضد الفراغ، وكان لابد أن تنتج المرحلة التاريخية خطابها التاريخي المناسب، أي كان لا بد أن يؤدي الفراغ القائم الجاثم إن صح التعبير على المخيال الجماعي، إلى فرز خطاب سياسي فارغ، رغم صخبه وغزارته. صمت الشاذلي بن جديد أو عدم إتقانه لفن الخطابة، هو الذي يفسر تلك الشعبية الخارقة التي يتمتع بها اليوم أشخاص من أمثال عباسي مدني الناطق الرسمي باسم الجبهة الإسلامية للإنقاذ وصديقه ومساعده علي بلحاج. لا بد أن يشاهد الإنسان مهرجانا للجبهة الإسلامية للإنقاذ، ويحضر ندوة من الندوات الضيقة التي يتكلم فيها الرئيس الجزائري ليدرك عمق البون الشاسع بين الشاذلي بن جديد والنجمين الصاعدين في سماء السياسة الجزائرية. ولا شك أن طريقة خليفة هواري بومدين في الخطابة وأسلوبه في معالجة المشاكل السياسية، يعودان إلى كونه إنسانا عصاميا بالدرجة الأولى اكتسب منهجه في العمل من الخبرة والممارسة أكثر مما اكتسبه من المطالعات والمظاهرات والاجتماعات مثل منافسيه. يكاد الشاذلي بن جديد يكون نسيجا وحده بين الرؤساء العرب الحاليين. لقد جاء إلى السلطة العليا ربما بمحض المصادفة، ولعله أصبح رئيسا للجزائر بالرغم منه. هذا الرجل الذي ولد في منتصف شهر أبريل 1929 في قرية زراعية قريبة من مدينة القالة على مسافة بضع أميال من الحدود التونسية الجزائرية، وفي ظل برج عتيق بناه القراصنة والتجار الأوروبيين، قبل ثلاث قرون، بتلك المنطقة من شواطئ البحر الأبيض المتوسط يميل بالفكر وبالسلوك وبالمزاج، إلى الانفتاح والحوار وتسوية الأمور بالمفاوضات والمناقشات والأخذ والعطاء، أكثر من ميله إلى المواقف الصارمة. ولا شك أن المحللين والنقاد الذين يربطون بين الطبع والطبيعة، بين البيئة التي ينشأ فيها الإنسان، ويترعرع فيها، وبين خصاله السلوكية، وسمات مزاجه، لا بد أن يجدوا في الفرق بين شواطئ البحر الأبيض المتوسط وكثبان الرمال المحيطة بوادي سوف ومدينة بسكرة، ما يساعدهم على تفسير الإختلاف القائم بين زعماء الجبهة الإسلامية للإنقاذ وأغلبهم من الصحراء، وبين الشاذلي بن جديد. إن هذا الرجل يمكن أن يكون وجيها من وجهاء طنجة أو تطوان أو تونس أو أية مدينة شاطئية متوسطية حتى على الضفة الإيطالية أو الإسبانبة أو الفرنسية لهذا البحر. الرجل يحب الحياة بأنبل ما في كلمة الحب من معنى، ويهتم بهندامه ومظهره، وحتى الأصدقاء الذين تعرفوا عليه وعايشوه أثناء حرب التحرير، سواء حين كان جنديا ثم ضابطا في الولاية الثانية مع العقيد علي كافي أو العقيد صوت العرب (صالح بوبنيدر).وبعد أن انتقل إلى الحدود التونسية ليتولى قيادة وحدة عسكرية تابعة لهيئة الأركان العامة التي كان يقودها العقيد هواري بومدين. هؤلاء الذين تحدثنا إليهم خلال هذا الصيف، وحاولنا أن نلتقط ذكرياتهم عنه، يجمعون على القول بأنه رجل مضياف، يحب الصيد والأكل الجيد ولا يرى وجود أي تناقض بين أن يستمتع الإنسان بملذات الحياة ، ويقتنص لحظات سعيدة، وأن يمارس في نفس الوقت مسؤولياته السياسية. واحد من هؤلاء ذكر لنا أن الشاذلي بن جديد كان مشهورا لدى أصدقائه، بأنه حين يعود من رحلة القنص بصيد وفير، كان يدعوهم إلى وليمة، ولم يغير الشاذلي هذه العادات حينما انتقل بعد الاستقلال لقيادة ناحية قسنطينة العسكرية ثم ناحية وهران، لم يغيرها وإنما طورها، وذلك أمر طبيعي تماما، ومع تطور وضعه المادي قد أصبح يدخن سجاير الهافانا المعطرة، ويرتدي بدلا أنيقة من تفصيل الخياط الفرنسي ذي الأصل الإيطالي فرانشسكو سمالتو، وصار يضع نظارات ذات إطار رقيق عند القراءة، إنه يشبه في بعض صوره، ممثلا إيطاليا متوسطيا أصيلا، بطلا من أبطال أفلام الواقعية الإيطالية في حقبة الخمسينات. حب البحر وحب رياضة الغوص في الأعماق من الهوايات المعروفة عن الرئيس الجزائري. وفي السنوات السابقة لخريف الغضب الجزائري، وبينما تكون الإشاعات القوية تتحدث عن غيابه أو مرضه أو عن وجود أزمة في قمة السلطة، تعرف أجهزة المخابرات الغربية ولاسيما الإسبانية والفرنسية أن الرجل موجود على ظهر يخته يمارس رياضته المفضلة في عرض شواطئ وهران. وقد تعرض الرئيس الشاذلي بن جديد أثناء ممارسته لرياضة التزحلق على الماء إلى حادث أدى إلى انزلاق غضروفي قوي، أرغمه على الذهاب إلى الخارج للعلاج. قال لنا أحد الوزراء السابقين الذين اقتربوا منه في تلك الفترة : «أوشك الانزلاق الغضروفي أن يؤدي إلى شلل كامل للرئيس. ولم نكن واثقين من أن المستشفيات الجزائرية، بما فيها المستشفى العسكري تتوفر على التجهيزات الضرورية لعلاجه. هكذا فكرنا بالطبع في الإتحاد السوفياتي الذي جرت العادة بحكم علاقاتنا الطيبة معه أن يذهب إليه كبار لإجراء العمليات الدقيقة. لكن أسرة الرئيس رفضت إرساله إلى موسكو ربما بفعل تأثير التطير من مصير الرئيس السابق. وقد جرى التفكير أيضا في نقله على جناح السرعة إلى فرنسا أو أمريكا، إنما تم العدول في الأخير عن اللجوء إلى هاتين الدولتين، تجنبا للقيل والقال السياسي. وفي النهاية تقرر أن يتم علاج الرئيس في بلجيكا. وفي أثناء تلك الوعكة، انتشرت شائعات قوية تؤكد أن الشاذلي بن جديد لن يستطيع ممارسة مسؤولياته في فترة قريبة وأنه ربما يخرج من سقطته البحرية تلك عاجزا تماما عن التصدي لمهام قيادة الدولة. كانت الإشاعة قوية إلى درجة أن السيد رابح بيطاط، رئيس مجلي النواب، دعا المجلس لعقد جلسة مغلقة، يقال أنه ألقى فيها خطابا كان يفترض أن تبثه الإذاعة، لإطلاع الرأي العام على خطورة الحالة الصحية للرئيس. غير أن كل تلك التنبؤات لم تتحقق، إذ أن الشاذلي، عاد بعد فترة من النقاهة، بالتدريج إلى النهوض بأعبائه كرئيس للجمهورية». عالم مزارع الكروم، والأخاديد العميقة، والأرخبيلات المرجانية، المميزة للبحر الأبيض المتوسط، وللجهات المجاورة لمدينة القالة، له نظمه، عاداته، تقاليده وتابوهاته. ومن هذه التابوهات المرعبة، الصمت والكتمان والاحتفاظ بالسر. إن هذه الأشياء تكاد تكون طبيعة ثانية في المجتمع الجزائري المتوسطي، وقد عززتها الأنماط التنظيمية الانضباطية الحديدية التي فرضتها جبهة التحرير الوطني خلال فترة الكفاح المسلح, وإذ كان الشاذلي بن جديد، كما سبقنا أن لاحظنا، قليل الكلام، فإنه كثيرا ما فاجأ خصومه وأصدقاءه بأعمال يحارون في تفسيرها ثم تأتي الأيام والتطورات لتثبت أنها تنم عن ذكاء سياسي استطاع حتى اليوم، أن يقود صاحبه للخروج من مأزق توقع الكثيرون أن تعصف به. إنه ذكاء الظروف أو الفرص. وعندما يتخذ القرار الرئاسي، عادة يأتي من دون مقدمات ويشغل الناس بالتفكير في دلالاته ومقاصده. من الذي أوحى به؟ من المستفيد منه؟ ماذا ستكون عواقبه؟ ليس للشاذلي بن جديد، أو على الأقل لم يكن له حين بدأ صعوده السياسي، قاعدة وطنية أو جهوية بأتم معنى الكلمة. وعندما اجتمعت كلمة الجيش لاختياره خليفة لبومدين في شتاء عام 1978، كانت تجربته الوحيدة محصورة في قيادته للمنطقة العسكرية بناحية وهران. ولعل العناصر المؤثرة يومها في الأجهزة كانت تفكر في أن تجعل منه «رئيسا ظلا» أو رئيسا شكليا، يسمح لها بأن تستمر في ممارسة سلطاتها تحت حمايته. وما فهمناه من أحاديثنا ولقاءاتنا المختلفة مع عدد من صناع قرار تلك المرحلة هو أن التجربة المصرية، غداة غياب عبد الناصر، كانت واردة في الأذهان وفي الحسابات لدى مختلف الأطراف، لقد تصور الذين كانوا يملكون مفاتيح الحكم أنهم سيضعون الشاذلي بن جديد في القمة لفترة زمنية قصيرة يتمكنون خلالها من ترتيب أمورهم ليفرضوا عليه السياسة التي يريدونها أو ليعوضوه بمن هو أقرب إليهم. لقد فعلوا ما الناصريون وأخطأوا مثل ما أخطأ أولئك أيضا. بالطبع، المقارنة هنا مجازية محضة، والقياس مع الفارق، كما يقول الفقهاء، لأن الجزائر ليست هي مصر ولا الشاذلي بن جديد أنور السادات. لذلك لن تنجح استراتيجية «تنصير» الجزائر أي جعلها ناصرية، كما لن تنجم استراتيجية «تسييدها» أي جعلها ساداتية، سوف تصيب استراتيجية الشاذلي بن جديد، إذا صح اصطلاحا، أن نصف عمل الرجل بأنه يترجم خطا استراتيجيا فعليا. إن قراءة متأنية لأداء خليفة هواري بومدين، توحي على الأقل بوجود طبع قوي ومزاج سلطوي لديه. لقد بدأ ممارسة مسؤولياته بإلغاء تأشيرة الخروج التي كانت مفروضة على المواطنين، وبإطلاق سراح الرئيس أحمد بن بلة، وبالدخول في مفاوضات مع الزعماء المغتربين (حسين آيت أحمد، بسير بومعزة، الطاهر الزبيري، والحاج الهاجي اسماعيل) لإقناعهم بالعودة. مقابل هذا الانفتاح على المعارضين بادر الرئيس بفتح ملفات عن العهد القديم انتهت بإخراج عدد من «البارونات» أمثال عبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية والعقيد أحمد دراية مدير الأمن ثم وزير الداخلية، والعقيد أحمد بن الشريف مدير الدرك الوطني، من دائرة الفعل السياسي الرسمي. وكل هذه الشخصيات لا تشكل، إذا ما أُخذت على انفراد، تيارا سياسيا بالمعنى الدقيق للكلمة، بل إن كل واحد من هؤلاء الأعضاء في مجلس الثورة، لديه من الحزازات والمآخذ ضد الآخر، أكثر مما قد يكنه من معارضة للرئيس الجديد، ولكنهم جميعا كانوا يملكون مراكز نفوذ قوية قد تهدد الشاذلي فيما لو تحالفوا ضده. سوف يتخلص بن جديد إذا من هؤلاء، وبعدهم يأتي دور السيد محمد الصالح اليحياوي مسؤول الحزب. لم يقم الشاذلي بتلك الحركة المسرحية التي قام بها السادات، بعد عام واحد من وفاة عبد الناصر، ضد مجموعة علي صبري وشعراوي جمعة ومحمد فوزي. وإنما سلك طريقا آخر أدى بعد سنوات إلى نفس النتيجة. تخلص أنور السادات من منافسيه الناصريين دفعة واحدة، وحاكمهم وسجنهم، أما الشاذلي بن جديد فقد صفاهم على مراحل، ثم التفت إلى الجيش وأجرى داخله تعديلات ومناقلات وترقيات أسفرت في نهاية عام 1984، عن إبعاد العناصر «المشبوهة» فيه عن مراكز القرار. تم ذلك كله بكثير من الحذر والحيطة والتحسب للنتائج. ولعل الطريقة التي اتبعها الشاذلي بن جديد في تصفية جهاز الأمن العسكري أبلغ دليل على منهجه الخاص في العمل السياسي، وهو شبيه بأسلوبه في قص شواربه أو تشذيبها. وكان الأمن العسكري يشكل دولة داخل الدولة، وقد استغرق تفكيكه خمس سنوات على الأقل. بدأ التفكيك بإبعاد مدير الجهاز العقيد قاصدي مرباح الذي عُين أمينا عاما لوزارة الدفاع الوطني، ثم وزيرا للصناعات الحربية. ويقول قاصدي مرباح إنه لم يكن يملك أية سلطة في تلك الفترة : «كان لدي مكتب وأجهزة تلفونات بوزارة الدفاع الوطني ولكنني لم أكن أملك أية صلاحية لاتخاذ القرار». سوف ينتقل قاصدي مرباح من الدفاع إلى الصناعات الثقيلة، فوزارة الزراعة فوزارة الصيد البحري ثم الصحة قبل أن يعين وزيرا أول غداة انفجار خريف الغضب الجزائري. ولن يمكث سنة كاملة في وظيفته الجديدة التي سيخلفه فيها مولود حمروش. لن يبقى قاصدي مرباح وزيرا أول أكثر من عشرة أشهر وسوف يسمع بإقالته وإقالة حكومته من الإذاعة. أما الأمن العسكري، فقد تولى قيادته مباشرة الرائد يزيد الزرهوني الذي كان في عهد بومدين معاونا للعقيد قاصدي مرباح ومسؤولا عن شعبة الاستخبارات الخارجية. لكنه هو الآخر سوف يُعفى من منصبه ويعين سفيرا في المكسيك، مثلما عين العقيد أحمد دراية مدير الأمن ووزير الداخلية السابق سفيرا في البرتغال، وسوف يلحق الأمن العسكري بالرئاسة ويوضع على رأسه العميد مجدوب الأكحل عيات. وإجمالا لن تنتهي الولاية الأولى من عهد الشاذلي بن جديد حتى يكون قد استكمل امتلاك الأجهزة التي تساعده على صنع القرار وتنفيذه. قراءة وقائع الولاية الأولى (1979-1984) من عهد الشاذلي بن جديد، مقارنة مع حكم الرئيسين السابقين أي أحمد بن بلة وهواري بومدين، تسمح بملاحظة وجود فرق كبير في طرق الرجال الثلاثة لمعالجة قضايا السلطة. والواقع أن المقارنة مع عهد أحمد بن بلة لا تفي بالغرض المطلوب لأن الرئيس الأول للجمهورية الجزائرية لم يمارس السلطة عمليا وحده، وإنما كان عليه أن يقتسمها مع الجيش. أما في عهد هواري بومدين، فقد صار الجيش هو المصدر الوحيد للسلطة، واستتب التوازن داخل مؤسسات الدولة، وأصبح الرئيس عمليا كل شيء وباتت المقارنة ممكنة، سيما وأن الفترة الزمنية تكاد تكون متشابهة. لقد حكم بومدين حوالي أربعة عشر سنة وحكم الشاذلي بن جديد اثنتي عشر عاما. وإذا كان هواري بومدين، لم يبادر قط باتخاذ موقف يرمي إلى تصفية منافسيه في السلطة، بعد قيام انقلاب التاسع عشر من يونيو 1965، فإن أسلوب الشاذلي بن جديد تميز باستباق منافسيه وإزاحتهم عن طريقه من قبل أن تتاح لهم الوسائل والإمكانيات التي قد تشجعهم على التحرك. كان هواري بومدين يترك لزملائه ومشاركيه في المسؤولية مبادرة الانفصال عنه، والذهاب في معارضتهم له إلى نهاياتها القصوى، ثم يقوم بمواجهتهم وإبعادهم عن مراكز التأثير، هكذا فعل مثلا مع العقيد الطاهر الزبيري رئيس الأركان العامة. وهكذا تصرف مع كل من عبد العزيز بوتفليقة والشريف بلقاسم وغيرهم. أما الشاذلي بن جديد، فإنه كان يسبق من يتوسم فيهم وجود طموح لمنافسته، ويبادر بتجريدهم من كل إمكانية للعمل. إلى جانب هذا الفرق بين الرجلين، أي بين هواري بومدين والشاذلي بن جديد. هناك ميزة أخرى تجعل هذا الأخير مختلفا كل الاختلاف عن سابقيه، وربما عن كافة رؤساء البلدان العربية والإفريقية. وتتجلى هذه الميزة في أن خليفة هواري بومدين ليست له عصبية في السلطة بالمعنى الخلدوني، كان هواري بومدين مثلا محاطا بجماعة وجدة، أي بأولئك الأصدقاء الذين عمل معهم في قيادة الجيش حين كان مقرها يوجد بتلك المدينة المغربية، أيام حرب التحرير. أما الشاذلي بن جديد فلم تكن لديه مثل هذه النواة، لذلك نجد أنه في إدارته لشؤون الدولة يفوض كثيرا من سلطاته للوزراء والمسؤولين، سيما حين يتعلق الأمر بتسيير الشؤون الاقتصادية وحتى السياسية. لهذا رأيناه يحتفظ بالعقيد محمد أحمد عبد الغني وزيرا أول، ثم يبدله ويعينه مستشارا له برئاسة الجمهورية، ليرسله من حين لآخر في مهمات عاجلة إلى بعض البلدان، ثم رأيناه بعد ذلك يختار السيد عبد الحميد الابراهيمي للوزارة الأولى ويترك له حرية التصرف في الشؤون الاقتصادية. وخلال المدة الفاصلة بين المؤتمر الخامس لجبهة التحرير الوطني (نهاية 1983) وخريف الغضب (أكتوبر 1988) مرورا بالنقاش الذي دار بشأن الميثاق الوطني (1986)، خيل إلى بعض المراقبين أن الشاذلي بن جديد بدأ يؤلف حول شخصه «عصبة جديدة». بدأ هذا الاعتقاد يسود أثناء سنوات الولاية الأولى حين لاحظ المتتبعون لتطورات الأوضاع وجود نواة شبه مستقرة في الدولة مؤلفة من الوزير الأول عبد الحميد الابراهيمي، ومن وزير الداخلية الحاج محمد يعلا ومن وزير الخارجية الدكتور أحمد طالب الابراهيمي ووزير الطاقة نايه بلقاسم ووزير التجارة عبد العزيز خلاف. وعلى عكس الصورة التي كانت شائعة في الخارج، في تلك الفترة، والتي ما تزال سائدة حتى اليوم، فإن انعدام وجود نواة متماسكة أو جماعة قوية حول الرجل، لم يكن يعني في يوم من الأيام أن طبخة القرار السياسي كانت تتم بشكل فردي أو تأتي ثمرة لتأملات يمارسها بن جديد في برجه الرئاسي العادي. لقد كان الشاذلي بن جديد يترك المنافسة تجري بين وزرائه ويتابع عملهم من بعيد ولا يتدخل فيه إلا عندما تتجاوز الصراعات حدودا معينة. هناك على الأقل خمسة دوائر تشارك في صنع القرار وفي اختيار الأدوات الصالحة لتنفيذه. كانت هذه الدوائر، في المدة الزمنية السابقة لأحداث 1988 على الشكل التالي : الدائرة الأولى : الحكومة، وخاصة الوزارة الأولى التي أشرفت على تسيير الشؤون الاقتصادية، تأتي بعدها وزارة الخارجية، التي كان الدكتور أحمد الطالب الابراهيمي قد تولاها بعد وفاة محمد الصديق بن يحيى في حادث الطائرة الشهير بين إيران والعراق. وهناك حادثة رواها لنا السيد محمد الشريف مساعدية عن مراحل تطبيع العلاقات المغربية الجزائرية تكشف عن أسلوب الرئيس الشاذلي بن جديد في التدخل لنقل ملف معين من يدي وزير أو مسؤول لغيره. لقد كان ملف العلاقات المغربية-الجزائرية من اختصاص الدكتور أحمد الطالب الابراهيمي، وكان من المفروض بعد لقاء الحدود الأول الذي جرى بقرية العقيد لطفي استجابة لوساطة الملك فهد بن عبد العزيز أن يتجه البلدان نحو تطبيع علاقاتهما الثنائية بصرف النظر عن استمرار خلافهما بشأن الصحراء. إلا أن القطيعة استمرت بعد ذلك اللقاء الأول، واستمر معها نفس النهج القديم ثم جاءت فكرة عقد مؤتمر القمة العربي الطارئ المخصص للانتفاضة الفلسطينية بالعاصمة الجزائرية. وفي نطاق الإعداد لتلك القمة أرسل الشاذلي بن جديد عددا من الوفود تجوب العواصم العربية لإقناع رؤساء الدول العربية بالمشاركة. وكان المغرب من نصيب محمد الشريف مساعدية والعميد العربي بلخير، الأمين العام للرئاسة. وهكذا ذهب مسؤول حزب جبهة التحرير الوطني رفقة الأمين العام للرئاسة إلى فاس لمقابلة جلالة الملك الحسن الثاني وتوجيه الدعوة إليه. وقبل العاهل المغربي الحضور مبدئيا، لكنه لاحظ أمام محدثه الجزائري أن الذهاب لعاصمة لا توجد فيها سفارة مغربية، مسألة لا تخلو من بعض الحرج بالنسبة إليه. عاد محمد الشريف مساعدية إلى الجزائر ونقل فحوى مباحثاته المغربية إلى الرئيس الشاذلي بن جديد، الذي كلفه على الفور بالعودة إلى المغرب من أجل التفاهم مع الملك على استئناف العلاقات الدبلوماسية المقطوعة. وكانت نتيجة تلك الملاحظة الملكية البسيطة، وذلك النقل الوفي والبسيط لها أن اتفق الجانبان بسرعة على أن يذهب وفد رسمي مغربي مؤلف من المستشار الملكي أحمد رضا غديرة ووزير الداخلية والإعلام ادريس البصري إلى الجزائر وأن يصدر بيان مشترك في العاصمتين يعلن عن تطبيع العلاقات الدبلوماسية بينهما. روى لنا السيد محمد الشريف مساعدية الذي كان حاضرا في لقاء قرية العقيد لطفي هذه الوقائع ليفهمنا بطريقة لبقة أن وجود ملف العلاقات الثنائية بين يدي الدكتور أحمد الطالب الابراهيمي تسبب في تأخير عملية التطبيع ربما لأن رئيس الدبلوماسية الجزائرية كان ميالا إلى إخضاع كل شيء للإشكالية الصحراوية. أما عندما نقل الملف من بين يديه إلى شخص آخر، فقد سارت الأمور بسرعة. الدائرة الثانية : بعد الدائرة الحكومية، هناك الدائرة العسكرية، وهي الأسرة الطبيعية للرجل. والشاذلي بن جديد عسكري قبل كل شيء، جاء به الجيش إلى السلطة، وظل ولا يزال مصدر قوته ومشروعيته التاريخية. هنا أيضا، ونحن نعالج أسلوب الرجل في التعامل مع الأشياء نجد نفس الظاهرة، ظاهرة تفويض الصلاحيات الكاملة للمسؤول وانتزاعها منه عند اقتضاء الضرورة. وفي الفترة السابقة لأحداث أكتوبر، شكل الرئيس الجزائري حوله مجموعة من الضباط كان من أبرزهم العميد مصطفى بلوصيف زميله السابق في الولاية الثانية وقد أسند إليه منصب الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني ثم رئاسة الأركان، أي أهم وظيفة في الجيش، والعميد الأكحل عيات، وهو من مدينة وادي الزناتي التي ينتمي إليها أيضا الأستاذ عبد الحميد المهري الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، كان يتولى إدارة الأمن العسكري، والعميد عبد الله بلهوشات الذي كان قائدا للناحية العسكرية الأولى في البليدة والعميد مصطفى الشلوفي الذي كان مديرا عاما للدرك الوطني ثم مفتشا عاما للقوات المسلحة قبل أن يصبح أمينا عاما لوزارة الدفاع الوطني والعميد علي بوحجة قائد موقع العاصمة (قائد القوات البرية اليوم). مرة أخرى، خيل إلى المراقبين، قبل أحداث أكتوبر 1988 أن الشاذلي بن جديد بدأ يؤلف حول شخصه نواة عسكرية متماسكة، لكن هذه التشكيلة لم تصمد طويلا أمام محك التجربة. فقد أبعد العميد مصطفى بلوصيف من منصبه بعد أحداث قسنطينة في خريف 1986، وأبعد العميد الأكحل عيات من وظيفته في أعقاب خريف الغضب (أكتوبر 1988). وأحيل العميد عبد الله بلهوشات إلى التقاعد مع بداية عام 1989، لم يبق من هذه المجموعة العسكرية-النواة، والتي كان يعد أعضاؤها أصدقاء قريبين من الرئيس، سوى العقيد علي بوحجة القائد الجديد للقوات البرية. وآخر نجوم هذه الدائرة العسكرية الأولى هو العميد مصطفى الشلوفي الذي كان حتى منتصف شهر يوليوز 1990 أمينا عاما ثم دعي لمهمات أخرى، وفقا للتعبير الرسمي وذلك بعد تعيين الجنرال ماجور خالد نزار وزيرا للدفاع الوطني. الدائرة الثالثة : حزب جبهة التحرير الوطني : وخلال مرحلة ولايتيه، الأولى (1979-1984) والثانية (1984-1988)، كان الشاذلي بن جديد يتولى إلى جانب منصب رئيس الجمهورية، وظيفة الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني. كانت للحزب قيادة مكونة من مكتب سياسي مؤلف من ثمانية أعضاء كاملي العضوية ومن خمسة أعضاء إضافيين، هنا أيضا نلاحظ أن الشاذلي بن جديد تتبع نفس الأسلوب الذي اتبعه في الدائرتين الأخريين، أي الدائرة الحكومية والدائرة العسكرية، أي أنه ترك المؤسسة الحزبية تقوم بالمهام والمسؤوليات الموكولة إليها. كان المكتب السياسي يجتمع مرة في الأسبوع تحت رئاسة الرئيس الشاذلي بن جديد لرسم الخطط والبرامج والتوجيهات. أما حياة الحزب العادية فقد كانت تجري تحت إشراف الأمانة الدائمة للجنة المركزية، دون تدخل كبير من الأمين العام. حقا إن الشاذلي بن جديد، كان من حين إلى آخر، ينتقد أو يقترح أو يلاحظ وربما عبر عن غضبه واستيائه من الطريقة التي تدار بها الأشياء. ومثلا حدث أن زار الرئيس، في إحدى المرات، المقر المركزي للحزب على حين غفلة من المسؤولين المركزيين ومن دون أي إشعار سابق. فعل ذلك بعد أن قدم له أحد مستشاريه في الشؤون الداخلية تقريرا مفصلا تضمن انتقادا عنيفا لحالة الحزب. دخل الشاذلي بن جديد مقر الحزب، فسارع أعضاء اللجنة المركزية الحاضرين باستقباله وأحضروا القهوة لتقديمها له، فضرب الطاولة برجليه وقلب فناجين القهوة على الحاضرين. وسوف تكون ذروة الغضب الرئاسي على قيادة حزب جبهة التحرير الوطني، هي ذلك الخطاب الذي ألقاه خليفة هواري بومدين أمام إطارات الدولة والأمة يوم 19 سبتمبر 1988، ووجه نقدا جارحا لكل المسؤولين في الإدارة وفي الحزب، وهو كلام اعتبر تمهيدا لخريف الغضب الجزائري. الدائرة الرابعة : المساعدون المباشرون وفي مقدمتهم العربي بلخير الأمين العام للرئاسة والعميد محمد بتشين مدير جهاز الأمن العسكري. وكان هذان الضابطان الساميان بحكم صداقتهما القوية مع الرئيس، وبفعل حساسية الموقعين اللذين يحتلانهما، كانا حتى نهاية شهر يوليو 1990، ركنين أساسيين من أركان السلطة الرئاسية. وكان العميد العربي بلخير الأمين العام لرئاسة الجمهورية يجمع تحت مسؤوليته الملفات الاستراتيجية المتصلة بالجيش وشؤون الدفاع، ويتولى بعض المهمات والاتصالات الدقيقة، خاصة مع المغرب وفرنسا، وهو يستمد نفوذه من كونه الموظف السامي الوحيد الذي لا يمكن أن يدخل أحد عند الرئيس من دون المرور عليه، كما أنه بالإضافة إلى ذلك على صلة دائمة معه سواء كان بالعاصمة أو خارجها، داخل البلد أو في رحلة رسمية خارجه. وقد اكتسب العميد بلخير، في الفترة السابقة للتعيينات والتغييرات الأخيرة أهمية استثنائية، بعد أن خلت الرئاسة من المستشارين الذين كانوا قد أصبحوا في غالبيتهم أعضاء في حكومة مولود حمروش. أما العميد محمد بتشين مدير الاستخبارات العسكرية فقد لعب هو الآخر دورا نشيطا في السياسة الرسمية الموازية، سيما في الاتصالات غير المعلنة مع بعض التنظيمات السياسية الجديدة، إلا أنه من المتوقع أن تسفر الترقيات والمناقلات والإعفاءات الجديدة سواء في وسط الجيش والأمن أو على مستوى جهاز الولاة، وكذلك تعيين مستشارين اثنين جديدين بالرئاسة هما الأستاذ مسعود آيت شعلال للشؤون السياسية الداخلية والسفير محمد سحنون للشؤون الدبلوماسية، عن تقليص حجم دور هذين الضابطين الكبيرين. الدائرة الخامسة : الأسرة أي الزوجة والأولاد والأصهار والإخوة. وأسرة الرئيس الشاذلي بن جديد، قد لا تلعب دورا أساسيا مباشرا في صنع القرارات الإستراتيجية. ومع ذلك فإن الإشاعات المهموسة في الصالونات المخملية، والتي كثيرا ما تصل أصداؤها وشذراتها إلى الشارع غالبا ما تعطيها حجما أكثر من حجمها الحقيقي بالتأكيد. الجزائر في مفترق الطرق مشاهدات ومسموعات 11 - (الحلقة الأولى) كيف عاد القدماء إلى الحزب كان الاعتقاد السائد، داخل الجزائر وخارجها في أوساط المراقبين السياسيين المتتبعين لتطورات هذا البلد، غداة خريف الغضب (أكتوبر 1988)، أن الرئيس الشاذلي بنجديد، سوف يكون آخر ضحية لتلك الهزة العنيفة. وقد ساهم خليفة هواري بومدين نفسه في خلق هذا الانطباع، وجاءت موجات الإشاعات والأزمات والرجات السياسية التي توالت على البلاد في الفترة الفاصلة بين أكتوبر 1988 وصيف هذا العام (1990) لتؤكد أن الرئيس الجزائري قد لا يكمل فترته الدستورية. ولعل أول مؤشر استند إليه المراقبون في إصدار مثل هذا الحكم السريع، هو ذلك الخطاب الذي ألقاه الرجل يوم العاشر من أكتوبر 1988، وأعلن فيه بصوت يخنقه الانفعال والتأثر مسؤوليته المباشرة عن أعمال القمع التي مارسها الجيش وأجهزة الأمن لإعادة الأوضاع إلى مجراها الطبيعي. اعتبر ذلك الخطاب بمثابة نقطة بداية العد التنازلي لنهاية عهد الشاذلي بنجديد، مع أنه كما ستوضح ذلك التحولات التالية، سيكون منطلقا لميلاد شاذلي بنجديد جديد تماما ، بل إنني لا أتردد في القول بأن الشاذلي بنجديد الجديد قد وُلد في تلك المناسبة، ولكنه لن يبلغ سن الرشد السياسي إلا مع بداية صيف 1990. وبمناسبة الانتخابات البلدية والولائية الأخيرة التي أسفرت عن صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ كقوة أولى في الساحة السياسية الجزائرية، وهنا نجد أنفسنا أمام مفارقة قوية من مفارقة السياسة الجزائرية، أن خريف الغضب الذي كان يفترض أن يؤدي إلى ذهاب الشاذلي بنجديد، هو الذي أتاح له أن يمارس سلطته الرئاسية بدون منازع والانتخابات البلدية والولائية التي أسفرت عن تحويل الحزب الحاكم إلى أقلية، هي التي ستمكنه من أن يلعب دوره كاملا، كحكم في اللعبة السياسية الجزائرية. طوال الفترة الفاصلة بين الحدثين. حدث الخريف الدامي وحدث الصيف الديمقراطي، أي تقريبا على امتداد السنتين الماضيتين، لم يمر أسبوع واحد من دون أن تنشر في الجزائر من أقصاها إلى أقصاها شائعة تقول بأن عهد الشاذلي بنجديد على وشك الانتهاء.كان الرجل مرشحا حتى صيف هذا العام، لأن يكون كبش فداء لما حصل في عهده. ولكنه كان يفاجئ خصومه الكثيرين وأصدقاءه القليلين، بالخروج من المأزق. هناك عدة محطات لابد من الوقوف عندها للتعرف على ملامح الشاذلي بنجديد الجديد. المحطة الأولى : تشكيل حكومة برئاسة العقيد قاصدي مرباح وإجراء استفتاء حول الدستور الذي يقر مبدأ التعددية السياسية. المحطة الثانية : عقد مؤتمر الحزب وانتخاب الشاذلي للمرة الثالثة والاستفتاء على الدستور. المحطة الثالثة : خروج الجيش من الحزب. المحطة الرابعة : إقالة الحكومة. المحطة الخامسة : المؤتمر الاستثنائي للحزب. المحطة السادسة : الانتخابات. المحطة السابعة : تعيين وزير للدفاع. الوقوف عند هذه المحطات يجعلنا نكتشف أننا أمام رجل جديد اقترن ميلاده السياسي بأحداث كان يفترض أن تعصف بنظامه وبشخصه. بعد مضي أسبوع واحد فقط على الخطاب الذي أعلن فيه بشجاعة مسؤوليته عن القمع، أذاع الشاذلي بنجديد، بواسطة أجهزة الإعلام (مساء يوم 17 أكتوبر 1988) السلسلة الأولى من الإصلاحات الدستورية التي كان قد وعد بها في كلمته السابقة. وبموجب تلك التغيرات تم تعديل أربعة عشر مادة من جملة مائة وتسع وتسعين يتضمنها دستور 1976. أذاع الرئيس هذه التعديلات مباشرة بواسطة التلفزة الجزائرية، من دون أن يكلف نفسه مشقة العودة إلى أعضاء المكتب السياسي للحزب الحاكم، وأرفق إعلانها بمبادرة أخرى تقتضي أن تعرض على استفتاء شعبي يجري في الثالث من شهر نونبر 1988، ويتحدد فيه بالخصوص دور الوزير الأول. وبموجب هذا التعديل صار رئيس الحكومة مسؤولا مباشرة أمام المجلس الوطني وليس أمام رئيس الدولة، وأصبح لزاما عليه أن يقدم برنامجه إلى ممثلي الأمة ويطلب منهم منحه الثقة، وإذا رفضت الجمعية الوطنية أن تعطي ثقتها لحكومتين متتاليتين، يكون من حق الرئيس أن يقوم بحلها ويكون من صلاحيته أن يدعو الشعب إلى انتخاب مجلس جديد. ذلك هو الجانب الذي انتهت له ونوهت به أجهزة الإعلام في الداخل والخارج، على أن هناك نقطتين مهمتين لم تسترعيا انتباه المراقبين في تلك الفترة. النقطة الأولى هي أن الشاذلي بنجديد قام في هذه المناسبة بانقلاب دستوري حقيقي من دون أن يستشير زملاءه داخل المكتب السياسي، الذي يفترض أنه كان ما يزال يسير شؤون البلاد. والنقطة الثانية هي إلغاء بندين من الدستور ينص أحدهما على أن رئيس الجمهورية يجسد وحدة القيادة السياسية للحزب والدولة وينص الثاني على أنه يرأس الاجتماعات المشتركة لهيئات الحزب والدولة (المادة 111 من دستور 1976، البندان الثاني والتاسع). الشاذلي بنجديد الجديد، بدأ خطواته الأولى التي ستقوده إلى وضعه الحالي، بدأها مباشرة بعد مضي أسبوع واحد فقط على مظاهرات أكتوبر. لقد تضمن ذلك التعديل الدستوري المعلن في التلفزة بذور المعارك والتحولات اللاحقة التي وصلت إلى ذروتها في الانتخابات البلدية والولائية الأخيرة. بل إنه كان بمثابة ميلاد سياسي جديد للشاذلي بنجديد الجديد. لقد استطاع الرجل بواسطة ذلك الانقلاب الدستوري أن يفك ارتباطه مع الحزب الحاكم، وأن يضع الأسس الأولى للتعددية السياسية. ورافق هذا التعديل أو بالأحرى هذا الانقلاب الدستوري الصامت تعيين حكومة جديدة برئاسة العقيد قاصدي مرباح المدير السابق للأمن العسكري. المحطة الثانية : تعيين قيادة للحزب على رأسها الأستاذ عبد الحميد المهري وانتخاب الشاذلي بنجديد للمرة الثالثة رئيسا للجمهورية. وعقد مؤتمر عام للحزب، كل هذه الأحداث تلاحقت بسرعة متناهية وأعطت الانطباع بأن الرئيس لم يعد يسيطر على الأوضاع، رغم أنه انتخب بأغلبية ساحقة ورغم أن الدستور المعدل الذي قدمه للاستفتاء حظي بموافقة أكثرية واسعة. المحطة الثالثة : خروج الجيش رسميا من قيادة جبهة التحرير الوطني. ولعل هذا الخروج سيكون أهم حدث شهدته البلاد بعد انفجار خريف الغضب. إنه ثورة حقيقية داخل الثورة، وقد جاء مباشر بعد المصادقة على الدستور الجديد. جرى الاستفتاء يوم 23 فبراير 1989، وبعد ذلك التاريخ بأسبوع واحد اجتمعت الكوادر العليا للجيش الوطني الشعبي بوزارة الدفاع الوطني، وقررت خروج جميع الضباط من اللجنة المركزية للحزب الحاكم. وفي اليوم التالي لذلك الاجتماع أعلن أن الرئيس الشاذلي بنجديد استقبل وفدا عسكريا، نشر بعد لقائه بيانا يعلن فيه ضرورة وقوف الجيش خارج الجدل السياسي، تجنبا للدخول في صراع الاتجاهات الحزبية. جريدة المجاهد الرسمية علقت على هذه المبادرة بقولها (في عدد 5 مارس 1989)، إن الجيش الوطني الشعبي بتصرفه هذا إنما يستجيب لإرادة الشعب ومطامحه، وهذا القرار الإجماعي الذي اتخذه يعطي دلالة قاطعة على مساندته للمسيرة الديمقراطية ومشاركته فيها. ولهذا الخروج الصاخب أسبابه الظرفية وعواقبه السياسية. لقد نص الدستور الجديد في مادته الرابعة والعشرين على أن رسالة الجيش هي الدفاع عن حوزة البلاد وسيادتها ووحدتها الترابية، على خلاف الدستور السابق الذي كان يعطي للقوات المسلحة دور المشاركة في تنمية البلاد وبناء الاشتراكية والدفاع عن الثورة، ثم إن مشاركة الجيش في قمع انتفاضة أكتوبر، جعلت