تشهد مكاتب ومؤسسات الأممالمتحدة في الفترة الأخيرة حركية لافتة في معالجة الكثير من القضايا والملفات العالمية. وتأتي هذه الحركية بعد أن شهد العالم العديد من التطورات خاصة في ما يتعلق بملف الهجرة. ففي ظل حرص دول الاتحاد الأوروبي أن تكون السياسة الجديدة للهجرة مبنية على منطق حمائي، فإن إشكالية الهجرة واللجوء التي تعالجها الأممالمتحدة في جلستها العامة هذه الأيام سوف تستمر في المدى المنظور والمتوسط على الأقل. فالعوامل المحيطة بأوروبا ليست مساعدة على حل هذه المعضلة، نظرا لسياسة تركيا الابتزازية، وسياسة البعض من دول شرق أوروبا الاستغلالية، وخطاب ألمانياوفرنسا غير الواقعي.* ستدور أشغال الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة هذه السنة حول محور أساسي وهو "الأهداف الإنمائية المستدامة: دفعة عالمية لتغيير العالم"، وسوف يتضمن هذا المحور بشكل رئيسي قضية الهجرة واللجوء والنزوح في العالم، بما يمثله مضمونها من هاجس لقيادات الدول في العالم الغربي ولمخططي استراتيجيات التنمية. لكن أولى البوادر التي تؤشر على تواصل الغموض في ما يتعلق بالحلول الجذرية لمعضلة المهاجرين (القانونيين وغير الشرعيين واللاجئين) تكمن في القرارات الأخيرة الصادرة عن دول الاتحاد الأوروبي بعد اجتماع قادته في العاصمة السلوفاكية براتيسلافا، وهي قرارات اتخذت للحد من المهاجرين واللاجئين القادمين من الشرق الأوسط. ويطرح إجراء نشر وحدات أوروبية من حرس الحدود على طول الخط الرابط بين دول أوروبا الشرقية وحدودها مع تركيا والمجالات البحرية التي يمر منها المهاجرون مسألة أخرى، وهي دور المنظمات الأممية في معالجة هذه الظاهرة التي تعد إنسانية وطبيعية جدا وقديمة قدم الإنسان. كما تسلط الضوء على سياسات بعض الدول التي تسعى إلى تحويل مأساة اللجوء والحروب والهجرة إلى فرص للابتزاز والحصول على مبالغ وافرة للتخفيف من هذه الظاهرة وخفض الضغط على أوروبا التي تشهد أصعب فترة لها وعلى كل المستويات منذ الحرب العالمية الثانية. ويقول مراقبون إن الفترة التي تمر بها الهجرة العالمية اليوم تعد نتيجة لسياسة الاكتفاء التي أعلنت عنها أوروبا في بداية الألفية الحالية، وذلك بعد أن استغلت القارة العجوز اليد العاملة العربية في إعادة بناء البنية التحتية الأوروبية التي دمرتها الحرب، فالاقتصاد الألماني والفرنسي والإيطالي والأسباني مثلا كان يقوم إلى وقت قريب على القوة العاملة العربية (خاصة شمال أفريقيا) لكن اليوم ومع الطفرة التكنولوجية والأزمة الاقتصادية العالمية، يسعى الغرب عموما إلى التخلص من اليد العاملة القادمة من الخارج والتخلي عن أناس استغلهم طيلة أكثر من نصف قرن. بوادر براتيسلافا أول مؤشرات ضعف الاتفاقات التي سيقوم رؤساء العالم بمناقشتها بالنسبة إلى الهجرة هو قرار رئيس الاتحاد الأوروبي في دورته الحالية، رئيس وزراء سلوفاكيا روبرت فيكو، بتشديد إجراءات غلق الحدود الشرقية لأوروبا؛ فقد أعلن فيكو أن القوة الأوروبية الجديدة من حرس الحدود وخفر السواحل، ستبدأ عملها قبل نهاية العام الحالي لحماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي. وقال فيكو الذي تتولى بلاده حاليا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي إن "المشروع واضح جدا؛ بدء عمل القوة الأوروبية من حرس الحدود وخفر السواحل قبل نهاية