قلَّ أن حظي كاتب ومفكر عربي بالمكانة التي احتلها إدوار سعيد على الصعيدين العربي والعالمي. لا بل إن سعيد، بحكم إقامته المبكرة في أميركا وكتابته باللغة الإنكليزية، معروف في الدائرة العالمية الواسعة أكثر مما هو معروف في العالم العربي. وهو أمر يجد مسوّغه ليس فقط في عزوف العرب عن القراءة بوجه عام، بل في طبيعة الطروحات النظرية المعقدة التي خاض غمارها صاحب «الثقافة والإمبريالية» آخذاً على عاتقه مهمة مقارعة الفكر الغربي المهيمن على العالم المعاصر، والرد على منطقه الاستحواذي بمنطق مغاير ينتصر لحق الشعوب المستضعفة في تقديم روايتها المختلفة للتاريخ. وإذا كان ابتعاد المفكر الفلسطيني عن التسطيح الإنشائي والشعارات العاطفية المجردة قد أبعد كتاباته عن متناول القارئ العادي والجمهور العريض، إلا أن مقارباته العميقة لواقع العلاقة المأزومة بين الشرق والغرب وللعلاقة بين المثقف والسلطة، إضافة إلى إيلائه اهتماماً محورياً متصاعداً بقضية فلسطين، فضلاً عن اهتمامه الموازي بقضايا الموسيقى والشعر والرواية والفن بوجه عام، كل ذلك حوَّله عن جدارة إلى أحد أبرز رموز الثقافة والفكر النقدي في القرن العشرين. لم يكن كتاب الناقدين الأميركيين بيل أشكروفت وبال أهلواليا «إدوار سعيد/ سيرة فكرية» سوى تأكيد إضافي على الدور البارز الذي لعبته مؤلفات سعيد وكتاباته المختلفة في إظهار العلاقة الوثيقة بين الهيمنة الغربية الاستعمارية على الشرق، والهيمنة الثقافية التي لم تر الآخر كما هو في الواقع، بل كما شاءت له أن يكون في صورها النمطية ومراياها المخاتلة. وإذا لم يكن المؤلفان، بوصفهما نتاج المؤسسة الثقافية الغربية يوافقان صاحب «الاستشراق» على كل طروحاته، وبخاصة ما يتصل منها بالشق الفلسطيني، إلا أن الكتاب بمجمله أشبه بفعل تقدير وإعجاب فائقين بالمثقف والناقد الاستثنائي الذي عرف كيف يخاطب الغرب بلغة عقلانية رصينة مقارعاً الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، بعيداً عن الشيطنة والتهويل والانفعالات العابرة. يركز مؤلفا الكتاب، الصادر مؤخراً عن دار الرافدين والذي ترجمه سهيل نجم، على محاولات سعيد المضنية لإعادة الاعتبار لصورة المثقف التي تعرضت بفعل «فاعل» للاهتزاز والتشويه. فقد دأبت السلطات الحاكمة في غرب ما بعد الكولونيالية على عزل المثقفين عن أي دور سياسي واجتماعي تغييري، مشجعة فكرة الناقد والمثقف المتخصص وعبادة الخبرة الاحترافية والإنتاج المعرفي المحض. ولقد واجه سعيد بكل قواه محاولة حصر المثقفين في محترفات أكاديمية منعزلة تماماً عن حركة المجتمعات وعن الحياة التي تدور في الخارج، بحيث «تخلى النقد المعاصر عن جمهوره من مواطني المجتمع الحديث الذين تركوا بين أيدي قوى السوق الحرة والشركات المتعددة الجنسيات». وإذ يحاول المفكر المنخرط أكثر فأكثر في قضايا شعبه الفلسطيني الإفادة من تفكيكية فوكو ومن مقولة غرامشي حول المثقف العضوي، يأخذ على البنيوية بالمقابل عزلها للنصوص عن سياقها التاريخي ودلالاتها الاجتماعية، ويوسع من جهة أخرى هامش الحرية المتروك للمبدعين المشتغلين في قضايا الأدب والفن وجماليات التعبير. ولما كان حقل النقد عنده ليس منحصراً بتطوير النظريات الأسلوبية والأدبية بل هو في الوقت ذاته انشغال سياسي واجتماعي، فهو يلخص اقتراحه على النقد بمصطلح دنيوية الناقد The worldliness of the Critic، حيث إن من واجب هذا الأخير أن يخترق البنية الدلالية للنص بحثاً عما يشغل النصوص من انهمام بالعالم وقضايا البشر ومعارضة قوى الهيمنة والاستحواذ: وهو لا يمكن أن ينجح تماماً إلا في ظل علاقة تفاعلية وإيجابية بين النص والقارئ والناقد. وسعيد المغرم بابتكار المصطلحات يطرح فكرة الناقد «الهاوي» بدلاً من الناقد الاحترافي، لا