قادته يخشون من تشوه صورته لمدة طويلة ويشعرون بضرورة الابتعاد عن الإدارة السياسية للأزمة. كما أن تطبيع العلاقات الثنائية مع المغرب وابتعاد شبح المواجهة وانفتاح آفاق جديدة باتجاه تسوية سياسية ودبلوماسية للنزاع القائم بشأن الصحراء المغربية، كانت من العوامل المساعدة على فك ارتباط الجيش رسميا مع الحزب الحاكم. غير أن هذه العناصر الظرفية التي عجلت انتفاضة أكتوبر بإنضاجها لم تكن سوى مبررات للدفع بإستراتيجية الشاذلي بنجديد إلى نهاياتها القصوى والحتمية. لقد استولى الجيش على السلطة في التاسع عشر من يونيو 1965، وكان في عهد هواري بومدين (1965-1978)، أي طيلة ثلاثة عشر عاما العمود الفقري للدولة والحزب. والجيش هو الذي اختار الشاذلي بنجديد لخلافة بومدين. وكان من المفروض وفقا لتقديرات وحسابات العناصر النافذة فيه، أن يظل كذلك إلى أبد الآبدين. كانت للجيش في سنة 1965، قيادة ممثلها هواري بومدين. بادرت بقلب الرئيس أحمد بن بلة وأخذت السلطة واحتفظت بها. ومع غياب بومدين وجد الجيش نفسه أمام الفراغ فاختار واحدا من بين ضباطه هو الشاذلي بنجديد. حاول بنجديد في مطلع ولايته الثانية (1984) أن يُدخل تغييرات جديدة على هياكل المؤسسة العسكرية فأنشأ القيادة العامة أو هيئة الأركان المركزية التي كانت ألغيت في خريف 1967، بعد المحاولة الانقلابية للعقيد الطاهر الزبيري، وأنشأ رتبة ماجور جنرال وبدأ يحد من سلطات قادة المناطق العسكرية، بتكوين قيادات مستقلة مرتبطة مباشرة بوزارة الدفاع، كل هذه الإصلاحات، كلف الشاذلي بنجديد صديقه العميد مصطفى بلوصيف أمين عام وزارة الدفاع الوطني بالإشراف عليها وتنفيذها. غير أن انتقادات عديدة سوف توجه لهذا الأخير تنتهي بإبعاده من منصبه في شهر نونبر 1986، بعد الإصطدامات التي حصلت بين الطلاب وقوات الأمن بمدينة قسنطينة. سوف تتوقف محاولة إصلاح هياكل الجيش في فجر الولاية الثانية لتنطلق من جديد مع بداية الولاية الثالثة، وستكون أحداث أكتوبر وعواقبها السياسية مناسبة لإبعاد ضباط كثيرين من مواقع القرار السياسي والعسكري، هكذا نجد أن العميد مجدوب الأكحل عيات مدير المخابرات الخارجية أثناء خريف الغضب هو أول ضحية من ضحايا التطهير الجديد. لقد أحيل على التقاعد، فيما عين كل من العميد حسن العربي المدير السابق للمفوضية السياسية للجيش والعميد زين العابدين عشيسي سفيرين. أما العميد كمال عبد الرحيم القائد السابق لسلاح البحرية، القائد السابق أيضا لمنطقة وهران، ومساعد رئيس هيئة الأركان العامة، فقد أعلن رسميا أنه أحيل على التقاعد بطلب منه، ذلك ما قالته الصحف والوكالات. أما العميد كمال عبد الرحيم، فقد أكد لنا شخصيا، أثناء لقاء تم معه في شهر يونيو بالجزائر العاصمة، أنه فضل تقديم استقالته من الجيش. ولا بد أيضا من الإشارة إلى ضباط كبار آخرين من أمثال العميد الهاشمي هجرس المدير السابق لأكاديمية شرشال العسكرية المدير السابق للمفوضية السياسية والمفتش العام للجيش، والعميد محمد علاق قائد موقع العاصمة سابقا، والعميد عبد المالك قنائزية قائد الطيران، والعميد عباس غزيل، قائد الدرك الوطني، الذين فقدوا مناصبهم في عملية إعادة التنظيم الواسعة الأولى التي باشرها بنجديد في شهر دجنبر 1988. في ذلك الطور الأول من إستراتيجية الشاذلي بنجديد للسيطرة على الجيش، بقيت القيادة ممركزة في الرئاسة حول ستة عمداء يأتي في مقدمتهم العربي بلخير مدير ديوان الرئيس وأقدم مساعد له بقي في منصبه مدة طويلة. وللمناسبة، راجت في الآونة الأخيرة (نهاية شهر يوليوز وبداية شهر غشت) شائعات قوية، تشير إلى أن العميد العربي بلخير، قد يعين سفيرا بباريس أو الرباط أو في عاصمة عربية أو غربية مهمة أخرى وكان العميد العربي بلخير بحكم موقعه، رجلا مهما في الجهاز الرئاسي خلال السنتين الماضيتين. ثم هناك العميد خالد نزار (الذي عين مؤخرا وزيرا للدفاع الوطني)، وقد أسندت إليه رئاسة هيئة الأركان العامة، في الفترة التالية لأحداث أكتوبر، وهو الذي شكل مع بنجديد والعميد عبد الله بلهوشات قيادة الطوارئ أيام منع التجول. إن هذا الضابط الذي يبلغ عمره اثنين وخمسين سنة، والمنتمي إلى مدينة مراونة في منطقة جبال الأوراس، والذي أكمل دراساته العسكرية بالاتحاد السوفياتي وفرنسا، يعتبر من أكفأ الضباط السامين الجزائريين. وهناك أيضا العميد محمد بتشين المسؤول الجديد للمخابرات، والعميد حسين بالمعلم مستشار شؤون الأمن والعميد محمد عطايلية المفتش العام للجيش والقائد السابق للناحية العسكرية الأولى، وأخيرا عبد الله بلهوشات الذي تقلب بعدة مناصب وعينه بنجديد في وظيفة مستشاره لشؤون الدفاع. والواقع أو الوظائف التي أسندها بنجديد، بعد تلك المناقلات والإحالات على المعاش والتعيينات الدبلوماسية، إلى هؤلاء الضباط كانت رمزية، باستثناء منصب مدير ديوان الرئاسة ورئيس الأركان ومدير المخابرات، وقد دفعت هذه الوضعية ضابطا كبيرا مثل العميد عبد الله بلهوشات إلى تقديم استقالته بعد بضعة أشهر من تعيينه. هناك ضباط آخرون، حاولوا حتى من خلال منصبهم الإداري أن يؤثروا في الأحداث. تلك مثلا، كانت وضعية العميد مصطفى الشلوفي الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني الذي أدلى بعدة تصريحات صحفية يهدد فيها بتدخل القوات المسلحة لحماية المسار الديمقراطي، وذلك أيضا كان موقف العميد محمد عطايلية المفتش العام للجيش والذي منع «الملتحين» من العمل بالمستشفى العسكري لعين النعجة، وأثار أزمة بين السلطة والجبهة الإسلامية للإنقاذ رفعت درجة حرارة التوتر السياسي قبل أيام الانتخابات الأخيرة. ولا تعني تلك المبادرة التي اتخذها الضباط في الأسبوع الأول من شهر مارس 1989، وأعلنوا فيها انسحابهم الجماعي من اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، فك ارتباط الجيش بالضرورة مع السياسة. إن البيان الذي تلاه العقيد يحيى رحال مدير المفوضية السياسية، في تلك المناسبة يعبر عن موقف في منتهى الوضوح : لقد انسحب الجيش من جبهة التحرير الوطني حتى لا يدخل في صراع الاتجاهات الذي أصبح أمرا مشروعا بعد دستور 23 فبراير 1989. ومعنى هذا بالعربي السياسي الفصيح أن الجيش أصبح يعتبر نفسه ملاذا وحكما في اللعبة الحالية وأن الرقابة التي كان يمارسها من داخل الحزب على الدولة ومن داخل الدولة على الحزب، تحولت إلى مراقبة غير مباشرة، تسمح له باختيار الأسلوب واللحظة المناسبين لإسماع صوته المتميز. والتغييرات الأخيرة، تؤكد هذا التوجه، وسوف نبين ذلك في فقرات أخرى من هذا التحقيق. المحطة الرابعة : إقالة حكومة العقيد قاصدي مرباح : لعل الطريقة التي تمت بها إقالة حكومة قاصدي بعد عشرة أشهر فقط على تعيينها، تعطينا فكرة عن الشاذلي بنجديد الجديد وعن التحول الطارئ على شخصه بعد خريف الغضب الدامي. لقد عينت تلك الحكومة بعد وقوع تلك الانتفاضة مباشرة بناء على ضغوط قوية من الجيش والحزب، وظهرت منذ البداية وكأنها سلطة حقيقية موازية لسلطة رئاسة الجمهورية. وعرفت الجزائر في صيف 1989، أي في عهد حكومة قاصدي مرباح، ارتفاعا صاروخيا للأسعار مع اختفاء عدة مواد من السوق مثل مسحوق الحليب والزبدة وحتى الخبز ثم السجائر. ووصل التوتر إلى ذروته، إلى درجة اقتنع الناس معها بأن حلول الذكرى الأولى لخريف الغضب سوف تشهد انفجارا شاملا يعيد البلد إلى تلك الأيام السوداء المشؤومة من شهر أكتوبر 1988. وفي إحدى المقالات السياسية ذات النكهة الفكاهية السوداء نشرت مجلة ألجيري-أكتياليتي المقربة من الرئاسة مقالا أشارت فيه إلى أن الحل الوحيد هو إلغاء أشهر الصيف من الرزنامة لتسوية مشاكل الجزائريين. والواقع أن الحملة ضد حكومة قاصدي مرباح بدأت في فصل الربيع وانطلقت من داخل النظام نفسه، وجاءت لتؤكد وجود صراعات حادة في مستوى الدوائر المحيطة بالرئيس. وكان ظهور تلك الخلافات على أعمدة الصحف علامة أخرى من علامات الديمقراطية والشفافية في الجزائر. وفي الحديث الذي أدلى به إلى مجلة ألجيري أكتياليتي الأسبوعية ونشرته في عددها المؤرخ ب19-25 يوليوز 1990، تناول العقيد قاصدي مرباح بالتفصيل الحملة الإعلامية التي قادتها ضده تلك المجلة في عهد مديرها السابق، كمال بلقاسم، والأصداء التي أثارتها، شارحا خلفيات النزاع الذي أسفر عن إقالة حكومته بقوله : «كتب السيد كمال بلقاسم [مدير مجلة ألجيري أكتياليتي السابق]، مقاله الأول في شهر أبريل، أي بعد مضي خمسة أشهر فقط على تشكيل الحكومة منتقدا إياها لكونها لم تتمكن من تسوية الأزمة الاقتصادية مدعيا أن حكومات أخرى، في عدة بلدان، استطاعت أن تحل أزمات أكثر خطورة في فترة زمنية أقصر. كان ذلك هو المقال الأول وقد أشار فيه إلى الإضرابات الاجتماعية الأردنية ملاحظا أنها أسفرت عن استقالة الوزير الأول. كان الهجوم إذن في منتهى الوضوح وقد نشر المقال بالرغم من افتقاره إلى الدقة، والسؤال المطروح هو الآتي : لماذا لم يكتب مقال مماثل عن الحكومة التي جاءت بعدي في ظرف خمسة أشهر من تجربتها؟ لم يحصل ذلك بالرغم من اعتقاد الجميع، واعتراف الصحف ومجلس الحكومة المنعقد في 24 أبريل 1990، بأن الوضع ازداد تدهورا وتفاقما. وأنا لا أتحدث عن الخطإ الفادح الذي يعتقد أصحابه بإمكان تجاوز الوضع الذي نعيشه في بضعة أشهر، وهو موقف يكشف عن عجز فاضح في ممارسة العمل الحكومي والسياسي. لقد تدخل وزير الإعلام وطلب من المحرر أن يتجنب في المستقبل كتابة مثل هذه المقالات. ومن السهل أن نتصور أن الكاتب ما كان ليغامر بالخوض في مثل هذه القضايا لو لم تكن لديه ضمانات قوية. «ثم بعد مضي أسبوعين إستأنف الرجل هجومه وكتب مقالا أشد عنفا من المقال الأول، وأنتم تعرفون الدعاية الواسعة التي استقبل بها ذلك المقال، خاصة في التلفزة وهو أمر لم يحدث قبل ذلك الوقت ولا بعده. والسبب في ذلك يعود إلى وجود صلات قوية بين مدير التلفزة، ومدير أسبوعية ألجيري والرئيس السابق لرابطة حقوق الإنسان الأستاذ ميلود الإبراهيمي، الذي يرتبط بوشائج القرابة العائلية مع مدير التلفزة. أما همزة الوصل بين هؤلاء فهي السيد محمد مقدم مسؤول قسم الإعلام والصحافة بالرئاسة. ولم يكن وزير الإعلام حاضرا بالعاصمة في ذلك اليوم، لذلك قام الأمين العام للوزارة بالتنسيق مع وزير الداخلية بتوجيه طلب إلى محرر المجلة يرجوان منه فيه أن يعيد صياغة النص مادام سينشره كافتتاحية، ومادامت الافتتاحية ملكا للدولة ومن حقها أن ترسم خطوطها وحدودها وقد طلب من السيد كمال بلقاسم أن ينشر مقاله في باب «الرأي الحر»، لكنه رفض هذا الاقتراح وصدرت المجلة بالافتتاحية المذكورة فحجزتها الوزارة». «وهناك أشخاص آخرون متورطون في هذه المناورة، بل هناك شخصيات كانت لها أطماع سياسية قبل أحداث أكتوبر، وجاءت هذه الأحداث تعاكس طموحاتها. وكانت هذه المجموعة تريد انتهاز مناسبة انعقاد المؤتمر السادس لجبهة التحرير الوطني للانتشار بعدة مواقع مهمة. وبعد تعيين حكومتي، عاشت هذه المجموعة فترة من الوقت مزعزعة، مضعضعة في حالة من الضياع لا تسمح لها بالقيام بأي رد فعل، ثم اعتقدت لاحقا أن اللحظة مواتية للانطلاق بمشروعها الرامي إلى خلخلة الحكومة وتغييرها من أجل العودة إلى الوراء، كما لو كانت أحداث الخامس من أكتوبر لم تحصل أصلا». وردا على سؤال وجهه إليه الصحفي حول الأشخاص الذين تتألف منهم هذه المجموعة، قال العقيد قاصدي مرباح : «من بين أفراد هذه المجموعة، السيد محمد مقدم مسؤول الإعلام والصحافة السابق في الرئاسة وكمال بلقاسم المدير السابق لأسبوعية ألجيري أكتياليتي، ثم عبد القادر الإبراهيمي المدير السابق للتلفزة، وقريبه الأستاذ ميلود الإبراهيمي الرئيس السابق لرابطة حقوق الإنسان، وعلى رأسهم شخصية لا أريد أن أذكرها بالإسم، رغم أنها أهم منهم جميعا. هؤلاء الأشخاص، هم الذين كانوا يقفون وراء العملية، وكانوا يأملون إثارة نزاع بين الرئيس ورئيس الحكومة لفرض إقالة هذا الأخير وتقديم مرشح فريقهم للوزارة الأولى. وقد لاحظنا أن بعض الصحفيين اتهموا عددا من هؤلاء الأشخاص بأنهم من حزب فرنسا. ولعل مغادرة محمد مقدم لإدارة الصحافة والإعلام في الرئاسة بعد ذهابي من الحكومة تؤشر إلى إدراك الدور السيئ الذي كان يقوم به وإلى تلاعبه بالصحافة لأسباب شخصية بدلا من القيام بدوره في خدمة الدولة. ثم إن الضجة التي أحاطت بمقال السيد كمال بلقاسم في مجلة ألجيري أكتياليتي والدعاية التي خصصت له من قبل التلفزة ثم من طرف رابطة حقوق الإنسان، ينبغي أن تقارن مع الصمت المطلق الذي صاحب اعتقال السيد راشدين مدير جريدة الجمهورية، وصحفيتَيْن عاملتين معه، وتقديمهم إلى المحاكمة. لم تتحدث التلفزة، بل لم تقل كلمة واحدة بشأن هذه القضية، مع أنها أكثر خطورة من الأخرى، ولم يصدر أي احتجاج في هذه المناسبة من رابطة الأستاذ ميلود الإبراهيمي للدفاع عن حقوق الإنسان». محاكمة السيد راشدين، مدير جريدة الجمهورية الصادرة بوهران، تمت في نفس الفترة، بعد نشر تحقيق صحفي يتصل بعائلة الرئيس الشاذلي بنجديد. وقد أُبعد مدير الجريدة من منصبه، وقدم إلى المحاكمة مع الصحفيتين اللتين كتبتا التحقيق. مجلة ألجيري-أكتياليتي (أحداث-الجزائر أو الجزائر-الأحداث Algérie-actualité) التي كانت في صلب هذا الصراع، عرفت في تلك الفترة بأنها مقربة من رئاسة الجمهورية، وتعبر عن خط الرئيس الشاذلي بنجديد، والشخصية السامية التي ألمح إليها العقيد قاصدي مرباح في حديثه واعتذر عن ذكرها بالاسم، لعلها أن تكون العميد العربي بلخير الأمين العام للرئاسة. وإجمالا، فإن هذه الوقائع توحي بأن الشاذلي بنجديد، قد يكون جاء بالعقيد قاصدي مرباح لاستهلاكه، وتمضية فترة من الوقت تسمح له بإبعاد الجيل القديم، للمجيء بفريق الإصلاحات المؤلف في غالبيته من الشبان التكنوقراطيين، وعلى رأسهم مولود حمروش. والسؤال هو : هل كان «استهلاك» العقيد قاصدي مرباح واردا منذ البداية، أم أنه برز كفكرة تالية لتعيينه في الوزارة الأولى؟ وبتعبير أقرب إلى الدقة : هل إن الشاذلي بنجديد، اختار العقيد قاصدي مرباح لحرقه والتخلص منه بسرعة، أم أنه بادر بإبعاده بعد أن اكتشف احتمال ظهوره كمحور منافس له على السلطة؟ في صيف ذلك العام ذهب الشاذلي بنجديد إلى بلغراد للمشاركة في مؤتمر عدم الانحياز بينما اختار وزيره الأول قاصدي مرباح، قضاء بضعة أسابيع للاستراحة في سويسرا. ولدى عودته من رحلته اليوغوسلافية، استقبل بنجديد وزيره الأول ودار بينهما حوار قصير وعاصف، نقلت لنا شخصية جزائرية مطلعة فحواه : لماذا ذهب عمال وموظفو الشركة الوطنية للتبغ والكبريت في إجازة؟ وكان جواب الوزير الأول على هذا السؤال الرئاسي : من أجل توفير الأجواء لإصلاح التجهيزات، خاصة وأن انطلاق الإنتاج لم يحصل في الوقت المحدد بسبب تأخر وصول التجهيزات. بتلك الجملة القصيرة كشف الوزير الأول عن واحدة من نقط الاختناق التي يعاني منها الاقتصاد الجزائري، وبذلك السؤال البسيط فجر الرئيس الشاذلي بنجديد الأزمة الوزارية الأولى في عهد الدستور الجديد، كانت الحالة الاجتماعية قد وصلت إلى درجة لا تطاق من التوتر، وكان الجزائريون المحرومون من أسباب الترفيه والراحة في الصيف بسبب غلاء المعيشة، وبسبب اكتظاظ الأماكن السياحية، وقلة التجهيزات، قد أصبحوا مُكرهين على اقتناء علبة السجائر المحلية، إن وجدت في السوق السوداء الموازية بثمن مائة دينار. وفي عز صيف الحرمان والحر والندرة، أمضى رئيس الحكومة وعدد من مساعديه ثلاثة أسابيع على ضفاف بحيرة ليمان، الأمر الذي اعتبره الرأي العام، إن لم نقل الرئيس الشاذلي بنجديد نفسه «تهاونا» خطيرا في تحمل المسؤولية. وفي تلك المقابلة العاصفة أخبر الشاذلي بنجديد وزيره الأول بأنه قرر الاستغناء عن خدماته. لكن قاصدي مرباح لم يأخذ المسألة مأخذ الجد، كما استنتجنا ذلك من حديثنا معه، بشأن هذه النقطة، ولعله تصور أن الرئيس غاضب عليه وما قاله له هفوة، وأن كلماته قد تكون تجاوزت فكره. وكان الانطباع الذي خرج به الوزير الأول من ذلك اللقاء، يدعوه إلى الميل للتفاؤل : «ربما فكر الرئيس في تعييني على رأس حكومة جديدة تقوم بترطيب الأجواء». - لكن قاصدي مرباح فوجئ بأن الشاذلي بنجديد لا يفكر في إسناد منصب الوزارة الأولى إليه، وإنما يريد أن يكلف بها مولود حمروش الأمين العام لرئاسة الجمهورية. وقد حاول الوزير الأول المبعد أن يستبق الأحداث فهتف إلى صحفي صديق يعرفه بدار الإذاعة والتلفزة وطلب منه أن يبعث إليه سيارة مجهزة للبث المباشر. وعلى الرغم من أن دار الإذاعة تقع على بعض خطوات من الوزارة الأولى، فقد انتظر قاصدي مرباح فترة وجدها طويلة، وفوجئ بمجيء صحفي عادي يحمل معه آلة تسجيل بسيطة. حصل ذلك لأن مدير التلفزة والإذاعة، كما ذكر لنا ذلك الزميل مهمة الوزير الأول. هكذا شهدت الجزائر لأول مرة في تاريخها أزمة مفتوحة بين الرئيس الشاذلي بنجديد وبين رئيس الحكومة. وقال هذا الأخير، في الخطاب الذي سجله إن الشاذلي بنجديد لم يبادر باختياره وإنما دفع إلى ذلك تحت ضغط الشعب. «حينما دعاني الشاذلي بنجديد بعد أحداث أكتوبر إلى رئاسة الحكومة تقبلت شروطه وأنا على علم كامل بأن مهمتي سوف تكون صعبة للغاية، كانت صناديق الدولة فارغة، وكان يتحتم علي أن أحصل على مبلغ ثمانمائة مليون دينار في ظرف شهر واحد... والذين قادوا البلاد إلى الخراب مازالوا في مواقعهم ولكنني أستطيع أن أقول إنه سيأتي يوم يدفعون فيه ثمن تصرفاتهم». في ذلك الخطاب انتقد الوزير الأول القرار الرئاسي وطعن في صبغته الدستورية، مشيرا إلى الطابع الغامض للمادة الرابعة والسبعين من الدستور، واستنجد بالبرلمان مؤكدا أن ملتمس رقابة أو حجب ثقة صادرة عنه هو وحده الذي يستطيع أن ينهي مهمة رئيس الحكومة». وحين قرر قاصدي مرباح مخاطبة الشعب ووصفه بأنه يعرف الذين يعملون بصدق لمصلحة الجميع، واللجوء إلى النواب والرأي العام لإنصافه من قرار يعتبره مجحفا، فإنه لم يكن يتصرف كرئيس للحكومة وإنما طرح نفسه بديلا للشاذلي بنجديد. إن هذا الرجل البالغ من العمر خمسين عاما، والذي جسد في عهد هواري بومدين سلطة الأمن العسكري الرهيب، تمكن خلال ممارسته لمسؤولياته الحكومية في الوزارات التقنية مثل الصناعة الثقيلة والصيد البحري والصحة والزراعة، من أن يعطي لنفسه صورة الرجل الكفء، العملي الفعال والدقيق في مواعيده. وكان قاصدي مرباح بحكم أقدميته في الجهاز الحكومي وبطبيعة المهمات التي أنيطت به يعرف دواليب الدولة معرفة جيدة، ولعله اعتقد لهذه الأسباب كلها وربما أيضا تحت تأثير كلام بعض أفراد حاشيته أن الدستور نفسه، مضافا إليه وجود برلمان تكون أغلبية أعضائه معارضة قوية للرئيس كل ذلك يسمح له بأن يطمح إلى خلافة الشاذلي بنجديد. وبديهي أن هذا الطموح المفترض، أو الحقيقي، لم يكن يتطابق تماما مع الصورة التي كان الشاذلي بنجديد الجديد، يريدها من وزيره الأول في تلك الفترة. وهذا ما فسره لنا أحد أعضاء اللجنة المركزية بقوله : «كان هناك سوء تفاهم منذ البداية. الشاذلي عين قاصدي مرباح بالوزارة الأولى لمرحلة انتقالية من أجل إنجاز ثلاث مهمات : الأولى الاستمرار في تطبيق الإصلاحات الهيكلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والثانية معالجة الأزمة الظرفية بسرعة وفعالية والثالثة كسب ثقة الحرس القديم في الجيش والحزب. وجاء سوء التفاهم من كون الوزير الأول شرع منذ الأيام الأولى يتصرف وكأنه السلطة الوحيدة الحقيقية وربما شجعه على ذلك كون الرئيس، قَبِل التنازل منذ اليوم الأول الذي تشكلت فيه الحكومة عن وزارات إستراتيجية مثل الداخلية والخارجية والإعلام والتجارة. لم تكن حكومة قاصدي مرباح تتوفر على من يمكن أن نسميهم «رجال الرئيس»، وإنما كانت منسجمة كل الانسجام ومنبثقة في غالبيتها من أعضاء سابقين في أجهزة الأمن العسكري والاستخبارات. لكن سرعان ما تألفت «حكومة ظل» موازية لها في رئاسة الجمهورية، تحت إشراف مولود حمروش الأمين العام للرئاسة. وقد نشبت الصراعات منذ الأيام الأولى حول تعيين الولاة، والمدراء العامين وبعض السفراء وأيضا حول إعداد مؤتمر الحزب، وأصبح التوتر القائم بين الرئاسة والوزارة الأولى شيئا معروفا وملموسا لدى الدوائر المطلعة في الحزب والدولة». «ورافق هذا النزاع الغامض الذي كان يدور داخل الغرف الرسمية المغلقة ظهور عدة فضائح عقارية وتجارية لا علاقة لها بما يجري في القمة ولكن الرأي العام الشعبي كان يفسرها بأنها نتيجة لسياسة الدولة والحزب. لقد تظاهر المواطنون بمدينة سوق أهراس (قرب الحدود التونسية) واصطدموا مع قوات الأمن احتجاجا على الأسلوب الذي اتبعته الولاية والبلدية في توزيع المساكن. وكشفت الصحف النقاب عن فضائح كثيرة من جملتها فضيحة السكر المعروفة. وفي يوم من الأيام، تدخل الشاذلي بنجديد شخصيا خلال أحد الاجتماعات الحكومية ووجه إنذاراً قويا ضد الذين يتماطلون في تطبيق الاصلاحات. وكان الوزير الأول طوال هذه الفترة، يقوم بمراجعة الوضع السائد في كافة القطاعات ويقدم الأرقام والإحصائيات للرد على منتقديه. وفي أحد التحقيقات الصحفية التي بثتها التلفزة عن حركة «التراباندو» اختتم الصحفي تعليقة بجملة صار يضرب بها المثل : «الأرقام والإحصائيات لا تؤكل». وعندما بادر مجلس النواب بإدخال تعديلات على القانون الانتخابي وقانون الإعلام، رد الشاذلي بنجديد علنا بأنه عازم على متابعة الإصلاحات وقال إنه سوف يقدم القوانين إلى المجلس الدستوري ويؤجل الانتخابات البلدية لتتمكن كافة الأحزاب الجديدة من المشاركة فيها». وأضاف عضو اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، يقول في حديثه إلينا عن تلك الأزمة التي نشبت بين الرئيس ووزيره الأول : «تلك المقابلة العاصفة التي أبلغ فيها الرئيس الشاذلي بنجديد إلى السيد قاصدي مرباح استغناءه عنه كوزير أول، وحركة التمرد التي واجه بها هذا الأخير القرار الرئاسي، هي الأحداث المعروفة، ولكنها ليست سوى الجانب الظاهر من الأزمة». هل أراد قاصدي مرباح فعلا أن يرفض الخروج من الوزارة الأولى؟ يجيب الرجل نفسه على هذا السؤال بقوله : «أنا لم أرفض الذهاب، وإنما أثرت إشكالية سياسة تطرحها المادة الرابعة والسبعون من الدستور والتي كنت أعتقد ومازلت أعتقد بضرورة تدقيقها وتوضيحها. تشير هذه المادة إلى أن الرئيس يعين رئيس الحكومة ويضع حدا لمهماته، وهناك مواد أخرى تتحدث عن مثول الوزير الأول أمام مجلس النواب وتتحدث عن تشكيل الفريق الحكومي وتعيينه، كل هذه الأمور واضحة. أما فيما يتعلق بذهاب رئيس الحكومة فهناك المادة الرابعة والسبعون ولاشيء سواها. وفي فرنسا مثلا يوجد نفس الترتيب، وفي عهد الجنرال ديغول كلف الوزير الأول جورج بومبيدو بتنظيم انتخابات انبثقت عنها أغلبية موالية له. وكان من الممكن لو أن ديغول أصر على استقالة وزيره الأول أن يطالب هذا الأخير بحقه في المثول أمام مجلس النواب، وكان مجلس النواب كما قلنا مواليا لبومبيدو، الأمر الذي لابد أن يخلق مشكلة لديغول. وتلافيا لمثل هذه المشاكل طلب ديغول من وزيره الأول رسالة موقعة وغير مؤرخة تتضمن استقالته. أما أنا فقد اكتفيت بالمطالبة بتوضيح هذه النقطة في الدستور وأظن أنه وقع تفسير خاطئ لكلمة قلتها في هذه المناسبة. فقد سألني أحد الصحفيين حول ما أريد أن أفعله في المستقبل فكان جوابي له : «هنا يموت قاسي»، وكنت أقصد من هذا الجواب أنني سوف أبقى في بلدي وليس في نيتي أن أغادره، وأريد أن أعود إلى المادة الرابعة والسبعين لأضيف أن السيد بوعلام بن حمودة (وزير المالية السابق وعضو اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني) اعتبر موقفي على صواب. كما أن الرئيس الشاذلي بنجديد في الندوة الصحفية التي عقدها بعد مضي ستة أشهر على هذا الحدث وافق ضمنا على موقفي حين ذكر أن الحكومة الحالية ّإذا كان عليها أن تترك المسؤولية فلابد أن تمر أمام البرلمان. ومن الطبيعي أن تبرز مثل هذه المشاكل مادمنا نعيش في ظل دستور جديد لم نتعود عليه تعودا كافيا - المصدر : (مجلة ألجيري-أكتياليتي عدد 19-25 يوليوز 1990). الجزائر في مفترق الطرق - مشاهدات ومسموعات 11 - (الحلقة الثانية والأخيرة) كيف عاد القدماء إلى الحزب هناك لحظات سياسية درامية عرفتها الجزائر خلال الشهور الأخيرة من العام الماضي وأثناء النصف الأول من هذا العام، خيل للمراقبين السياسيين وهم يتابعون مقدماتها ونتائجها أنها ستشكل بداية النهاية للرئيس الشاذلي بنجديد. وقد تعرضنا في المقال الأول من هذا القسم المخصص لرسم شخصية خليفة هواري بومدين، ثم في الحلقة الأولى الماضية من هذا المقال الثاني إلى المحطات الكبرى في مسيرة الرجل. اللحظة الدرامية الأولى التي جاءت بعد إقامة حكومة قاصدي مرباح كانت المؤتمر الإستثنائي لحزب جبهة التحرير الوطني، وقد تميز ذلك المؤتمر بعودة الرموز التي أطلقت عليها الصحافة صفة «العناصر البومدينية»، أو «الدناصير» حسب تعبير صحيفة جزائرية. ويتعلق الأمر هنا بمجموعة من الشخصيات التي سبق لها أن تحملت مسؤوليات داخل الدولة وفي قيادة الحزب، أثناء عهد الرئيس الراحل هواري بومدين أو في بداية وحتى نهاية المرحلة الأولى من تجربة الشاذلي بنجديد. ومن أبرز هذه الرموز التي سال حبر غزير بشأن عودتها إلى المسرح السياسي، السادة عبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية السابق، ومحمد الصالح اليحياوي مسؤول الحزب السابق والعقيد الطاهر الزبيري رئيس هيئة الأركان السابق، والعقيد أحمد بن الشريف مدير الدرك الوطني سابقا، ومحمد الشريف مساعدية مسؤول الحزب السابق والدكتور أحمد طالب الابراهيمي وزير الخارجية السابق والبشير بومعزة وزير الإقتصاد السابق، وعبد السلام بلعيد وزير الطاقة، وعبد الله بلهوشات رئيس الأركان السابق. إنها لائحة مثيرة من الأسماء والمناصب جعلت بعض المراقبين يستخلصون من عودتهم دفعة واحدة إلى اللجنة المركزية للحزب الحاكم، أن أيام الشاذلي بنجديد أصبحت معدودة. والحقيقة كما ستكشف الأيام والتطورات اللاحقة، أن هذه العودة، وسعت في النهاية مجال التناور، أمام خليفة هواري بومدين، ومنحته سلاحا استعمله بذكاء، لإعادة ترتيب خريطة القوى السياسية، فوق مجمل الساحة الجزائرية. أما الحقيقة الأخرى التي لم ينتبه إليها المراقبون فهي أن الحزازات والحساسيات الشخصية والعُقد والحسابات القائمة بين مختلف هذه الرموز، أقوى وأعمق وأكثر تعقيدا من القواسم أو الجوامع المشتركة بينها والتي تمكنت من أن تشكل معارضة حقيقية داخل الحزب الحاكم تهدد الشاذلي بنجديد أو تستطيع أن تقدم بديلا يملك بعض المصداقية لتغيير السلطة. والمعلومات والأحكام الواردة في كتاب عبد السلام بلعيد : «التاريخ والمصادفة» الذي استشهدنا به أكثر من مرة في هذه المقالات، ترسم عن هذه الشخصيات صورة تؤكد وجود طموحات وتصورات متضاربة فيما بين أفرادها. حقا إن أغلب هذه الشخصيات وقعت ما عرف ببيان الثمانية عشر، مباشرة بعد خريف الغضب الجزائري طالبت فيه الشاذلي بنجديد بتأجيل عقد مؤتمر الحزب، وبالدعوة إلى ندوة وطنية لكوادر الثورة وقياداتها من أجل معالجة الأزمة. وقد رفض بنجديد هذا المقترح، وكان لابد من وجود شخصية دبلوماسية من وزن السيد عبد الحميد المهري على رأس الحزب، وكان لابد بعد ذلك من بذل جهود مضنية لعقد ندوة الإطارات الوطنية تمهيدا للمؤتمر الإستثنائي. ولكن الشاذلي بنجديد أصر في هذه المناسبة على أن تكون «عودة» القادة القدامى من خلاله هو شخصيا. لقد جرى الإتفاق مبدئيا على أن تقوم القواعد بانتخاب المؤتمرين. وبالفعل بادرت عدة ولايات باختيار هؤلاء «العائدين» ليكونوا ضمن ممثليها إلى مؤتمر الحزب. وأثبت هذا الإختيار أن السيد محمد الصالح اليحياوي مسؤول الحزب في عهد هواري بومدين، والمدير السابق لأكاديمية شرشال العسكرية، كان في طليعة الرموز التاريخية التي حافظت على شعبية واسعة داخل قواعد الحزب، يأتي بعده العقيد الطاهر الزبيري والسيد عبد العزيز بوتفليقة. وكان من المفروض أن يأتي «البومدينيون» إلى المؤتمر باسم القاعدة، إلا أن الشاذلي بنجديدأصر على إدراجهم ضمن حصته، وكان هناك ترتيب متفق عليه يسمح للرئيس بأن يرشح عددا معينا من الأشخاص لعضوية اللجنة المركزية. وقد استعمل بنجديد هذه الصلاحية المخولة له، لإدخال من يُفترض أنهم خصومه السياسيون إلى قيادة الحزب الحاكم، كانت لعبة ذكية تركت الإنطباع لدى المناضلين القاعديين الذين لا يعرفون خلفيات الصراع، بأن الرئيس لا يريد أن يفرط في أحد أو يحرمه من حقوقه. مع عودة الذين أطلقت عليهم الصحافة الفرنسية صفة «المخضرمين» و«الدناصير» إلى عضوية اللجنة المركزية، بدأت التخمينات والتحليلات عن «الضربة» القادمة التي سيقومون بها لتغيير الوضع. وجاءت الخطابات التي أُلقيت في مؤتمر الحزب الإستثنائي تصب الماء في طاحونة المتشائمين حول مصير الشاذلي بنجديد. لقد تضمنت تلك الخطابات نقدا عنيفا للأوضاع، أعطى للمراقبين صورة خاطئة عن توازن القوى داخل السلطة. وشملت توجيه ملامات ومعاتبات قوية ضد الرئيس وحاشيته. وألقى الشاذلي بنجديد خطابا في المؤتمر ألح فيه على ضرورة تطبيق الإصلاحات وفتح أبواب الحزب على مصاريعها أمام الأجيال الصاعدة. لقد تم التمهيد للمؤتمر الإستثنائي بعقد ندوة إطارات الثورة في شهر ديسمبر 1989، وهي اجتماع استطاع الأستاذ عبد الحميد المهري بدبلوماسيته، وحنكته وبرودة أعصابه أن يقنع غالبية القادة القدامى بحضوره. القادة الوحيدون الذين لم توجه إليهم الدعوة إلى هذه المناسبة، هم السادة أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف لسبب بسيط، وجيه، معقول، ومقبول، هو أنهم أصبحوا زعماء لأحزاب سياسية ذات برامج وأفكار محددة. أما الآخرون، أي الذين انسحبوا أو سحبوا، استقالوا أو أقيلوا من العمل السياسي، وبقوا على الهامش يمارسون السياسة أو الأعمال الحرة، أو لا يمارسونها، فقد وجهت إليهم الدعوة، ولم ترفض الحضور من بينهم إلا أقلية قليلة. لم تكن فكرة هذه الندوة لتنجح لولا مثابرة عبد الحميد المهري على متابعتها ولولا أنه وضع ثقله المعنوي واستخدم قدرته الإقناعية ليقبلها منه الرئيس والآخرون. وفي تلك الندوة الوطنية التمهيدية للمؤتمر الإستثنائي، تكلم المتدخلون بحرية وبدا أن عبد الحميد المهري قد نجح في إعادة الجميع إلى العمل في إطار الحزب الحاكم وأنه جنب جبهة التحرير الوطني انقسامات كان يمكن أن تنهي ما تبقى بها. وخلال المؤتمر الإستثنائي الذي انعقد في الأيام الثلاثة الأخيرة من شهر نوفمبر، كانت أبرز الظواهر التي سجلها المراقبون هي ظاهرة حرية التعبير المطلق الذي تميزت بها المداولات. لقد بدا لأول وهلة أن الشاذلي بنجديدفقد سيطرته الكاملة على الحزب الحاكم، وبرزت أصوات تطالب صراحة باستقالته،ولكنه أيضا اكتسب مصداقية أو صدقية ديمقراطية، كان يفتقر إليها. في الندوة الوطنية لإطارات الثورة وفي المؤتمر الإستثنائي لحزب جبهة التحرير الوطني الذي جاء بعدها، حقق الشاذلي بنجديد، عن طريق مهارة عبد الحميد المهري ودبلوماسيته أشياء كثيرة وبضربة واحدة، طغت عليها عودة الرموز التاريخية، وأعمت أبصار المراقبين عن رؤيتها. لقد ظهر بأنه الرجل الحريص على وحدة الحزب، المنفتح حتى لخصومه السياسيين، المتسامح معهم بلا حدود، كما ظهر أنه المدافع الأول عن الإصلاحات، وبرز الآخرون وكأنهم خصومها. حقا إن المعارضين شككوا في الأسلوب الديمقراطي