العام مع كل ما يترتب على ذلك من أمور". وأضاف "تم الانتهاء من كل الإجراءات التشريعية الخاصة بإنشاء القوة"، مشددا على أن بلاده ستبذل كل ما في وسعها لتحقيق هذا الهدف. ويأتي كلام المسؤول السلوفاكي بعد يومين من قمة براتيسلافا لدول الاتحاد الأوروبي التي تركز النقاش خلالها على حماية الحدود الخارجية ومكافحة الإرهاب وتحريك ملف الدفاع الأوروبي. وعلق فيكو "لقد أثبتت القمة أن سياسة الاتحاد الأوروبي فشلت عندما كان الأمر متعلقا بموجة الهجرة". إقرار رئيس الاتحاد الأوروبي بأن سياسة اتحاده الإقليمي "فشلت" في موضوع الهجرة يعدّ إعلانا واضحا عن تحولات عميقة منتظرة في سياسة الاتحاد تجاه هذه الظاهرة المعقدة والمرتبطة بإشكالات أخرى، لعل أهمها الإرهاب وتصاعد اليمين الأوروبي مجددا. وسوف يكون لهذا التوجه تأثير كبير على أشغال الدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة، فالاتحاد الأوروبي يتضمن دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن وهي فرنسا، وله أيضا أحد أهم الاقتصادات العالمية وهو الاقتصاد الألماني، وبالتالي فإن قوة الإجراءات المتخذة سوف تنعكس على قرارات الأممالمتحدة التي ترفع شعارا يربط بين التنمية المستدامة والهجرة. وأضاف رئيس الوزراء السلوفاكي قائلا "هذا ما كنا نردده منذ البداية داخل مجموعة فيسغراد التي تضم المجر وبولندا وتشيكيا وسلوفاكيا؛ لنحمِ الحدود الخارجية ولنمنع دخول المهاجرين غير الشرعيين". وقال أيضا "تعرضنا بسبب ذلك للانتقادات، واليوم بات هذا الأمر الخط الرسمي للاتحاد الأوروبي". وفي السياق ذاته، دعا وزيرا الداخلية في فرنساوألمانيا الاتحاد الأوروبي إلى مواصلة دعم البلدان التي يدخل عبرها المهاجرون إلى أوروبا، في وقت تثير أزمة المهاجرين انقساما بين أعضاء الاتحاد. وأكد وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف إثر لقائه نظيره الألماني توماس دي ميزيير "تطابق وجهات النظر" بينهما "حول ضرورة مواصلة دعم الاتحاد لليونان وإيطاليا في إقامة مراكز الاستقبال وممارسة الرقابة الأمنية على الحدود الخارجية للاتحاد، فضلا عن برنامج إعادة إسكان الأشخاص الذين يحتاجون إلى الحماية". وذكر كازنوف في بيان أن الاتحاد أقر في سبتمبر 2015 خطة لتوزيع اللاجئين في الدول الأعضاء "تشارك فيها فرنساوألمانيا بالدرجة الأولى"، لكنها تواجه معارضة شديدة من دول مجموعة فيسغراد خصوصا. وتعتبر هذه التصريحات حسب مراقبين الشاهد الرئيسي على التغيرات الجذرية المنتظرة في خصوص مسألة الهجرة. لكن عددا من الخبراء أكدوا أنه من المفروض أن تكون دول أوروبا الشرقية أكثر الدول في العالم تفهما لمسألة الهجرة واللجوء والهروب من الحروب. فتلك المنطقة لم تعرف استقرارا سياسيا وعسكريا واضحا منذ أن اغتال الطالب الصربي غافريلو برينسيب الأمير المجري فرانس فرديناند قبيل الحرب العالمية الأولى إلى حدود زمنية ليست ببعيدة إثر إسقاط نظام سلوفودان ميلوسوفيتش العنصري. غير أن أكثر الدول التي تشن حملات ضد استقبال اللاجئين وحتى إجراءات الهجرة الطبيعية والقانونية هي دول أوروبا الشرقية وهذا أمر لم يجد المراقبون له تفسيرا. فرصة للابتزاز مع اقتراب شهر أكتوبر، الشهر الذي حدده وزير شؤون الاتحاد الأوروبي وكبير المفاوضين الأتراك، عمر جليك كي يستجيب الأوروبيون إلى شرط الأتراك في تنفيذ الاتفاق