بالمعنى التسطيحي للمفردة بل بمعنى الشغف الدائم بالبحث عن الحقيقة بدلاً من اليقين الفظ بامتلاكها. يميل المؤلفان، من جهة ثانية، إلى اعتبار كتاب «الاستشراق» الذي نشره سعيد عام 1978 المحطة الأبرز في مسيرة المفكر الفلسطيني الذي لم يمنعه انشطار هويته الشخصية بين الشرق والغرب من «تفجير» قنبلته النقدية الأكثر إثارة للجدل في الربع الأخير من القرن العشرين، والتي لم تتوقف هزاتها الارتدادية عن التجدد حتى يومنا هذا. فالاستشراق في نظر سعيد لم يكن وليد الفضول المجرد لبعض الراغبين في كسر رتابة حياتهم اليومية، أو الواقعين تحت سحر الفانتازمات المتصلة بصورة الشرق المتخيل في «ألف ليلة وليلة». ولكنه في مستواه العميق «أنموذج للطرق الكثيرة التي أصبحت عليها الاستراتيجيات الأوروبية في معرفة العالم المستعمر (بفتح الميم)، بقدر ما هو وسيلة الغرب الكولونيالي الأنجع للهيمنة على الشرقيين من خلال التعرف عليهم. وقد اعتمدت الأنظمة الحزبية الاستشراقية الراغبة في السيطرة، على تمثل صورة الشرق من خلال كتّاب وعلماء لغة ومؤرخين أسهمت كتاباتهم في إغراء سلطات بلدانهم المختلفة بوضع اليد على النصف الآخر من العالم والإفادة من ثرواته ومصادر طاقته الهائلة. ولم تكن الشعبية الواسعة التي احتلها المستشرق الفرنسي أرنست رينان في القرن التاسع عشر سوى نتاج مبالغاته المفرطة في الحط من شأن البلدان التي زارها، وهو القائل «إن كل إنسان مهما كانت معرفته ضئيلة بشؤون وقتنا الراهن، يرى بوضوح الدونية الحقيقية للبلدان الإسلامية». وفي بداية القرن الفائت يكتب اللورد كرومر، معتمداً على رينان، بأن العقل الشرقي فاقد للتناسق تماماً، كما هو حال الشوارع الشرقية. فالنظام المتفوق والعقلانية والتناسق هي في رأيه لأوروبا وحدها، بينما اللانظام المتدني والبدائية واللاعقلانية هي من خصائص الشرقيين. وقد يكون العنصر الأهم في كتاب سعيد القيم هو محاولته الدائبة للربط بين المعرفة والسلطة، بحيث تقود الأولى إلى رفد الثانية بما يلزمها من أسباب التحقق والرسوخ. وهو ما لم يترجمه فقط إسهاب البريطاني آرتر بلفور في دفاعه عن احتلال بريطانيا لمصر، بالقول «إننا نعرف الحضارة المصرية أكثر من أي بلد آخر»، بل تذرع الحركة الصهيونية في سعيها للسيطرة على فلسطين بمبدأ آخر مواز لمبدأ المعرفة قوامه تجهيل الآخر البدائي واعتباره كائناً خانعاً ودونياً وغير جدير بالأرض ولا بالحياة. وقد يكون كتاب إدوار سعيد «الثقافة والامبريالية» بشكل أو بآخر امتداداً لكتاب «الاستشراق»، من حيث تأكيده المتجدد على اعتبار الثقافة الركيزة الأكثر صلابة لمحو ذاكرة الشعوب أو لتثبيتها، لطمس الهوية الوطنية والقومية أو للدفاع عنها. وقد ادعت الامبراطوريات الحديثة أن استعمارها للبلدان المتخلفة أو انتدابها عليها هو عمل إنساني ورسالي لإنقاذ هذه البلدان من الفقر والجهل المطبقين. حتى أن الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت يزعم أن بريطانيا لم تذهب إلى الهند إلا بناءً على مناشدات أهلها البائسين، ولمنع تلك البلاد المترامية من السقوط في الخراب. غير أن المفكر الثوري التنويري لا يحبذ مبادلة العنف بالعنف كي لا تقع الضحية في فخ جلادها، بل يدعو إلى ما يسميه «الرد بالكتابة» ودحض رواية الجلاد والإلحاح على سرد الحقيقة لكي لا تقع فريسة النسيان. وكما لا بد للهوية أن تُبنى مرة بعد أخرى، فعلى الضحية أن تقاوم فكرة إلغائها عن طريق «السفر إلى الداخل» كبديل حتمي من الفقدان والمنفى والعيش «خارج المكان»، كما هو حال سعيد نفسه. وهذا النوع من السفر الداخلي هو الذي وفّر لصاحب «صور المثقف» سبيل العودة إلى فلسطين، لا عبر الحنين وحده بل عبر قوة الرمز وأخلاقية الموقف وتوهج الفكرة. عن «السفير الثقافي»