الذي تم به تحضير المؤتمر الإستثنائي، وقالوا إن أعدادا كثيرة من الذين شاركوا فيه جاءوا عن طريق الأجهزة لخلق أغلبية مصطنعة للتصفيق والموافقة برفع الأيدي على كل ما يقدم من طرف قيادة الحزب. وسوف تحتل مسألة الديمقراطية هذه حيزا كبيرا من وقت الإجتماع الأول الذي عقدته اللجنة المركزية المنبثقة عن المؤتمر الإستثنائي لانتخاب أعضاء المكتب السياسي الجديد. سمعنا من أعضاء اللجنة المركزية الموالين والمعارضين روايات كثيرة عن الطبخة التي خرج منها المكتب السياسي الجديد. وقال لنا أكثر من واحد من الذين تحدثنا إليهم في هذا الموضوع، أن الرئيس الشاذلي بنجديد، كان جالسا في المنصة وأخرج من جيبه لائحة بأسماء أعضاء المكتب السياسي وطلب من السيد عبد الحميد المهري أن يقرأها وطلب الموافقة عليها، برفع الأيدي، دون أن يتيح الفرصة لانتخاب ديمقراطي حقيقي بواسطة الإقتراع السري. وسمعنا رواية أخرى تقول إن اللائحة التي قدمها الرئيس، كانت الوحيدة، أي أنه لم تتقدم لائحة مضادة ومنافسة لها، وأنها فازت بالأغلبية. وسمعنا رواية ثالثة تقول إن بعض أعضاء اللجنة المركزية طالبوا بحرية الترشيح ولم يُسمع رأيهم وأن الرئيس نهض مباشرة، بعد أن صفقت «الأغلبية لقائمته» وانسحب من القاعة. وسمعنا رواية رابعة تؤكد أنه لايوجد محضر جلسة للحظة التصويت يمكن أن يعرف منه عدد المصوتين مع وضد وأن العملية كلها طبخة مبيتة ولا علاقة لها بالديمقراطية.. وإجمالا سمعنا من يطعن في الأسلوب الذي التجأ إليه الشاذلي بنجديد لاختيار أعضاء المكتب السياسي، وسمعنا من يدافع عنه ويزكيه. وحين انعقدت اللجنة المركزية في دورتها الإستثنائية التالية -شهر مارس- طغت مشكلة الديمقراطية وطريقة اختيار المكتب السياسي في الإجتماع السابق على جانب كبير من مداولاتها. وقد تميز ذلك الإجتماع بحدث هام، هو غياب الرئيس الشاذلي بنجديد عن المداولات. وكان ذلك الغياب مؤشرا آخر إلى أن الرجل بدأ يبني لنفسه صورة مختلفة عن الصورة السابقة المألوفة. كان ذلك الغياب الذي لم يفهمه المناضلون ولا المسؤولون على حقيقته في تلك الفترة، بداية فعلية لفك الإرتباط بين الرئيس والحزب الحاكم. وكان الأمر الملفت للإنتباه أن الشاذلي بنجديد، قد مهد لذلك الغياب باستقبال عدد من الشخصيات والرموز المنتمية إلى حزب جبهة التحرير الوطني، وأيضا باستقبال زعماء الأحزاب السياسية الجديدة. لقد أجرى الرئيس مباحثات مع كل رموز المعارضة داخل اللجنة المركزية من أمثال عبد العزيز بوتفليقة، محمد الصالح اليحياوي، عبد السلام بلعيد، أحمد طالب الابراهيمي، محمد الشريف مساعدية والعقيد الطاهر الزبيري، وطلب منهم أن يقدموا إليه آراءهم حول جملة من القضايا تتعلق بوضع الحزب والإصلاحات، وسياسة الحكومة التي يقودها مولود حمروش ومشكلة الرئيس السابق أحمد بن بلة. ثم استقبل في نفس الفترة كلا من عباسي مدني زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ وحسين آيت أحمد زعيم جبهة القوى الإشتراكية وسعيد سعدي زعيم حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وآخرين. وكانت تلك الإستقبالات الرئاسية التي أعلنتها الصحافة الجزائرية في حينها ظاهرة جديدة في السياسة الجزائرية تلقي أضواء جديدة على جانب غير مألوف في سلوك بدأت ملامحه تتشكل ببطء وينم عن بداية مرحلة جديدة في حياة ذلك الرجل الذي وضعته الظروف والملابسات والأقدار على رأس الدولة الجزائرية. وكان ذلك الغياب الملحوظ عن الدورة الإستثنائية الأولى التي تعقدها اللجنة المركزية بعد المؤتمر الإستثنائي بداية لسلسلة من الغيابات التي أصبحت المادة المفضلة في أحاديث الدوائر السياسية والإعلامية، خلال هذا الصيف. فقد تغيب الشاذلي بنجديد عن الأنظار في في فترات كان يُفترض فيها منه أن يظهر وأن يتكلم وأن يحضر للتأثير على مجرى الأحداث. لقد غاب مثلا في فترة المسيرات التي شهدتها البلاد خلال شهري أبريل ومايو، وغاب عن الأنظار أثناء الحملة الإنتخابية وبعدها، واختار اليوم الذي بدأت فيه اللجنة المركزية أشغال دورتها الأخيرة، أي الأولى بعد هزيمة جبهة التحرير الوطني أمام الجبهة الإسلامية للإنقاذ، اختار ذلك اليوم بالضبط ليسافر إلى أديس أبابا من أجل المشاركة في مؤتمر عادي لمنظمة الوحدة الإفريقية. حقا إنه ظهر ثلاث مرات على الشاشة خلال تلك المدة الطويلة ظهورا له دلالة سياسية واضحة. في المرة الأولى، خلال شهر أبريل، استقبل مجموعة مختارة من الصحفيين الجزائريين أجاب على أسئلتهم، ولمح إلى إمكانية التعايش بينه وبين الجبهة الإسلامية للإنقاذ في نطاق وضع تكون فيه الأغلبية البرلمانية غير متطابقة مع الأغلبية الرئاسية. وظهر للمرة الثانية، حين ألقى خطابا قصيرا أمام ندوة عُقدت حول مستقبل الإسلام، وقال فيما قاله كلاما اعتبر ردا مباشرا على تصريح كان الرئيس السابق أحمد بن بلة أدلى به إلى مجلة فرنسية وعبر فيه عن تخوفه من وقوع تجربة رومانية في الجزائر، ثم ظهر للمرة الثالثة في نهاية شهر مايو حين قام برحلة مفاجئة إلى الشمال والشرق رافقه فيها عدد كبير من الضباط، واستعرض أثناءها فرقة مدرعة في الأوراس، وقال أثناءها كلاما رد فيه بصورة مباشرة على إشاعات قوية انتشرت آنذاك عن هجوم قام به عدد من الضباط على أحد مساكنه الصيفية بالقرب من العاصمة. وإجمالا كان الشاذلي بنجديد طوال النصف الأول من السنة الجارية الحاضر الغائب، وإن كان غيابه أكثر من حضوره، وكانت التصريحات النادرة التي تصدر عنه تفسر كدليل على ضعفه وهشاشة وضعه. وعندما انهزمت جبهة التحرير الوطني في الإنتخابات البلدية والولائية الأخيرة بدأ الناس يتساءلون عن انعكاسات هذه الهزيمة على مستقبل النظام، ثم أخذوا فيما بعد ذلك يتساءلون عن حقيقة العلاقة القائمة بين الشاذلي بنجديد وبين الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وكان السؤال الأول الذي يرد على ألسنة المراقبين هو : متى تعقد اللجنة المركزية دورتها الجديدة وهل يحضرها الشاذلي بنجديد؟ ومن الناحية التنظيمية، لا يزال الشاذلي بنجديد رئيسا لجبهة التحرير الوطني لكن النظام الداخلي المعدِّل للحزب الحاكم، يفرض عليه فقط حضور الدورة الأولى التي تعقد مباشرة بعد المؤتمر ويترك له حرية التصرف، أي الحضور أو الغياب بالنسبة للدورات اللاحقة العادية أو الإستثنائية. كان جميع المراقبين يرون أن الشاذلي بنجديد سيشارك في الدورة التي ستعقد مباشرة بعد الإنتخابات الخاصة وأنه لابد أن يتحمل نصيبا من المسؤولية فيما حدث، ولابد أن يقدم بعض الحساب أمام أعضاء المرجع الأعلى في حزب تقدم باسمه للرئاسة وما يزال يحكم باسمه أيضا. وكانت هناك عدد من المؤشرات تؤكد أن هذه الدورة سوف تكون ساخنة، صاخبة، عاصفة وتجري فيها محاكمة الرئيس وحكومة مولود حمروش على الهزيمة الإنتخابية، التي لا يتردد عدد مهم من أعضاء اللجنة المركزية في القول بأنها كانت من صنع الإدارة. وظهرت مؤشرات أخرى تعطي لمثل هذا التفسير ضربا من المصداقية. هكذا بدأ الإمام الشاب علي بلحاج، النجم الثاني في قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والذي سبق له أن قال ضمن خُطبه ومواعظه السياسية بمساجد العاصمة، ما لم يقله مالك بن أنس في الخمرة وشاربها، في نظام الشاذلي بنجديد، بدأ يشيد به ويمجده في مجالسه الخاصة، فيما توقف عباسي مدني زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ عن الإنتقادات والمآخذ التي كان يوجهها للنظام ووجه الشكر والإمتنان علنا إلى وزير الداخلية على حياد الإدارة، وأخذ يتحدث عن الشاذلي بنجديد كرئيس لجميع الجزائريين. وأثناء مقابلة أجريناها معه قبيل الإنتخابات البلدية والولائية بأيام، أكد لنا عباسي مدني أن المجلس لابد أن يحل، لكننا لم نستطع أن نفهم منه ما إذا كان هذا اليقين الذي يعلن عنه حول هذه النقطة نتيجة لاتفاق والتزام قطعهما الشاذلي بنجديد على نفسه وتعهد بهما، أم أنه ثمرة لموقف سياسي خاص. وقد أكد لنا العميد العربي بلخير الأمين العام لرئاسة الجمهورية خلال لقاء حصل في الفترة إياها أيضا أن احتمال حل مجلس النواب وارد ولكنه لن يحصل في كل الأحوال مباشرة بعد الإنتخابات البلدية والولائية، وإنما لابد من مرور فترة من الوقت، تأخذ فيها الأمور مسارا جديدا. وقعت الانتخابات البلدية والولائية في الثاني عشر من يونيو، وازدادت لهفة الرأي العام إلى معرفة رأي رئيس الدولة بالنسبة لمصير المجلس الوطني الشعبي. وبقي الشاذلي بنجديد صامتا ثم أوحى إلى وزيره الأول بأن يقول في الندوة الصحفية الأولى التي عقدها بعد مضي ثلاثة أسابيع على تلك التجربة الديمقراطية الأولى، بأن المجلس لن يُحل مباشرة. هكذا استمر الشاذلي بنجديد في ممارسة لعبة التوازن والتأرجح، وفهم الناس كلام الوزير الأول بأنه نوع من إبقاء سيف الحل مرفوعا، ولو كان في الغمد فوق رؤوس النواب. لقد قال مولود حمروش بأن المجلس لن يحل مباشرة، ولكنه لم يقل بأن النواب الحاليين سوف يكملون ولايتهم التشريعية. وبموازاة هذا التهديد المبطن بالحل وتأجيله في نفس الوقت قامت الحكومة برفع مستوى التعويضات المخصصة لأعضاء مجلس النواب، وحصلت منهم على تصويت إيجابي بشأن القانون الخاص بالعملة والقرض، علما بأن هؤلاء النواب كانوا رفضوا قبل بضعة أشهر قانونا آخر حول الشركات المختلطة بحجة ضرورة التنصيص على أن تملك الجزائر فيها على الأقل نسبة 51 في المائة. وكان واضحا من أن الغرض المقصود من عملية الترغيب والترهيب هذه هو ترويض مجلس النواب وترويض أعضاء اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني الذين كانوا يستعدون لإجراء مداولات صريحة حول كل هذه القضايا، وكانت توجد من بينهم أغلبية مناوئة لحل المجلس. وحين قام الرئيس بنجديد بهذه المبادرة عبر وزيره الأول، فإنما أراد أن يضع نفسه في موقع المهاجم ويؤكد للجميع أنه يشعر بقوة كافية تمكنه من اتخاذ القرارات الحاسمة من دون أن يتأثر بضغوط أعضاء اللجنة المركزية وحتى من دون أن يأخذها في الحساب. وكان اختيار مولود حمروش لكشف هذا الجانب من الخطة الرئاسية، يعني أن الوزير الأول لا يزال يتمتع بثقة الرئيس، وأنه هو الرجل الثاني في الدولة، وأن هذه الأخيرة لها الأولوية على الحزب. كان ذلك التفويض الرئاسي للوزير الأول، ضربا من نفي شائعات قوية راجت في العاصمة آنذاك حول اقتراب تعديل وزاري. ومن المنطقي أن يكون مصير حكومة مولود حمروش مرهونا بمستقبل مجلس النواب الذي وافق على برنامج الحكومة الحالية. ولو أن الشاذلي بنجديد قرر أن يستكمل النواب الحاليون فترتهم التشريعية لامتلكت الحكومة مجالا أوسع من حرية المناورة والتصرف والحركة. لكنه فضل في تلك الأيام السابقة لاجتماع اللجنة المركزية، أن يترك الإلتباس قائما حول تاريخ حل المجلس. وإذا كان بنجديد قد عزز موقع رئيس الحكومة في تلك الأيام السابقة لاجتماع اللجنة المركزية حين أوكل إليه مهمة الإعلان عن عدم الحل المباشر، فإنه قد أضعف بالمقابل موقف الحكومة التي بات واضحا أنها لن تستمر ثلاث سنوات، أي أنها لن تبقى في السلطة تلك المدة الكافية التي كان مولود حمروش يطالب بها لإتمام إصلاحاته. وحين انعقدت اللجنة المركزية في دورتها العادية الجديدة، كانت المفاجأة الكبرى هي غياب الشاذلي بنجديد الذي اختار أن يطير صباح ذلك اليوم إلى العاصمة الإثيوبية للمشاركة في اجتماع مؤتمر القمة السادس والعشرين لمنظمة الوحدة الإفريقية. وقد تباينت التفسيرات والتأويلات والمواقف من هذه المبادرة. وهكذا فإن المعارضين داخل اللجنة المركزية لا يترددون في استعمال كلمات «الخيانة والهروب أمام المسؤولية أو التهرب منها واحتقار المؤسسة الحزبية». أما الموالون للرئيس فقد حاولوا أن يفسروا رحلته بأهمية ذلك اللقاء الإفريقي. لكن هذا التفسير لم يُقنع أحدا، لأنه لا يصمد لحد أدنى من التحليل المنطقي البسيط. ولو أن الرئيس كان حريصا على المشاركة في اجتماع اللجنة المركزية، وفي مؤتمر القمة الإفريقي، لكان طلب تقديم اجتماع هذا الجهاز الحزبي، أو تأجيله ببضعة أيام ليتمكن من التوفيق بين الموعدين، ولا شك أنه لو أراد التأجيل أو التأخير، لتمكن منه بسهولة. ولكن لنفرض ان الشاذلي بنجديد، كان مضطرا لهذا السبب أو ذاك، إلى التضحية بموعد من الموعدين على حساب الآخر، فلابد أن يكون الإختيار العملي أتى نتيجة لخطة مسبقة. أما القول بأن اجتماع أديس أبابا كان مهما لهذه الدرجة، فهو أمر يحمل كثيرا من المبالغة والإسراف في التأويل. وبينما كان أعضاء اللجنة المركزية يضربون أخماسا في أسداس لمحاولة استكناه دلالات السلوك الرئاسي، جاءت الضربة المسرحية الثانية التي تمثلت في إعلان السيد مولود حمروش عن رغبته في أن تسمح له اللجنة المركزية بأن يخرج من المكتب السياسي هو والوزراء الآخرون الأعضاء في حكومته. وكانت الإجتماعات قد بدأت تتخذ منحى خطيراً ضد الرئيس الشاذلي بنجديد وضد الأمين العام للجبهة السيد عبد الحميد المهري. لقد انصبت مداخلات الأعضاء حول أسباب غياب الرئيس، وحول مسؤولية الأمين العام فيما حدث من تراجع للجبهة أثناء الإنتخابات البلدية والولائية، وكان الجميع يتوقعون أن يتولى رئيس الحكومة، مثل ما فعل خلال الدورة الإستثنائية السابقة، الدفاع عن سياسة الدولة في غياب الرئيس. لكن مولود حمروش ألقى قنبلة خروجه وخروج أعضاء الحكومة من المكتب السياسي في اليوم الثاني من الإجتماعات وغير المناخ الذي كان سائدا تغييرا كاملا. مبادرة الوزير الأول، في غياب الرئيس أثارت فضول أعضاء اللجنة المركزية وتساؤلاتهم لماذا لم يستقل رئيس الحكومة وحده من المكتب السياسي؟ ما هو الغرض الحقيقي من هذه الإستقالة الجماعية؟ لماذا اختار الوزير الأول الإنسحاب من المكتب السياسي بعد الإنتخابات وليس قبلها؟ ما علاقة هذه الإستقالة بإستراتيجية الشاذلي بنجديد؟ هل هي محاولة للتنصل من المسؤولية؟ هل هي محاولة لتجنب المحاسبة؟ هل هي مؤشر إلى وجود تفاهم غير معلن مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ؟ وأسئلة أخرى يجيب عليها المتسائلون انطلاقا من مواقعهم واختياراتهم وتحالفاتهم فوق خريطة الصراعات الدائرة داخل حزب جبهة التحرير الوطني، وأحيانا انطلاقا من انعدام المعطيات والمعلومات التي تسمح بتقديم شرح معقول لهذا التصرف. ويلاحظ الموالون لرئيس الحكومة أن هذا الأخير، حاول في اجتماعات الدورة الإستثنائية للجنة المركزية التي انعقدت قبل الإنتخابات أن يرد التهم التي وُجهت إلى حكومته من طرف بعض الأعضاء حول عدم تمثيلها للجبهة، كما يلاحظون أنه «هُمِّشَ» من طرف الجهاز الحزبي، واتخذ مبادرة شخصية بتنظيم مهرجان انتخابي في عنابة، لشرح سياسة الحزب الحاكم. أما المعارضون فيرون أن الوزير الأول أراد من خلال مبادرته تلك أن يستبق المحاسبة العسيرة التي بدأت القواعد الحزبية تطالب بها بعد الهزيمة الأخيرة. التفسير الرسمي الذي قدمه مولود حمروش لاستقالته واستقالة وزرائه من المكتب السياسي، يتلخص في أن حكومته مقبلة على اتخاذ قرارات صعبة في الشهور المقبلة وسوف يكون عملها أكثر فعالية إذا ما شعرت بأنها حرة من كل قيد والتزام، خاصة وأنها في هذه الحالة لا تُحمل مسؤولية سياستها للحزب الذي يستطيع أن يعلن تميزه الواضح عنها. وهذا التفسير منطقي ومعقول في الظاهر، لكنه لا يغير شيئا كبيرا في وضع الحكومة والحزب، وفي نظر رجل الشارع. وإذا كانت أسباب هذا الانسحاب لا تزال مجهولة، فإن اختيار لحظة إعلانه قد سمح بنسيان غياب الرئيس أو ب«تغييب غياب الرئيس» إذا جاز مثل هذا التعبير. كما أنه أتاح للراغبين في ذلك من المسؤولين، عدم الخوض في مسؤوليات هزيمة الثاني عشر من يونيو، وسلط الأضواء على إشكالية تجديد المكتب السياسي. وإذا كان أثر التمويه قد حصل بالطريقة التي حصل بها وترك مفعوله القوي والمباشر في النفوس، فإنه لم يكن فيما يبدو الهدف الوحيد لتلك الضربة المسرحية السياسية الموفقة. والذي لا شك فيه هو أن غياب الرئيس وخروج الوزير الأول وأعضاء الحكومة من المكتب السياسي، يشكلان عنصرين جديدين ضمن استراتيجية جديدة مشتركة تتضح ملامحها تباعا وبالتدريج، مع وضع أدوات تنفيذها موضع الاختبار. وقد استطاع مولود حمروش، من خلال تلك المبادرة التي لا يشك أحد في أنها حظيت بالموافقة الرئاسية أن يحقق عدة أهداف فورية. لقد تمكن الوزير الأول من إطفاء نيران الحملة الموجهة ضد رئيس الدولة، وتمكن من تركيز الاهتمام حول شخصه وبالتالي تخفيف الضغط الموجه ضد الأستاذ عبد الحميد المهري الأمين العام للحزب، وتمكن من استصدار بيان مساندة لسياسته الإصلاحية من طرف اللجنة المركزية، وأخيرا تمكن من تعويض الأعضاء المستقيلين من المكتب السياسي بأعضاء جدد يؤيدونه ويؤيدون الرئيس الشاذلي بنجديد. وحين عاد هذا الأخير من رحلته الإفريقية اتخذ عدة قرارات مهمة مصحوبة بسلسلة من المبادرات المكملة لها، تلقي كلها أضواء جديدة على استراتيجيته السياسية، وتسمح قراءتها بإمكانية استشفاف مكوناتها فيما لاحظناه عنده من «صمت» و«غياب» في الفترات السابقة. أولى هذه القرارات، هو الإعلان عن انتخابات تشريعية مسبقة قد تجرى خلال فصل الربيع القادم، وثاني هذه القرارات هو تعيين وزير جديد للدفاع الوطني واختيار رئيس جديد لهيئة الأركان العامة. وثالث هذه القرارات هو إطلاق سراح المعتقلين السياسيين الإسلاميين. أما المبادرات المكملة أو المرافقة لهذه القرارات فتمثلت في إصدار العفو العام عن كافة المتابعين في حوادث أكتوبر وعن رفع آخر العقبات بوجه عودة الرئيس السابق أحمد بن بلة، وعن السماح للجنة الوطنية ضد التعذيب بممارسة نشاطها ممارسة قانونية وأخيرا إجراء تعديل وزاري واسع. كل هذه القرارات والمبادرات التي اتخذها الرئيس الشاذلي بنجديد في الأسبوع الأخير من شهر يوليو 1990 مترابطة ومتكاملة، وقد جاءت دفعة واحدة لتقدم جرعة قوية من الإصلاحات والتغييرات العملية تأتي استكمالا للخطوات الماضية على طريق دمقرطة شاملة ونهائية للمجتمع الجزائري ولمؤسسات الدولة. وهكذا فالجزائر، التي لم تعرف منذ ربع قرن وجود وزير للدفاع، أصبح لها وزير دفاع وطني في شخص واحد من أبرز ضباطها وأكثرهم كفاءة ألا وهو الجنرال ماجور خالد نزار. لقد ألغيت وظيفة وزير الدفاع صباح يوم التاسع عشر من يونيو 1965، حين هبطت دبابات العقيد هواري بومدين إلى الشوارع واحتلت المواقع الاستراتيجية وأعلنت إسقاط الرئيس أحمد بن بلة. ومنذ ذلك التاريخ ظل منصب وزير الدفاع من مسؤولية الرئيس. ولا شك أن تعيين وزير جديد للدفاع الوطني يشكل آخر مسمار يدقه الشاذلي بنجديد في نعش هواري بومدين وفي النظام العسكري المنبثق عن حركة التاسع عشر من يونيو 1965. إنه ليس مجرد تعديل تقني وإنما هو فعلا قرار تاريخي، يضع حدا لفترة تاريخية كاملة من حياة الجزائر السياسية. والوزير الجديد الذي اختاره الشاذلي بنجديد لاحتلال المنصب واحد من دعاة نظرية تحديث الجيش، وهو مطالب الآن بضبط المؤسسة العسكرية وإبعادها عن التورط في الخصومات السياسية والحزبية لإبقائها فوق الصراعات وخارجها، وربما أيضا لتثبيت دورها كحكم وملاذ تحسبا للطوارئ. ومما يسترعي الإنتباه أن الرئيس الشاذلي بنجديد اختار بالضبط جلسة الحكومة التي تم فيها تنصيب وزير الدفاع الجديد ليعلن عن حل البرلمان وإجراء الإنتخابات التشريعية المسبقة في فصل الربيع القادم، بشرط أن يكون الأمن مستتبا وأن تقبل كافة الأحزاب باللعبة الديمقراطية. وقد فهم الشيخ عباسي مدني هذه الرسالة على ما يبدو، إذ بادر بالإدلاء بتصريح صحفي يصف فيه تعيين وزير جديد للدفاع بأنه «قرار سياسي تاريخي». القرار السياسي التاريخي الآخر الذي أُعلن عنه بهذه المناسبة هو إطلاق سراح المعتقلين الإسلاميين الذين كانوا قد حكموا عام 1987 فيما عُرف بقضية مصطفى بويعلى. وبهذين القرارين، أي قرار إجراء الإنتخابات التشريعية في الربيع القادم، وقرار إطلاق سراح المعتقلين المنتمين إلى الحركة الإسلامية السياسية يكون الشاذلي بنجديد، قد استجاب لمطلبين من أهم المطالب التي كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ قد تقدمت بها في المظاهرة التي نظمتها أمام رئاسة الجمهورية يوم 20 أبريل الماضي. أما المبادرات المرافقة لهذه القرارات والتي جاءت بمثابة تأكيد لإرادة الرئيس في الاستمرار بالسير على طريق الإصلاحات الديمقراطية، فقد تمثلت في ذلك التعديل الوزاري الواسع، وفي إصدار العفو العام، وفي السماح للجنة الوطنية المناهضة للتعذيب بالعمل في إطار القانون. أما أهمية هذه المبادرات، فتأتي من أنها أزالت كثيرا من الشكوك المتصلة بما يريده الرئيس الشاذلي بنجديد. وإذا أخذنا التعديل الوزاري، والمناقلات التي رافقته في سلك الولاة، فإننا سوف نلاحظ بأن الشخصيات الرسمية التي أُبعدت عن المسؤولية في هذه المناسبة كانت معروفة بعدائها للجبهة الإسلامية للإنقاذ. وعلى سبيل المثال فقد كان أبرز ضحيتين في هذا التعديل، على مستوى جهاز الدولة المركزي، هما السيد الهادي الخضيري وزير الداخلية السابق الذي كان يحتل منصب وزير النقل في حكومة مولود حمروش الأولى، والعقيد مصطفى الشلوفي مدير الدرك السابق، الذي شغل حتى حصول التغيير الأخير منصب الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني. وإذا تذكرنا أن هذين الرجلين، هما اللذان كانا مسؤولين عن المواجهة المسلحة مع التيار الإسلامي في المدة السابقة لأحداث أكتوبر، أدركنا بسهولة أن إبعادهما من منصبيهما لابد أن يُفسَّر بأنه التفاتة إيجابية في اتجاه الجبهة الإسلامية، التفاتة تأتي مواكبة لإطلاق سراح المعتقلين الإسلاميين، لتقول للمعنيين إنه لم يعد هناك من خلاف كبير بين الشاذلي بنجديد وعباسي مدني. ألم يكن هذا الأخير يطالب بمعاقبة المسؤولين عن قمع الشعب؟ وأخيرا فإن قانون «العفو العام» الذي صوت عليه البرلمان في هذه المناسبة ينص نصا صريحا على تبرئة ذمة الأشخاص والتنظيمات التي شاركت في أعمال خارجة عن القانون، قبل صدور دستور الثالث والعشرين من فبراير 1989. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مجلس النواب أدخل تعديلات جوهرية على المشروع الأصلي الذي تقدمت به الحكومة، والذي اعتبره بعض الأعضاء غامضا وأصروا على أن يتضمن إعلاما صريحا يلغي مثلا أية متابعة ضد الرئيس السابق أحمد بن بلة وضد السيد حسين آيت أحمد، وضد كل العناصر التي شاركت في أحداث قسنطينة وجلفة والأغواط. ومع إصدار ذلك القانون، تكون الجزائر قد طوت إلى الأبد صفحة كاملة من تاريخها، ويكون الشاذلي بنجديد الجديد قد فتح صفحة جديدة في تاريخه الشخصي وتاريخ بلده. صفحة عسى أن تشكل نقطة اللاعودة في التجربة الديمقراطية الجديدة في المغرب العربي الأوسط. أحمد بن بلة العائد إلى الجزائر بعد رحلة قام بها إلى بغداد عمر الرجل اليوم ثلاثا وسبعين سنة، ومع ذلك فإنه يترك لدى الذين يقابلونه هذه الأيام، من دون معرفة سنه الحقيقي، الانطباع بأنه ما بين الخمسين والستين. على عكس ما يحدث للذين واجهوا محنا وبلايا مثله في الحياة، يبدو أن صروف الدهر القاسية، لم تزده إلا صلابة وثباتا ووضوحا في الرؤية ورسوخا في العقيدة. يتوقع الإنسان الذي يسمع عنه، ويعرف ما عاناه داخل بلده وخارجه، أنه حين يقابله سوف يجد رجلا، مهدما محطما، ينوء تحت وطأة الخيبة والانكسار، ولا يطمح إلا في أن يمضي ما تبقى من أيامه معتكفا في الظل، بعيدا عن الضوء والصخب، فإذا به يفاجأ بأنه أمام نسخة تكاد تكون طبق الأصل لذلك الزعيم وهو لا يزال في مقتبل حياته السياسية وفي أوج حماسته واندفاعه. لقد عقد الرجل حلفا بدا في وقت من الأوقات وكأنه أزلي مع السجن والغربة، وأمضى بموجب هذا العقد ثلث عمره بين المعتقلات والمنافي، لا يدخل السجن إلا ليتركه إلى المنفى، ولا يعود من المنفى إلا ليدخل السجن. يحدث ذلك لأن صاحبنا من طينة أولئك الرجال الذين يصدق عليهم بيت الشاعر العربي : ونحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر في البداية، استضافه سجن فرنسي عام 1950 في أعقاب هجوم مسلح قاده مع مجموعة من المنظمة السرية الخاصة، ضد بريد وهران بهدف السطو على مبالغ مالية يفترض أن تخصص لشراء السلاح لحساب ثورة وطنية كانت لا تزال تعتمل في أحشاء الغيب. أمضى الرجل سنتين في ذلك السجن، ثم هرب منه عام 1952 ليلتحق بالقاهرة، ممثلا للحركة الوطنية الجزائرية، التي كانت يومها حبلى، تتمخض لتلد جبهة التحرير الوطني الجزائرية. في العاصمة المصرية، دخل ذلك الشاب الرياضي البنية، القادم من مدينة مغنية على الحدود المغربية الجزائرية، مكتب المغرب العربي، وتعرف على عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي، وبدأ يمارس مسؤوليته كواحد من أعضاء البعثة الخارجية لثورة جزائرية لم تكن قد اندلعت بعد. في القاهرة أيضا، نشأت علاقات شخصية قوية، بينه وبين ضابط عربي شاب اسمه جمال عبد الناصر، كان قد بدأ نجمه يومها في الصعود داخل مجموعة الضباط الأحرار الذين أطاحوا بنظام الملك فاروق في صيف 1952. لن تطول فترة الحرية هذه. وسوف يذهب الرجل ضحية أول عملية اختطاف طائرة مدنية حصلت في هذا القرن. لقد انتهزت قيادة القوات الجوية الفرنسية فرصة سفر وفد جزائري من الرباط إلى تونس، لعقد مؤتمر للمغرب العربي، فقامت يوم 22 أكتوبر 1956 باعتراض الطائرة وأرغمتها على الهبوط بمطار عسكري، ثم نقلت خمسة من ركابها، ومن بينهم صاحبنا، إلى فرنسا. في فرنسا دخل الرجل السجن مرة ثانية ولم يخرج منه إلا في ربيع سنة 1962، قبيل إعلان استقلال الجزائر ببضعة أشهر. خرج أحمد بن بلة من السجن الفرنسي في ربيع عام 1962، وذهب إلى سويسرا مع (محمد بوضياف، محمد خيضر، رابح بيطاط، مصطفى الأشرف وحسين آيت أحمد)، ثم انتقل إلى المغرب وغادرها إلى تونس، وكان أول تصريح سياسي أدلى به هو : «نحن عرب، نحن عرب، نحن عرب». ومن المغرب العربي، انتقل أحمد بن بلة إلى المشرق العربي، فزار القاهرة ودمشق وبغداد، وجدد صلاته وارتباطاته، وعاد ليتحالف مع الجيش، ويصبح بعد أزمة صيف 1962، أول رئيس لحكومة الجزائر المستقلة، ثم لينتخب في شهر سبتمبر 1963، رئيسا للجمهورية. لن يبقى أحمد بن بلة في السلطة أكثر من سنتين. لقد أطاح به العقيد الهواري بومدين في التاسع من يونيو 1965، وأدخله سجنا لن يخرج منه إلا بعد مرور خمسة عشر عاما (1980) في عهد الشاذلي بن جديد. أطلق سراح أحمد بن بلة ولكنه لم يستطع أن يتمتع بالحرية داخل بلاده فترة طويلة. اضطر بعدها إلى الذهاب للخارج، ليعيش منفى اختياريا أو إجباريا، سوف ينتهي هذا الأسبوع. هذا الأسبوع يعود أحمد بن بلة إلى الجزائر، بعد أن قضى عشر سنوات في الغربة. وهذا النص الذي نقدمه للقراء، ما هو إلا سلسلة من الأحاديث، أجريناها معه خلال الشهور الماضية، وكان آخرها حوار تم يوم الثلاثاء 18 سبتمبر 1990، غداة عودته من رحلة قام بها إلى بغداد وعمان. س : انطباعاتكم الأولى عن الوضع في العراق؟ ج : المعنويات عالية جدا، والبلاد في حالة تعبئة شاملة. ودعني أقُلْ لك في منتهى الصراحة، إنني ذهبت هذه المرة إلى بغداد للقيام بحج حقيقي. لقد كانت رحلتي سفرا روحيا مقدسا ضد الحرب الصليبية الجديدة المفروضة علينا من الغرب. هناك سبب آخر لهذه الرحلة أريد أن أبرزه في هذه المناسبة، وهو ذو طابع شخصي. ولعلكم تذكرون أنني عندما خرجت من سجون فرنسا سنة 1962، قمت بزيارة عدد من العواصم العربية في المشرق العربي. وكانت بغداد من العواصم التي مررت بها . كان الحكم يومها نظاما عسكريا، يقوده اللواء عبد الكريم قاسم، وكان العراق، في كل العهود، يقدم مساعدات مادية ومعنوية للثورة الجزائرية. وقد حرصت، والجزائر آنذاك على عتبة نيل استقلالها، على القيام بتلك الرحلة إلى بلاد الرافدين، تعبيرا عن اعترافنا بالجميل لوقوف الجمهورية العراقية الشقيقة إلى جانبنا، بالمال والسلاح وبالدعم الدبلوماسي والسياسي في المحافل الدولية. في عهد عبد الكريم كانت الأحزاب السياسية ممنوعة، بما فيها حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم اليوم في بغداد. ومع ذلك، فقد فوجئت بأن ربع مليون، نعم ربع مليون شخص، استقبلونا في شوارع العاصمة العراقية. وما زلت أذكر لافتة كبيرة كتب عليها الشعار التالي : «بن بلة أهلا بيك.. حزب البعث يحييك». فوجئت بهذا الاستقبال الشعبي الحماسي، الذي نظمه حزب سري ممنوع، وفوجئت بأن أمواج المتظاهرين حملت السيارة التي كانت تقلني إلى قصر الضيافة على أكتافها. هذه المرة، حين ذهبت إلى بغداد، جرى الاستقبال أيضا على مستوى رفيع، وفهمت من الإخوة العراقيين، أنه يوجد بين أعضاء القيادة الحالية، أعضاء من أولئك الشبان الذين حملوا سيارتي على أكتافهم عام 1962. لذلك قلت لكم إنها زيارة روحية مثل تلك الزيارة التي قمت بها في سنة 1962. وهناك قاسم مشترك بين الزيارتين، يتمثل في روابط العروبة. في سنة 1962، اخترت أن أزور عددا من العواصم العربية، من بينها بغداد، تأكيدا لأواصر الأخوة ووشائح المصير المشترك، بين المشرق والمغرب. قمت بتلك الرحلة قبل عودتي إلى الجزائر، بعد أن أمضيت عشر سنوات خارجها (من عام 1952 حتى عام 1962). هذه المرة أيضا فعلت نفس الشيء ولكن زيارتي اقتصرت على بغداد وعمان. وأنتم تلاحظون أن هذه الزيارة تأتي بعد غربة استمرت عشر سنوات عن بلدي، وقبل أسبوع واحد من رجوعي إليه. طبعا ظروف 1962 تختلف عن ظروف 1990، في المشرق وفي المغرب، لكن هناك خيطا واحدا هو استمرارية روابط الدم والمصير المشترك. س : هذا عن الجانب الروحي.. فماذا عن الطابع السياسي؟ ج : أنا شخصيا أود أن نعثر على حل سياسي سلمي للمعضلة، وذلك ما نسعى إليه وما نفكر فيه. لكنني أريد أن أكون صريحا معكم، إلى أقصى حدود الصراحة. لقد كان الهدف الأول من زيارتي لبغداد هو أن أعبر لإخواننا العراقيين، عن تضامننا الكامل والمطلق معهم في المعركة التي يخوضونها ضد الغزو الإمبريالي للمنطقة العربية. إن الهجمة الحالية، تعيد إلى ذاكرتي حكاية العدوان الثلاثي على مصر في خريف 1956، إنه نفس السيناريو، لكنه أكثر شراسة هذه المرة. في قصة قناة السويس، كانوا ثلاثة : بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وأما هذه المرة فالغرب كله دخل في اللعبة، بما فيه دول مثل أستراليا والنرويج. لكن المعنى يبقى واحدا في الحالتين. والمعنى التاريخي لحكاية السويس، وحكاية الخليج العربي، يتلخص في أمر واحد، في شيء بسيط جدا، وواضح للغاية، وضوح الشمس في رابعة النهار : الغرب لا يقبل بظهور دولة عربية قوية، لا في المشرق ولا في المغرب، وعندما تظهر هذه الدولة، ويشعر بأنها مؤهلة أو توشك أن تصبح مؤهلة للدفاع عن القضية العربية، ولفرض احترام مصالح أمتنا ولإسماع صوتها المتميز في المسرح العالمي، عندما يحصل ذلك، يقرر أن يضربها، ويقرر أن يسكتها إلى الأبد حتى تكون عبرة لغيرها. أمس ضربوا مصر الناصرية، واليوم يحاولون ضرب عراق صدام حسين، والسبب واحد. بالطبع درسنا هذه الجوانب، تناقشت فيها مطولا مع الرئيس صدام حسين، ومع الإخوة أعضاء القيادة الآخرين، ولكنني كما قلت لكم، كنت أقوم بتلك الزيارة أساسا للإفصاح عن تضامننا مع شعبنا العربي في العراق. بعدها يأتي البحث عن حل سلمي. س : كيف؟ ج : إذا وقعت الحرب، فسوف تكون كارثة، ويبدو أن الغرب لا يقدر خطورة الموقف. إن الغربيين يتصرفون وكأنما هم ذاهبون إلى فسحة قصيرة، يطلقون من خلالها بعض العيارات الثقيلة والخفيفة المتعددة الأشكال والأحجام، ثم ينتهي الأمر ويعودون إلى بلادهم بعد أن يكونوا قد تمكنوا من تركيع العراق وتطويعه. ذلك على الأقل ما يقولونه في إعلامهم، أما رأيي في المسألة فهو مختلف. إننا نحن العرب، نملك لأول مرة في تاريخنا سلاحا ردعيا تدميريا، ولن تكون المعركة مع العراق يسيرة «للرامبوات» الجدد. لكن لابد أن يقوم حزام أمني شعبي يحمي إخواننا في العراق والأردن.. وأقول الأردن لأنه مستهدف كذلك. وقد زرته ورأيت فيه تحركا جماهريا واسعا يتمثل في المظاهرات والمسيرات الشعبية، والندوات والملتقيات الفكرية والمهرجانات السياسية، التي يقبل عليها الناس إقبالا واسعا لإعلان تضامنهم مع العراق. س : هل خرجتم من لقائكم مع صدام حسين بوجود احتمال، ولو ضعيف لتسوية سلمية؟ ج : نعم، الإمكانيات السلمية موجودة، متوفرة ولكن بشرط أن تكون عقلانية ومقبولة، وبشرط أن يكف الغرب عن التدخل في الشؤون العربية، وأن لا يركب رأسه ويدخل في مغامرة مسلحة. لكن الغرب يبيت شيئا، وإلا فلماذا كل هذه الأساطيل الجوية والبحرية، ولماذا كل هذه الجيوش البرية؟ ثم لماذا هذه الحملة الإعلامية المسعورة؟ إنني، مع إقراري بتوافر احتمالات قوية للسلام، أخشى أن يكون الغرب، قد وصل نقطة اللاعودة. لقد عدت من المنطقة وأنا على يقين تام بأن مشكلة الكويت ما هي سوى مبرر لتغطية خطة سابقة عليها، خطة أمريكية لاحتلال منابع النفط العربي والسيطرة عليها. والكلام الذي قيل في الجامعة أثناء مؤتمر القمة العربي الأخير في القاهرة، والطريقة التي عولجت بها الأمور كلها أشياء تؤكد وجود مثل هذا السيناريو. إن الغاية من وراء نسف الحل العربي، هو توفير المبررات والشروط الملائمة لضرب الآلة الحربية والصناعية العراقية. وحتى لو لم يدخل العراقيون الكويت، فقد كان الأمريكيون وحلفاؤهم يبحثون عن صيغة مناسبة لتفكيك الآلة الحربية العراقية. إنهم يريدون رأس صدام حسين.. عاوزين راسه. وهم لا يطلبون السلم، لأن من يسعى إلى السلم، لا يطالب بمثل هذه الوقاحة، هذه الصفاقة، وهذه الغطرسة المتناهية، بقتل الطرف الآخر. وكلام الجنرال الأمريكي، قائد القوات الجوية الذي أقالوه وكذبوه، كشف حقيقة أهدافهم. وقبل الجنرال دونمان، قال جورج بوش كلاما مماثلا. إنها تصريحات صادرة عن عسكريين ومدنيين، من كبار صناع القرار الاستراتيجي في الولايات المتحدة، تفضح الأهداف الحقيقية للضربات الأمريكية المنتظرة. أمريكا لا تريد السلام والغرب لا يريد السلام، وأمريكا والغرب لا يريدان أن تخرج دولة عربية أو إسلامية، ولا بلد من بلدان العالم الثالث عن بيت الطاعة. ذلك هو منطقهم، وتلك هي السياسة التي يمليها عليهم هذا المنطق، وما عدا ذلك، فإنما هو ذر للرماد في العيون. لقد ضربوا عبد الناصر ثم ضربوا بعده معمر القذافي وضربوا الخميني، وها هم اليوم يجردون أسلحتهم لضرب صدام. والأمريكيون والغربيون حمقى. إنهم يتحدثون عن الرهائن، وهم الذين ضربوا الحصار على العراق، وهم الذين يحاولون تجويع العراق. يقولون ذلك بمنتهى الصراحة، ومن دون أن يرف لهم جفن واحد. يفرضون الحصار على شعبنا في العراق، مع أن الحصار، اصطلاحا، في مفهوم الأمم المتحدة هو الحرب، ثم يتكلمون عن الضمير العالمي، وعن المجتمع الدولي وينسون أن أولادنا في العراق مهددون بالموت جوعا. هناك ما بين خمسة وستة ملايين طفل عراقي مهددون في حياتهم اليومية بسبب الحصار المفروض من طرف الغرب. ألا يستحق هؤلاء الأطفال صحوة الضمير العالمي؟ س : قابلتم الملك حسين، فما رأيكم في وضعه ووضع بلده؟ ج : دعوني أتحدث إليكم حديث القلب، وأنا أشعر بأن الكلمات تخرج من حلقي بفطرة وتلقائية. إنني لا أتردد في القول إن الأردن بلد عظيم، وأن الملك الحسين رجل عظيم. إن مقياس عظمة بلد ما، ومقياس عظمة رجل ما، لا يتحددان بحجم رقعته الجغرافية، ولا يتحددان بموارده الاقتصادية، ولا يتحددان بكثافة سكانه، ولا بعراقته أو قدمه في التاريخ، ولا بتطوره التكنولوجي والعلمي فقط، وإنما يتحددان أيضا وبالخصوص، في فترات معينة من التاريخ، بالموقف الذي يلتزمه هذا البلد من قضية أمته. الأردن طبعا بلد صغير، فقير، ضعيف، حديث النشأة، ولكن السياسة القومية الجريئة التي التزمها ملكه ووجدت تجاوبا عميقا لدى شعبه، تجعل الملك حسين رجلا عظيما وتجعل بلده بلدا عظيما. بالفعل قابلت الملك حسين في طريق عودتي من بغداد، وجرت بيننا مداولات ومحاورات رائعة عن المعركة التي تخوضها أمتنا، وعن الخيارات المفروضة عليها وعن ضرورة صمودها في المحنة. ثم إنني ذهبت للجبهة، وتناولت الشاي مع الجنود العرب الأردنيين على مسافة بضعة أمتار فقط من خط النار. وأقسم لكم بالله العظيم أنني تمنيت من صميم قلبي أن أبقى معهم ولا أعود. لقد أدركت صفاء الروح والاستعداد الكامل للتضحية والبذل في سبيل الدفاع عن كرامة الأمة العربية. مرة أخرى، أكرر أنه لو كان باستطاعتي أن أعيش معهم لما رجعت من المشرق إلى المغرب. وأذكر لكم هنا حادثة بسيطة وقعت عندما كنت أزور الجبهة الأردنية، كان الجو حارا ورطبا للغاية، وكان الذباب يتطاير بكثرة حول كؤوس الشاي، وقد تقدم مني ضابط الوحدة العسكرية وقال لي : «يا أحمد نحن حشمانين لأنو عندنا ذباب كثير» فكان جوابي: «لا، والله الدبان الحقيقي موجود برا، موجود ورانا... إنه الدبان المتطاير حول النفط الذي مسخ كل شيء في حياتنا». س : كيف تتصورون دور المغرب العربي في الأزمة الحالية؟ ج : المغرب العربي له دوران متكاملان، دور رسمي ودور شعبي. رسميا لابد أن يقوم المغرب العربي بدور وساطة لوقف الهجمة الغربية الأمريكية على المشرق العربي. إن الأزمة الحالية، هي بالدرجة الأولى أزمة إقليمية، جهوية تمس النظام الإقليمي العربي، وحلها يجب أن يكون عربيا. والمغرب العربي، يمكن أن يؤدي دورا إيجابيا في التسوية، سواء بما هو اتحاد المغرب العربي ، أو بما هو دول، لكل واحدة منها اجتهادها وتصوراتها وارتباطاتها بالأطراف المؤثرة أو المعنية باللعبة الدولية والإقليمية. المهم أن يعمل هذا الجزء من الوطن العربي، لإطفاء الحريق الذي يوشك أن يندلع في المشرق، لابد من نزع الفتيل بسرعة، قبل الانفجار الصاعق الرهيب. هناك سوابق كثيرة في هذا الشأن، تمكنت خلالها دول أو مجموعات جهوية من تسوية أزمات ذات طابع إقليمي. لقد حلت أمريكا الوسطى مشكلة نيكاراغوا في اجتماعات كوستاريكا. وها هي الأطراف المعنية بأزمة كمبوديا تجتمع الآن في أندونيسيا، باعتبارها إحدى دول جنوب شرق آسيا لتسوية المشكلة الكمبودية. وبالأمس، اجتمع العرب في الطائف ووضعوا أسسا لتسوية القضية اللبنانية، وكونوا لجنة عربية على رأسها أخونا الأخضر الإبراهيمي. من الممكن العثور على صيغة عربية، يكون المغرب العربي صاحبها، إما كمجموعة وإما من خلال إحدى دوله، لإنقاذ الأمة العربية، وتجنيب الإنسانية مخاطر ومزالق كارثة محققة. وفي اعتقادي أن القيادة العراقية متفتحة لمثل هذه الاحتمالات، وفي رأيي أننا يجب أن نحتاط كثيرا من المحاولات الغربية الرامية إلى تضخيم التناقضات العربية وتعميقها. س : يعتقد بعض الملاحظين أن الجزائر كانت غائبة عن الساحة الشرقية في هذه الفترة. ج : نعم. وكان هذا الغياب ملحوظا، وهو الذي دفعني للقيام برحلتي العراقية-الأردنية. لقد أردت من وراء هذه الزيارة الخاطفة أن أثبت لإخواني العراقيين والأردنيين، بأن الجزائر حاضرة وغير غائبة عن ساحة المعركة، وقلت للمسؤولين العراقيين والأردنيين الذين قابلتهم، أنني مستعد لأن أتجند في سبيل القضية العربية، وقلت إن هناك آلافا من الشبان وقدماء المجاهدين مستعدون للقتال في صفوف الجيش العراقي وفي صفوف الجيش الأردني، وقلت إن معركتنا الوحيدة اليوم، هي معركة العراق. ليس لدينا الآن وليس أمامنا اليوم، مشكل أكثر إلحاحا من هذه المسألة. وفي هذه الأيام التي سأعود فيها إلى بلدي، أستطيع أن أقول لكم بكل صدق إن اهتماماتي الجزائرية الخالصة لا تتجاوز عشرة في المائة، وأن تسعين بالمائة من انشغالاتي منصرفة إلى العراق. إننا نخوض اليوم معركة عبد الناصر، نواجه حرب سويس جديدة، ولابد أن يفهم إخواننا الإيرانيون أنها معركة ضد الاستكبار العالمي، وسوف نحاول إقناعهم بهذا الأمر. س : ما رأيكم في تحركات الشيخ عباسي مدني الخليجية؟ ج : لا أريد أن أخوض في مثل هذا الأمر. كل ما أستطيع أن أقوله لكم، هو أن الجزائر، مهيأة اليوم، وربما لأول مرة في تاريخها منذ انقلاب 19 جوان 1965، لأن تجتمع على كلمة واحدة هي : العراق. والجماعة مكرهون ومضطرون لاتخاذ موقف إيجابي مساند لبغداد، لأن مشاعر الشعب الجزائري تلتهب حماسة، وتتوقد لهفا وبلا تردد مع العراق، وسوف تلفظ أي حزب سياسي لا يتخذ مثل هذا الالتزام في المعركة القومية الحالية. ولست أريد الدخول في أي جدل سياسي أو لفظي، مع أي طرف جزائري بشأن هذه النقطة، وإنما سوف أعمل على ترسيخ الإجماع الحالي وتعميقه وتنظيمه. وهذه هي الطريقة، أو هذا هو الطريق الحاضر في ذهني وأنا أتأهب للرجوع إلى بلدي. سوف أقول هذا الكلام، وسوف ألتزم بهذا الموقف، وسوف أبذل جهدي لتوسيع صفوف المؤمنين بالقضية العربية وترجمتها الحالية هي التضامن مع العراق، وذلك في أفق الارتباط المصيري بين مشرق الوطن العربي ومغربه. س : هل لديكم تصور لوضع المنطقة بعد كل الذي جرى؟ ج : المستقبل المنظور، الماثل للعيان الآن، يملك ملامح احتلال أمريكي غربي لمنابع النفط. الغرب الأمريكي، والأوروبي المتغطرس لا يريد رأس صدام حسين فقط، وإنما كما سبق أن قلت يخطط لتدمير تجهيزاتنا التكنولوجية والصناعية والعلمية. يقولون إن لدى العراق قنابل كيماوية ولا يذكرون أن إسرائيل تملك عشرات القنابل الذرية والنووية، لكن ستكون لهم مفاجأة كبيرة إذا أشعلوا نار الحرب، لكننا نحن العرب نراهن على السلم، ولا بد أن نصل إليه من موقع القوة. والمشكلة تتجاوز قصة الكويت، وما يسمى بعودة الشرعية أو المشروعية. لا بد أن نعيد ترتيب البيت العربي من جديد. ليس من المعقول أن نستمر في تبديد الثروة النفطية العربية، ولا من المعقول أن نستمر في تبذير العائدات المتأتية منها بالأسلوب القديم. الدول النفطية الخليجية تملك مئات المليارات، تكدسها في بنوك غربية تسيطر عليها، وتقرر سياساتها مراكز مرتبطة ارتباطا وثيقا بالصهيونية. والناس، مئات الملايين من العرب، يتخبطون في البؤس والفقر والجوع بالسودان وموريتانيا والمغرب ومصر وفي أقطار عربية أخرى. هذه الوضعية المختلة لابد أن تنتهي، لابد أن يوضع لها حد في القريب العاجل من خلال ترتيب يستند إلى اعتبار هذه الثروة ملكا للأمة العربية في مشرق الوطن وفي مغربه. وعلى رأس جدول أوليات ترتيب البيت العربي. لابد أن تقوم ديمقراطية حقيقية، ديمقراطية فعلية، ديمقراطية غير شكلية تتجسد في برلمانات منبثقة عن إرادة الشعب، تمثل طموحاته وتطلعاته وأحلامه، وتنشأ منها حكومات وطنية تعكس مصالح الأمة وتحترم كرامتها. إن الديمقراطية هي الشرط الأول، شرط الشروط، لاستعادة الثروة النفطية العربية وتوظيفها خدمة لتنمية قومية شاملة، تقضي على الفوارق الجهوية والقطرية، ثم لابد من التفكير في حل للمسألة الفلسطينية والمسألة اللبنانية. س : ما هو شعوركم وأنتم تعودون إلى الجزائر بعد غربة طالت عشر سنوات؟ ج : إنه شعور مبهم ومختلط، تمتزج فيه الغبطة الطاغية والفرح الغامر بحزن عميق وبكآبة مفرطة. لماذا؟ أنا فرحان ومسرور جدا لأني أعود إلى بلدي الذي منحته زهرة شبابي، وأعطيته سنوات نضجي وعشت أحلامه ومخاوفه ومطامحه، إلى درجة أنني تقمصتها بالمعنى الصوفي، هذا في جانب. أما في الجانب الآخر، أما الوجه الآخر من الصورة، فهو يبعث في قلبي مرارة وكآبة كبيرتين. لن أطيل في شرح وضع الجزائر الحالي، لأقل باختصار شديد إنها تتخبط في أزمة حضارية عميقة، شاملة، تمس كل قطاعات المجتمع وتمس كافة مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وهذا أمر يحزنني وأكرر أنني عائد للجزائر بهموم مشرقية تلخصها كلمة العراق. أعود وأنا مسكون بإحساس مختلط فهناك فرحة كبرى بالرجوع إلى الوطن، وهي حالة نفسية معقدة وبسيطة، ولا يمكن توصيلها باللغة، وأعود كذلك بآمال عريضة، لأن معركة الشرق العربي تفرض علينا أن نقف صفا واحدا لنلتحم مع إخواننا هناك. س : كيف تتصورون موقعكم في خريطة العمل السياسي بالجزائر؟ ج : أراهن على الديمقراطية، وأتمنى أن تتوسع وتتعمق وتنجح وأن تسود الشفافية أيضا، وأن يترسخ ويتأصل احترام حقوق الإنسان. وأعود فأكرر أن أهم شيء في الوقت الراهن هو أن تتوثق علاقات الجزائر وروابطها بالمشرق العربي، تلك في نظري نقطة أساسية، أرجو أن أوفق في إقناع أوسع عدد من قطاعات الرأي العام بها. وأنا على يقين من أن المناخ مناسب لمثل هذا العمل. بل أنا على ثقة تامة من أنني حين أقول لكم مثل هذا القول، إنما أعبر بصدق عن شعور الناس في بلدي. الجزائر من الشاذلي بنجديد إلى محمد بوضياف أو شتاء الديمقراطية في الجزائر 1 - انتصار السوق على الإيديولوجيا!.. «كيف تطلبون منا أن نواجه حزبا يعقد خمس اجتماعات في اليوم، وينظم مؤتمرا وطنيا كل أسبوع، ويغطي بنشاطه مختلف مدن البلاد وقراها، طيلة أربع وعشرين ساعة، بدءا من تامنراست عند الحدود مع جمهورية مالي، حتى بشار القريبة من المغرب، وبدءا من مغنية إلى عنابة عند الحدود التونسية؟ كيف تطلبون منا المستحيل؟». كان محدثنا، وهو من مسؤولي جبهة التحرير الوطني، يشير عبر هذه الملاحظة إلى المتاعب التي واجهها تنظيمه السياسي في صراعه مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ. الاجتماعات الخمسة التي ذكرها مخاطبنا، هي صلوات الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء. أما المؤتمر الوطني الأسبوعي فهو صلاة يوم الجمعة. لقد حولت الجبهة الإسلامية للإنقاذ، مساجد الله إلى أماكن للتحريض السياسي، يلتقي حولها، ويجتمع داخلها أعضاؤها، قبل تأدية الفرائض اليومية، الخمس، وبعدها للتداول والتشاور، ووضع خطة التحرك اليومي، ثم تقرير برنامج العمل الأسبوعي. ولما كانت المساجد وأماكن العبادة مفتوحة «آناء الليل وأطراف النهار»، يأتي إليها الناس في أي وقت شاءوا، لأداء العبادات والفروض، أو الاستماع إلى الخطب، أو من أجل المشاركة في النقاش الخصب الذي تشهده، فإن مناضلي الإنقاذ، وهم يختلفون إليها، إنما يعيشون داخل أعماق المجتمع المدني حياة الأسماك وسط المحيط. ويضيف محدثنا بمرارة : «وحدهم مناضلو الجبهة الإنقاذية يجسدون، في جزائر اليوم، النظرية الماوية الشهيرة، عن الثوار. ولا يوجد لدينا، حزب سياسي يستطيع أن ينافسهم في مجال تعبئة الجماهير وتحريكها وتأطيرها. لذلك صار من المسلم به لدى المراقبين المتتبعين لتطور الأوضاع، اعتبار يوم الجمعة، من كل أسبوع لحظة متميزة في الحياة السياسية الوطنية». قبل أن نحاول تفسير أسباب هذه القوة الهائلة التي تملكها جبهة الإنقاذ، نريد أن نقدم نماذج وعينات من تجلياتها المتعددة، لمسناها أثناء جولة سريعة قمنا بها خلال الأسبوع الأول من شهر يناير الحالي، أي أثناء الأيام التالية للدور الأول من الانتخابات التشريعية، وعشية تعطيل المسار الديمقراطي والإعلان عن تكوين مجلس الدولة الجديد، برئاسة السيد محمد بوضياف. كانت آخر رحلة لنا إلى الجزائر، قد مكنتنا من معايشة ربيع التجربة الديمقراطية التي توجت بالانتخابات البلدية في شهر يونيو 1990، وسجلت فوزا ساحقا للإسلاميين. أما الزيارة الأخيرة، فإنها أتاحت لنا مشاهدة مقدمات شتاء التجربة الديمقراطية. لم نذهب إلى الجزائر العاصمة مباشرة بالطائرة، كما كنا نفعل في المرات السابقة، ولم نصل إليها رأسا من باريس أو الدار البيضاء، لننخرط في أجواء المناقشات والتحليلات والتخمينات، وإنما دخلنا إليها من الحدود المغربية، بهدف التعرف على «الجزائر العميقة»، ومحاولة تلمس مدى التحولات السياسية التي تعرفها، بعيدا عن صخب العاصمة. قمنا بجولتنا الأخيرة، في رفقة الأخ الحبيب سيناصر والأخ محمد معنى السنوسي، عضوي مجلس النواب المغربي واللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. والأستاذ الجامعي عبد القادر البنة، واكتشفنا، عبر مشاهد الطبيعة الفاتنة الساحرة، ومن خلال اللقاءات، والمناقشات والحوارات، والغذاءات والعشاءات، أننا ننتمي إلى شعب واحد، تحركه هموم وانشغالات واحدة. كنا نعرف تلك الحقيقة، ولكن ليس الخبر كالعيان، كما يقول المثل. من وجدة، حتى الجزائر العاصمة، مرورا بتلمسان ووهران ومستغانم، وجدنا أنفسنا ضمن نفس الشبكة العائلية المغربية الجزائرية، شبكة الأخوال والأعمام والخالات والعمات، والأقارب والمعارف. ووجدنا الناس يتسابقون إلى تنظيم الضيافات، مع الإلحاح الشديد على البقاء أطول مدة ممكنة لرؤية الصديق الفلاني أو زيارة الأسرة الفلانية. سبقتنا أخبارنا من وجدة إلى تلمسان، وسبقتنا من هذه إلى وهران، وتقدمتنا من وهران إلى مستغانم فالجزائر العاصمة. مشاهد الطبيعة بين مغنية وتلمسان، وبين هذه وقرية بني سنوس، هي نفس المناظر التي تعرفها في جبال الأطلس ما بين تارودانت ومراكش، أو ما بين مكناس وبني ملال، مع فارقين مهمين، يتمثلان في وجود أشجار الأركان (أو الأرجان وفقا لتعبير المختار السوسي) بالجنوب المراكشي، ووجود أشجار الأرز، في الأطلس المتوسط. اختلاف الطبيعة محصور في الغطاء النباتي لا يوازيه ولا يماثله إلا تشابه البشر، تشابها، يصل حد التطابق. الدخول إلى الجزائر من مدينة وجدة، إضافة لما يثيره من ذكريات شخصية قديمة، يسمح للمراقب بأن يضع يده على جملة من التفاصيل والجزئيات، لا تتاح له معرفتها وتقدير أهميتها حق قدرها في العاصمة. في مدينة وجدة بدأنا نعيش أجواء التجربة الجزائرية، وأخذنا نلمس في مظاهر الحياة اليومية، ما تثيره من هواجس ومخاوف وتساؤلات. ماذا سيحدث إذا ما وصلت الجبهة الإسلامية إلى السلطة؟ هل تغلق الحدود بين البلدين؟ هل تتوتر الأوضاع؟ هل ينشط التهريب؟ ماذا سيكون موقف النظام الجديد من قضيتنا الوطنية؟ هل ينخفض الدينار؟ هل يتدفق علينا اللاجؤون؟ ماذا يكون انعكاس التجربة القادمة على التيارات الإسلامية المحلية؟ ما مصير المغرب العربي؟ هل تنحصر التجربة المنتظرة في حدود القطر الجزائري، أم أنها ستحاول الانتشار خارج حدود جغرافيتها الأصيلة؟ كيف نتعايش معها؟ أي توازن جيو استراتيجي ستفرضه؟ دخلنا الجزائر من مركز حدود «زوج بغال» ورؤوسنا تعج بالأسئلة. سميت نقطة الحدود «زوج بغال»، لأنها هي المكان الذي كانت تلتقي فيه بَغْلَةٌ جزائرية وبغلة مغربية تحملان البريد بين تلمسان ووجدة. بعد الاستقلال، أطلق الشعب، على تلك النقطة اسم «زوج فاقو»، لكن عبارة «زوج بغال» ما تزال مكتوبة على جدران مباني الجمارك والشرطة في الطرف المغربي، فيما أطلق الجزائريون على القرية اسم «العقيد لطفي»، أحد شهداء الثورة. كنا، ونحن نمر على المدن والقرى، نقرأ الشعارات والملصقات المتبقية على الجدران من آثار الحملة الانتخابية التي ميزت الدورة الأولى من التشريعات. هذه مدينة مغنية، موطن الرئيس الجزائري السابق، أحمد بن بلة. إنها أول حاضرة مهمة بعد مدينة وجدة. المسافة بين المدينتين ثمانية عشر كيلو مترا لا غير. الخلاف أو الاختلاف هنا واضح في الطراز المعماري العائد إلى الفترة الاستعمارية، والطبيعة الجبلية والزراعية المغناوية، تجعل موطن أحمد بن بلة مختلفا عن الواحة السهلية الوجدية. ولكن البناء العشوائي الحديث يكاد يكون نبرة مشتركة هنا وهناك. في مدينة مغنية، وهي من معاقل الحركة من أجل الديمقراطية التي يتزعمها أحمد بن بلة، نجحت لائحة جبهة الإنقاذ منذ الدور الأول. وكان جميع المراقبين يتوقعون أن تصوت مدينة، «لالة مغنية» لمرشحي الحركة من أجل الديمقراطية، ولو لاعتبارات جهوية خالصة، أو ليست «الحركة من أجل الديمقراطية» هي حزب الرئيس أحمد بن بلة؟ أو ليس هذا الأخير ابن تلك المدينة الحدودية وله شعبية واسعة ونفوذ شخصي وعائلي قوي فيها؟ «أتعرفون لأي سبب سقط مرشحو الحركة من أجل الديمقراطية بدائرة مغنية، ولم يحتفظوا بموقع «بالوطاج» حتى في الدورة الثانية؟ لقد حضر الرئيس السابق شخصيا إلى بلدته، وخطب في مهرجان شعبي لمساندة مرشحي حزبه، لكنه ارتكب خطأ نفسيا وسياسيا قاتلا حين وعد أنصاره بمحاربة ظاهرة «التراباندو» (أي التهريب) والقضاء عليها،... ذلك هو التفسير البسيط، الذي تطوع بتقديمه إلينا أحد المراقبين المحايدين الذين تحدثنا معهم في وهران، بشأن نتائج الدور الأول في دائرة مغنية. «مدينة مغنية، تعيش من تجارة التهريب مع وجدة والناضور ومليلية، فكيف يعقل أن يمنح سكانها ثقتهم لحركة سياسية تضع في جدول أعمالها تصفية شبكات التهريب؟». هزيمة أنصار أحمد بن بلة، في عقر داره، أمام أتباع جبهة الإنقاذ، تعطينا مؤشرا بالغ الدلالة على عمق قوة التيار السياسي الإنقاذي وشموله، وضعف خصومه، رغم ما يجرونه وراءهم من تراث تاريخي عريق. إن الأسباب والاعتبارات الجهوية التي جعلت المراقبين يتوقعون أن تختار مدينة مغنية نوابا لها من أنصار الرئيس السابق أحمد بن بلة، هي نفسها التي دفعت التيار في الاتجاه الآخر. وبتعبير أدق، فإن الحرص على استمرار تجارة التهريب، والرغبة في إبقاء «الرئة المغربية» مفتوحة أمام الشبان العاطلين عن العمل، هما اللذان جعلا أكثرية المغناويين والمغناويات، يصوتون للمصالح بدلا من الأخلاق. خصوم جبهة الإنقاذ سواء كانوا من مناضلي جبهة التحرير الوطني، أو جبهة القوى الاشتراكية، أو من أعضاء النخبة العصرية ذات الثقافة الفرانكفونية، حين يحاولون النيل من سمعتها، لا يجدون تهمة يلصقونها بها أكثر من قولهم إنها «حزب المهربين». سوف نسمع هذه التهمة في كل مكان حللنا به، وحاولنا أن نفهم من خلال مناقشة هادئة مع من نلتقي بهم فيه، أسرار قوة التيار الإنقاذي وشعبيته، وعدم فاعلية الخطاب السياسي المناهض له. إنها، أي تهمة التهريب، الحجة الاستراتيجية، بل القوة الضاربة في الخطاب المعادي لجبهة الإنقاذ. ومع ذلك، بل وربما بسبب ذلك، فإن تأثيرها على الجمهور الواسع، يكاد يكون في مستوى الصفر. والواقع أن استخدام أنصار جبهة التحرير الوطني وأنصار حكومة السيد سيد أحمد غزالي، والأحزاب الأخرى لتهمة التهريب ضد حزب عباسي مدني وعلي بلحاج، كان له مفعول عكسي تماما. ترجمته لنا مهندسة بتروكيماويات، تعمل بمدينة أرزيو، قائلة : «الدعاية الواسعة التي قامت بها الأحزاب الديمقراطية، بما فيها جبهة التحرير الوطني، أثناء الحملة الانتخابية ضد التهريب، جعلت الناس يتخوفون من إغلاق الحدود مع المغرب، في حال انتصار الحكومة والجماعات والتنظيمات الموالية لها. إنه خطأ فادح ارتكبه الديمقراطيون. قبل بدء الحملة الانتخابية رسميا، بعدة أسابيع، شنت الصحافة الجزائرية، بوحي من بعض الأوساط الرسمية هجوما واسع النطاق ضد ما وصفته بالآثار السلبية لبناء المغرب العربي على الاقتصاد الجزائري. لقد كانت تلك الحملة محاولة يائسة وغير موفقة لاستنهاض نعرة الوطنية الاقتصادية الضيقة ضد تيار التبادل والتفاعل الكاسح الذي لا يعترف بالحدود. أتعرفون ماذا كان رد الفعل الشعبي على تلك الضجة الإعلامية؟ إنه مزيد من التدفق باتجاه الحدود. لقد بدأ الناس يتكلمون من جديد عن «طريق الوحدة»، بعد أن اقتنعوا بأن الحدود الرسمية سوف تغلق بالتأكيد، وطريق الوحدة هي الممر السري الذي كان المواطنون يسلكونه في الاتجاهين أيام إغلاق الحدود. خطأ فادح إذن ذلك الذي ارتكبه الرئيس أحمد بن بلة، حين تكلم في مدينة مغنية عن ضرورة محاربة التهريب، وغلطة استراتيجية شنيعة تلك التي ارتكبتها الصحافة الجزائرية الموالية للحكومة، حين أخذت تبرز ما أسمته بالجوانب السلبية لسياسة الحدود المفتوحة، مع المغرب وتونس، على الاقتصاد الجزائري. لقد قدم الرئيس السابق، والصحافة الديمقراطية من حيث لا يعرفان خدمة كبرى للأصوليين». تواصل مهندسة البتروكيماويات تحليلها مضيفة : «إنه الخطأ السياسي الفادح الذي سقط فيه مولود حمروش، عندما اتخذ قراره الشهير بتشديد الرقابة على الحدود البرية، والمطارات والموانئ عشية الانتخابات البلدية، في شهر جوان 1990، بدعوى ضرورة محاربة التهريب. لقد ساهم ذلك القرار في إقناع الناس بأن الحكم لم يتغير، ودفع بجماهير واسعة من المتمردين إلى الارتماء في أحضان الأصوليين، والتصويت لصالحهم في تلك الاستشارة الشعبية التعددية الأولى، وكنت أتصور -تقول تلك المهندسة- أن سيد أحمد غزالي، وهو من مدينة ندرومة الحدودية،، والرئيس السابق أحمد بن بلة، وهو من مدينة مغنية المجاورة لوجدة، لن يقعا في نفس الخطأ ولن يرتكبا نفس الخطيئة، ولكنهما خيبا آمالنا، عندما أرادا أن يحاربا السوق بالإيديولوجيا، ولعلهما ظنا أن بإمكان الأخلاق أن تنتصر على المصالح، لكن الذي حدث هو أن السوق فازت على الإيديولوجيا». ما زلنا نتذكر، أثناء زيارتنا السابقة للجزائر في ربيع وصيف 1990، كيف انقلبت شبكات التهريب إلى كارثة نفسية وسياسية ضد جبهة التحرير الوطني. يومها قال لنا السيد جمال حوحو، وهو وزير وسفير سابق، «ليس للمسؤولين الرسميين عندنا أي خيال سياسي. إنهم «يخربون بيوتهم بأيديهم»، ويقدمون خدمة سياسية مجانية لِلْمُلْتَحِين». وكانت حكومة مولود حمروش، قد أرفقت حملتها المعادية للتهريب آنذاك بضجة إعلامية واسعة النطاق، شاركت فيها محطات الإذاعة وقنوات التلفزة والصحف الصادرة باللغتين العربية والفرنسية. وهكذا أتيحت للمواطنين الجزائريين في تلك المناسبة، فرصة مشاهدة آلاف الأطنان من البضائع وقطع الغيار والعطور والتجهيزات والمشروبات المهربة من المغرب وتونس، والتي كانت تتكدس في المخازن والمستودعات، وتنزل إلى الأسواق، لتفرقها، ثم تختفي منها تحت مفعول يد سحرية خفية. وفي ظرف أيام معدودات، هبطت معدلات الأسفار بالطائرات، هبوطا مروعا، أرغم شركة الخطوط الجوية الجزائرية على إغلاق عدد من خطوطها مع المغرب وتونس وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا. غير أن تلك الحملة التي استغرقت نصف شهر كامل، عشية الانتخابات البلدية، وكانت المادة الأولى لأجهزة الإعلام طوال أسبوعين كاملين، لم تزد الرأي العام إلا ابتعادا عن السلطة ونفورا منها. «لقد تصوروا -يضيف الوزير السابق- أنهم بمحاربة التهريب، يوجهون ضربة قاصمة للجبهة الإسلامية للإنقاذ، لكنهم في الحقيقة أسدوا إليها خدمة ثمينة، لا تعوض». سمعنا رأيا مماثلا حول نفس المشكلة من موظف كبير، هو الدكتور أحمد هني، أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة الجزائر، والذي كان قد عين قبل تلك الحملة، على رأس الإدارة العامة للضرائب : «لم يؤخذ رأينا إطلاقا في الموضوع، ولو أنهم استشارونا في الأمر لنصحناهم بالتريث. لقد أتيحت لي في إحدى المرات فرصة تقديم وجهة نظري، أثناء نقاش سريع، مع وزير الاقتصاد والمالية، السيد الغازي حيدوسي، لكن ذلك النقاش بيننا جرى بعد إصدار التعليمات الرسمية إلى إدارات الجمارك وشرطة الحدود بملاحقة المهربين ومداهمة أوكارهم واقتحام مخازنهم.