المتعلق بالهجرة غير الشرعية واللاجئين، تتسارع الأحداث في الداخل الأوروبي في سياق أن يعول الأوروبيون على ذواتهم عوض التعويل على الأتراك الذين أسرفوا في سياسة الابتزاز التي يتبعونها من أجل تحصيل أكبر مبلغ ممكن من المال وفتح الحدود أمام مواطنيهم مقابل "حماية" أوروبا من تدفق أعداد غفيرة من اللاجئين. هذا وتفيد تقارير صحافية أن أنقرة تصعد دائما من لهجتها ضد الاتحاد الأوروبي كلما أرادت تركيا الحصول على مبالغ مالية أخرى أو الضغط في اتجاه تحسين شروط التفاوض مع الاتحاد الأوروبي للانضمام إليه. ففي مارس الماضي طالبت تركيا بتمكينها من ثلاثة مليارات يورو إضافية لتنفيذ برامج متعلقة بالاحتفاظ باللاجئين السوريين والعراقيين فوق أراضيها، في حين أن الأوروبيين يعلمون جيدا أن ذلك لا يعدو سوى أن يكون ابتزازا واضحا. من ناحية أخرى، فإن الاستراتيجية التي تستعملها بعض الدول في استغلال مسألة الهجرة ومأساة اللجوء تعد أكثر استغلالا لهذه الظاهرة. لجأت بعض الدول الأوروبية، التي تعاني من صعوبات في اجتذاب المستثمرين الأجانب، إلى منح تصريح الإقامة الدائمة ومن ثم الجنسية، مقابل شراء سندات مالية حكومية. ومن بين هذه الدول، المجر التي تفتح الطريق أمام حصول المستثمرين الأجانب على جنسيتها (الجنسية الاستثمارية) مقابل شراء سندات حكومية بقيمة 300 ألف يورو، وكذلك الحال بالنسبة إلى بلغاريا مقابل شراء سندات بقيمة 512 ألف يورو. ويقول شوقي آقايدن، مدير شركة "حياة جديدة" التركية، التي تقدم خدمات استشارية في مجالات عدة، إن ألفي شخص، بينهم 150 تركيا، حصلوا خلال العام الماضي على تصريح الإقامة الدائمة في المجر، وإن 500 آخرين بينهم 35 تركيا حصلوا على الإقامة الدائمة في بلغاريا، خلال الفترة نفسها. ويشير آقايدن إلى أن المستثمر الأجنبي يحصل خلال بضعة أسابيع، على الإقامة الدائمة في المجر مقابل شرائه سندات حكومية بقيمة 300 ألف يورو، ما يمكنه من دخول منطقة "شنغن" (الاتحاد الأوروبي) من دون الحاجة إلى تأشيرة، إلى جانب إمكانية حصوله على الجنسية المجرية خلال 7 سنوات، وفرصة التقدم للحصول على جواز سفر الاتحاد الأوروبي. وتطبق المجر تلك السياسة منذ عام 2012 عندما عمد المشرعون إلى تعديل على قانون الهجرة يسمح للأجانب بالحصول على الجنسية. ويوضح مدير الشركة التركية أن عملية شراء السندات سهلة ولا تحتاج سوى فترة قصيرة، والدولة ضامنة للاستثمارات، مشيرا إلى إمكانية استعادة مبلغ الاستثمار كاملا في نهاية المدة المحددة (5 سنوات بالنسبة إلى البلدين). هذه القوانين التي وضعتها بعض الدول الأوروبية موجهة بالأساس إلى اللاجئين السوريين من أصحاب الأعمال والذين غادروا سوريا ومعهم مبالغ ضخمة من المال تمكنهم من فتح استثمارات لهم في دول أوروبية بتلك المبالغ المطلوبة. وبهذه الكيفية تتحول ظاهرة الهجرة واللجوء لدى أجهزة تلك الدول إلى فرص للاستغلال والضغط من أجل تمكين اللاجئين من الحلم الذي قدموا من أجله وهو الحصول على الوثائق القانونية للإقامة في دول الاتحاد الأوروبي، وذلك باستغلال أموالهم. تماما كما يفعل الأتراك مع اللاجئين ومع الاتحاد الأوروبي أيضا، حيث أصبح هذا الصنف من الهجرة مجالا وسوقا للابتزاز بامتياز. تغييرات مؤسساتية في الشهر الماضي، تبنت الدول الأعضاء في الأممالمتحدة بالإجماع قرارا ستصبح بموجبه المنظمة الدولية