يزخر التراث العربي بقصص وأخبار الأولين التي تم تدوينها، في كتب ومجلدات عديدة، متناولة حيوات أو أحداثا وقعت لهذا الشاعر أو هذا الأديب أو لذاك الوالي أو ذاك الحكيم أو هذا المجنون، أو هذا الطماع وذاك المحتال إلخ.. وهي قصص وأخبار انتمت في غالبها إلى الأدب العربي، الفصيح العالم منه، أو الشعبي، مما ظل الحكاة والرواة يرددونه في مجالس أنسهم، أويطالعه المهتمون بالأدب لإغناء قاموسهم اللغوي، لما تنطوي عليه بعض هذه القصص من مفردات مُفعمة بنداوتها الأولى وطراوتها البدئية، أو لما تشمله من عبر وحكم وأمثال أو لمجرد متعة القراءة والترفيه عن النفس. لذلك، اخترنا منتخبات من هذا التراث ليصاحبها القارئ الكريم، عله يجد فيها من البلاغة والفصاحة وحسن القول وسرعة البديهة، وخفة الظل والدم ومن مهارات الخطابة وأساليب المكر والحيل لبلوغ الغاية ومن الامتاع والمؤانسة، ما يملأ به وقته استفادة ومتعة. قال الجاحظ: دخلت يوما مدينة، فوجدت فيها معلما في هيأة حسنة، فسلمت عليه، فرد علي أحسن رد، ورحب بي، فجلست عنده، وباحثته في القرآن، فإذا هو ماهر فيه، ثم تفاتحنا الفقه والنحو وأشعار العرب، فإذا هو كامل الآداب، فقلت: سأختلف إليه وأزوره. وجئت يوما لزيارته، فإذا بالكُتاب مغلق، ولم أجده، فسألت عنه، فقيل: مات له ميت، فحزن عليه، وجلس في بيته للعزاء، فذهبت إلى بيته وطرقت الباب، فخرجت إلي جارية، وقالت: ما تريد؟ قلت: سيدك، فدخلت وخرجت: وقالت، باسم الله، فدخلت إليه، وإذا به جالس، فقلت، عظم الله أجرك، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة كل نفس ذائقة الموت، فعليك بالصبر. ثم قلت: الذي توفي ولدك؟ قال: لا، قلت فوالدك؟ قال: لا، قلت: فأخوك؟ قال: لا، قلت: فزوجتك، قال: لا، فقلت: فمن هو؟ قال: حبيبتي، فقلت في نفسي: هذه أولى العجائب. فقلت: سبحانه الله! النساء كثير، وستجد غيرها، فقال: أتظن أني رأيتها؟ قلت: وهذه الثانية ثم قلت: وكيف عشقت من لم تر؟ فقال: اعلم أني كنت جالسا في هذا المكان وأنا أنظر من الطاق، إذ رأيت رجلا عليه بُرد وهو يقول: يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ردي علي فؤادي أينما كانا فقلت في نفسي: لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها ما قيل فيها هذا الشعر، فعشقتها، فلما كان منذ يومين مر ذلك الرجل بعينه وهو يقول: لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار فعلمت أنها ماتت، فحزنت عليها، وأغلقت المكتب وجلست في الدار! فقلت: يا هذا، إني كنت قد ألفت كتابا في نوادركم معشر المعلمين، وكنت حين صاحبتك عزمت على تقطيعه، والآن قد قويت عزمي على إبقائه وأول ما أبدأ بك إن شاء الله.