والواقع أننا لم نكن بحاجة إلى نشر هذا الغسيل كله. رأينا العام، لم يفهم العملية، وفسرها على أنها تعبير عن إرادة الحكم في إغلاق الحدود من جديد، وفي العودة إلى الوضع الذي كان سائدا في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين. وأستطيع أن أقول لكم بأن حكومة مولود حمروش، أضاعت بذلك التصرف رصيدها الناشئ، وأفقدت جبهة التحرير الوطني أية إمكانية للنجاح. وجاءت نتائج صناديق الاقتراع في الانتخابات البلدية، لتؤكد أن تلك البادرة لم تكن موفقة». وما حدث في انتخابات الدور الأول من التشريعات في شتاء 1991، كان تأكيدا مضخما وموسعا لما حصل في البلديات عام 1990. سوف نستعرض لاحقا، ظروف المعركة الانتخابية، ورهاناتها وعواقبها والآليات التي أسفرت عن تعطيل مسار التجربة وحصول الانقلاب المقنع الذي جاء بالسيد محمد بوضياف رئيسا للدولة. أما الآن، فإننا نستمر في تقديم نماذج وعينات تؤشر إلى قوة جبهة عباسي مدني وعلي بلحاج. كانت مدينة تلمسان، هي محطتنا الثانية بعد مغنية. ومدينة تلمسان، اختارت هي الأخرى، منذ الدور الأول، التصويت لفائدة حزب عباسي مدني وعلي بلحاج. ورغم أنها كانت قلعة، تعتبر حصينة من قلاع جبهة التحرير الوطني، فإن هذه الأخيرة لم تحتفظ فيها حتى بموقع يرشحها للفوز أثناء الدورة الثانية. مرشح جبهة التحرير الوطني المهزومة في تلمسان، واحد من أفراد الرعيل الوطني الأول. إنه طبيب كبير، كان يشغل منصب نقيب الأطباء في الغرب الجزائري، حين التقينا به ليلة مرورنا بالمدينة، كان ما يزال تحت تأثير الصدمة. «في الحقيقة أنا لا أفهم ما الذي حدث بالضبط حتى الآن. لقد كنت واثقا تمام الوثوق من النجاح. التوقعات والاستطلاعات كلها كانت تؤكد أن جبهة التحرير الوطني سوف تكسب الرهان في تلمسان، أو على الأقل تحتفظ بمكان في السباق للوصول إلى الجولة الثانية والأخيرة. أنا أنتمي لأسرة تلمسانية عريقة، معروفة بماضيها الوطني، لم يدر بخلدي لحظة واحدة أنني سأخسر المعركة منذ الدورة الأولى. إنها مفاجأة حقيقية بالنسبة لي». كان ذلك الطبيب الشيخ البالغ من العمر حوالي خمسة وستين عاما، والذي تنضح ملامحه بأصوله الأرستقراطية، يتحدث بمرارة مكبوتة عن فوز خصمه الإسلامي. وقد بدأ لنا من كلامه أنه يمثل نخبة حاكمة، مطمئنة إلى مكانتها في المجتمع، واثقة من حقها وجدارتها بالاستمرار في توجيه دفة شؤون البلاد : ولا تكاد تصدق ما جرى لها. خلال حوارنا مع ذلك الطبيب، لمسنا ما يمكن أن تقود إليه الثقة الزائدة عن اللزوم بالنفس، مع ما يرافقها من استهانة بالخصم... لقد هزم الرجل وحزبه منذ الدور الأول، ومع ذلك، حاول إقناعنا بأن «الجبهة الإسلامية» ليست حزبا، ولا يمكن أن تكون حزبا، وإنما هي مجموعة من الشراذم، لا تملك أي برنامج معقول. على مسافة ثلاثين كيلومترا نحو الجنوب الغربي من تلمسان، وفي قرية خميس بني سنوس، سوف نعاين صورة أخرى مختلفة، تعطينا فكرة عن القطيعة العميقة القائمة بين المجتمع المدني الجديد الصاعد الذي تمثله الجبهة الإسلامية، وبين المجتمع السياسي الآخذ في الأفول، والذي تمثله جبهة التحرير الوطني. على طول امتداد الطريق الجبلية الرابطة بين تلمسان وبني سنوس، لاحظنا عند مدخل كافة القرى والمداشر والدواوير التي توقفنا بها، وجود جماعات من الفتيان، يقفون عند الأطراف، ملتفين حول أحدهم آخذين في النقاش، منتبهين إلى الداخلين إلى بَلْدَتِهم أو الخارجين منها. وكنا نتوقف لنسأل عن الاتجاه المؤدي إلى ديار بني سنوس، ونطرح بعض الأسئلة السريعة عن الحالة السياسية والانتخابات. وقد ذهبنا عندما اكتشفنا أن كل من التقينا بهم ينتمون إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ولا وجود بالمطلق لجبهة التحرير الوطني. مناظر جبال بني سنوس نسخة طبق الأصل من جبال الأطلس المتوسط. أخيرا وصلنا القرية التاريخية، التي تنتمي إليها الأسرة السنوسية الشهيرة المؤسسة لدولة ليبيا الحديثة. وعلى الطريق، نشير إلى أنه يوجد فرع أو فخذ من قبيلة بني سنوس هذه، يحمل نفس الإسم بإقليم تاونات شمال مدينة فاس، ينتمي إليها رفيقنا محمد معنى السنوسي، عضو مجلس النواب المغربي وعضو اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي. أما الفرع الثالث، فهو موجود بناحية مستغانم، ومنه مؤسس الطريقة الصوفية المعروفة التي استقرت بفزان، وقادت معارك حربية جنوب ليبيا وشمال تشاد وشرقي الجزائر، ضد الاستعمار الغربي مع بدايات هذا القرن، وكان من أشهر أفرادها إدريس السنوسي آخر ملك لليبيا. ويقال إن السنوسيين شرفاء أدارسة. وسواء صحت هذه النسبة أو كانت مفتعلة أو منتحلة، فالذي لاشك فيه أن السنوسيين موزعون جغرافيا ما بين برقة وفزان في ليبيا، وتاونات بالمغرب، مرورا بمستغانم وبني سنوس في غرب الجزائر. وهم يمثلون إحدى التجليات العشائرية لوحدة المغرب العربي. عند مدخل قرية خميس بني سنوس، التقينا بعدد من فتيان الجبهة الإنقاذية من بينهم شاب لا يتجاوز عمره الخامسة والعشرين، قدم لنا نفسه باسم صالح بوقنادل وقال لنا إنه أستاذ التكنولوجيا، شعرنا مرة أخرى بأننا ما نزال في نفس البلد. وفي سرعة البرق، حضرت مائدة الشاي ودعينا لزيارة مبنى البلدية، حيث استقبلنا نائب الرئيس. وردا على استفسارنا عن مصادر القوة المالية للجبهة وما إذا كانت تتلقى دعما من الخارج، قدم لنا أستاذ التكنولوجيا مثالا ناطقا عن أداء الفرع المحلي للجبهة في تلمسان، اعتبره دليلا يجسد قدرتها على الاكتفاء الذاتي، دون الرجوع حتى إلى المركز في العاصمة. ويتعلق الأمر بحياة ثلاثمئة عامل طردتهم السلطات من أعمالهم، بمناسبة الإضراب الانتفاضي الذي أعلنته جبهة الإنقاذ في شهري مايو-يونيو الماضيَيْن. لقد تمكن الفرع التلمساني، بعد عقد سلسلة من الاجتماعات والاتصالات مع الأعضاء والأنصار والمؤيدين والعاطفين، من توفير ميزانية دائمة مكنته من ضمان رواتب العمال المطرودين، التي ما تزال تؤدى لهم بانتظام حتى اليوم. حين عرف مسؤولو جبهة الإنقاذ انتماءنا إلى المغرب، أخبرونا بأن رئيس بلديتهم ينتسب هو الآخر لأسرة جزائرية مغربية، وأكدوا لنا بأن عائلته ما تزال مقيمة بالدار البيضاء. دارت علينا كؤوس الشاي عند مدخل القرية وقدمت إلينا في مكتب رئيس المجلس البلدي، مع ترحيب حار، ترافقه دعوة ملحة للبقاء لأجل زيارة الآثار والأماكن التاريخية، التي قالوا لنا إن المنطقة زاخرة بها. ومع ارتشافات السائل النحاسي الساخن، خُضْنَا في نقاش أخوي صريح حول التجربة السياسية الجديدة لدى جيراننا. وقد اتضح لنا بسرعة أن أستاذ التكنولوجيا الذي وجدناه عند أطراف القرية، هو المسؤول الأول لبني سنوس. اتضح لنا ذلك من الصمت والانضباط والنظرات المؤيدة الصادرة عن الحاضرين، والتي كانت ترافق حديثه إلينا. وما فهمناه عبر حوارنا بتلك القرية النائية جدا عن صخب العاصمة، والواقعة على مسافة مرمى حجر من الحدود، هو أنهم يحلمون بأن تعم «صحوتهم الإسلامية» المغرب المجاور، وذكر لنا أستاذ التكنولوجيا بأن مرجعياتها الفقهية والدينية مغربية أكثر مما هي مصرية أو مشرقية. ولم نفهم بالضبط قصده من هذا الكلام، كما أن الوقت لم يسعفنا للخوض في التفاصيل. وحين طرحنا سؤالا حول اختلاف الأنظمة السياسية والاجتماعية، وحول المشاكل العالقة، وخاصة قضية الصحراء، أجاب مخاطبنا بأن الشعب الجزائري لا يعرف شيئا عن الحكاية، وقال إنها غامضة جدا، ومشوشة، وهي في كل الأحوال، مثل مسألة النظام السياسي، من ضمن الاستراتيجيات العليا التي تخص القيادة الوطنية في العاصمة. وبقدر ما بدا لنا أن الحكيم التلمساني، الكهل، الهرم والمهزوم، يجسد بحكم سنه وعقليته ووضعه الاجتماعي، جيلا سياسيا قديما بدأت شمسه بالأفول، بقدر ما تأكد لدينا أن أستاذ التكنولوجيا يرمز إلى القوة الفتية، الحية الصاعدة على مسرح السياسة الجزائرية. ثم أن المشاهد والمشاهدات والملصقات والشعارات التي رأيناها على طول امتداد الطريق البرية بين مغنية والجزائر، واللقاءات والحوارات التي أجريناها في أكثر من مكان، بمناسبة وبدون مناسبة، مكنتنا، قبل الوصول إلى العاصمة، من الخروج بخلاصة واحدة فرضت نفسها علينا فرضا منذ ابتداء الرحلة حتى نهايتها، ألا وهي أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، سوف تفوز، لا محالة، بحصة الأسد، في الجولة الثانية للانتخابات التشريعية. أمام فندق تيمكاد الذي أقمنا به، في قلب مدينة وهران، توجد عمارة فخمة من عدة طوابق، تحتلها جميعها، اتحادية جبهة التحرير الوطني، لعاصمة الغرب الجزائري. إنها رائعة كلاسيكية فاخرة من الطراز المعماري الهسمانيHaussmann العائد إلى عصر نابليون الثاني، وهي شبيهة بالبنايات المماثلة العائدة إلى نفس الفترة الزمنية والموجودة بأعالي شارع سان جيرمان بالحي اللاتيني في باريس، سيكون ذلك النوع من المعمار «أسلوب الإمبراطورية الثانية»، إنها واحدة من آلاف المباني التي خلفها الفرنسيون. ورغم أننا زرنا مقر الحزب الحاكم، في ذروة الحملة الانتخابية الخاصة بالدورة الثانية، فقد وجدنا الرياح تصفر في ردهاته وأبهائه، وبدا لنا كما لو كان بناية باريسية من حي الأوبرا يوم عطلة أسبوعية. كانت المكاتب مقفلة، وكانت علامات الإهمال واضحة عليها. وحده الحارس، الشيخ كان موجودا، وعندما سألناه عن إمكانية الاتصال بالمسؤولين المحليين، أجابنا باختصار وعدم اكتراث قائلا : «يا حسرة! أراهم مزرتيين، يا خويا» (إنهم هربوا يا أخي). على بعد خطوات، وفي أحد الشوارع الخلفية، كان مقر الجبهة الإسلامية للإنقاذ، الموجود داخل مكاتب متواضعة مختلفا تماما. لقد بدا لنا بمثابة خلية نحل حقيقية تعج بالنشاط والحركة، يدخله عشرات الشبان، ويخرجون منه، أو يقفون على الرصيف أمامه. إنهم فتيان من عمر صالح بوقنادل، أستاذ التكنولوجيا الذي سبق أن التقينا به في قرية بني سنوس، يوزعون مطبوعات بينها برنامج الإنقاذ أو «كيف كان يتوضأ الرسول صلى الله عليه وسلم». الجزائر من الشاذلي بنجديد إلى محمد بوضياف أو شتاء الديمقراطية في الجزائر 2 - محمد السعيد : من الدعوة لانتصار الشيوعية إلى الدعوة الإسلامية صادف حلولنا بوهران الانطلاق الرسمي للحملة الانتخابية الخاصة بالجولة الثانية. كانت التلفزة الوطنية الجزائرية تقدم حصصا يومية للأحزاب الثلاثة التي ظل لها مرشحون يتنافسون على الدوائر الباقية، وهي جبهة الإنقاذ وجبهة القوى الاشتراكية وجبهة التحرير الوطني. هكذا رأينا السيد محمدي السعيد، يتكلم باسم الإنقاذ داعيا المواطنين إلى التصويت لها، لأنها هي التي تجسد الإسلام الحقيقي في رأيه. كان الرجل، وهو شيخ بدين، أصلع، قوي البنية، عصبي المزاج، يتكلم على الشاشة الصغيرة، والزبد يتطاير من فمه، وقد انتفخ ودجه وشدقاه، واحتقنت عروق جبهته وعنقه من فرط الانفعال الهستيري والغضب المقدس، والكلمات تخرج متسارعة من شفتيه وكأنها طلقات رصاص حقيقية. تذكرنا، ونحن نستمع إليه تلك الليلة، مهرجانا خطابيا كنا قد حضرناه معه في مرة سابقة بمدينة تيارت، وسمعناه يختتمه بقوله : «يحيا سيدي ربي. يحيا قل هو الله أحد». حكاية محمدي السعيد تستحق منا وقفة خاصة، لأنه يمثل عينة فريدة من الشخصيات التي يستند إليها الحزب الإسلامي. لقد دخل الرجل سلك الجندية غداة الحرب العالمية الأولى، وعند اندلاع الثانية تمت تعبئته كسائر الجزائريين، من أجل خدمة العلم الفرنسي، لكنه فر والتحق بالجيش الألماني. وكان الفرار من الجندية، في زمن الحرب يعتبر خيانة عظمى، تجري معاقبتها بالإعدام. ولابد أن تكون للهارب دوافع قوية تجعله يستهين بالمخاطر المرتبة عن سلوكه. ومحمدي السعيد، كان واحدا من عشرات إن لم نقل مئات الوطنيين المغاربة والجزائريين والتونسيين الذين راهنوا على ألمانيا النازية، واعتبروا أن حربها ضد فرنسا فرصة ذهبية لابد من استغلالها للحصول على تحرير بلادهم من الهيمنة الاستعمارية. لذلك نجده لا يكتفي بالفرار من سلك الجندية، وإنما يذهب مع مَنْطِقِةِ إلى نهاياته القصوى، فيقرر الالتحاق بصفوف القوات الألمانية، ثم يعود إلى شرق الجزائر متسللا لمحاولة تنظيم انتفاضة بجبال الأوراس ضد الوجود الفرنسي. وتقوم السلطات الفرنسية باعتقال الجندي الهارب، وتدخله السجن ثم تطلق سراحه، بعد صمت المدافع. وعندما اندلعت ثورة أول نوفمبر 1954، كان محمدي السعيد في عداد أفراد الرعيل الأول الذي التحق بها. وبعد انعقاد مؤتمر الصومال (20 غشت 1956) والتحاق السيدين كريم بلقاسم وعبان رمضان بتونس ضمن مسؤولياتهما داخل لجنة التنسيق والتنفيذ، وبين نهايات عام 1956 وبدايات عام 1957، عين محمدي السعيد على رأس القيادة العليا للولاية الثالثة تحت اسم العقيد سي ناصر. وفي منتصف سنة 1957 تم تطويقه، مع عدد من جنود وضباط جيش التحرير، بجبل ايكوفاف، قرب مدينة عين الحمام بولاية تيزي وزو. ودارت في تلك المناسبة معركة عنيفة سقط أثناءها أكثر من عشرين قتيلا من المجاهدين، وكان هدف المعركة، كما كتب أحد المشاركين فيها «هو كسر الطوق من أجل إنقاذ حياتكم ومنع العدو من إلقاء القبض عليكم حتى لا يستغل الحدث ويصوره على أنه ضربة خطيرة ضد الثورة. وهكذا انطلق المجاهدون، وهم يهتفون : «الله أكبر» وشقوا لكم ثغرة نجاة في صفوف العدو» (المصدر، جريدة لوماتان الجزائرية عدد 12 يناير 1992). كاتب تلك الواقعة، السيد «عمار أوقاسي» واحد من الذين شاركوا في حرب التحرير وقد نشر مقاله في الجريدة المذكورة، وآنفا تعليقا على حديث محمدي السعيد في التلفزة الجزائرية، ضمن الحصة المخصصة للجبهة الإسلامية للإنقاذ.يلاحظ كاتب ذلك المقال الانتقادي أن الخطيب لم يقل كلمة واحدة عن البرنامج الاقتصادي للجبهة الإسلامية للإنقاذ، وإنما أشعل فتيل الحقد والتقسيم والفتنة، مذكرا إياه بأن الجزائر كانت بلدا إسلاميا، من قبل أن تبرز جبهة الإنقاذ إلى الوجود. وكان محمدي السعيد، في خطبته الدعائية الانتخابية قد وصف الذين لا يصوتون للإنقاذ بأنهم «كفار وأعداء الله». تجدر الإشارة إلى أن محمدي السعيد هذا، شغل وظيفة النائب الثاني لرئيس الجمهورية، خلال عهد الرئيس أحمد بن بلة. ومن بين الدعابات والنوادر التي تروى عنه تأكيدا لقوة نزعته الدينية وسذاجته السياسية، واحدة تقول أنه ذهب في رحلة رسمية إلى موسكو، على رأس وفد سياسي كبير من جبهة التحرير الوطني، وأثناء مقامه بالعاصمة السوفياتية نظمت له وللوفد المرافق حفلة عشاء كبرى بقصر الكرملين، شربت فيها الأنخاب وفقا للتقاليد الشيوعية : «نخب الصداقة بين الشعوب»، «نخب السلام»، «نخب الثورة الاشتراكية». وقد حضر كافة الزعماء السوفياتيين، وعلى رأسهم نيكيتا خروتشوف، ذلك الحفل، وكان كل واحد منهم يرفع قدحه وينتصب واقفا لينطق جملة طقوسية العربية»، أو فلنشرب نخب الصداقة الإفريقية-السوفياتية الخ...» وعندما حان الدور البروتوكولي لرئيس الوفد الجزائري، نهض محمدي السعيد ووقف قائلا : «باسم الله الرحمان الرحيم، لنشرب نخب انتصار الشيوعية بإذن الله». ذلك الرجل الذي شغل وظيفة النائب الثاني لرئيس الجمهورية في الفترة ما بين 1963 و1965، وظل حتى انقلاب التاسع عشر من يونيو يحتل المكانة الثالثة بعد ابن بلة وهواري بومدين ما يزال يردد نفس الخطاب الذي كان يتعاطاه منذ ثلاثين سنة. ولكنه انتقل من موقف الدعاء لانتصار الشيوعية إلى موقع الدعوة الإسلامية. عندما كانت جبهة التحرير الوطني، هي القوة المهيمنة في الساحة الوطنية، وكانت سياسة الجزائر الخارجية تقوم على مبدأ التحالف مع المعسكر الشيوعي رأيناه، حسب الرواية السابقة التي سمعناها من أحد مرافقيه، ينادي بانتصار الشيوعية، أما اليوم، وقد تبدلت الأحوال، فقد سمعناه يكفر الذين لا يصوتون للقوة الجديدة الصاعدة. إنه من أولئك الرجال الذين يلبسون لكل حالة لبوسها. هكذا، حين كانت النازية، حركة صاعدة وجدناه يتحالف مع الألمان، وحين شم رائحة انتصار بن بلة وبومدين، وجدناه يقف معها في خندق واحد، وهاهو الآن يصبح جنديا من جنود الدعوة السياسة الإسلامية. لقد استمعنا إلى محمدي السعيد، أكثر من مرة أثناء إقامتنا بالجزائر خلال السنوات التالية للاستقلال، والتقينا به مباشرة في ربيع 1990 ببلدة المرحوم كريم بلقاسم، في قلب جبال القبائل. كان محمدي السعيد، قد حضر يومها من العاصمة للمشاركة، مع شخصيات في إحياء ذكرى اغتيال السيد كريم بلقاسم، الذي كانت المخابرات العسكرية، قامت بتصفيته داخل فندق ألماني بمدينة فرانكفورت، أثناء عهد الراحل هواري بومدين. وقد حاول محمدي السعيد إلقاء خطاب عام عن الإسلام، لم يتطرق فيه من قريب ولا من بعيد لرفيقه الراحل، والذي كان ذلك المهرجان قد أقيم لتخليد ذكراه. بمبادرة من رابطة أبناء الشهداء. لكنه لم يستطع متابعة خطابه، بل إنه أثار حفيظة مجموعات من الشبان أخذوا يهتفون ضده بالأمازيغية والفرنسية، يطالبونه بالاختصار وبحصر كلامه في مناقب وأعمال الرجل الذي أقيمت تلك التظاهرة تخليدا لذكراه. وعلى الرغم من الهتافات والصرخات والتصفيرات المعادية ظل محمد السعيد قابضا بيد مرتجفة على مكبر الصوت، مسترسلا في خطبته الإسلامية، واتَّهم الشبان الذين كانوا يقاطعونه بأنهم كفرة ملاحدة، وهددهم بقطع ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، في عهد الدولة الإسلامية العتيدة التي يبدو أنه كان واثقا من انتصارها. أما خطابه الانتخابي، على شاشة التلفزة الوطنية، فقد أتيحت لنا مشاهدته في بيت أسرة جزائرية صديقة، بحضور عدد من السيدات والسادة يمثلون عدة فعاليات، الأمر الذي مكننا من رصد ردود الفعل الفورية الساخنة إزاء الإيديولوجية الإسلامية السياسية لدى نماذج متعددة من رموز النخبة العصرية. وأكثر ما استرعى انتباهنا، هو الفزع الذي أثاره الخطيب في صفوف السيدات. لقد كانت هناك مهندسة، وطبيبة وأستاذة جامعية، رددن بصوت واحد مذعور : «يا إلهي! يا إلهي! فظاعة! فظاعة! أهؤلاء هم الذين سيحكموننا؟ إنه هتلر من لحم ودم...» قال أحد الرجال الحاضرين، وقد قدموه لنا على أنه صاحب معمل لصناعة الجعة، معلقا بدون اكتراث : «اعذروه! لقد كان نازيا في شبابه!». وذكرت إحدى السيدات، وهي مهندسة تشرف على قسم إداري وتقني هام لشركة نفطية أن واحدا من صغار الموظفين العاملين تحت مسؤوليتها، بدأ يستفزها ويضايقها، بل ويهددها قائلا ما مؤداه : «يجب عليك أن تستعدي لوضع الحجاب أو العودة إلى البيت من أجل التفرغ للشؤون المنزلية والاعتناء بتربية الأولاد». ولاحظت الأستاذة التي تتولى تدريس مادة الاقتصاد السياسي بالجامعة أن ابنتها التي لا تتجاوز خمسة عشر عاما، صارت تتدخل بكل شاذة وفاذة من حياتها الشخصية، داعية إياها إلى الكف عن الكلام باللغة الفرنسية مع الزميلات اللائي يزرنها في البيت محرضة لها على الاستقالة من العمل لكي تبقى في البيت وتتفقه في شؤون الدين واللغة العربية... أما الطبيبة، التي تمارس عملها بأحد المستشفيات العمومية، وتقدم دروسا عن التشريح في الكلية، فقد أخبرتنا أن أحد زملائها المنخرطين في جبهة الإنقاذ أفادها بأن الحكم الإسلامي القادم، سوف يصدر قانونا يمنع النساء من العمل باستثناء الطبيبات والممرضات والمعلمات، كما أنه سيحرم معالجة النساء من قبل الرجال والعكس، وروت لنا تلك الطبيبة حكاية الأطباء الذين أضربوا عن العمل في شهر رمضان الماضي لأنهم لا يريدون ملامسة أجساد النساء أثناء الصيام، وقالت إن التجربة سوف تتجدد مع حلول رمضان القادم، ثم شرحت المآسي الناجمة عن هذه الوضعية، خاصة في الأقسام ذات التخصص العالي في المتابعة والعناية بشؤون الحوامل... شرحت ذلك كله وأضافت في لهجة باردة قاطعة : «إنهم يستعدون للانتقال بنا إلى القرون الوسطى». قال رجل الأعمال من جهته : «مصيبة وَخْلاَصْ لقد أنفقنا أموالا طائلة، في جلب آلات وتجهيزات جد متطورة، ومعقدة، من ألمانيا لتحديث مصانع الجعة. دفعنا ثمن مستورداتنا بالعملة الصعبة، وغرقنا في الديون، ولكننا أوقفنا عملية التركيب في انتظار انجلاء الأمور. وقد جَاءَنِي قبل أسبوع، مهندس كيمائي لم أكن أعرف انتماءه للحزب الإسلامي، واقترح علي إرسال وفد تقني إلى العربية السعودية، للاستفادة من خبرتهم في إنتاج البيرة الخالية من الكحول. وأعرف مجموعة من مصانع النبيذ في الغرب الجزائري تواجه نفس المشكلة. لقد استوردوا آلات معقدة من فرنسا، وأرسلوا فنيين وخبراء لإمضاء فترات تدريب وتكوين مكلفة، ولكنهم وضعوا خططهم التجديدية والتحديثية في الرفوف تحسبا للطوارئ. والمسألة أكثر تعقيدا مما يتصوره الملتحون. إن تطور الصناعات الكيمائية مرتبط تاريخيا بتصنيع المشروبات الروحية. وإذا أصبحت العربية السعودية مثلنا الأعلى حتى في إنتاج البيرة، فإن المجال الكيمائي الوحيد الذي سيحافظ على مستواه التكنولوجي، هو ذلك الذي يتصل بالبتروكيماويات». أحد الرجال الحاضرين فسر لنا تصويت الأغلبية الساحقة من الناخبين على مرشحي جبهة الإنقاذ بقوله : «المسألة في منتهى البساطة. الجزائريون مسلمون، مؤمنون بالحياة الآخرة، وليست لديهم أية أوهام عن إمكان إيجاد حلول فعلية لمشاكل الإسكان والغذاء والماء والتطبيب والبطالة والتعليم، التي يتخبطون فيها، ولذلك فهم يريدون الاطمئنان في الأقل على مصيرهم بعد الموت. وأنا أعرف أشخاصا صوتوا للفيس تجنبا لتبكيت الضمير. لقد نجح الحزب الإسلامي في خلق عقدة ذنب كبرى عند الكثيرين». هذا الخطاب السياسي الأخروي أثار ثائرة المهندسة، فاندفعت لتسفيهه، مخاطبة ضيوفها من الرجال : «أنتم الرجال، مرتاحون بلا شك، لأن اللعبة الجديدة تخدم مصالحكم الأنانية. وإذا ما نجح الإنقاذيون في الاستيلاء على السلطة، فأنتم تتصورون، لا شعوريا، أنكم سوف تعيشون عصركم الذهبي. حتى التقدميون منكم يشعرون في أعماقهم بالغبطة. أنتم تحلمون بالعودة إلى عُصُور الحريم الأسطورية. ولكن حذار! إذا لم يتمكن الإسلاميون من تسوية المعضلات الاجتماعية، فسوف تقوم ثورة عارمة تدفع الناس إلى الكفر بالدين. ماذا سيفعلون بالانفجار الديموغرافي؟ إن عودة النساء إلى البيوت لن تحل المشاكل بل ستعقدها، وفتح المجال أمام تعدد الزوجات، لابد أن تكون نتيجته ارتفاعا صاروخيا، مذهلا في النسل. الصناعة الوطنية الوحيدة التي ستزدهر في هذه الحالة، هي صناعة الأرحام، ولكن ماذا سيقدمون لملايين الأفواه الجديدة؟ أية سوق للعمل؟ أي تعليم؟ أية برامج إسكانية؟ لن تنطلي لعبتهم فترة طويلة على الناس». أثناء تلك السهرة، في بيت الأسرة الجزائرية بوهران، سمعنا حكايات لا عد لها ولا حصر عن المضايقات التي تتعرض لها النساء في أماكن العمل. «خذوا مثلا قصة أستاذة اللغة والحضارة الألمانية بجامعة الجزائر. إنها سيدة محترمة، كانت تعيش مع أبيها وأمها بحي الأبيار في العاصمة. لقد نالت تلك المرأة شهادة دكتوراه الدولة في اللغة الألمانية وآدابها من جامعة برلين في منتصف الثمانينات، وعرضوا عليها البقاء في ألمانيا براتب محترم، من أجل تدريس الآداب العربية، لكنها رفضت وفضلت العودة إلى بلدها لتساهم في نهضته العلمية والفكرية. وبعد القيام بمساعي مضنية تمكنت من الحصول على منصب معيدة في الجامعة، وبدأت تمارس عملها بشغف وحماس، لكنها اصطدمت منذ البداية بسلطة الأصوليين، الذين كانوا يقتحمون قاعة الدرس، ويشاغبون عليها لمنعها من الاستمرار. كانت تلك الأستاذة تعمل أيضا في لجنة إحياء تراث كاتب ياسين، وتساهم في نشاط عدد من الروابط والجمعيات المهتمة بالدفاع عن حقوق المرأة. وقد ظهرت مرة على شاشة القناة الثانية للتلفزة الفرنسية ضمن برنامج خاص عن الجزائر تكلمت فيه عن معاناة النساء الجزائريات، وعن الآفاق المظلمة التي تنتظرهن، في حالة سقوط الدولة بين أيدي أنصار الحركة الإسلامية. لم تتكلم أستاذة اللغة الألمانية عن محنتها الشخصية في الجامعة، وإنما حصرت كلامها حول الظاهرة العامة، ظاهرة العدوان المستحكمة في الوسط الفكري بين الإسلاميين والفرانكفونيين مع تركيز خاص على محنة المرأة العصرية. وبعد ثلاثة أيام من ظهورها في القناة الثانية، فوجئت بخمسة شبان ملتحين يهاجمونها، لحظة خروجها من منزل أسرتها، ويهددونها بالتصفية الجسدية، ثم يحطمون الزجاج الأمامي لسيارتها. بعد ذلك الهجوم، تلقت مكالمات هاتفية من أشخاص مجهولين، بينهم صوت أنثوي عرفت فيه واحدة من طالباتها الفاشلات، التي قالت لها «إن الحل الوحيد لمشكلتها يكمن في التوبة والعودة إلى الإسلام ووضع الحجاب، وإلا فهي وحدها المسؤولة عما ينتظرها من سوء في الدنيا وشر في الآخرة». تساءلت السيدة التي روت الحكاية أمامنا : «أتعرفون ماذا حدث بعد ذلك؟ لقد غادرت الأستاذة الجزائر، وذهبت إلى فرنسا ثم من بعدها إلى ألمانيا. لقد حولوا حياتها إلى جحيم، ففضلت أن تنجو بجلدها ويمكن لي أن أقول لكم بأن كثيرات من الجامعيات والطبيبات والموظفات، سوف يبذلن المستحيل، لمغادرة هذه البلاد إذا ما وصل الإسلاميون إلى الحكم». سوف نجد نفس الرؤية التشاؤمية بشأن المستقبل، لدى توقفنا بمدينة مستغانم، وسوف نجد بالخصوص قناعة عميقة لدى الرجال هذه المرة، بأن جبهة الإنقاذ، بدأت تضع اللوائح، على جميع المستويات، وفي كافة القطاعات، استعدادا لتنصيب أطرها في مناصب المسؤوليات الاقتصادية والتقنية والمالية، وسوف نسمع ألف حكاية وحكاية عن أشكال التعبئة الجماهيرية التي مارستها للفوز في الانتخابات التشريعية. في مدينة مستغانم الشاطئية الجميلة روى لنا مدير الميناء، وهو ابن أحد المجاهدين الذين استشهدوا في الثورة، أنه اقتنع بانتصار «الفيس» عندما شاهد رجلا ثوريا يحمل جدته على ظهره، إلى مكتب الاقتراع، من أجل التصويت، كما أكد لنا أنه يعرف الشخص الذي يَخْلُفُهُ في إدارة الميناء. في مدينة مستغانم أيضا سمعنا لأول مرة، من طبيب جزائري يبدو لنا الآن، وبعد ذهاب الرئيس الشاذلي بنجديد أنه كان على معرفة دقيقة بالأوضاع، سمعنا منه ما مؤداه أن قيادة الجيش لن تسمح للإسلاميين بالوصول إلى السلطة. وقال لنا ذلك الطبيب أن «كل الديمقراطيين، يؤيدون بلا تحفظ عودة الجيش إلى الحكم مباشرة لحماية البلاد مما وصفه بالطاعون أو الوباء الأصولي» وحين أبدينا بعض الاستغراب والدهشة من أن يقف الديمقراطيون ضد نتائج صناديق الاقتراع، أحالنا على تصريح أدلى به السيد رابح بلكبير، مسؤول العلاقات الخارجية في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، يستخلص منه أن هذا الحزب الإسلامي «لا يؤمن إطلاقا بالديمقراطية، وإنما يستغلها كوسيلة للاستيلاء على السلطة» لم نصدق ما سمعناه، بل اتضح لنا بالملموس أن «الديمقراطيين» أو من يصفون أنفسهم كذلك، مثلهم في ذلك مثل الإسلاميين، مستعدون لدفن الديمقراطية، إذا كانت نتائجها غير ملائمة لهم. وبعد تدقيق وتمحيص، تبين لنا أن الدكتور رابح بلكبير، وهو للمناسبة أستاذ مادة الفيزياء بأحد المعاهد وعضو مجلس شورى الإنقاذ ألقى خطابا انتخابيا قبل ذلك ببضعة أيام، دعا فيه المواطنين للتوجه إلى صناديق الاقتراع يوم السادس عشر من يناير «حتى يصوتوا للمرة الأخيرة» على حد تعبيره. كذلك قرأنا في الصحف الجزائرية تصريحات منسوبة إلى مسؤولين في الحزب الإسلامي يعلنون فيها أن مثلهم العليا في الحكم، مستمدة أو سوف تستمد من ثلاثة بلدان هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة العربية السعودية والسودان. في الطريق الرابطة بين وهران والجزائر شاهدنا أكثر من شعار يبشر بقرب ميلاد الدولة الإسلامية، وتكررت بعض الشعارات أكثر من مرة في الصيغة التالية : «الدولة الإسلامية قادمة والخلافة راجعة»، أو «لا برلمان ولا دستور... ما قال الله والرسول» «لا مجلس لا برلمان... دستورنا هو القرآن». إن انتشار مثل هذه الكلمات على طول امتداد الطريق الطويلة بين مغنية والجزائر العاصمة، مرورا بتلمسان، فوهران، فالأصنام، (الشلف) والبليدة. يؤكد أننا أمام شعارات مركزية إستراتيجية وضعها جهاز وطني، وزعها على شبكة محكمة تغطي فضاءات متباعدة، وكلفها بكتابتها على الجدران الملاصقة للطريق الكبرى. عند دخولنا مدينة بليدة التي تبعد عن العاصمة بحوالي أربعين كيلو مترا والتي هي مقر قيادة الناحية العسكرية الأولى، رأينا تباشير وبوادر الانقلاب العسكري المقنع، قبل بضعة أيام من وقوعه. رأينا الاستعدادات الميدانية في صورة شرطة عسكرية تقوم بتنظيم حركة المرور ليلا، ورأيناها في شكل جرارات ضخمة تتولى نقل المدرعات والمصفحات والآليات والمدافع والجنود من نقطة لأخرى، أو من ثكنة لغيرها. وكانت الجزائر العاصمة حين وصلنا إليها ليلة الثلاثاء في السابع من يناير، أي قبل خمسة أيام من الإعلان الرسمي عن استقالة الرئيس الشاذلي بنجديد، توحي من خلال التحركات العسكرية عند أطرافها ومداخلها الجنوبية باقتراب لحظة الحسم. ومع ذلك لم تكن الصحف ولا قنوات التلفزة، ولا محطات الإذاعة، تتحدث سوى عن نشاطات واجتماعات الأحزاب الثلاثة، أي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وجبهة القوى الاشتراكية، وجبهة التحرير الوطني، في نطاق الإعداد للدور الثاني من الانتخابات التشريعية. ولم نتمكن من البقاء في الجزائر، عندما بلغنا في صباح اليوم التالي نبأ الفاجعة الوطنية، المتمثلة في غياب قائدنا السياسي الكبير عبد الرحيم بوعبيد. لقد انتشر خبر غيابه بسرعة في الوسط السياسي بالعاصمة الجزائرية، الأمر الذي دفع عددا من الشخصيات السياسية إلى الاتصال مع وفدنا لتقديم التعزية والمواسات. «إنه أسبوع تراجيدي حقا بالنسبة للمغرب العربي، أسبوع اختفت فيه جبهة التحرير الوطني من المسرح السياسي الجزائري، وانتقل فيه عبد الرحيم بوعبيد إلى جوار ربه»، هكذا قال وزير جزائري سابق، حرص على القيام بزيارة الشقة التي كنا نقيم فيها عند أحد إخواننا القاطنين بالعاصمة. ويضيف الوزير السابق «خسارة كبرى لا تعوض... الله يرحم سي عبد الرحيم... المصيبة أننا لا نستطيع إرسال بعثة للاشتراك في تشييع جنازته لانشغالنا هذه الأيام بدفن جبهة التحرير الوطني عجيبة هي الأقدار، لأنها شاءت خلق هذا التزامن المفجع بيننا وبينكم، إنكم تفقدون في شخص الرجل وجها طبع حياتكم السياسية منذ الاستقلال حتى الآن، ونحن نفقد في جبهة التحرير الوطني الهيئة التي مكنتنا من استعادة سيادتنا الوطنية. هي صفحة كاملة من تاريخنا المشترك نطويها معا، في نفس الأيام، و»عزاؤنا واحد»، يا أخي، وتحياتنا لجميع الإخوان... الله يعاونكم على ما بعد بوعبيد، والله يساعدنا على ما بعد جبهة التحرير». الجزائر من الشاذلي بن جديد إلى محمد بوضياف أو شتاء الديمقراطية في الجزائر 3 - كيف تمرد الوزير الأول قاصدي مرباح على بن جديد؟ منذ أن استعادت الجزائر استقلالها الوطني خلال صيف 1962، بعد مئة واثنتين وثلاثين سنة من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، وفي أعقاب خوضها لحرب تحرير عنيفة، قدمت فيها مئات آلاف الشهداء، واستغرقت من حياتها سبع سنوات طوال، منذ ذلك التاريخ، وحتى شتاء هذا العام (1992) الذي شهدت فيه ثاني تجربة ديمقراطية حرة ونزيهة، والمؤسسة العسكرية هي صاحبة كلمة الفصل في حياتها السياسية. بل يمكن القول، من دون مبالغة، بأن هذه الدولة الشقيقة عاشت طوال الثلاثين سنة الماضية، في ظل ما نستطيع أن نسميه حالة انقلاب دائم. حصل الانقلاب الأول، حتى من قبل أن يتم الإعلان عن ميلاد الدولة الجديدة المستقلة. كانت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، التي يرأسها الدكتور الصيدلي، يوسف بن خدة، تستعد مع بداية شهر يونيو للانتقال من تونس، حيث توجد مكاتبها، إلى الجزائر، لأجل استلام السلطة من الإدارة الفرنسية، وذلك وفقا لمعاهدة إفيان وتطبيقا لنتائج الاستفتاء الذي صوت أثناءه الشعب الجزائري بأغلبية ساحقة على الاستقلال. وبينما كان وزراء الحكومة المؤقتة الممثلة للشرعية الوطنية والدولية، يجمعون حقائبهم، ويهيئون أنفسهم للرجوع إلى بلدهم، أعلنت القيادة العامة للجيش الوطني والشعبي، عدم ثقتها في الوزارة، واتخذ رئيس هذه الأخيرة قرارا بعزل بومدين ورفاقه. يومها وصلنا الخبر، بواسطة قصاصة عاجلة من وكالة الأنباء الفرنسية. كنا في جريدة التحرير، وقد نزل علينا النبأ كالصاعقة، وسمعنا الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، رئيس تحرير الجريدة، يعلق عليه، في لحظة من لحظات سخريته النادرة، قائلا : «لا بأس، ها هي الجزائر تؤكد لنا عروبتها، لأنها عاشت انقلابها العسكري الأول حتى من قبل ميلادها الرسمي كدولة مستقلة». وما أشبه اليوم بالأمس. كان الرهان الاستراتيجي لانقلاب صيف 1962، هو منع قيام سلطة مدنية، تصبح فيها صلاحية اتخاذ القرار من صنع المجتمع المدني والسياسي، ولا يزال رهان شتاء 1992، ينحصر في الحيلولة دون تمتيع غالبية الشعب الجزائري، بثمرات اختياره السياسي. وفي كلتا الحالتين، كانت الحجة المبررة أو المسوغة لتدخل العسكر هي هي : حماية الثورة والوحدة الوطنية في المرة الأولى، والحفاظ على مؤسسات الدولة وصيانة الأمن العام في المرة الثانية، وفي الحالتين أدى تدخل العسكر، إلى تعطيل التطور الديمقراطي لفترة زمنية بالغة الخطورة في حياة المغرب الأوسط خصوصا والمغرب العربي عموما. ولا تنتهي أوجه التشابه عند هذا الحد، بل إنها تمتد لتشمل أسلوب معالجة الصراع. في صيف 1962، لجأ أعضاء قيادة الجيش إلى أحمد بن بلة، واختاروه من بين الزعماء الخمسة ليرشحوه لقيادة الدولة الجديدة. وفي شتاء 1992، اختاروا رفيقه وخصمه السياسي اللدود محمد بوضياف ليقوم بنفس المهمة. قبل انفجار أزمة صيف 1962، بعثت القيادة العامة لجيش التحرير الوطني أحد أعضائها (عبد العزيز بوتفليقة الذي كان يعرف باسم الرائد عبد القادر) في مهمة سرية إلى فرنسا للاتصال بالقادة الخمسة الذين كانوا ما يزالون رهن الاعتقال في سجن أروتان، وهم أحمد بن بلة، محمد بوضياف، حسين آيت أحمد، محمد خيضر، ورابح بيطاط. كانت مهمة بوتفليقة في الظاهر تنحصر في عرض وجهة نظر هيئة الأركان العامة حول المفاوضات الجارية بشأن الاستقلال، أما في الباطن، وكما رواها السيد عبد العزيز بوتفليقة نفسه لاحقا، فقد كان الهدف منها جس نبض الزعماء الخمسة ومعرفة استعداد كل واحد منهم للتحالف مع الجيش في نزاعه المفتوح ضد الحكومة المؤقتة. عاد عبد العزيز بوتفليقة من رحلته الفرنسية، وقدم تقريرا مفصلا إلى العقيد هواري بومدين عن الحوارات التي أجراها مع القادة السجناء، واقترح أن يتحالف الجيش مع أحمد بن بلة لأنه وجد لديه «استعدادا لفهم موقفنا»، وفقا لتعبير سمعناه من بوتفليقة في خريف العام الماضي. وإلى جانب هذا الاعتبار السياسي الخالص، كان هناك عامل آخر -حسب رأي بوتفليقة دائما- دفع الجيش إلى اختيار أحمد بن بلة بدلا من غيره، ألا وهو كون الأخير مؤهل أكثر من الباقين للزعامة، وكان أكثر شعبية في الداخل والخارج من الآخرين، «ولكننا لم نشأ -يقول عبد العزيز بوتفليقة- أن نعلن اختيارنا على الملأ، قبل استكمال الاستعدادات العسكرية، وقبل الاتفاق مع قوى الداخل. لقد توليت بنفسي مع المرحوم أحمد المدغري التحضير لزيارة أحمد بن بلة لوجدة في صيف 1962، غير أننا فضلنا الانزواء عن الأضواء، خوفا من إثارة بعض الحساسيات، سيما وأننا كنا، مثل سي أحمد، ننتمي إلى منطقة الغرب الجزائري». في صيف 1965، بادرت قيادة الجيش التي جاءت بأحمد بن بلة إلى السلطة، بإسقاطه، وبإنشاء مجلس للثورة وضعت على رأسه العقيد هواري بومدين. ويمكن أن تقال أشياء كثيرة عن ذلك الانقلاب الثاني، لكن الذي يعنينا من أمره هنا هو ما يمثله كلحظة استراتيجية ودرامية، من لحظات التدخل السافر للجيش في السياسة وتغيير مجراها، والتحكم في إيقاعها ورسم مسارها إلى حين. وقد أسقط الجيش أحمد بن بلة بحجة «محاربة الفوضى والارتجال والحكم الفردي وحماية مكاسب الثورة وصيانة الوحدة الوطنية، وفرض احترام الدولة إلخ...»