للهجرة منظمة تابعة للأمم المتحدة وذلك خلال القمة التي تنعقد في نيويورك انطلاقا من الثلاثاء والتي تستمر أسبوعا. هذا الضم له نتائج مباشرة على سياسة المنظمة الدولة للهجرة وأيضا على موقعها ضمن المؤسسات التابعة للأمم المتحدة فهي التي ستواجه فعليا المعضلة الأولى التي تؤرق العالم اليوم هي الهجرة. من الناحية القانونية، على المنظمة العالمية للهجرة اليوم أن تعيد صياغة تعريفها بشكل أشمل وأوسع للمهاجر. إذ لم يعد التعريف القائم على تعريف المهاجر بأنه تارك لبلده من أجل العمل أو الدراسة والذي يتطلب صيغا قانونية معينة، بل إن المهاجر اليوم وفي زمن العولمة عليه أن يحتوي العناصر الجديدة الاقتصادية والاستثمارية والمالية والسياسية والاجتماعية وغيرها، فاللاجئ اليوم يدخل ضمن المهاجر، لكن له خصوصيات ومميزات، تماما كالمهاجر غير الشرعي. وقالت سوزان مارتن، المدير السابق لمعهد دراسات الهجرة الدولية في جامعة جورج تاون في هذا السياق إن الانضمام إلى الأممالمتحدة قد يدفع المنظمة الدولية للهجرة إلى إعادة النظر في نهجها العملي. وقالت لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) "سوف تشعر بضغط الأقران، من المنظمات التي لها ولاية والقائمة على الميثاق، لاتخاذ موقف أكثر نقاء عندما تثار قضايا الحماية القانونية". لكن بعض المراقبين يؤكدون تخوفهم من عملية الدمج هذه نظرا لما تعانيه مؤسسات الأممالمتحدة منذ فترة من ترهل البيروقراطية وطول المسافات الإدارية لاستصدار القرار والتحرك إزاء الأزمات المستعجلة. حلول وقتية رغم كل التحفظات التي يعلنها اليمين الأوروبي الصاعد في هذه الفترة عن الخطط الأوروبية في إقامة مشاريع خاصة ومناطق إيواء للمهاجرين في دول مثل دول شمال أفريقيا (خاصة تونس والجزائر والمغرب)، إلا أن الاتحاد الأوروبي يقوم فعلا بهذه الترتيبات مع تلك الدول لتخفيف الضغط من جانب دول جنوب البحر المتوسط. ويدعو جان كريستوف دومون رئيس إدارة الهجرات بمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إلى "الإصغاء لمخاوف الناس وتوضيح ما هي النقاط الحيوية التي يمكن للهجرة أن تجلبها" لاستمرار التعليم في المدارس أو إحداث وظائف مثلا. وقال التقرير إن بعض الدول أدركت هذه النقطة من بينها ألمانيا التي طورت "معالجة جماعية للمشكلة" أو كندا حيث "تبذل جهودا أكبر في المجموعات استباقا لاستقبال مهاجرين". وصرح الأمين العام لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية أنخيل غوريا خلال نشر التقرير في باريس أن التحدي الآخر هو "استيعاب" المهاجرين، داعيا الدول المضيفة إلى رصد أفضل للكفاءات المهنية من المهاجرين وتوظيف المزيد من الوسائل لتعليمهم اللغة. وقالت المنظمة إن المهاجر يجب أن يكون في العشرين من العمر تقريبا حتى يتمتع بالفرص نفسها لمواطن من دول الاستقبال في سوق العمل. كما تدعو المنظمة أيضا إلى حلول شاملة في مواجهة هذا التحدي العالمي وتطلق مقترحات عدة بينها تعزيز التعاون بين الدول و"تكييف الحقوق والواجبات" مع مدة الإقامة التي تمنح للاجئين وحتى معايير انتقاء المهاجرين التي يمكن أن تتخذ شكل "سحب بالقرعة" بين الأشخاص المسجلين لدى المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة. وأكد التقرير أن "هذا الأمر سيردع على الأرجح المرشحين عن اللجوء إلى شبكات التهريب السرية".