-1 قال لي صديقي المهاجر : إن رحلة العودة للوطن أشقى من البقاء غريبا في أرض لا يملك أهلها سوى نبذك وقهرك واتهامك بالإرهاب.. سألته : كيف تستعبد وأنت حر في العودة ووراءك ما وراءك من التاريخ والهوية والتراب؟ أجاب معقبا : لست أنسى ذلك، ولكنني مثقل بذكريات في بلدي جرت علي المنكرات، وأوقدت في نفسي حنقا لم يبرد شواضه مذ أعاقتني إدارته عن تمكيني من حقوقي المشروعة في عقار اقتنيته وتفاجأت بعد عودتي ذات صيف بالترامي عليه دون وجه حق.. قاطعته: فكيف كان المآل؟ تأوه مجلجلا وأطلق صرخة في واد، وكأنه يحمل صخرة سيزيف: غصبتني عدالة وطني.. -2 عشرات المهاجرين يلتجئون للقضاء، بعد طول طريق لم تفلح معها الشكايات المرقونة على وجه الاستعجال، للسلطات المحلية، من أجل رفع الضرر ورد الحقوق الضائعة لأصحابها. هم أنفسهم من يقبضون على جمر الغربة، يستنجدون في الأوقات الضيقة من أيام معدودات في عطل الصيف، عل إدارة الداخلية تلتفت إلى شكاياتهم المبتوتة هنا وهناك، دون جدوى. يضطرون مع كل نزول اضطراري لأرض الوطن، مثقلين بهموم الرحلة العالقة بين الحدود والمحددات الزمنية والمادية، إلى اختلاس لحظات يقضونها مشتتين بين الإدارات المنذورة للبيروقراطية والفساد والرشوة، علهم يجدون مخرجا يحميهم من التأخير وتكرار المآسي. وكثير منهم من يحاول الاقتناع بعدالة قضيته، فيوكل محاميا ويترك الأمانة تحت تصرفه، إلى أن يبلغ عن طريق الصدفة أن قضيته خسرانة ولا جدوى منها.. -3 المشكل في تدبير قضايا مواطنينا المهاجرين لا ينحصر في ضياع حقوقهم العينية أو المادية، وانحباس أفق التواصل معهم، في ظل وجود معيقات إدارية وقضائية، وإفلاس في استيعاب ثقافاتهم الجديدة، خصوصا ما يتعلق بالجيل الرابع والخامس. الأمر يتعدى أن يكون كذلك، حيث تنخرم العلاقة بين الوطن وزواره ممن يحملون جنسيته، لكنهم لا يثقون بمؤهلاته ونمط العيش فيه والانخراط في مشروعه التنموي. هناك حواجز معرفيه وسلوكية تحجب الرؤية بين مهاجرينا المواطنين ووطنهم، ينبغي تعميق البحث عن منافذ لتحليلها وتفكيكها، من أجل قراءة متأنية ومنصفة لتبعاتها ومستتبعاتها، فالجسر الذي يمنع الامتداد عبر طوق يسد العمل باتجاه استعادة القدرة على الحياة في وطن آمن وعادل ومكين، يجب توسيعه على أكثر من بديل ومرمى، ليشق وحدة هدفه للأصلح والأفضل والأنقى.. 4 - زمانئذ تعلم المغاربة الباحثون عن آثار النعمة والرزق في أرض الله الواسعة في اوروبا أن حب الوطن من الدين بالضرورة، وأن الوطن مهما بعدت الأجساد عنه فهو في القلب والوجدان، محمول على كل طرفة عين، مهما زاغت عن بصرها. ولهذا فهم يدركون تماما أن الروح لا تعود لبارئها إلا بين ثنايا وأحضان الوطن الرحيم، الذي يسع كل الناس من أبناء الشعب الشاهد الغائب. بيد أن أواصر الرحم بدت في العشريتين الأخيرتين من الزمن الراهن أمرا يدعو للشك والريبة. فقد تحلل الكثير من أهلنا في المهجر والشتات ،من التزامات المواطنة وصروف الارتباط التي تقوضت وتعلقت بفعل المستجدات الظرفية وإيقاع تقحل الاحساس بالانتماء، ونمو مظاهر التغريب، وانفلاتات سوسيوثقافية وتربوية أخرى. أضحت الهوية في هذا الشد والجذب مثار نقاش استراتيجي يغلق الأبواب المشرعة بين من يستأثر بالوطن البديل، ويدفع باتجاه ترسيخ حضوره في الواجهة الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية، ومن يرى في طوق النجاة من الوطن الأم مسألة إلهام تحرري، مطوق بنزعات ايديولوجية ومعرفية صرفة. 5 - إن التحولات الدولية المتسارعة التي أفضت إلى إقامة مناطق فكرية للشعوب المعومة، عبر تمتيعها بالحقوق الكونية وتمكينه من التشبع بمبادئ الإقامة في إلبلدان المستقبلة، وإدماجها في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية، واستحضارها كقوة صاعدة في النسيج الحضاري الاوروبي المتنوع والمتعدد، ساهم في تصاعد نبرة الاصطفاف خلف البحث عن ممكنات أخرى خارج المواطنة الأصلية. وهو سبب من الأسباب التي أعدمت حقيقة جنوحنا للتجاهل والتعالي عن تضميد الكثير من جروح مواطنينا المهاجرين، الذين لفظتهم المحاكم والادارات ومرافق الدولة المعنية بقضاياهم، وأصبحوا بحكم هذا النبذ المصرح وغير المصرح به مناقضين لانتمائهم ومجافين له، تحت طائلة عذابات النفس وشرود الأنفاس؟ 6 - ما يكرس قهريتهم وتآكل أحلامهم يوما بعد يوم، وجودهم بين خطي تماس، في اللحظة الفارقة بين ما عاشته طلائعهم خلال السنتين المنصرمتين، حيث استعرت دماء الإرهاب المقيت وتغولت في البلدان المستقبلة لهم.. وفي هذا التلاطم الاسلاموفوبي المستعر تستنفذ الأصوات العاقلة في أوربا كل درجات الحكمة، حيث تطلق الصراخات معاتبة ومستنكرة ومراودة جحافل العالقين بين الضفتين، كأن الفتنة تنهض من جحيمها لتحرق كل أخضر ويابس. 7 - الأصل في القضية أن لأخواننا المهاجرين حقوقا في أعناقنا يجب مراعاتها والذود عنها. هويتهم قضيتنا جميعا، من الواجب حمايتها والمحافظة على ما تبقى منها. وانفراط الحبل والمودة بيننا وبينهم في الحقوق التي تضيع كل دقيقة ظلما وعدوانا يتحملها المعيق لبناء وإصلاح صرح العدالة. أما ما تبقى من أحاسيسهم تجاه وطنهم فيضمد جراحاته الزمن والحضن الرؤوم والإحسان لهم في السراء والضراء وحين البأس... علهم يعودوا، كي يدركوا أن الوطن غير نسبي وأن من أخطؤوا وما زالوا يخطئون في حقه هم أولى بالتوبة والاعتذار...