، وحين نقارن العبارات التي استعملتها قيادة الجيش في أدبياتها المنشورة خلال أزمتي 1962 و1965، مع الكلمات الواردة في بيان التاسع عشر من يونيو، نجد أنفسنا أمام نفس المسوغات الإيديوليوجية رغم اختلاف الظروف. الانقلاب الثالث تم فيما بين نهايات 1978، وبدايات 1979، أي في الفترة اللاحقة لوفاة بومدين مباشرة. وكان الاعتقاد السائد يومها في الداخل والخارج، أن اختيار خليفة للرئيس الراحل سوف يتم لواحد من اثنين، هما العقيد محمد الصالح اليحياوي، مسؤول حزب جبهة التحرير الوطني وعبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية. لكن، حين انعقد مؤتمر حزب جبهة التحرير، فوجئ العالم كله بظهور اسم العقيد الشاذلي بن جديد، كمرشح لرئاسة الجمهورية. يومها انتشرت في الجزائر نكتة سياسية تقول بأن الصراع حول الخلافة دار بين شخصية معربة هي اليحياوي وشخصية مفرنسة، هي عبد العزيز بوتفليقة، لكن الجيش الذي لا يحب التدخل في السياسة اختار ضابطا محايدا، هو الشاذلي بن جديد، الذي يجهل اللغة العربية ويجهل اللغة الفرنسية، ولا يفهم سوى «حاضر سيدي»... وواضح ما تشتمل عليه هذه النكتة من ثلب وتشهير في حق الرئيس الجديد، ومن غمز ولمز من تحت قناة الجيش. وواقع الحال أن السيد عبد العزيز بوتفليقة يتقن العربية والفرنسية بنفس الدرجة، ويرتجل بهما خطابات سياسية تنم عن ثقافة واسعة، كما أن محمد الصالح اليحياوي لا يجهل اللغة الفرنسية، وإن كان تكوينه الثقافي عربيا خالصا. وإبعاد الرجلين من حلبة الصراع حول الخلافة وتقديم الشاذلي بن جديد مرشحا وحيدا، كان أمرا قضي بليل، عبر مشاورات اقتصرت على صناع القرار داخل جهاز الاستخبارات والأمن العسكري الذي لم يتوقف عن توجيه دفة السياسة، إما في الظل خلال الأوضاع العادية، وإما علنا أثناء الأزمات. وقد روى لنا وقائع ذلك الانقلاب السري الذي لم يسمه أحد، طبعا، باسمه الحقيقي، رواها لنا كل من محمد الصالح اليحياوي، الذي كان صاحب الحظ الأوفر، آنذاك في الخلافة، والعقيد قاصدي مرباح، الذي كان يشغل يومها وظيفة مدير الأمن العسكري، وكان له رأي حاسم في تقرير مجرى الأحداث. قال لنا السيد محمد الصالح اليحياوي : لقد كلف بن جديد بعد وفاة بومدين بتولي تنسيق الشؤون العسكرية مؤقتا وذهبت بمعيته، وبتكليف من أعضاء مجلس الثورة الأحياء، والذين كانوا ما يزالون محتفظين بعضويتهم، أقول إننا ذهبنا معا عند السيد رابح بيطاط رئيس المجلس الوطني الشعبي، وطلبنا منه تحمل مسؤولية رئاسة الدولة بالوكالة، وفقا لنص الدستور، في انتظار انعقاد مؤتمر الحزب الذي له وحده صلاحية وأحقية اختيار المرشح. وكان من المفروض أن نلتقي في اليوم التالي لاستئناف اجتماعاتنا، لكني فوجئت به يتصل بي هاتفيا ليقول لي بالحرف : «رَاهُم الخَاوَة فرضو علي نترشح للريَّاسة»، وبذلك وضعني أمام الأمر الواقع، وأفهمني أن الأمور محسومة. وكان ردي : «وَاشْ تْحَبْ نْقُول لَكْ؟ الله يْعَاوْنك...». قاصدي مرباح أكد لنا من جهته أنه هو الذي فرض الشاذلي بن جديد على المؤسسة العسكرية، تمهيدا لفرضه على الحزب. شيء واحد لم يذكره لنا الرجلان، وهو أن مؤتمر الحزب، إنما اجتمع من أجل المصادقة والتصفيق، لا أكثر ولا أقل. كما أنهما لم يشرحا لنا بما فيه الكفاية الخلفيات والحسابات الثانوية في صلب ذلك الاختيار. والحقيقة أن الشاذلي بن جديد، عند وفاة بومدين، كان بعيدا عن الأضواء، ولم يكن مطلعا على خبايا السياسة الداخلية والخارجية وتعقيداتها وتشابكاتها، ولا كان على معرفة بالآليات التي تتحكم بها. حقا إنه كان أقدم ضباط مجلس قيادة الثورة وأكبرهم سنا وأرفعهم رتبة، وتلك بلا جدال هي الصفات التي قدمت لتبرير اختياره دون سواه. إلا أن باطن الأمور يختلف عن ظاهرها. وما حدث بعد وفاة بومدين، يشبه في كثير من جوانبه ما حصل غداة غياب عبد الناصر. لقد تعذر على أجهزة المخابرات والأمن والمقامات النافذة في مختلف قطاعات الجيش، وقيادات الحزب الواحد، التوصل وبسرعة إلى انتقاء خليفة لعبد الناصر ضمن وجهاء النظام وأعيانه وباروناته. وهذه الاستحالة، هي التي دفعت أغلب العناصر النافذة في الدولة الناصرية إلى الالتفاف مؤقتا حول أنور السادات. وافق الجميع على أن يكون أنور السادات الخليفة الرسمي، وفي ذهن كل طرف من الأطراف المتطاحنة، أن ذلك الحل، يعطيه الفسحة الزمنية الكافية لترتيب شؤونه وبناء تحالفاته، وفي أسوأ الأحوال، فإن شخصية السادات «الفهلوية» الضعيفة، ستمكنهم من تحويله إلى رئيس-دمية. ومثلما فاجأ السادات، زملاءه، من خلال ممارسته للحكم، رئيسا فعليا لا ينازع. فاجأ الشاذلي بن جديد رفاقه في الجيش والحزب، بسحب البساط تدريجيا من تحت أقدامهم. لقد تغلبت لدى الاثنين شطارة الفلاح وخبثه، على مكر السياسيين ودهائهم. وإذا كان السادات قد توفي نتيجة لحادث اغتيال سياسي نفذه خالد الاسلمبولي، فإن الشاذلي بن جديد وسواء كان استقال أو أقيل، قد ذهب ضحية موجة أصولية عارمة، أطلق هو نفسه عفاريتها من عقالها، مثل نظيره المصري، بهدف إضعاف خصومه. الانقلاب الرابع حصل أثناء خريف الغضب الجزائري فيما بين شهري أكتوبر-نوفمبر 1988، وقاده الشاذلي بن جديد هذه المرة، شخصيا، مع عدد من ضباط الجيش، ضد حزب جبهة التحرير. وما يزال الغموض يلف حتى الآن كثيرا من جوانب تلك الانتفاضة الشعبية العارمة، التي شكلت بداية النهاية لسلطة الحزب الواحد.وما يهمنا في شأن أحداث ذلك الخريف الدامي، ضمن سياق هذا التحليل العام لمراحل تدخل الجيش الجزائري في الشؤون السياسية، هو أن تلك الانتفاضة انتهت بإبعاد قيادة حزب جبهة التحرير، وبتصفية عدد من رموز مواقع القوى داخل الجيش وأجهزة الاستخبارات، وبسيطرة الشاذلي بن جديد مباشرة على أدوات صنع القرار ووسائل تنفيذه سواء في الدولة أو في الحزب. وقد كان الجيش هو القوة الميدانية الضاربة التي حسمت مسار الصراع باتجاه تعزيز ومركزة سلطة رئاسة الجمهورية. هنا نجد أنفسنا أمام استمرارية تاريخية وضعت أسسها وتقاليدها مع البدايات المبكرة لاستقلال الدولة الجزائرية، استمرارية تكاد تكون بمثابة حتم قدري، يدفع القوات المسلحة في اللحظات الفاصلة من تاريخ الأمة الجزائرية إلى التدخل المكشوف، بهدف إجبار التاريخ على اتخاذ وجهة معينة. وعلى الرغم من أن رهان الانتفاضة الضمني كان يطرح مآل حكم الحزب برمته على بساط البحث، فلم يستطع، لا حزب جبهة التحرير، ولا الاتحاد العام للعمال، ولا المنظمات الجماهرية الأخرى، مثل اتحاد الشباب، واتحاد الفلاحين واتحاد النساء، القيام بأي دور يذكر في مدار الصراع وفي اختتامه، وحده الجيش تمكن من استلام المبادرة، واستطاع بعد عمليات قمع وحشية غير مسبوقة في تاريخ الجزائر المستقلة، أن يعيد إلى الدولة هيبتها ومهابتها، ولو لفترة قصيرة. غير أن المؤسسة العسكرية خرجت من تلك المحنة بمعنويات هابطة جدا. وقد رأينا ضباطا كبارا جزائريين، يبكون من فرط التأثر، وهم يتحدثون إلينا عن تلك التجربة القاسية، بعد مرور أشهر معدودات على اشتراكهم فيها. وفي خضم المواجهة المتعددة الأبعاد بين جبهة التحرير الوطني والشارع من جهة، وبين الشاذلي بن جديد وخصومه داخل الحزب والجيش من جهة ثانية، جرى استقدام الأستاذ عبد الحميد المهري، على عجل من سفارة الجزائر بالرباط، وأسندت إليه مهمة إعادة تنظيم الحزب. لقد أراد الشاذلي بن جديد، الذي كان يتولى في نفس الوقت مهام رئاسة الدولة، ووظيفة الأمين العام للحزب، أراد من تعيين عبد الحميد المهري مسؤولا عن جبهة التحرير، تأمين تأييد، أو على الأقل ضمان تحييد ضروري للآلة الحزبية، يمكنه من المضي بخطى حثيثة وسريعة على طريق الإصلاحات الضرورية التي شعر أكثر من غيره بحتميتها الملحة. جاء الشاذلي بن جديد بعبد الحميد المهري ووضعه في قيادة الحزب واعتبر أنه سينجح في الحفاظ على وحدة الجبهة وتماسكها، وترشيدها، حتى لا نقول ترويضها، كي لا تقف حجر عثرة في وجه الإصلاحات الشاملة التي كان ينوي الإقدام عليها. وكان رصيد المهري يجعل منه «الرجل المناسب، في المكان المناسب»! إنه واحد من رموز الرعيل الأول الفكري والسياسي للثورة، وقد ظل بحكم مزاجه وطبعه، بعيدا عن الصراعات والخصومات التي عصفت بالجبهة طوال ربع القرن اللاحق للاستقلال. وكانت أول مبادرة اتخذها المهري هي الاستجابة لفكرة عقد ندوة وطنية دعا إليها كل المسؤولين وكافة الأطر السابقة في جبهة التحرير، باستثناء الشخصيات التي كونت أحزابا مستقلة (مثل بن بلة وبوضياف وحسين آيت أحمد). وتأتي أهمية انعقاد تلك الندوة من كون الشاذلي بن جديد، كان قد رفضها، عندما طرحها عليه أعضاء سابقون في مجلس قيادة الثورة، كما تأتي من كونها مهدت لمؤتمر استثنائي، عاد في ختامه عدد من أقطاب الفترة البومدينية (أمثال بوتفليقة، واليحياوي، والزبيري وبلعيد) إلى عضوية اللجنة المركزية. واجه عبد الحميد المهري في سياسته التوحيدية نقدا عنيفا من كتلة «الذئاب-الجراء» ومن طرف الدناصير. الأولون، كانوا يؤاخذونه على محاولاته المستميتة لإعادة القدامى إلى ساحة العمل السياسي، والآخرون كانوا ينتقدونه بشدة لكونه فتح أبواب الجبهة على مصاريعها أمام «الانتهازيين والوصوليين والمتسلقين». «كانت الذئاب-الجراءLes jeunes loups» تعتبر أن «الدناصير» مسؤولة عن جميع النكبات والانتكاسات التي حلت بالجبهة، ولذلك يجب إبعادهم عن قيادتها بأي ثمن، لأن الشعب يعتبرهم رموزا لما حل بالبلاد من كوارث، وما نزل بها من مصائب. وكانت الدناصير ترى من جهتها أن هؤلاء «الذئاب الجراء» لا يملكون من التجربة والدهاء وقوة الشخصية، ما يؤهلهم لمواجهة التحديات الجديدة، ولا شك أن حدة الخلافات بين الطرفين مسؤولة إلى حد كبير عن المأزق الذي شل مقدرة جبهة التحرير على المبادرة غداة خريف الغضب الدامي، في وقت كانت فيه في أمس الحاجة إلى تحرك سريع ودينامي لاسترجاع مصداقيتها، أمام المد الأصولي الصاعد. بموازاة عبد الحميد المهري، في قيادة الجبهة، جاء الشاذلي بن جديد بالعقيد قاصدي مرباح، مدير الأمن العسكري الأسبق في عهد الرئيس هواري، ووضعه على رأس الوزارة الأولى، وكان الهدف من تعيين قاصدي مرباح رئيسا للحكومة هو طمأنة كبار ضباط الجيش، وتحييدهم، وفي نفس الوقت إبقاء جسر مفتوح مع البومدينيين من بينهم، حتى لا يتحالفوا مع المتمردين الحزبيين، ويجهضوا إصلاحاته الاقتصادية والسياسية. وعلى عكس عبد الحميد المهري، الذي لم تكن له عداوات قوية ولا صداقات متينة داخل الأجهزة الحزبية أو خارجها، بحكم ابتعاده عن المسؤوليات العليا في الفترة السابقة لخريف الغضب، كان العقيد قاصدي مرباح من أهل الحل والعقد، وكان من الذين يثيرون كثيرا من الحساسيات والحزازات والخصومات. وإذا كان وجود المهري على رأس الحزب، قد فجر ذلك الخلاف الذي أشرنا إليه بين الشباب والشيوخ، فإن وجود العقيد قاصدي مرباح على رأس الحكومة، قد أسهم في تهدئة خواطر الضباط، وخفف من حدة الشعور بالخيبة لديهم، وجعلهم يطمئنون إلى أن الورطة، ورطة ممارسة القمع التي جرهم الرئيس إليها، لم تذهب أدراج الرياح، ما دام قد اختار واحدا من رموزهم لإدارة دفة شؤون الحكم. في هذه الأجواء، أعيد انتخاب الشاذلي بن جديد للمرة الثالثة رئيسا للجمهورية وجرى التصويت على الدستور (فبراير 1989)، الذي يقر مبدأ التعددية الحزبية، لأول مرة في تاريخ الجزائر المستقلة. وقد أدخل مبدأ التعددية بواسطة عملية ولادة قيصرية، فرضها الشاذلي بن جديد على نخبة المجتمع السياسي، وأكد لنا الأشخاص الذين تحدثنا إليهم في ربيع 1990، وكانوا من صناع القرار السياسي في السنة السابقة، سواء داخل الحزب أو الدولة، أنهم لم يوافقوا على إدخال فكرة التعددية، في القانون الأصلي، وقالوا لنا إنهم كانوا يفضلون السير على مراحل وبخطوات مدروسة على طريق الديمقراطية. ويبدو أن الأساتذة الجامعيين والخبراء الذين تولوا تحرير نص الدستور، أخذوا تلك الخلافات الموجودة بين الرئيس الشاذلي بن جديد ورفاقه في قيادة الحزب والجيش بعين الاعتبار، لقد أدخلوا مبدأ التعددية، ولكنهم قيدوه بشروط صارمة سوف تحوله، وقد حولته بالفعل غداة الانقلاب الأخير إلى سيف مصلت ومسلط على رقاب الأحزاب. إن الدستور الجديد الذي صوت عليه الشعب الجزائري لا يعترف بالأحزاب، وإنما بالروابط والجمعيات «ذات الطابع السياسي»، بل هو يمنع منعا قاطعا وصريحا تكوين الأحزاب على «أسس دينية أو عرقية أو لغوية أو حتى جهوية»، وهذه الثغرة هي التي يلوح مجلس الدولة الجديد، منذ نشوئه تحت رئاسة السيد محمد بوضياف باستغلالها للحد من نفوذ خصوم التجربة الناشئة عموما، ولسحب البساط من تحت أقدام الجبهة الإسلامية خصوصا. «دستورنا الجديد -كما ذكر لنا ذلك أحد الأساتذة الجامعيين في ربيع 1990- زرع في طريق الديمقراطية عددا من الألغام يمكن أن تنفجر في أية لحظة. لقد جاء ذلك النص معبرا عن توازن القوى الظرفية داخل النخبة السياسية والعسكرية، صاحبة القرار، فهو من ناحية الشكل يقر مبدأ التعددية تلبية لإرادة الشاذلي بن جديد، إلا أنه في محتواه، يترجم رغبة قطاع واسع من قيادات جبهة التحرير والجيش في إبقاء الأبواب موصدة أمام القوى السياسية الجديدة. نفس التأويل سمعناه في تلك الأيام من السيد الشريف بلقاسم الذي شغل في عهد هواري بومدين وظيفة مسؤول الأمانة التنفيذية لحزب جبهة التحرير، ثم بالتتابع وزارات التربية والاقتصاد والمالية والإعلام، قبل أن ينسحب من مجلس الثورة في منتصف السبعينات بسبب اختلافه مع رفيقه بومدين، وعدم موافقته على تركيز السلطات في شخص الرئيس. قال لنا السيد الشريف بلقاسم يومها : «إقرأوا نص الدستور بشكل جيد، وستجدون أنه مشحون بالتناقضات، ولا علاقة له بالواقع السياسي الذي أفرزته هزة أكتوبر. وإذا أرادت جماعة من الضباط، أن تقوم غدا بتنحية الشاذلي بن جديد من رئاسة الجمهورية، فإنها تستطيع أن تنفذ انقلابها وفقا لمقتضيات الدستور. ألا ينص هذا القانون، وهو أعلى قانون للدولة، بل هو قانون القوانين على منع إنشاء الأحزاب الدينية أو العرقية أو الجهوية؟ أو ليس الحزبان الرئيسيان عندنا، وهما الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وجبهة القوى الاشتراكية التي ينحصر نفوذها بمنطقة القبائل ويتزعمها السيد حسين آيت أحمد، يقومان طبقا لتلك القواعد التي يحرمها الدستور؟ أو ليس حزب «التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية» الذي يقوده الدكتور سعيد سعدي، والذي يضع على رأس جدول انشغالاته، مهمة إحياء الثقافة الأمازيغية، ومهمة فرض اللغة الأمازيغية أداة لغوية وطنية بجانب العربية، أو ليس هذا الحزب مخالفا لثلاثة مبادئ من مبادئ الدستور، أي مبدأ العرقية، ومبدأ اللغوية ومبدأ الجهوية؟ لهذا أقول لكم منذ الآن، إن الانقلاب الآتي سوف يكون دستوريا مئة في المئة، وسوف تكون نتيجته، إن اقتضت الحال، منع الأحزاب السياسية استنادا إلى نص دستوري صريح لا يقبل التفسير ولا التأويل. والواقع أن الذين وضعوا مسودة ذلك الدستور، زودوا بلادنا بأداة قانونية، لأي انقلاب. وحسب مبلغ علمي، فإن الجزائر هي البلد الوحيد في العالم العربي، وربما حتى في العالم كله، الذي تتوفر فيه إمكانية تغيير رئاسة الدولة بواسطة الجيش، من دون أن يستطيع أحد اتهام الحكام الجدد بخرق الدستور. بل أنا أذهب إلى أبعد من ذلك وأضيف، إن دستورنا يبيح سواء قرأنا نصه بالمفهوم الحرفي الضيق، أو نفذنا إلى لبه، عدم الاكتفاء بحل هذه الأحزاب، بل أيضا محاكمة زعمائها بتهمة مخالفة الدستور، وهو يسمح حتى بمحاكمة رئيس الجمهورية نفسه، بحجة خرق الدستور. أليس الشاذلي بن جديد، بوصفه حامي الدستور، هو أول من خرقه عندما اعترف بشرعية أحزاب ممنوعة دستوريا؟» سوف نرى في مقال لاحق، دور السيد الشريف بلقاسم، في تلك العملية المعقدة التي انتهت بذهاب الشاذلي بن جديد، أما الآن، فإننا نكتفي بالاستشهاد بتأويله الشخصي للطابع الدستوري للمشروع الانقلابي، الذي لم يكن قد برز أو بالأحرى تبلور ونفذ بالنجاح المعلوم. ولا شك أن قراءة الشريف بلقاسم للدستور توجد بهذا القدر أو ذاك من الوضوح لدى القادة الجدد للدولة الجزائرية، بل إننا نجدها في خلفية كافة المبادرات والمواقف التي اتخذت منذ إعلان استقالة الشاذلي بن جديد، يوم السبت 11 يناير 1992، حتى كتابة هذه السطور. وسوف نعالج، في مقال آخر، مقدمات التغيير الجديد، وآلياته، وشكليات تنفيذه، مكتفين هنا بالتأشير على أسسه النظرية. من مفارقات السياسة في الجزائر أن ذلك الدستور الذي وضع مبدئيا لإنهاء سيطرة الجيش على الحزب والدولة، هو نفسه الذي سيستعمله الجيش لوقف عملية التحول الديمقراطي. لم يكن الجيش راضيا على الإطلاق عن إدخال مبدأ التعددية، ولا كان بالخصوص مرتاحا إلى الترخيص لحزب إسلامي مثل جبهة الإنقاذ. ولكنه صمت، وترك الشاذلي بن جديد يتصرف كما يريد، لا لأنه كان مقتنعا بسلامة الخط السياسي الذي سار عليه خليفة هواري بومدين ، وإنما لحاجته إلى التقاط الأنفاس، وتضميد الجراح بعد تجربة أكتوبر. لقد كانت صورة الجيش مشوهة، مهزوزة، ومكروهة لدى الرأي العام. وقد انتهز الشاذلي بن جديد تلك الفرصة، فدفع الضباط العشرين الأعضاء في اللجنة المركزية إلى الاختيار بين العودة إلى الجيش، وبين الخروج منه نهائيا والبقاء في الحزب. واختارت غالبيتهم الحل الأول، أي الاستقالة من المسؤوليات الرسمية للحزب، وبموازاة ذلك الفصل بين الجيش والحزب، حصل فصل آخر بين الدولة وجبهة التحرير، أراد من ورائه رئيس الدولة إقناع الشارع بانتهاء عهد الحزب الواحد إلى الأبد، واستكمالا لسيطرته على الوضع، أقدم الشاذلي بن جديد بعد انتفاضة أكتوبر على إقالة عدد من كبار الضباط وإحالتهم على المعاش، بحجة ضرورة تحديث المؤسسة العسكرية، وشملت هذه التصفيات التي طالت مئات الضباط من مختلف الرتب، وجوها كان لها وزن كبير في حرب التحرير، الأمر الذي أثار حفيظة قدماء المجاهدين سواء داخل الحزب أو الدولة أو الجيش، أو المجتمع المدني، وجعلهم يشعرون بأن الشاذلي بن جديد لديه خطة متكاملة لتصفية عناصر الثورة من مواقع المسؤولية، وتجريدهم من أدوات التأثير في شؤون البلاد. رغم كل عمليات الإبعاد والإقالات والإحالات على التقاعد، ظل الجيش حاضرا في قلب اللعبة السياسية، وكان يرفع صوته من حين لآخر، للتذكير بوجوده. هكذا مثلا، وأثناء المظاهرات التي جرت في ربيع 1990، قبيل حلول موعد الانتخابات البلدية، أعلن العميد مصطفي الشلوفي، الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني أن الجيش «لن يسمح بخرق الدستور أو تهديد الوحدة الوطنية». وكان ذلك الخطاب موجها بالأساس إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي بدأت أدبياتها تتحدث عن مشروع إقامة الدولة الإسلامية. ثم قطع الرئيس شوطا آخر، في إبعاد الجيش عن السياسة اليومية، عندما قرر إعفاء العقيد قاصدي مرباح من رئاسة الحكومة، وإبداله بالسيد مولود حمروش، الأمر الذي اعتبره مسؤولو جبهة التحرير والجيش غلطة استراتيجية، سيما وأن التغيير الوزاري تم عشية الانتخابات البلدية الأولى التي تحصل في عهد التعددية. ووصلت الأزمة يومها إلى ذروتها، عندما اعتصم قاصدي مرباح بمقر الوزارة الأولى رافضا الاستجابة لقرار رئيس الجمهورية، مبررا موقفه بأن المجلس الوطني الشعبي له وحده صلاحية تغييره، وفي حالة واحدة، هي انعقاد جلسة مناقشة، تنتهي بحجب الثقة، أو بالأحرى سحبها من حكومته. وحبست البلاد أنفاسها مدة أربع وعشرين ساعة، وهي تواجه حالة غير مسبوقة يتخذ فيها رئيس الدولة قرارا رسميا معلنا بإقالة الوزير الأول، ويرفض فيها هذا الأخير التخلي عن منصبه، لكن امتحان القوة لم يستمر أكثر من أربع وعشرين ساعة، رضخ بعدها قاصدي مرباح للأمر الواقع، وغادر مبنى الوزارة الأولى ليخلفه فيه مولود حمروش. وحسب رواية سمعناها من أكثر من مصدر موثوق، فإن الانقلاب «العسكري-الدستوري» ضد الشاذلي بن جديد، كاد أن يحصل في تلك المناسبة، ولكنه تأجل لاعتبارات فنية وسياسية غامضة. «نعم، كان هناك رأي عام داخل الحزب والجيش يرى ضرورة وضع حد للمهزلة، وإعادة الاعتبار للدولة، قبل الشروع في أي إصلاح ديمقراطي. لكن العناصر العسكرية المقتنعة بالفكرة، كانت تعتبر أنه لا بد من مرور فترة زمنية قد تطول أو تقصر، تسمح للجيش بالخروج من كوابيس أكتوبر. ثم إنه لا مفر من السماح بإجراء الانتخابات البلدية لمعرفة حقيقة قوة التيارات السياسية المؤثرة والنافذة داخل المجتمع. وقد انتصر الرأي الذي قال بضرورة إفساح المجال أمام مولود حمروش، حتى يجرب حظه في الحكم وحتى نرى ما إذا كان قادرا على إقامة سد منيع، في وجه التيار الأصولي، عن طريق صناديق الاقتراع. أليس مولود حمروش شابا، وابن شهيد، ومثقفا، ومديرا سابقا للتشريفات في عهد بومدين وأمينا عاما سابقا للحكومة ولرئاسة الجمهورية؟». الضابط السامي الذي قال لنا هذا الكلام، في بداية صيف 1990، كان يشغل منصبا هاما في المحافظة السياسية للجيش الوطني الشعبي. ومثلما ابتلع هذا الأخير، إبعاد قاصدي مرباح عن رئاسة الحكومة تقبل مجيء مولود حمروش مكانه، وبقي يراقب عمل القيادات السياسية، في انتظار ما سيؤدي إليه من نتائج عملية. وجاءت الانتخابات البلدية في شهر يونيو 1990، وكانت هزيمة ساحقة لجبهة التحرير وانتصارا مشهديا مدويا للجبهة الإسلامية، التي استولت على السلطة المحلية في اثنين وأربعين ولاية من ثمانية وأربعين. وهناك عوامل ساهمت في توفير شروط انهيار جبهة التحرير الوطني، ووفرت الظروف الملائمة لانتصار الحزب الإسلامي. العامل الأول : هو حركة المناقلات الشاملة التي أقدمت عليها حكومة مولود حمروش، ونقلت بموجبها كافة الولاة من الأماكن التي كانوا يعملون بها إما إلى ولاية بعيدة عنها، وإما إلى الإدارة المركزية بوزارة الداخلية. ولقد أقدمت الحكومة على هذا التصرف حرصا منها على نزاهة الانتخابات وأيضا نتيجة ليقين راسخ لديها بأن أداء مناضلي جبهة التحرير العارفين جيدا بحقائق المناطق، كفيل بسد الثغرة. يضاف إلى ذلك أن حكومة مولود حمروش، كانت تريد أن توسع فرص النجاح أمام ممثلي الجيل الشاب داخل جبهة التحرير، وقد ارتأت كما قال لنا يومها أحد أعضاء اللجنة المركزية أن تبديل ممثلي الجهاز الإداري المرتبط بالحزب، هو أنجع وسيلة لتلافي تواطئه مع العناصر المتصلة بجيل الدناصير. وكانت العاقبة الفعلية لتلك السياسة، أن أعضاء الحزب الواحد الذين تعودوا على مساندة الإدارة لهم خلال التجارب الانتخابية البلدية الماضية، خاضوا معركة البلديات في بداية صيف 1990، وهم محرومون من أية مساندة إدارية. وزاد في الطين بلة أن السرعة التي تمت بها التغييرات الإدارية، لم تفسح لهم وقتا كافيا للتكيف مع الطوارئ. بل إن غالبيتهم العظمى لم تصدق حتى آخر لحظة، أن تقف الإدارة على الحياد التام، بل المطلق من تلك الاستشارة. وكانت انتخابات يونيو 1990، بمثابة صدمة عميقة لأنصار جبهة التحرير، لأنها بينت لهم وللرأي العام الوطني، أن حزبهم، برغم مشروعيته التاريخية، إنما يستمد وجوده، ونفوذه، وقوته، من مساندة الدولة له، وحين قررت الدولة أن تترك للمواطنين حرية الاختيار، وأن لا تتدخل لا من قريب ولا من بعيد في اللعبة الانتخابية، كانت النتيجة كارثة حقيقية. العامل الثاني : هو إبعاد القادة التاريخيين من الحملة الانتخابية. فتحت ضغط الحكومة، وأنصارها المؤلفين آنذاك لأغلبية المكتب السياسي، استغنى السيد عبد حميد المهري عن شخصيات ذات وزن وطني ودولي معروف مثل عبد العزيز بوتفليقة، ومحمد الصالح اليحياوي، وعبد السلام بلعيد، وأحمد طالب الأبراهيمي ومحمد الشريف مساعدية، ولم يدرجهم في لوائح الخطباء الذين كانوا يشرفون على المهرجانات الدعائية للجبهة، أكثر من ذلك، أصدرت حكومة مولود حمروش، كما أكد لنا ذلك في حينه السيد عبد العزيز بوتفليقة، تعليمات مشددة إلى أجهزة الإعلام، بأن تتجنب تغطية التظاهرات التي قد تشارك فيها تلك الرموز التاريخية المعروفة. ولا نستطيع أن نجزم حول ما إذا كان الهدف من تغييب «التاريخيين» مبعثه الرغبة في إبراز وجوه جديدة لإقناع الناس بحصول تغيير جذري، أم إن غايته الحقيقية، هي محاربة نفوذ «البومدينيين»، لكن الذي لا شك فيه هو أن جبهة التحرير الوطني خاضت غمار معارك تلك الانتخابات البلدية، بجنود من دون ضباط يحسنون فن المناورة، أو كما أكد لنا آنذاك وزير سابق يتخذ موقفا محايدا : «لقد أحالت قيادة الجبهة مارشلاتها وجنرالاتها على التقاعد، واكتفت باستخدام ضباط الصف والجنود، وتلك غلطة استراتيجية لا تغتفر لها». العامل الثالث : الذي حول الرأي العام عن الحزب الحاكم ودفعه إلى تأييد خصومه، هو تلك الحملة الغريبة خاصة من حيث التوقيت، والتي شنتها الحكومة ضد المهربين، وقد شرحناها في فقرات مقال سابق. العامل الرابع : ما اصطلح على تسميته بقنبلة 26 مليار دولار. وملخص الحكاية أن الدكتور عبد الحميد الإبراهيمي، الذي شغل منصب رئيس الحكومة أثناء السنوات السابقة لخريف الغضب، قال في محاضرة جامعية عادية أن الأموال التي كدسها الأثرياء الجزائريون بالخارج، بعد أن حصلوا عليها بواسطة الرشاوى والعمولات والصفقات المشبوهة مع الشركات الأجنبية، تتجاوز مبلغ المديونية الخارجية للبلاد. وكان من الممكن أن يبقى ذلك الكلام محدود التأثير داخل جدران الجامعة وفي أوساط الطلاب، لولا أن صحفيا من جريدة المساء الواسعة الانتشار نقله على صفحات مطبوعته. ولما كان عبد الحميد الإبراهيمي معروفا بنزاهته الفكرية، وبابتعاده عن الأضواء، واطلاعه الواسع والعميق على شؤون الاقتصاد، وتجربته الطويلة في الحكم كوزير أول مسؤول عن التخطيط، فقد أثارت تصريحاته غبارا كثيفا وسط الشارع، ووسط الدوائر المسؤولة، وانتهت بتكوين لجنة برلمانية للتحري، وبتهديده هو شخصيا، بالمتابعة أمام القضاء. واعتبرت العملية بمثابة قنبلة الموسم السياسية، ورافقتها إشاعة قوية بأن الرجل انخرط في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأراد بكلامه أن يقدم لها عربونا ملموسا على صدقية انتمائه الجديد. وقد أكد لنا السيد عبد الحميد الإبراهيمي، خلال لقاء مطول أجريناه معه بعد بضعة أيام فقط من إلقاء محاضرته، أنه يملك الأدلة الدامغة لإثبات صحة أقواله، التي لم يكن يتوقع، عندما صدرت منه أن تكون لها هذه الأصداء الواسعة. وإجمالا، كانت لتلك القنبلة آثارها المدمرة على معنويات أنصار جبهة التحرير، وكانت لها انعكاساتها القوية في تعميق الفجوة القائمة بين الحزب الحاكم والشارع الثائر، الغاضب. وكان لذلك كله أثره في صناديق الاقتراع، سيما وأن رئيس الحكومة السابق فجر مفرقعته في أوج الحملة الانتخابية. العامل الخامس والأخير : السماح للرجال بأن يصوتوا مكان النساء، سواء بصفتهم أزواجا، أو آباء أو إخوة أو أخوالا أو أعماما. ولما كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ أكثر تنظيما وأشد وأحكم انضباطا من غيرها، ولا تولي، مثل الأحزاب الديمقراطية، أهمية كبرى للرأي الفردي، ولاسيما إن كان صادرا عن المرأة، فإنها استفادت أكثر من غيرها، من ذلك القانون الغريب. إنها خمسة عوامل، أربعة منها من صنع الحكومة وتدبيرها وإخراجها، تضاف إليها هفوة رئيس الوزراء السابق، تضافرت جميعها لإقناع أغلبية الجزائريين بانتهاز الفرصة المتاحة لهم من أجل تبديل الحزب الحاكم بغيره، في البلديات، تمهيدا لإبعاده نهائيا عن السلطة، عندما يأتي موعد الانتخابات التشريعية أو الرئاسية. وسوف نرى أن بذور انقلاب شتاء 1992 موجودة فيما أفرزته صناديق الاقتراع في صيف 1990، وأن العام ونصف العام الفاصل بين التاريخين، ليس مجرد صفحة بيضاء في كتاب الانقلاب الدائم، وإنما هو سلسلة متصلة الحلقات، كان لا بد أن تنتهي بما حدث يوم 11 يناير الماضي. الجزائر من الشاذلي بنجديد إلى محمد بوضياف أو شتاء الديمقراطية في الجزائر 4 - الإنقلاب السري ومحاولة الإنقلاب العلنية لابد أن تمر فترة زمنية طويلة أو قصيرة، بهذا القدر أو ذاك، قبل أن نتمكن من معرفة التاريخ الدقيق الذي اتخذت فيه قيادة الجيش قرارها بإبعاد الشاذلي بن جديد من موقع رئاسة الجمهورية، وفي انتظار ظهور المعلومات الموثقة، يبقى علينا أن نقدم سلسلة من الوقائع والمعطيات التي استطعنا جمعها من صناع القرار، عبر اتصالات عديدة في الجزائر وباريس. إذا كانت العناصر المتوفرة لدينا لا تسمح لنا بالجزم في شأن الأشخاص الذين خططوا للانقلاب الأخير، فإن مؤشرات البحث عن بديل أو خليفة الشاذلي بن جديد، هي من الغزارة والتشابك والتعقيد، إلى درجة يصعب معها فرز الخبر الصحيح من الإشاعة السّقيمة. هناك جملة من الوقائع المؤكدة، تثبت أن فكرة تغيير الشاذلي بن جديد، ولدت في وقت ما، بين انتفاضة أكتوبر 1988 والانتخابات البلدية التي جرت في يونيو 1990. من جملة هذه المعطيات، معطيان تمكَّنَّا من التدقيق في صحتهما. ويتعلق الأمر بمحاولة جرت أثناء حوادث أكتوبر، ونسبت مسؤوليتها إلى العميد محمد عطايلية، الذي كان يتولى قيادة الناحية العسكرية الأولى في مدينة البليدة، قبيل انفجار خريف الغضب، ثم نقل من موقعه لِيُعَيَّنَ في منصب المفتش العام للجيش. وكان العميد محمد عطايلية المعروف داخل الجيش بلقب «الروج» بسبب بشرته الشقراء، والذي يمت بصلة قرابة إلى الرئيس الراحل هواري بومدين، معروفا لدى الخاص والعام، بغيرته الشديدة على مكانة الجيش، وبمعارضته لخطة الشاذلي بن جديد الرامية إلى عزل العناصر الآتية من حرب التحرير. وقد روى لنا أحد أصدقائه والمقربين منه أنه، عندما عرض عليه بن جديد التخلي عن موقعه في المؤسسة العسكرية، أجابه : «لقد جئنا معا إلى السلطة، فإما أن نتركها جميعا أو نبقى فيها جميعا». وذكر لنا ذلك الصديق المشترك، أن العميد السيد محمد عطايلية، أبعد في النهاية من وظيفته، بعد أن اكتشفت الاستخبارات العسكرية مشروعا انقلابيا، كان يعده بالتعاون مع مجموعة من كبار الضباط، بينهم العميد أمين زروال، القائد العسكري السابق لناحية بشار، الذي كان يشغل في ذلك الوقت وظيفة قائد سلاح المدرعات. وإذا كان عطايلية، قد أبعد من قيادة الناحية العسكرية الأولى، حيث كان يسيطر على قوات هامة تضع العاصمة تحت رحمة تهديده المباشر، ثم عُين مفتشا عاما للجيش قبل أن يحال على المعاش، فإن العميد أمين زروال، قد نقل من قيادة سلاح المدرعات، إلى منصب سفير الجزائر في رومانيا. الواقعة الثانية في ذلك الهجوم الغامض الذي شنته مجموعة من الضباط والجنود على المنزل الصيفي للرئيس الشاذلي بن جديد في مدينة زرالدة الشاطئية، بالضاحية الغربية للجزائر العاصمة. وإذا كانت المحاولة المنسوبة إلى العميد محمد عطايلية، بقيت محدودة التداول، ولم تخرج عن نطاق الدوائر السياسية والإعلامية والدبلوماسية المطلعة، فإن عملية اقتحام القصر الشاطئي، خرجت إلى العلن بعد أن سربتها جهة مجهولة إلى مكتب وكالة أنباء أجنبية، بعث بها إلى الخارج، فتلقفتها القناة الخامسة الفرنسية، وبثتها كخبر رئيسي في إحدى نشراتها المسائية التي يشاهدها مئات آلاف المتفرجين الجزائريين. كنا حينئذ في الجزائر، نتابع حملة الانتخابات البلدية، وعشنا عن كثب ردود فعل الشارع على الحدث. وقد ردت أجهزة السلطة على ذلك الحدث، بترويج إشاعة مفادها أن العملية كانت من فعل جنود سكارى، فكروا في تدبير مقلب لبعض رفاقهم وتبادلوا رشقات نارية مع حراس الإقامة الصيفية للرئيس. لكن تلك الإشاعة لم تصمد طويلا، أمام فيض الخيال الشعبي الذي بدأ يتحدث عن إصابة بن جديد بجراح بالغة الخطورة، اقتضت نقله إلى الخارج، ومن أجل وضع حد لموجة الشائعات، أعلنت مصالح الإعلام في الرئاسة أن بن جديد سيقوم بجولة رسمية إلى شرق البلاد، لعقد سلسلة لقاءات هامة مع إطارات الأمة. وبعد مرور أربع وعشرين ساعة على صدور ذلك البيان، ظهر الشاذلي بن جديد، بمدينة قسنطينة، يخطب في اجتماع مغلق للمسؤولين في الولاية، وكان محاطا بكبار قادة الجيش. ثم ظهر في اليوم التالي بمنطقة الأوراس، وهو يحضر مناورة بالذخيرة الحية لفرقة المدرعات. تزامنت تلك المحاولة، التي لم تعرف حتى اليوم تفاصيلها الكاملة، مع سيل من الشائعات تدور كلها حول مشروع تحالف بين الرئيس السابق أحمد بن بلة، الذي كان ما يزال مقيما بالخارج، وبين الجبهة الإسلامية للإنقاذ بزعامة عباسي مدني. وكان الرئيس أحمد بن بلة، قد أوضح لنا خلال لقاء شخصي طويل أجريناه معه بمدينة لوزان السويسرية، أنه يتوقع حصول تطورات سريعة، تمكنه من العودة إلى بلاده، ليساهم في إخراجها من المأزق السياسي الذي تتخبط فيه. وشرح لنا أنه على اتصال وثيق بقيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وبعدد من الضباط النافذين في قيادة الجيش، وأنه يدرس مع كل الأطراف تفاصيل صيغة سياسية تحظى بوفاق وطني واسع، من أجل تأمين ذهاب الشاذلي بن جديد، بشروط تضمن له حفظ ماء وجهه، وتوفر مناخا سياسيا صحيا يسمح للدولة باستعادة هيبتها، ويتيح إنجاز الإصلاحات العميقة التي يريدها الشعب. وفهمنا من كلام أول رئيس للجمهورية الجزائرية، أن الصيغة الموضوعة قيد الدرس، قد تأخذ شكل إضراب سلمي عام، ترافقه مسيرات واعتصامات، لن تتوقف إلا باستقالة الشاذلي بن جديد. في الفترة ذاتها أعلنت الجبهة الإسلامية للإنقاذ أنها سوف تنظم مسيرة شعبية، تتوجها باعتصام مفتوح أمام مبنى الرئاسة، لتقديم سلسلة من المطالب، لم تكن تتضمن الاستقالة الفورية. كما أعلنت مجموعة من مسؤولي الاتحاد العام للعمال الجزائريين، أن تلك المركزية النقابية تفكر في إعلان إضراب عام، لم تحدد أهدافه السياسية بما يكفي من الوضوح. وفي النهاية، قامت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بمسيرتها واعتصم آلاف من أعضائها عدة ساعات أمام قصر الرئاسة، واستمعوا إلى الشيخ عباسي مدني، وهو يقرأ لائحة من عدة نقط تشرح برنامج الحزب الإسلامي، وتطالب الدولة باحترام رأي الشعب. وقد استقبل وفد يمثل المتظاهرين من قبل موظف بسيط في رئاسة الجمهورية، تسلم منه المطالب ووعد بإبلاغها إلى الشاذلي بن جديد. أما الاتحاد العام للعمال الجزائريين، فإنه لم يجدد كلامه عن الإضراب، وإنما دخل مباشرة في سلسلة من المفاوضات، مع حكومة مولود حمروش، تمخضت بعد بضعة أيام، عن إعلان مشترك، يفهم منه أن السلطات الرسمية، استجابت لغالبية المطالب التي تقدمت بما المركزية النقابية الوطنية. فما الذي حدث بالضبط حتى أقلع الإسلاميون عن فكرة الاعتصام المفتوح وألغى الاتحاد العام مشروع الإضراب؟ مرة أخرى، لا نستطيع القطع برأي نهائي في شأن ذلك التحول المفاجئ الحاصل في موقف الحزب الإسلامي والنقابات، لأن الطرفين رفضا يومها الإجابة بدقة عن السؤال الذي وجهناه إليهما، واكتفيا بالكلام عن عموميات غير مقنعة. الملفت للنظر، هو أن الرئيس السابق، أحمد بن بلة الذي كان وقتها محور التحركات المختلفة الرامية إلى إيجاد خلف تاريخي للشاذلي بن جديد، اختار تلك الأيام بالتحديد، للخروج من مرحلة صمت طويل، كان قد قرر بالاتفاق مع أصدقائه الالتزام بها كجزء من استراتيجية التمهيد لعودته. وكان الرئيس أحمد بن بلة الذي التقينا به أربع مرات، واستغرقت أحاديثنا معه ساعات طوالا، فتح لنا خلالها قلبه بلا تحفظ وحدثنا عن تفاصيل اتصالاته، يؤكد لنا في نهاية كل لقاء على عدم نشر أي كلام على لسانه، قبل إعطائنا الضوء الأخضر بذلك، ويلح علينا بأن نبلغ التفاصيل إلى الإخوة في الاتحاد، خاصة سي عبد الرحيم، وسي عبد الرحمن، حتى يظلوا على معرفة، بينة ودقيقة بمجريات الأمور. وفجأة ونحن في الجزائر، قرأنا حديثه الذي أدلى به إلى الصحفي الفرنسي، جان فرانسوا كان، مدير تحرير أسبوعية «حدث الخميس». ويأخذ ذلك الحديث، على ضوء التطورات الأخيرة التي انتهت بإبعاد الشاذلي بن جديد عن الرئاسة، كل دلالاته وأبعاده. لقد اقترح أحمد بن بلة يومها تعويض الشاذلي بهيئة أطلق عليها اسم «مجلس الحكماء»، تتولى تسيير شؤون البلاد لفترة مؤقتة بمساعدة مجلس استشاري لم يحدد عدد أعضائه، وعبر عن استعداده لتولي رئاسة تلك الهيئة، والغريب أن هذه الصيغة هي التي طبقت أخيرا عبر تكوين مجلس دولة من خمسة أعضاء، وعبر الكلام عن مجلس وطني استشاري، تجرى الاتصالات حاليا على قدم وساق لإنشائه. هل معنى ذلك أن صيغة شتاء 1992، كانت جاهزة في صيف 1990، وأن العناصر النافذة في الجيش اختارت محمد بوضياف بدلا من أحمد بن بلة، للإشراف عليها؟ تحضر في ذاكرتنا الآن، ونحن نحاول إعادة بناء التفاصيل والجزئيات التي مهدت للتحول الأخير جملة عابرة وردت في سياق حوار بيننا وبين الرئيس السابق، بالبيت الذي كان يستقبل فيه زواره على ضفاف بحيرة ليمان في ضاحية مدينة لوزان، كان يوما ربيعيا جميلا وكنا نقف مع الرئيس في شرفة دارته، وننظر إلى الضفة الفرنسية المقابلة من النهر، حيث توجد مدينة إيفيان التي أبرمت فيها خلال يوم ربيعي مماثل من سنة 1962، الاتفاقيات الرسمية بين فرنسا ووفد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية حول استقلال الجزائر. قال لنا الرئيس السابق، ونحن نستعد لوداعه للعودة إلى باريس، قبل الالتحاق بالجزائر عبر المغرب، «إذا قرأتم حديثا لي مع صحيفة فرنسية فافهموا أن ساعة الحسم قد اقتربت، سلموا على الإخوان، وخاصة سي عبد الرحيم وسي عبد الرحمن». وقرأنا الحديث المذكور مع مدير أسبوعية «حدث الخميس»، وفهمنا فيما بعد من مساعدي بن بلة الأقربين أنه اختاره من بين عشرات الصحفيين الفرنسيين والإسبان والبريطانيين والألمانيين، الذين وجهوا إليه طلبات بإجراء مقابلات صحفية، بعد أن تواترت الأنباء عن قرب عودته، واحتمال استلامه منصب رئاسة الدولة، وفهمنا لدى وصولنا إلى الجزائر أن صيغة «مجلس الحكماء» التي اقترحها، كانت خلاصة لمفاوضات سرية أجراها معه عدد من ضباط الجيش والمسؤولين في الدولة. لكننا لا نملك أن نجزم اليوم إذا كانت تلك الاتصالات تترجم موقفا محددا من طرف مجموعة قوية من الجيش والدولة والحزب، كانت تخطط منذ تلك الفترة لإزاحة الشاذلي بن جديد عن كرسي الرئاسة والمجيء بأحمد بن بلة لخلافته، أم إنها كانت عملية جس نبض لا غير، أرادت من ورائها المؤسسة العسكرية معرفة مدى استعداد الرئيس السابق للتعاون معها ضد بن جديد؟ ويوجد بين أصدقاء الرئيس ابن بلة اليوم أشخاص لا يترددون في القول، بأن تلك الاتصالات كانت مجرد فخ نصبته الاستخبارات العسكرية لأحمد بن بلة واستدرجته إلى السقوط في شباكه، من أجل نسف مشروع التحالف الذي كان يوشك أن يعلنه مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وأصدقاء الرئيس أحمد بن بلة، الذين قالوا لنا هذا الكلام، ليسوا من الذين يطلقون أحكاما جزافية متسرعة. لقد كانوا يشكلون حلقة الوصل التنظيمية السرية بين الرئيس السابق وحزب عباسي مدني وعلي بلحاج، وكانوا قد قطعوا أشواطا بعيدة مع جبهة الإنقاذ في إعداد مسودة نص سياسي يلزم الطرفين، أي البنبليين والإنقاذيين، تنضم إليه تيارات وشخصيات أخرى من جبهة التحرير الوطني، ويشكل أرضية مشتركة، لمرحلة انتقالية يغادر فيها الشاذلي بن جديد، رئاسة الجمهورية، وتتولى خلالها هيئة مؤقتة إدارة شؤون البلاد، بانتظار إقامة المؤسسات الدستورية الجديدة. وفجأة، لاحظ أولئك الشبان الذين كانوا حلقة اتصال مع قيادة الإنقاذ، أن أشخاصا رسميين يحتلون مناصب هامة في الأجهزة، بدأوا يكثرون من التردد على منزل بن بلة في سويسرا، ويقدمون إليه معلومات واقتراحات مغرية، وينصحونه بالابتعاد عن الإنقاذيين. كما لاحظوا أن هؤلاء «الموفدين» وجدوا أذنا صاغية لخطابهم عند الرئيس السابق، الذي وصل به الأمر إلى إصدار تعليمات لأصدقائه بالكف عن التنسيق مع مدني وجماعته. وكان هؤلاء الرسميون، يؤكدون لابن بلة البقاء على الحياد في الصراعات الحزبية، لأنه زعيم وطني فوق الجميع، ينبغي أن يحتفظ بمكانته كمرجع وملاذ تحتاج البلاد إلى خبرته وحنكته وتبصره. ولا نستطيع أن نقطع برأي دقيق، حول طبيعة هذه الاتصالات : هل كانت مثلا من فعل الأجهزة، وفي إطار استراتيجية تستهدف فك الارتباط بين ابن بلة وجبهة الإنقاذ، في نطاق تشتيت المعارضة المناوئة للشاذلي بن جديد؟ هل كانت تتم بعلم من هذا الأخير، أو من وراء ظهره، وضمن النشاط الاعتيادي لهيئات أمن الدولة الخارجي؟ هل كانت من فعل جهاز معين، يعمل لحساب جهة ما داخل الجيش، في أفق تأجيل التغيير؟ ما نعرفه الآن عبر مسموعات مستمدة من أصدقاء بن بلة نفسه، هو أن أولئك المندوبين، وبينهم وزير يحتل اليوم منصبا هاما في حكومة السيد أحمد غزالي، أبدوا استعدادهم للتكفل بكل مستلزمات عودة الرئيس السابق، إلى بلاده وسلموه جواز سفر دبلوماسي، وسهروا بعد عودته، على الترتيبات والإجراءات التي أعطي له بموجبها بيت محترم، في أعالي العاصمة، يليق بمكانته وتاريخه. وما نعرفه كذلك، هو أن السيد أحمد غزالي، الذي كان يشغل آنذاك وظيفة وزير الخارجية، والذي ينتمي إلى مدينة ندرومة القريبة من مغنية، موطن بن بلة الأصلي، كان واحدا من الشخصيات المسؤولة التي أبلغت أحمد بن بلة، أكثر من رسالة تدعوه فيها إلى التعجيل بالعودة لبلاده، من أجل المساهمة في تجربتها الديمقراطية. وقد كان الموقف من الرئيس السابق مثار خلاف حاد بين سيد أحمد غزالي، ورئيس الحكومة مولود حمروش ، الذي لم يكن يتردد في مجالسه الخاصة باتهام وزير خارجيته بأنه أصبح «بَنْبَلِّياً» لاعتبارات جهوية، وقد تركز اختلاف رئيس الحكومة ورئيس الدبلوماسية حول الملف القضائي الذي سنعرض له في فقرة لاحقة. وتوجد أيضا وقائع أخرى تؤكد أن فكرة عودة أحمد بن بلة إلى البلاد، بدأت ترتبط في أذهان عدد من كبار المسؤولين باحتمال «إعادته» إلى السلطة أو إعادتها إليه. وأهم مناسبة برزت فيها تلك الحالة، أو بالأحرى خرجت فيها من المكاتب المغلقة إلى الرأي العام هي الاجتماع الاستثنائي الذي عقدته اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني بقصر الأمم، قبل الانتخابات البلدية ببضعة أسابيع. خلال ذلك الاجتماع الذي استغرق ثلاثة أيام، وأتيحت لنا فرصة متابعة مداولاته المغلقة، طرح عدد من أقطاب الحزب الحاكم، [وتحديدا السادة عبد السلام بلعيد وعبد العزيز بوتفليقة ومحمد الشريف مساعدية]، ضرورة تحديد موقف من مسألة عودة أول أمين عام للحزب، بعد الاستقلال، بل ذهب أحدهم إلى حد المطالبة بأن يعود إلى الجبهة. وكشف ثلاثة من الخطباء هم عبد العزيز بوتفليقة ومحمد الصالح اليحياوي ومحمد الشريف مساعديه، النقاب عن أنهم أثاروا مشكلة بن بلة مع الشاذلي بن جديد. وقد استغرق الجدل حول بن بلة يوما ونصفاً، من ثلاثة أيام كان يفترض أن تخصص لمناقشة استراتيجية الحزب الحاكم في الانتخابات البلدية الآتية قريبا، ولم يبد أعضاء اللجنة المركزية أي اعتراض حول ضرورة رجوع بن بلة، بل إن الشبان الذين كانوا يستمعون لأول مرة إلى الحديث عن القضية، أظهروا فضولا حقيقيا، وعبر أكثر من واحد منهم عن رغبته في الاستماع إلى المزيد من التفاصيل حول نقطة، كانت تعد، حتى ذلك التاريخ، من صنف المحرمات السياسية. صوتان، ارتفعا في تلك المناسبة للتنديد بذلك الاهتمام المفاجئ، من طرف بعض أعضاء اللجنة المركزية بابن بلة هما صوت الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وزير الخارجية السابق، في عهد هواري بومدين، وصوت المحامي الشاب، علي بن فليس وزير العدل في حكومة مولود حمروش. وقد بدأ الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وكأنه صارخ في البرية، أو طائر يغرد خارج السرب، حين تدخل ليقول حذار، ثم حذار، إذا قررتم دعوة أحمد بن بلة، لاستلام قيادة الجبهة، فإنكم مقبلون حتما على انتحار سياسي مضمون. غير أن مداخلة وزير الخارجية لم تؤثر في الجو العام، وفهم المشاركون المرارة التي طبعت خطاب أحمد طالب على أنها صادرة من رجل لا يزال يتذكر أنه سجن مرتين في حياته : مرة أولى من طرف فرنسا ومرة ثانية من طرف الرئيس أحمد بن بلة، الذي أساء إلى والده الشيخ البشير الإبراهيمي وأهانه حين وضعه تحت الإقامة الإجبارية، ومنعه من أداء أي نشاط ثقافي أو ديني ضمن محاربته لنفوذ جمعية العلماء. ولم يكن هؤلاء الأخيرون، يخفون معارضتهم الشديدة للنهج الاشتراكي الذي اتبعه أحمد بن بلة خلال سنوات حكمه. وكان من الطبيعي تماما أن يؤثر ذلك الماضي البعيد على موقف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي من مشروع عودة بن بلة، وبالأخص من احتمال إعادته إلى جبهة التحرير. إنها مسألة طبيعية تماما سيما وأن الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي -كان ولعله لايزال- يطمح في الرئاسة. أما كلام المحامي علي بن فليس، وزير العدل فإن له مبررات ودوافع ودلالات مختلفة. لقد حاول بن فليس أن يوضح أمام اللجنة المركزية بأن مشكلة بن بلة، ليست من صلاحية رئيس الجمهورية، وإنما هي من اختصاص العدالة، والعدالة وحدها. وبما أن القضاء، وفقا لبنود الدستور الجديد، مستقل تماما عن السلطة التنفيذية، فإنه لا يمكن لهذه الأخيرة أن تعمل أي شيء من قبل أن تقول العدالة كلمتها الأخيرة. وكان وزير العدل، يشير في خطابه، إلى قضية معروضة يومها على القضاء الجزائري، تتصل بشبكة اعتقل أعضاؤها وقدموا إلى قاضي التحقيق بتهمة حيازة السلاح، والتحضير لسلسلة من الأعمال الإرهابية. وقد نسبت السلطة القضائية إلى رئيس الشبكة اعترافات يؤخذ منها أنها عضو مسؤول في حزب الحركة من أجل الديمقراطية الذي يقوده أحمد بن بلة من الخارج. كما نسبت إليه إفادات يؤكد فيها أنه تلقى كميات من الأسلحة والأموال من ليبيا، وكان، وهو يخطط للعمليات، على صلة منتظمة بِبَنْ بَلَّة. ومن الواضح أن وزير العدل، حين تدخل أمام اللجنة المركزية وحاول أن يختزل مشكلة أحمد بن بلة إلى قضية جنائية اعتيادية، إنما كان يعبر عن وجهة نظر قطاع واسع من أهل الحكم. لقد حاولت حكومة مولود حمروش أن تستغل حكاية شبكة الإرهاب المذكورة لتأجيل الاعتراف الرسمي بحزب «الحركة من أجل الديمقراطية»، بل استخدمتها لنسف الجسور التي كانت أطراف أخرى نافذة، داخل الدولة والجيش والحزب، تريد إقامتها مع الرئيس السابق، ضمن بحثها عن بديل للشاذلي بن جديد، يحظى بالصدقية والمصداقية، ويملك رصيدا تاريخيا يجعله جديرا بالتصدي للتحديات الجديدة. فهل هي مجرد مصادفة، أن القطيعة السياسية بين أحمد بن بلة والجبهة الإسلامية للإنقاذ، تعود إلى تلك الفترة؟ حتى ذلك التاريخ، أي الأيام السابقة لسلسلة المظاهرات الكبرى التي جرت في شهر مايو 1990، كانت الحسابات الاستراتيجية، والتقديرات السياسية والتوقعات المرحلية المتصلة بآفاق التغيير، سواء لدى الأطراف المحليين أو عند الجهات الإقليمية والدولية المعنية برهانات التجربة الجزائرية تستند إلى جملة من الفرضيات، تأتي في مقدمتها فرضية واحدة تؤكد أن الشاذلي بن جديد، لن يكمل ولايته الثالثة. انطلاقا من هذه الفرضيات، كانت هناك سيناريوهات متنوعة للبديل، تتقاطع أكثر من واحدة منها حول شخصية الرئيس السابق. كان هناك سيناريو حلف سياسي بين حزب بن بلة وحزب عباسي مدني زائد الجناح الإسلامي في جبهة التحرير، وسيناريو حلف بين بن بلة ومجموعة بومدين داخل الجيش، زائد بعض الرموز التاريخية داخل الدولة والحزب، وسيناريو تحالف بين بن بلة وأيت أحمد زائد عدد من التيارات الديمقراطية المتناثرة هنا وهناك، دائما في نطاق البحث عن بديل أو خليفة للشاذلي بن جديد. الرهانات الدائرة حول الرئيس السابق، لم تكن محصورة في الجزائر وحدها وإنما تعدتها إلى الأطراف الإقليمية العربية والدولية. وكانت فرنسا في مقدمة الجهات الخارجية التي انتبهت قبل غيرها إلى احتمالات عودة بن بلة إلى قيادة سفينة الدولة الجزائرية. ولم يكن ربط الجسور بين باريس وأول رئيس للجمهورية الجزائرية بالأمر الهين. فبالإضافة إلى تاريخ الرجل الذي كان واحدا من مفجري ثورة أول نوفمبر، ضد الاستعمار الفرنسي، والذي اختطفت طائرته يوم 22 أكتوبر 1956 من طرف الجيش المحتل، في أول عملية قرصنة جوية معاصرة، أمضى بعدها أكثر من خمس سنوات داخل زنازن السجون الفرنسية، وكان بعد الاستقلال، وراء تصفية النفوذ الاقتصادي لفرنسا، بالإضافة إلى ذلك كله، تعقدت الصلات بين الحكم الاشتراكي الفرنسي وبن بلة، إلى درجة كان من الصعب فيها على الطرفين، أن يخطو واحد منهما باتجاه الآخر. يعود ذلك التعقيد إلى عدة أسباب، يمكن اختصارها أو اختزالها إلى الاعتبارات التالية : بعد وصول الاشتراكيين إلى السلطة، في ربيع عام 1981، أصبحت الجزائر محور استراتيجية عالمية طموحة، تقوم على مربع يفترض أن أركانه أو زواياه موجودة في دلهي الجديدة وبغداد بالقارة الآسيوية، ومكسيكو وكوبا بأمريكا اللاتينية، والجزائر ومصر بالقارة العربية الإفريقية. كانت الحرب العراقية الإيرانية في أوج عنفوانها، وكانت باريس تقف بلا تردد في صف بغداد، وكان ابن بلة حينما لجأ إلى العاصمة الفرنسية بعد عودته من الحج، ومروره على طهران، مفتونا بالتجربة الخمينية. لم تكن العلاقات الجيدة بين أحمد بن بلة ومعمر القذافي أمرا سريا، ولا كانت الروابط القوية بين طهران وطرابلس خفية على أحد، لأن الطرفين عبرا عنها في أكثر من مناسبة. وكانت العاصمتان الإسلاميتان يومها في حرب غير معلنة مع فرنسا. كانت طهران تعتبر باريس «شيطانا صغيرا»، يقوم بتزويد خصمها العراقي بكل ما يحتاجه من عتاد وذخيرة لمواصلة «حربه» ضدها، وكانت طرابلس في صراع مفتوح مع العاصمة الفرنسية، على امتداد الساحة الإفريقية، وفوق رمال التشاد بالضبط. أحمد بن بلة، لم يكن أيضا يخفي معارضته لسياسة تدجين الفلسطينيين، وكانت علاقاته الوثيقة والاجتماعات المكثفة مع المرحوم «أبو جهاد» معروفة لدى الخاص والعام. لم تكن العلاقات بين باريس والجزائر، محصورة في نطاق التعاون الاقتصادي والثقافي والعلمي والمالي والتكنولوجي، ولكنها تجاوزت هذه الميادين إلى مجال التنسيق الأمني الاستراتيجي. وقد لعبت الجزائر دورا نشطا في قصة الرهائن الأمريكيين والغربيين بصورة عامة، سواء من خلال تعاونها وتفاهمها مع إيران وسورية، أو عبر علاقاتها ومعارفها وشبكاتها داخل الأوساط اللبنانية والفلسطينية. وكانت مشكلة «الإرهاب» في نهاية حقبة السبعينات وبداية حقبة الثمانينات، نقطة حساسة بالنسبة لفرنسا خصوصا وبالنسبة للغرب عموما . ولعل الرئيس السابق، حين اختار الإقامة في فرنسا، لم يكن يدرك تماما أنه يضع نفسه في عين الإعصار. ومما زاد في حراجة وضعه أنه بدأ فور استقراره في ضواحي باريس، في العمل على توحيد الهجرة الجزائرية، وفي السعي إلى تنسيق جهود المعارضة. وقد رأت الحكومة الاشتراكية، فيما يبذله من نشاط متعدد الأوجه، تهديدا مباشرا لتحالفاتها الإقليمية، سيما وأنه أصبح بسرعة نجما إعلاميا، تتسابق الصحف والإذاعات وقنوات التلفزة إلى الأحاديث معه، وذات يوم قررت الحكومة الفرنسية طرده، بحجة أنه لم يتقيد بفريضة التكتم، التي تحتم على أي لاجئ سياسي، أن لا يقوم بأي نشاط من شأنه أن يخل بالأمن. ويبدو أن حكومة فرنسا ندمت بسرعة على تسرعها. وذكر لنا المحامي الفرنسي-الجزائري الشهير، الذي كان يتولى الدفاع عن بن بلة، وكان من قبل أن تغتاله المخابرات العسكرية الجزائرية في باريس يقوم بمهمة ضابط الارتباط بين بن بلة وأيت أحمد، ذكر لنا أن وزارة الداخلية الفرنسية أخبرته أن بإمكان الرئيس السابق العودة إلى فرنسا متى شاء، لكن أحمد بن بلة -حسب رواية المرحوم علي المسيلي- اشترط أن تقدم له فرنسا اعتذارا علنيا عن تصرفها معه، وأن تلتزم بعدم إبعاده مجددا، وكان «يطلب المستحيل» في رأي محاميه. رفض بن بلة العودة إلى باريس، وبقي يتنقل بين سويسرا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا، وظلت العلاقات مقطوعة بل متوترة جدا بينه وبين السلطات، التي شددت في وقت من الأوقات مضايقاتها على أنصاره، وحاولت أن تطرد مجموعة هامة من مسؤولي الحركة من أجل الديمقراطية إلى الجزائر مباشرة، حيث كان المتوقع أن تعتقلهم مصالح الأمن وأن تقدمهم إلى المحاكمة. ثم غيرت باريس موقفها بالتدريج، بناء على معلومات وصلتها من داخل الجزائر، ترشح الرجل للعودة إلى السلطة في غضون عام 1990. وكان أول مؤشر إلى ذلك التبدل، هو تسابق الصحف ووسائل الإعلام الفرنسية إلى طلب المقابلات الصحفية، تسابقا كانت ثمرته الأولى الحديث الذي سبق أن أشرنا إلى أن أحمد بن بلة أدلى به لمدير مجلة «حدث الخميس»، والجدير ذكره، هو أن ذلك الصحفي، رغم المقالات الانتقادية المستقلة التي يكتبها عن الأوضاع الفرنسية كان على اتصال وثيق برئيس الجمهورية الفرنسية، من خلال صداقته الشخصية بجاك أتالي، مستشار ميتران. وقد انتهز بن بلة فرصة تلك المقابلة ليوجه خطابا سياسيا معتدلا وجديدا تماما، حول علاقات فرنسا والجزائر، وحول القضية الفلسطينية وحول الإسلام، وكان ذلك الحديث الصحفي مجرد بداية لسلسلة من الاتصالات السرية جرت، بانتظام وبدون توقف حتى اليوم، بين بن بلة وإدغار بِّيزَاني، مدير معهد العالم العربي وأحد أقطاب الحزب الاشتراكي والذي يشغل أيضا منصب مستشار خاص للرئيس ميتران. وإذا كان أحمد بن بلة لم يعد إلى السلطة، كما كان متوقعا، فإنه أعاد ربط الجسور مع الحكومة الاشتراكية. هل دبر الشاذلي بنجديد حوادث أكتوبر 1988؟ تمتلئ الصحافة الجزائرية، منذ بضعة أشهر بسلسلة من المقالات والتحليلات والتعاليق، تحاول أن تقنع الرأي العام الجزائري بأن الرئيس الجزائري السابق، الشاذلي بنجديد هو المسؤول الأول والأخير، عما وصلت إليه البلاد من تدهور في أوضاعها السياسية والاقتصادية والأمنية. ولما كانت الصحف الصادرة تخضع بهذا القدر أو ذاك لرقابة الدولة، فليس من المبالغة في شيء القول بأن حملة الشهير الحالية، تدخل ضمن سياسة مرسومة، هدفها تسويد صفحة خليفة هواري بومدين، وتحميله مسؤولية الحالة المتردية التي يواجهها البلد الشقيق. مجلة ألجيري أكتياليتي (أحداث الجزائر) الأسبوعية التي كانت قبل خريف الغضب الدامي أقرب المطبوعات الصحفية إلى رئاسة الجمهورية، وأصبحت فيما يبدو، بعد تغيير هيئة تحريرها، المرة الرابعة في ظرف أربع سنوات، مقربة من خط المجلس الأعلى للدولة، شاركت من جهتها في الحملة، بنشر مقال مطول، من ست صفحات، بمناسبة الذكرى الرابعة لأحداث أكتوبر تحت عنوان «هل صنع الشاذلي أكتوبر؟» وقد حاول كاتب المقال أن يثبت نظرية كانت متداولة في الشارع، وكان يدافع عنها عدد كبير من المسؤولين، مفادها أن أحداث أكتوبر 1988، لم تكن ثورة تلقائية، وإنما كانت حركة منظمة، فجرها الشاذلي بنجديد بهدف تصفية من بقي من رفاقه، الذين أصبحوا خصوما له في الدولة والحزب والجيش. بدأ كاتب المقال كلامه عن الظروف العامة التي انفجرت فيها انتفاضة خريف الغضب الدامي، بالإشارة إلى أن الرئيس كان يعرف منذ بضعة أشهر، أن صناديق الدولة فارغة. «لقد أرادوا إخفاء الحقيقة عنه، لأطول فترة ممكنة، ثم استقر الرأي في النهاية لإطلاعه عليها. ولكنه لم يستطع تحمل الصدمة. لقد سبق له أن أصدر أوامر صارمة بإلغاء كافة النفقات اللامجدية، ولاسيما تلك المصروفات التي كانت الدولة تنفقها لإعطاء محتوى عملي لذلك الشعار الفضفاض : «من أجل حياة أفضل». أوقفت الحكومة كافة النفقات ولم تعد تستورد سوى المواد الضرورية». من «هم» هؤلاء الذين ترددوا في إطلاع الرئيس الشاذلي بنجديد على الحقيقة؟ ثم قرروا في نهاية المطاف أن يطلعوه عليها؟ لا يقدم الكاتب أسماء معروفة، ولا حتى مجهولة، وإنما يكتفي بإحالتنا إلى «ضمير الجملة أو الكلمة المبنية للمجهول» ويترك لخيالنا أن يشتط أو يقتصد في البحث عن الجهة التي يقصدها. المهم أن الشاذلي بنجديد، بدأ «يفكر» في الطريقة المناسبة لمواجهة الموقف وأن «هم» ساعدوه على التفكير، وأدرك أنه أضاع وقتا طويلا في التردد وتأجيل لحظة الحسم والاختيار، لقد كانتالمقترحات التي يقدمها إليه مستشاروه، تنسف وتحارب من طرف الأصدقاء والمقربين وأعضاء الحاشية النافذين. ثم بدأ الرجل يحاسب نفسه بقسوة. إنه لم بتصرف كقائد سياسي، يعمل بدون خوف، من أجل المصلحة العامة، وإنما تصرف كزعيم لطائفة يهتم بمراعاة خاطر صديق هنا، وإرضاء رفيق قديم هناك أو يأخذ في الحساب بعض الحساسيات والأمزجة الفردية والمصلحية المتقلبة. ومع ذلك فإن وزير داخليته، السيد الهادي الخضيري، وكان مطلعا بحكم المدة الزمنية الطويلة التي قضاها في منصبه، على الحقائق، على الحقائق، كثيرا ما نبهه إلى خطورة الوضع الناجم عن جمود الأجهزة وصفاقة بعض المسؤولين لقد قدم إليه تقارير ضافية عن وزراء موظفين كبار، كانوا يستغلون مناصبهم، بحكم الحمايات التي يتمتعون بها في الرئاسة، فيسافرون في مهمات «صورية»، إلى الخارج، ويقومون بأداء «العمرات»، ويمضون عطلا باذخة، ينفقون خلالها أموالا طائلة على «الأهل والأصدقاء». كان الشاذلي بنجديد، في هذه الحالة التي سمعنا عنها روايات كثيرة، خلال زياراتنا المتعددة إلى الجزائر من طرف وزراء وزراء وسفراء ومدراء وموظفين وضباط كبار، ومسؤولين حزبيين، كان في هذه الحالة عندما قرر، بناء على نصيحة مساعديه، أن يعقد اجتماعا «لإطارات الأمة» في نادي الصنوبر، على مسافة ثلاثين كيلو مترا إلى الغرب من العاصمة. و«اجتماع إطارات الأمة» سنَّه الرئيس الراحل هواري بومدين، كان يلتقي خلاله من حين لآخر، بكبار المسؤولين في الدولة والجيش والحزب، وهو يعقد في مبنى ضخم، له شكل قبة، شيده المهندس المصري مصطفى موسى، في عهد الرئيس أحمد بن بلة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وسط مزرعة كروم تتخللها غابات من الصنوبر، كان يملكها «بورجو»، أحد الأثرياء الفرنسيين، في عهد الاستعمار. شيد ذلك المبنى وحوله مجموعة من الفيلات عام 1965، من أجل استضافة مؤتمر عدم الانحياز. وقد سقط الرئيس أحمد بن بلة قبل أن يستقبل ضيوفه فيه، وبقي منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، المكان المفضل الذي تجرى فيه اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات الكبرى. الخطاب الذي ألقاه الشاذلي بنجديد، في قبة نادي الصنوبر، يوم 19 سبتمبر 1988، هو الذي أشعل فتيل انتفاضة خريف الغضب الدامي خلال شهر أكتوبر من نفس السنة. هذه واقعة معروفة. لكن مبلغ علمنا أن هذه أول مرة، تتطرق فيها صحيفة جزائرية إلى الحدث من هذه الزاوية وتقدم تفسيرا أو بالأحرى تأويلا، يجعل من الشاذلي بنجديد المدير والمفجر والمخطط لأحداث التراجيدية الشهيرة. يقول كاتب المقال : «الخطاب الذي وجه إلى الأمة يوم 19 سبتمبر تم إعداده من طرف الشخصيات الرئيسية التي كان يتألف منها طاقم المستشارين. لقد قرئ ذلك النص، وشرح، وأعيدت صياغته وتصحيحه، وجرى حفظه عن ظهر قلب، وتمرن عليه المتحدث أمام المرآت، حتى يتقن التطابق بين الكلمات والحركات. وقد ساهم كل من مولود حمروش وبشير رويس [وزير الإعلام أنذاك]، مساهمة كبرى» في إعداد ذلك النص المشتعل. ونوقشت فكرة إعادة بثه على أمواج الإذاعة، أكثر من مرة كل ساعتين. ولم تكن الدعوة إلى الانتفاضة، في ذلك الخطاب الرئاسي ضمنية، ولكنها كانت صريحة : «لازم الشعب انتاعنا يتحرك...» هذه الرواية تلقي أضواء جديدة على الحدث. حقا إنها لا تأتي بعنصر جديد، بغير المعطيات المتوفرة لدى المراقبين المتتبعين لتطور الأوضاع الجزائرية، لكنها توسع معرفتنا ببعض التفاصيل الدقيقة المهمة، وفي ضوء هذه الإنارة الجديدة، يبدو أن ما حسبه بعض المحللين، في حينه «غضبة مزاجية رئاسية عابرة» إنما هو خط سياسي مدروس بعناية. وتأتي قيمة هذا الضوء الجديد، على أحداث أكتوبر، من أنه يكشف جانبا من جوانب التحول اللاحق، المتمثل فيما وصفه لنا ذات يوم أحد المفكرين الجزائريين ب«تواطؤ الشاذلي بنجديد ومولود حمروش مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ». «لازم الشعب انتاعنا يتحرك»، كلمة وردت بالفعل، في خطاب الشاذلي بنجديد أمام اجتماع «إطارات الأمة» بنادي الصنوبر يوم 19 سبتمبر 1988. وحسب الرواية الواردة في ملف المجلة الجزائرية، كان الشاذلي بنجديد، يريد أن يشرك الشارع في صراعه مع خصومه، دون أن يذهب الأمر إلى حد العصيان، وكانت له من وراء هذا التصرف مجموعة أهداف : أولا : إجهاض الإنتفاضة الشعبية قبل أن تنضج شروطها الموضوعية، وتصبح السيطرة عليها مستحيلة. ثانيا : إبعاد الرفاق القدامى من مواقع السلطة واعتبارهم مسؤولين عن الإخفاق. ثالثا : إدخال إصلاحيات بنيوية لتصحيح الإختلالات التي أصبحت خصائص دائمة، ثم بعد ذلك، فرض مسار اقتصادي جديد. هذا التفسير يعني أن خريف الغضب الدامي، في أكتوبر 1988 قد تم «تصويره وتطبيقه» بما هو انتقال عنيف لنظام بيروقراطي سلطوي، وصل إلى نهايته نحو نظام مختلف تماما. بالطبع لم يكن هناك اتفاق كامل بين «المستشارين» حول العلاج الأفضل، للأزمة. كان هناك جناح شعر بمخاطر التوجه إلى الشارع وقد نجح أصحابه، أو ممثلوه، وأبرزهم مدير شؤون الإعلام بالرئاسة، في تغيير بعض الكلمات والجمل، وحصلوا على إلغاء فكرة بث الخطاب عدة مرات في الإذاعة. بعد مرور أسبوعين على إلقاء خطاب 19 سبتمبر في نادي الصنوبر، كان الشاذلي بنجديد جالسا في قصر الرئاسة، عندما جاءته الأخبار الأولى الانتفاضة أكتوبر، وكان السؤال الذي طرحه على سامعيه! ماذا يقولون؟ وكان رد بعض الحاضرين! إن ما يحدث هو ثورة حقيقية. وألح الشاذلي بنجديد مرة أخرى : ماذا يقولون؟ وبما أن الهتافات الأولى، كانت موجهة ضد الرئيس وأسرته وتطالب باستقالته، فإن أحد لم يتجرأ على مواجهته بالحقيقة. كان الحاضرون يتجنبون النظر إليه ولم يكن يفهم شيئا مما يحدث. لقد قامت القيامة في الجزائر، وأصبحت الشتائم الموجهة ضد شخص الرئيس تتدفق من آلاف الأفراه، وتحولت النوافذ والأبواب إلى متاريس، يختفي وراءها الشبان والمراهقون لإطلاق أي شيء بجدونه على رجال الدرك والأمن : قنينات الغاز، علب الصباغة، الأثاث العتيق، الكراسي، قنينات النبيذ والبيرة الفارغة، إنه الغضب الشعبي العارم، يستعمل الأسلحة المتوفرة لديه. وجاءت التعليمات الرئاسية صارمة وواضحة رددتها أجهزة المواصلات السلكية واللاسلكية المتنقلة مع رجال الدرك والشرطة: لا تطلقوا النار.. لا تطلقوا النار. وأدركت إدارة الأمن من خلال المعلومات التي توصلت بها أن الغضب الشعبي العفوي، تفجر بالدرجة الأولى، في الأماكن التي توجد فيها مصالح ضخمة لأسرة الرئيس الشاذلي بنجديد. لقد كان هذا الغضب بالغ العنف والقسوة بمدينة عنابة حيث كان شقيق الرئيس يتولى منصب الوالي، وكان ذا طبيعة تدميرية عمياء في مدينة مستغانم، موطن السيدة الجزائرية الأولى حليمة بوركبة، وكان غضبا حاقدا في وهران التي توجد فيها مراكز نفوذ قوية متصلة بالرئاسة، وحدثت أعمال تخريبية في الجزائر العاصمة وتيبازة، أحرقت خلالها المدارس، ومقرات الحزب، ومنشآت كثيرة تابعة للدولة. استمرت الانتفاضة الدامية ثلاثة أيام، لاحظ خلالها المسؤولون الذين كانوا يتصلون بالشاذلي بنجديد أنه ضائع، حائر، متردد لا يعرف ماذا يفعل؟ وتحدث وزير الداخلية في الإذاعة والتلفزة داعيا إلى الهدوء، ولكنه كان مثل صارخ في البرية. لم يستجب أحد لدعوته، بل إن الانتفاضة صارت أقوى بعد الخطاب مما كانت قبله. وكان السؤال الوحيد الذي لا يتوقف الشاذلي بنجديد عن طرحه : واش راهم يقولو؟ [ماذا يقولون؟]. وأخيرا تجرأ مدير الدرك، وهو ضابط قديم في جيش التحرير، ونظر إلى الرئيس مباشر وقال له بالحرف ما كان يردده المتظاهرون ضده من هتافات. وأدرك بنجديد للمرة الأولى أنه أصبح الهدف المباشر لحركة الشارع الغاضب. وبدأت الأصوات ترتفع لمطالبته بعمل أي شيء ووصل الأمر بصديقه الحميم الجنرال رشيد بن يللس، قائد البحرية السابق، ووزير النقل أنه قال له أثناء اجتماع الحكومة : «سيدي الرئيس يجب أن تعلنوا انسحاب القيادة السياسية» ونظر الرئيس إلى الوزير وكأنه لا يصدق ما سمعه منه وأفهمه أنه لن ينسحب تحت التهديد. لقد بدأ الجيش يتحرك، وسوف يفرض عودة النظام والأمن. الطريق التي صاغ بها كاتب المقال روايته عن هذه اللحظات يكتنفها غموض كبير. فنحن لا نعرف ما إذا كانت عبارة، «لقد بدأ الجيش يتحرك» تصور مبادرة حقيقية قام بها الجيش، تلقائيا، أم أنها تصور حالة أخرى بدأ الجيش يطبق فيها أوامر صادرة إليه من الشاذلي بنجديد؟ الوقائع الرسمية معروفة لدينا بما فيه الكفاية : لقد أعلن الشاذلي، حالة الطوارئ، وكون قيادة بإشراف عدد من الضباط [من بينهم خالد نزار وزير الدفاع اليوم، أوكل إليها مهمة حفظ الأمن والنظام، وأعلن في النهاية أنه مسؤول عن كل ما حدث. لكن الأسلوب الذي قدم به كاتب التحقيق الصادر في مجلة «أحداث الجزائر» وقائع دخول الجيش إلى الساحة «توحي بأن مشاركة العسكريين في قمع الانتفاضة» قد فرضت على بنجديد، أو على الأقل توافقت مع رغبته. «لقد فهمت هيئة الأركان العامة للجيش الوطني الشعبي، منذ يوم الخامس أكتوبر، أن الأوضاع خطيرة للغاية. إن التقارير الصادرة عن الدرك الوطني، والمعلومات المتجمعة لدى مختلف مصالح الأمن، وهي معطيات باردة، صحيحة وشديدة الدقة، جاءت كلها تعزز القناعات الشخصية للضباط. وكان يكفي أن يفتح أحدهم النافذة، أو يسير بضع خطوات داخل الحي الذي يسكنه، ليدرك حقيقة الوضع بنفسه. ولذلك فإن قيادة الجيش اقتنعت بأنه حان وقت التدخل. إن تحليل عناصر الاضطرابات القائمة يؤكد أنها ليست تعبيرا عن عمل حركة سياسية معارضة، وإنما هي شغب عنيف وفوضوي يلحق أضرارا جساما بممتلكات الأفراد والجماعات. وعندما أعلنت حالة الطوارئ، كانت وحدات الجيش، قد بدأت تحركاتها بالفعل. وسوف يكون حضور هذه الوحدات في الشارع، وأضرارها وتورطها أحيانا، عناصر حاسمة في استتباب الأمن وعودة الهدوء. كما أن سكان العاصمة استقبلوها بارتياح. «بعد ذلك بفترة -والكلام دائما للصحفي الجزائري- سوف يؤكد أعداء الجزائر التقليديون أن الجيش أنقذ الشاذلي بنجديد ونظامه مقابل موت الأشخاص. ولا شيء أكثر زيفا من هذا القول. لقد كان كبار قادة الجيش عام 1988 عسكريين محترفين وصلوا إلى مراتبهم من دون أن يكونوا مدينين بوصولهم لا للدسائس ولا للامتيازات. وكانوا يملكون ماضيا تاريخيا مجيدا، وتحتوي سجلاتهم على خدمات تفوق بكثير ما قدمه الشاذلي بنجديد ثم إن الترقيات والتشريفات التي حصلوا عليها، لم تكن سوى تتويج للأقدمية وأحيانا للكفاءة. لذلك فإن الشعور الذي يكنونه للبلاد، هو الذي أملى عليهم اتخاذ القرار وليس الولاء الشخصي لرجل لم يكونوا مدينين له بأي شيء. وأثناء أيام أكتوبر التراجيدية عمل هؤلاء الضباط في إطار مهمتهم الدائمة، التي تحتم عليهم أن يكونوا دائما في خدمة الأمة الجزائرية، بغض النظر عن التقلبات السياسية الظرفية العابرة. «من بين هؤلاء الضباط -يضيف الكاتب- واحد نحجم عن ذكر اسمه (حماية لتواضعه)، كان رئيسا لأول مدرسة تكوين لجيش التحرير عام 1957، وقد أمضى عدة أسابيع، ينقل على كتفيه الخبز اليومي لرجاله، على مسافة 7 كيلومترات تفصل بين مدينة الكاف التونسية ومعسكره، كان يفعل ذلك لأنه لم تكن لديه سيارة. هذا الضابط ورفاقه الذين كانوا يحملون رتب ملازمين صغار في عام 1958 أو 1959، أصبحوا جنرالات واعين بالمخاطر الكبرى، وواعين بأنهم يحملون الجزائر على أكتافهم، وأثناء عاصفة أكتوبر، وبينما كانت البنيات العامة تحترق، ورجال الأمن يسقطون، لم يصدر الشاذلي بنجديد، ولا قادة الجيش، ولا مسؤولو الأمن أي أمر بفتح النار على المتظاهرين. وخلال لحظات الانفعال القوية تسقط الأقنعة وتجيء ردود فعل الرجال انعكاسا للعواطف العميقة التي تجيش بها الصدور، فتتبخر الطلاءات والمظاهر الخارجية، ولا يبقى سوى الثوابت العميقة للطبائع. إن قناعات جيل حرب التحرير الوطنية الذي كان أفراده آنذاك في مراكز القيادة، هي التي أَمْلَتْ على الجيش الوطني الشعبي سلوكه بصورة تلقائية. «نعم، إن عشرات وربما مئات من الشبان التعساء فقدوا حياتهم بسبب اندفاعهم الانتحاري. إن الغارات التي قاموا بها ضد رجال الأمن، لإكراههم ونزع سلاحهم وربما لأكثر من ذلك، لا يمكن أن يقبلها جندي في أي بلد، وإذا كان التاريخ سوف يحكم على الشاذلي بنجديد، فعله يؤكد صحة بعض الشعارات التي أطلقت ضده، لكنه سوف ينفي قطعا أكثر تلك الشعارات تطرفا : «الشاذلي قتال!». إن قراءة متأنية لهذه الفقرات الطويلة التي نقلناها عن مجلة أحداث الجزائر الأسبوعية، حول دور الجيش في أحداث أكتوبر، وعلاقة بالرئيس الشاذلي بنجديد تترك الانطباع بوجود بذور أحداث السنوات اللاحقة، في وقائع خريف ذلك العام. وبعبارة أخرى، فإن قيادة الجيش، لم تتحرك في تلك الفترة، كما عبر عن ذلك كاتب المقال بصراحة، «الإنقاذ الشاذلي بنجديد ونظامه» وإنما تحركت لمصلحة «الأمة الجزائرية» ألا يمكن أن نعتبر أن هذا التميز أو التمييز بين الرئاسة والمؤسسة العسكرية، في ذلك اللحظة الحرجة من تاريخ الجزائر، يشكل «استباقا» لتلك الحركة التي ستحدث بعد ثلاث سنوات وتؤدي إلى إخراج الشاذلي بنجديد من الرئاسة؟ ألا يكون الجيش الجزائري قد بدأ منذ تلك الفترة يفكر في تغيير الرئيس؟ لنتذكر أن الشاذلي بنجديد، لم يكن في تلك الفترة رئيسا للدولة فحسب، ولكنه كان أمينا عاما للحزب الواحد الحاكم ووزيرا للدفاع. فكيف، والحالة هذه نتصور أن يتحرك الجيش من تلقاء نفسه، لا لحماية النظام المهدد، وإنما لإنقاذ الجزائر، دون أن يكون لديه، أو لدى الضباط النافذين في قيادته، فكرة أو مشروع أولي، لتغيير النظام؟ يشير كاتب المقال إلى أن الرجال الذين كانوا يحيطون بالرئيس الشاذلي بنجديد، في تلك الفترة هم الذين أقنعوه بضرورة الإعلان عن برنامج الإصلاحات السياسية. ووفقا لهذه الرواية، فإن السيد مولود حمروش الذي كان يشغل في ذلك المرحلة منصب الأمين العام لرئاسة الجمهورية، كان له دور حاسم في دفع الشاذلي بنجديد إلى اتخاذ مبادرته السياسية القاضية بيده عهد جديد تنتهي فيه سيطرة الحزب الواحد. ويرى الصحفي الجزائري أن ما يسميه «التواطؤ الموضوعي» بين مولود حمروش والمتشددين من أعضاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ يعود إلى تلك الفترة. كما يرى أن بداية انهيار مصداقية الدولة، وتبخر حرمتها واحترامها، بعود إلى ذلك الانطباع الذي تركه الشاذلي بنجديد، في أذهان المواطنين، يوم العاشر من أكتوبر، حين ظهر أنه رجل ضعيف، وعاجز، لا يستطيع السيطرة على مشاعره وانفعالاته، وكان كل ما يهمه بعد «استقالته النفسية» أن يبقى على رأس الدولة، حتى ولو كانت هذه الأخيرة، فقدت كل ما لديها من هيبة في عقول المواطنين. إشكالية القضاء في الجزائر دخل مواطن جزائري، يبحث عن مقر المحكمة، يسأل عن عنوان تلك البناية الواقعة بشارع عبان رمضان وسط العاصمة، فرد عليه مخاطبه مشيرا إلى العمارة المطلوبة قائلا : «القصر هناك، قريب جدا، أما العدالة، فلا أعرف عنوانها». هذه النكتة، التي سمعناها أكثر من مرة، في زياراتنا الأخيرة للجزائر، تترجم نظرة متشائمة إلى القضاء والمؤسسات القضائية، طغت في الأسابيع الأخيرة على الحياة العامة في الجزائر. نعم، لقد عاد القضاء ليحتل في الأسابيع الماضية موقع الصدارة، في اهتمامات أجهزة الإعلام، ورجال السياسة، وفي انشغالات المواطنين. حصل ذلك، بسبب سلسلة من الأحداث المتوافقة، المتزامنة، جاءت كلها تضع هذا القطاع ورجاله، في بؤرة الأضواء. بدأ الجدل مباشرة، بعد الإجراءات الجديدة التي اتخذها المجلس الأعلى للدولة، بإنشاء ثلاث محاكم استثنائية بالجزائر العاصمة وقسنطينة، ووهران، وبتغيير القوانين المسطرية بحيث يمكن لرجال الأمن أن يحتفظوا بالمعتقلين عندهم لمدة اثني عشر يوما، بدلا من الثماني والأربعين ساعة المنصوص عليها في القانون. آراء المحامين ورجال القضاء تختلف بالطبع حول التعديلات الأخيرة. المقربون من المجلس الأعلى للدولة، يرون أن الجزائر، تعيش وضعا استثنائيا لابد أن تواجه بإجراءات استثنائية. هذا مثلا، هو رأي الأستاذ يوسف فتح الله، الذي يقول بأن «القانون المضاد للإرهاب، مطابق تماما للقوانين الموجودة، وكل ما تغير فيه هو الإجراءات المسطرية. ولاشك أن إنشاء محاكم استثنائية يشكل خرقا للحريات الفردية، ولاشك أن هذه التدابير تضر بحقوق الإنسان». والأستاذ يوسف فتح الله، هو رئيس العصبة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، وصديق شخصي لرئيس المجلس الأعلى للدولة «علي كافي» وصديق شخصي أيضا لرئيس الحكومة، السيد «عبد السلام بلعيد». وهو يرى أن الجزائر تعيش وضعا استثنائيا، يفرض عليها اللجوء إلى تدابير استثنائية إلى أن يستتب الأمن فيها. أما الأستاذ علي يحيي عبد النور، وهو رئيس الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، فله رأي مختلف. لقد أعلن في تصريحات مثيرة أن أجهزة الأمن، بدأت تمارس عمليات التعذيب، ضد المعتقلين الأمر الذي دفع وزير الداخلية، «محمد حردى» إلى أن يتحداه ويطلب منه أن يقدم برهانا يدعم به صحة اتهامه. وقد تدخل السيد عبد الرزاق بارا، مدير مرصد حقوق الإنسان في الجدل، وأعلن أن الهيئة التي يشرف عليها لم تتلق أية شكايات من أشخاص أو من عائلات بهذا الشأن. محامون آخرون قالوا إن منطق الدولة، هو الذي بات يصبح سائدا، عندما تفقد الدولة المنطق تماما. الرئيس علي كافي بدوره، أدلى بدلوه، ولو بصورة غير مباشرة في الجدل. لقد اختار مناسبة رمزية مهمة هي ذكرى ثورة أول نوفمبر، وافتتاح السنة القضائية الجديدة ليعلن أمام القضاء أن تكوين المحاكم الاستثنائية لا يعني بأي شكل من الأشكال أن المجلس الأعلى للدولة تخلى عن اختياره الأصلي الرامي إلى بناء دولة القانون الضامنة لاحترام الحريات الأساسية وحقوق الإنسان. عبد السلام بلعيد، رئيس الحكومة أسمع صوته التميز، هو الآخر، في هذه المناسبة، إذ لم يتردد في الاعتراف بأن حكومته تقوم بلا شك بخرق الدستور لكن لا خيار أمامها، سوى ذلك. وكان مسك الختام، في هذه الضوضاء كلها، هو إقالة وزير العدل، بتلك الطريقة المسرحية غير المألوفة. فلماذا احتلت الإشكالية القضائية كل هذه المكانة، وأصبحت في غضون أيام معدودة الشغل الشاغل للدولة وللمجتمع المدني وللإعلام؟ هناك، بداهة مشكلة الإرهاب وحالة الطوارئ غير المعلنة، والضرورة التي تبيح المحظور، وتفرض على الدولة أن تتسلح بالأدوات المتوفرة لديها لمواجهة خصومها. لكن هناك أيضا أشياء أخرى، مسكوت عنها، هي تلك الملفات المتراكمة، المتخلفة عن العهدين السابقين، عهد بومدين، وعهد الشاذلي بنجديد، والتي ما تكاد بعض الأصابع تقترب منها، حتى تنفض الأيدي وتبتعد خوفا من الاحتراق. ومما يسترعي الانتباه، أن هذا الجدل حول المؤسسة القضائية انطلق مع تجدد الحديث عن احتمال فتح بعض هذه الملفات القديمة التي تتعلق بالفساد والرشوة. والكلام عن محاربة الرشوة، ومعاقبة المرتشين، خطاب قديم في السياسة الجزائرية، دشنه الشاذلي بنجديد، في مستهل حقبة الثمانينات، ولكنه لم يذهب بعيدا في تطبيقه. حقا إنه أحدث ديوانا وطنيا للمحاسبة، وقدم بعض الرموز، التي اعتبرها الرأي العام في حينها مجرد «أكباش فداء» لقد اتخذت المحاكمات الخاصة آنذاك صورة تصفية حسابات سياسية كان الغرض منها إبعاد الخصوم من المسرح نهائيا أو إسكاتهم. أما الأسماك العملاقة، فقد بقيت تسرح وتمرح في بحار الثروة الحرام التي جمعتها من الصفقات الكبرى. ومثلا، فإن الرأي العام الجزائري كله، يتحدث عن تلك المحاكمة، التي بدأت بسرعة وانتهت بسرعة، دون أن يقيم أي تفسير مقنع لذلك. يتعلق الأمر بالمدعو رشيد زكار المعروف برشيد كازا. لقد كان هذا الرجل تاجرا عاديا قبل قيام الثورة، وعندما اندلع الكفاح المسلح، في الخمسينيات، التحق بصفوف جبهة التحرير، وجاء إلى المغرب، ليتخصص في تزويد جيش التحرير الوطني الجزائري، بالأسلحة الأمريكية وأجهزة الإتصال التي كان يشتريها من السوق السوداء أو من القواعد الأمريكية في القنيطرة والنواصر وبن جرير. ولأنه كان يقيم كثيرا في العاصمة الاقتصادية المغربية، فقد أصبحت شهرته في الوسط الجزائري، «رشيد كازا». خلال حرب التحرير توثقت صلات رشيد كازا، بشخصيات مدنية وعسكرية جزائرية سوف تكون لها مواقع مؤثرة في صنع القرار بالدولة الجديدة. قد أصبح صديقا شخصيا لبومدين بعد أن كان صديقا لبوصوف. وعندما استعادت الدولة الجزائرية استقلالها، في بداية الستينيات، عاد رشيد كازا، إلى حبه الأول، أي التجارة، وتمكن بواسطة شبكة المعارف والأصدقاء الذين احتلوا في الكيان الفتي للدولة مناصب هامة، تمكن من أن يصبح أحد المتعهدين الأساسيين للصفقات الكبرى، خاصة العمليات الإستراتيجية المتصلة بتجهيز الجيش. كان رشيد كازا، بحكم علاقته الوثيقة مع هواري بومدين، «المهندس-الظل» للسياسة النفطية الجزائرية. لأنه هو الذي فتح أسواق الولايات المتحدة أمام النفط والغاز الجزائريين، وهو الذي أبرم الصفقات الخاصة بطائرات البوينغ لحساب شركة الخطوط الجوية الجزائرية. وفي منتصف السبعينات، أي في أوج الطفرة النفطية، أصبحوا يطلقون عليه داخل الأوساط المالية «خاشقجي الجزائر». بيد أن دور الرجل لم يقتصر على الاقتصاد، ولكنه تجاوزه إلى السياسة والسياسة الإستراتيجية العليا. إنه هو الذي كان وراء زيارة عدد من الشخصيات الأمريكية إلى الجزائر، وكان وراء تعريف بومدين بعدد من الوجوه الأمريكية المؤثرة مثل روكفلر وكيسنجر، وهو الذي وضعت في مكاتبه بنيويورك الخطوط الكبرى لذلك الخطاب التاريخي الذي ألقاه بومدين في الإجتماع الشهير للجمعية العامة للأمم المتحدة، حول «النظام الاقتصادي العالمي الجديد». هذا الرجل، لم يكن معروفا كثيرا لدى الرأي العام الجزائري، ولا كان معروفا، رغم خطورة الأدوار التي قام بها حتى لدى الرأي العام الخارجي، لقد احتفظ من تجربته في الثورة، بنفور مرضي من الواجهات المتلألئة. ولم يخرج اسمه عن الدوائر الضيقة إلا عندما قرر المرحوم قايد أحمد، المسؤول السابق لجهاز حزب جبهة التحرير وبعد دخوله المعارضة، وسفره إلى الخارج، أن يكشف أمره للصحافة الدولية. لقد حدثنا عنه كثيرا، أثناء لقاءات جرت بيننا وبينه في باريس، ففي منتصف حقبة السبعينات، أعطانا، وغيرنا من الصحفيين، نسخة مصورة، عن حساب بنكي، أكد لنا أن رشيد زكار، فتحه باسم هواري بومدينن في فرع بنك أمريكي بنيويورك. وكشف قايد أحمد، في تلك الأيام وجود حسابات سرية في سويسرا، باسم المسؤولين الرسميين، لكن هذه «الفضائح» بقيت محصورة التداول، ولم تنشرها الصحافة أو تروجها، بما فيه الكفاية، لأن الدولة الجزائرية، كانت آنذاك، أي في منتصف السبعينات، في أوج مجدها الاقتصادي والسياسي والإعلامي، وكانت «قيادتها الثورية» تتمتع بما يشبه «العصمة» في نظر صناع القرار الدولي. ومع ذلك، فقد مست تلك «الكشوفات» وترا حساسا عند الراحل بومدين، الذي اعترف أمام «أطر الأمة» في أحد اجتماعات نادي الصنوبر بوجود أموال أودعت في حسابات مصرفية خارجية. قال إنها «مرصودة للثورة». وكان لابد من أن تحدث فضيحة من نوع آخر، ليطفو اسم رشيد كازا على السطح، ويخرج من دائرة المجالس والمحافل الضيقة إلى الفضاء الإعلامي الواسع، وجاءت الفضيحة عندما قرر الرجل أن يخطف ابنة أخته دليلة، من مونتريال في كندا ليمنع زواجها من شاب فرنسي أشهر بعد والده إسلامه، ليتمكن من الإرتباط شرعيا بحبيبته. إنها قصة بوليسية، شغلت الصحافة يومها [في بداية الثمانينات]، وكانت بمثابة غلطة الشاطر، التي دشنت مرحلة بداية النهاية بالنسبة لمرتكبها. اختطف رشيد كازا الفتاة المتمردة، بشكل مثير، إذ نقلها في طائرة بوينغ خاصة من عاصمة الكبيك إلى الجزائر، ومنها إلى مدينة العلمة، موطن أسرته، في الشمال القسنطيني، وأخفاها عن الأنظار. وانفجرت أزمة قضائية-سياسية بين كندا والجزائر، ووجد الشاذلي بنجديد، الذي كان يبحث عن وسيلة ملائمة للتخلص من مراكز القوى البومدينية، فرصة ذهبية لتصفية الحساب مع أحد رموز العهد القديم. هكذا وضع رشيد كازا في الإقامة الجبرية، وتطورت الإقامة الجبرية إلى إجراء تحقيق قضائي وأمني، والمحاكمة انتهت بالبراءة وبدأ الرأي العام يتحدث كثيرا عن الموضوع لأن رشيد كازا، هدد بكشف أوراق وقضايا انفجارية، قال حسب ما روي لنا أحد عارفيه يومها إنها ستؤدي إلى زعزعة النظام بأسره. وانتهت الحكاية بإطلاق سراح الرجل، ومغادرته للجزائر، وكان ختامها أنه وجد ميتا ذات يوم (بداية 1983) في غرفة بأحد فنادق مدريد، بسبب «جلطة» كما قيل. محاكمة ثانية، لم تحصل تحدث عنها الرأي العام كثيرا ولكنها لم تقع حتى الآن. وهي، كما سنوضح، تتصل بقصة رشيد كازا، وتلقي بعض الضوء على أزمة القضاء الجزائري، بما هي إحدى تجليات المأزق السياسي والاقتصادي العام، لهذا البلد. إنها القضية المعروفة بستة وعشرين مليار دولار. لقد انفجرت هذه الفضيحة في شهر مارس 1990، عندما أعلن السيد عبد الحميد الإبراهيمي، أمام طلابه، أن المبالغ المالية التي حصلها بعض الأفراد من الصفقات والعمولات المختلفة، تتجاوز رقم المديونية الخارجية للجزائر. وكان من الممكن أن يمر ذلك التصريح، أو يضيع، بلا عواقب تذكر، لولا أنه وجد بين المستمعين صحفي من جريدة المساء نقل الكلام، واعتبره خبرا جديرا بالنشر. وكان ذلك التصريح قنبلة الموسم السياسي والإعلامي، لكونه صدر عن رجل معروف لدى الخاص والعام، برصانته واعتداله، وقلة أحاديثه المثيرة. كان عبد الحميد الإبراهيمي، قد تولى منصب الوزير الأول في الفترة ما بين 1984 و1988، ولم تصدر عنه طوال تلك السنوات، أية تصريحات أو تصرفات مماثلة أو حتى قريبة من تلك المفرقعة الحارقة. لم يكن الرجل من فئة كبار اللاعبين في المسرح السياسي. لقد كان ضابطا في جيش التحرير، تولى بعد الاستقلال منصب والي مدينة عنابة، ونقل بعد انقلاب التاسع عشر من يونيو 1965، إلى أحد الأقسام الإدارية لوزارة الدفاع الوطني، ثم بعد ذلك إلى مكتب شركة سوناطراك [المشرفة على شؤون صناعة النفط والغاز]، نقل إلى مكتبها في واشنطن، وأرسل قبل وفاة هواري بومدين، تقريرا مفصلا عن «التلاعبات» الحاصلة فيه، ولعله أشار، في ذلك التقرير إلى رشيد كازا، وغيره من كبار الوسطاء. وقد أبعد عبد الحميد الإبراهيمي من العاصمة الأمريكية فور انتشار الخبر عن تقريره، وانتقل إلى لندن لاستئناف دراسته، وبقي ينتقل بينها وبين باريس، لإعداد أطروحته عن الوحدة الاقتصادية العربية. وبقيت الوثيقة نائمة بين أدبيات كثيرة مماثلة لها، إلى أن سمع الشاذلي بنجديد بها، فاستدعى كاتبها وعينه وزيرا أول، خلفا لوجه معروف من وجوه الفترة السابقة، هو العقيد عبد الغني. ثم كانت أحداث خريف الغضب الدامي (1988) التي تألفت بعدها وزارة جديدة برئاسة العقيد قاصدي مرباح، مدير الأمن العسكري السابق. وعندما أدلى عبد الحميد الإبراهيمي، بحديثه حول ذلك الرقم الخرافي، قامت القيامة في الوسط السياسي والإعلامي. كانت البلاد يومها مقبلة على أول انتخابات (بلدية) في ظل التعددية السياسية الجديدة، وبدا أن الوزير الأول السابق، رغم أنه كان [وما يزال] عضوا في اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، أي الحزب الحاكم آنذاك، يقدم خدمة مجانية للجبهة الإسلامية للإنقاذ. بل إن شائعات قوية، راجت في تلك الفترة، تؤكد أنه استقال من عضويته، والتحق بحزب عباسي مدني، وقد نفى لنا الرجل تلك الإشاعات أثناء لقاء صحفي أجريناه معه في تلك الأيام، ولكنه بدا لنا كما لو كانت تجوز تماما، بالعاصفة التي فجرتها كلماته. لقد قامت جبهة الإنقاذ بطبع آلاف النسخ من ذلك الكلام، ووزعتها في منشورات وملصقات إعلامية عبر مجموع التراب الوطني، وجعل منها خطباؤها في المساجد والمهرجانات موضوعهم المفضل، أثناء الحملة الانتخابية. كما أن الصحافة، بمختلف قطاعاتها. [المقروءة، والمرئية والمسموعة] حولتها إلى مادة لتعليقاتها، وتساؤلاتها. ولم تبق أية شخصية سياسية جزائرية، في تلك المرحلة، صامتة أمام هذه الفضيحة [ابن بلة، آيت أحمد، يوسف بن خدة وآخرون] فطالبوا بإجراءات تحريات عاجلة لمعاقبة المرتشين. أما عبد الحميد المهري، الأمين العام لجبهة التحرير الوطني، فقد أنحى باللائمة على الوزير الأول السابق، واعتبر أن كلامه يدنس سمعة الجزائر بكاملها، مجتمعا ودولة، وطلب منه أن يضع النقط على الحروف، ويخرج من التعميم إلى التخصيص. المجلس الوطني الشعبي [البرلمان]، شكل آنذاك وبمبادرة من رئيسه عبد العزيز بلخادم، المعروف بقربه من التيار الإسلامي لجنة تحقيق برلمانية، عقدت جلستين مغلقتين، استمعت خلالهما إلى إفادات رئيس الحكومة السابق. ويومها، قالت الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أنها إذا وصلت إلى السلطة، فسوف تكشف الحقيقة، وتحاكم المسؤولين على أساس مبدأ «من أين لك هذا؟» وكان أنصارها أثناء دعايتهم الانتخابية للبلديات في ربيع 1990، وحتى في تشريعات خريف 1991، يكررون «وشهد شاهد من أهلها» ولما جرى إبعاد الشاذلي بنجديد من منصبه، وحلت محله رئاسة جماعية في صورة مجلس أعلى للدولة [في عهد بوضياف]، ثارت من جديد خصومة علنية بين رئيس المجلس الشعبي السابق، ووزير العدل، في حكومة سيد أحمد غزالي، حول الجهة صاحبة الصلاحية في الإحتفاظ بملف الستة عشرين مليار دولار! أخيرا، وبحكم قوة الأمر الواقع، أصبح الملف بين أيدي العدالة، والعدالة وحدها، لأن المجلس الوطني الشعبي، السابق لم يعد موجودا، والمجلس الوطني الشعبي الجديد، أُجهض في المهد، ولم يرى النور [بسبب الانقلاب] حتى يستمر في متابعة القضية. وعندما جاء الرئيس محمد بوضياف إلى رئاسة مجلس الدولة، وضع على رأس جدول أعماله مهمة محاربة الفساد والرشوة، باعتبارها رسالة عاجلة لإعادة الثقة المفقودة بين المجتمع والدولة. ولكنه في نفس الوقت، حذر الرأي العام، من مخاطر تخول المحاكمات المنتظرة إلى تصفية حسابات، وأصر على ضرورة إعداد الملفات والوثائق والمستندات حتى يجرى كل شيء في شفافية كاملة.وكان أول ملف جدي، يتصل بالرشوة، عولج في عهده هو موضوع العميد المتقاعد مصطفى بلوصيف، الأمين العام سابقا لوزارة الدفاع الوطني. وبمناسبة، البدء في تقديم ذلك الملف إلى القضاء، سربت، معلومات عنه إلى الصحافة، في محاولة بدت، كما لو كانت مقصودة، لتلميع المؤسسة العسكرية، وإبعاد الشبهات عنها، ويبدو أن تلك «التسريبات» هي التي شجعت الصحافة على إثارة قضايا أخرى جديدة، قديمة، من جملتها مسألة الستة وعشرين مليار دولار وقضية الغرفة الوطنية للتجارة. ثم تدخل عبد السلام بلعيد في النقاش وأعطاه بعدا جديدا حين دعا علنيا الوزير الأول السابق عبد الحميد الإبراهيمي للعودة إلى الجزائر، لأجل تقديم معلومات تفصيلية عن التهم التي سبق له أن وجهها، وبقيت عامة وغامضة وحسب المعلومات المنشورة في الصحف الجزائرية، فإن الملف الموجود الآن رهن إشارة أحد قضاة التحقيق بالعاصمة، حول الستة وعشرين مليون دولار، يتضمن ثمانية وعشرين قضية كبرى تتصل بصفقات عقدتها الدولة مع شركات ومؤسسات أجنبية بهدف إنجاز جملة من المشاريع الإستثمارية. من بين هذه الصفقات، مشروع بناء معهد باستور الذي توقفت الأعمال الخاصة بإنجازه عام 1985، بعد أن كانت الدولة خصصت له غلافا ماليا، يبلغ مئة وعشرين مليار سنتيما من الفرنكات الفرنسية. ثم هناك ما يسمى بملف «الغرفة الوطنية» للتجارة، وهو يضم حوالي 2400 طلب رخص استيراد موجة للإستثمار. ورخص الاستيراد كما هو معروف تعطى للذين يحصلون عليها الحق في الحصول على مبالغ معينة من العملات الأجنبية، تقدمها الدولة لمن يسمون في المصطلحات المحلية «المتعاملين الاقتصاديين» بهدف توريد أجهزة ومعدات ومواد أولية. والأسئلة المطرحة الآن هي : هل وصلت تلك الأشياء إلى الجزائر، وهل كانت مواصفاتها مطابقة لما قدم عنها من معلومات؟ وهل مازالت تعمل؟ وهل أن قيمة البضائع المستوردة مساوية للمبالغ التي سمحت بها الدولة؟ وهل أن المستفيدين من رخص الاستيراد متوفرون على الشروط القانونية المطلوبة؟ أما السؤال السياسي الكبير، الذي غطى ويغطي على غيره من الأسئلة، فهو: ما علاقة ذلك كله بإقالة وزير العدل، السيد عبد المجيد الماحي؟ أولا من هو هذا الرجل الذي وضعته الظروف على رأس هذا القطاع الإستراتيجي، في هذا الظرف الدقيق من تاريخ الجزائر؟ لقد كان عبد المجيد الماحي، تلميذا في ثانوية فرنسية. بمدينة وهران أيام الثورة التحريرية، وعندما دعا الاتحاد العام للطلاب المسلمين الجزائريين، إلى الإضراب عن الدراسة (يوم 19 مايو 1956)، أشرف بنفسه على العملية الإضرابية في ثانويته بعاصمة الغرب الجزائري. بعد ذلك شارك في عدة عمليات فدائية، قبل أن يلتحق مع عدد من زملائه التلامذة بوحدة من وحدات المقاتلين بالولاية الخامسة، ثم بمدينة وجدة، مقر قيادة جيش التحرير الوطني. قام عبد المجيد الماحي بعدة مهمات في الخارج في نطاق بعثات مكلفة من قبل وزارة التسلح والمواصلات، بجلب الأسلحة لحساب الثورة. وكان واحدا من مئات الأطر الجزائرية الذين يتنقلون بجوازات سفر مغربية. وعندما استقلت الجزائر. وضع السلاح وعاد إلى مقاعد الدراسة، فشارك في المؤتمر التأسيسي للاتحاد الوطني للطلاب الجزائريين (1963) وعين مسؤولا عن فرع وهران، وعن مجلة «الطالب الجزائري» التي ظل يديرها إلى أن اختفت عام 1964، بعد انقلاب 19 يونيو 1965، انضم عبد المجيد الماحي، إلى «منظمة المقاومة الشعبية» التي كانت ثمرة تحالف بين الحزب الشيوعي الجزائري ويسار جبهة التحرير الوطني، بقيادة المؤرخ الكبير محمد حربي. ثم عاد الماحي إلى جبهة التحرير، بمناسبة المؤتمر الرابع الذي عقد غداة وفاة هواري بومدين، عاد وشارك في تلك التظاهرة بصفته منسقا لقسمه [فرع] مدينة سيدي بلعباس التي ينتمي إليها. وكان الرجل قد أكمل دراسته الجامعية في الحقوق وأصبح قاضيا بوهران 1967، ثم انتخب عام 1990 نائبا لرئيس النقابة الوطنية للقضاء وهي واحدة من الروابط المهنية العديدة التي أفرزها خريف الغضب الدامي، في عهد الشاذلي بنجديد. الأشخاص الذين يعرفون الوزير السابق يصفونه بأنه «أصغر صديق» للرئيس الراحل بوضياف، ويذكرون له من جملة المناقب التي يذكرونها، أنه معتز جدا بشخصه ولا يقبل أن «يدوس أحد على قدميه». ويذكرون تأكيدا لهذه الصفة، الموجودة عند كثير من الجزائريين، أنه كان يوجه انتقادات عنيفة للحزب الحاكم سابقا، وذلك ما دفع قيادة الجبهة إلى فصله من مسؤولياته التنظيمية، ثم طرده نهائيا من الحزب. ذلكم باختصار هو الرجل. فأية صلة يا ترى، بين إقالته وبين إشكالية القضاء المثارة هذه الأيام؟ هل اقترب هو الآخر من الملفات واحترقت أصابعه فأبعدوه، قبل أن يخطو خطوة أخرى، تؤدي إلى إشعال الفتيل؟ الملاحظ أن هذه الإقالة تزامنت مع اقتراح تقدمت به السيدة فتيحة بوضياف، أرملة الرئيس، الراحل، تدعو فيه إلى تحويل البحث بخصوص اغتيال زوجها إلى العدالة، بدل إبقائه بين أيدي لجنة التحقيق المكلفة بالإشراف عليه من طرف المجلس الأعلى للدولة. والملاحظ كذلك أن الوزير «المقال» كان قد انتهى من وضع قائمة بعدد من القضاة ورؤساء المحاكم لإبعادهم، وأنه كان -كما ذكر لنا أحد أصدقائه- يريد أن يشرف على كل شاذة وفاذة في وزارته، ولا يقبل أن «يتجاوزه» أحد أيا كانت رتبته، للإتصال بالأجهزة القضائية التابعة له، والملاحظ أخيرا أن الرجل أبعد من منصبه، في وقت ينتظر فيه الرأي العام في الداخل وفي الخارج، صدور نص القسم الثاني من التقدير الذي أعدته اللجنة المكلفة بتقصي الحقائق حول ملابسات اغتيال الرئيس محمد بوضياف. فهل يكون إبعاد الوزير جزءا من تصفية الحسابات التي حذر منها الراحل والتي ربما يكون الفقيد نفسه ذهب ضحيتها؟ سؤال مطروح في الجزائر، والجواب عليه، قد يأتي قريبا في فصل جديد من فصول الدراما الحالية، أو يبقى مدفونا، محصورا في صدور المطلعين، العارفين بأسرار وخبايا وزوايا لعبة السياسة في المغرب العربي الأوسط.. إلى أجل غير مسمى. الفهرس أولا : المغرب الكبير 2 - باقي المغرب العربي وإفريقيا الجزائر مفاجأة غير مفاجئة في فترة شك عميق دسمبر جزائري ودسمبر فلسطيني حكاية الموت المعلن والاحتضار الطويل للقوة الثالثة خريف الغضب الجزائري : خطاب غاضب للشاذلي بنجديد ضد الدولة والحزب والشعب قطيعة عميقة بين الدولة والشعب لكل دولة جيشها وللجيش الجزائري دولته عاشت فرنسا أحداث الجزائر كما لو كانت مأساة فرنسية العقيد قاصدي مرباح من الأمن العسكري إلى الوزارة الأولى وجوه قديمة ورموز جديدة في حكومة قاصدي مرباح حكاية ميلاد معلن حديث مع حسين آيت أحمد أقدم معارض جزائري هذه قصة علاقتي مع أحمد بن بلة... الغاز والمساعدة مقابل الديمقراطية الجزائر في مفترق الطرق مشاهدات ومسموعات : التطور الموازي بين الجزائر والمغرب نهاية عهد المحرمات والطابوهات بلد المليون ونصف مليون متظاهر تفسيرات شريف بلقاسم ومحمد الصالح اليحياوي لهزيمة الجبهة (الحلقة الأولى) مساجد الشعب والمساجد الحرة والمساجد الخاصة ودورها السياسي (الحلقة الثانية) جبهة التحرير تصل إلى ذروة مجدها وانهيارها في عهد بن جديد (الحلقة الأولى) كيف استُعملت المسألة اللغوية في الأزمة السياسية (الحلقة الثانية) غياب بومدين كان مناسبة لخروج السلفيين من السرية للعلنية (الحلقة الأولى) ثلاثة آراء لتفسير هزيمة واحدة (الحلقة الثانية) جريدة المجاهد تشرح التزوير ودور السلطة في هزيمة جبهة التحرير الوطني (الحلقة الأولى) صيف إسلامي ساخن وكئيب (الحلقة الثانية) صيف إسلامي ساخن وكئيب (الحلقة الأولى) الفتنة في وادي ميزاب... (الحلقة الثانية) الفتنة في وادي ميزاب... (الحلقة الأولى) الشاذلي بنجديد أو الرجل الثالث (الحلقة الثانية) الشاذلي بن جديد.. أو الرجل الثالث (الحلقة الأولى) كيف عاد القدماء إلى الحزب (الحلقة الثانية والأخيرة) كيف عاد القدماء إلى الحزب أحمد بن بلة العائد إلى الجزائر بعد رحلة قام بها إلى بغداد الجزائر من الشاذلي بنجديد إلى محمد بوضياف أو شتاء الديمقراطية في الجزائر : انتصار السوق على الإيديولوجيا!.. محمد السعيد : من الدعوة لانتصار الشيوعية إلى الدعوة الإسلامية كيف تمرد الوزير الأول قاصدي مرباح على بن جديد؟ الإنقلاب السري ومحاولة الإنقلاب العلنية هل دبر الشاذلي بنجديد حوادث أكتوبر 1988؟ إشكالية القضاء في الجزائر