لقد صارت موضوعة الجسد تستقطب اليوم اهتماما بالغا في الفكر الفلسفي والعلمي، ليس لأنها كانت موضوعة خارج التقليد الفلسفي والديني، وإنما بالنظر إليها من زوايا علمية متعددة، كالسوسيولوجيا، والأنثربولوجيا، والتحليل النفسي، والسيميولوجيا والأدب... ونحن هنا، لا نود الانخراط في تاريخ الجسد، ولكننا نرغب في الإشارة إلى أهم القضايا التي أثيرت حوله. ونعني ثلاث محطات رئيسة وهي: الفكر الفلسفي، والفكر الديني، وأخيرا الفكر العلمي. والوقوف عند هذه المحطات يشكل بالنسبة لنا خريطة طريق لملامسة واختراق الإشكالية البحثية التي اقترحنا النظر إليها. وهي محطات تشكل استئناسا أوليا لموضوعنا. لدرء هذه الفوضى قام الإسلام بتدبير سياسي للجنس بتسميته" النكاح ". ثمة أنكحة تم تحريمها في الآية 23 من سورة النساء، بينما أخرى أعلن عنها في تخطيط مرن، (أعطى للذكور حقهم في أربع نساء، وما ملكت أيمانهم، وهذه الأخيرة دالة على الرغبة الجياشة للمسلم في الجنس. لقد كان المجتمع العربي الإسلامي – آنذاك – أرضا جنسية بامتياز، فسوق الغلمان والجواري تقيد النهم الجنسي في أرض الإسلام). إذا اعتبرنا الرؤية المرحة لجيل الجاحظ، واستثنيا كيفية العبور بين الحلال والحرام، فإننا سنتحصل على نشاط إبداعي وفكري حول موضوعة الجنس، فالمكتبة الشعرية العربية مازالت تظهر مكانة أبي نواس وأبي تمام وأبي العلاء المعري، لقد أحدث هؤلاء ضجة كبيرة، إن لم نقل تحولا عميقا في كتابة الشعر، وفي رؤيتهم للعالم. إن أبا نواس قد ملك جرأة في اختراق المحرم، عبر قول ما لا يقال، لكن هل يمكن اعتبار هذا التحول نوعا من الحرية في كشف الحجاب عن هذا المحرم أم أن المسألة ترجع إلى البنية الاجتماعية والسياسية التي خلقته؟ سؤالان يرتبطان فيما بينهما ويشرحان هذا التحول الذي وقع والذي تم بمقتضاه انتهاك المحرم وجعله مجالا فتانا للكتابة. لم يعد الجسد محجوبا كما تم توصيفه في المقدس بل انتهكته اللغة الشعرية، فأضحى الجسد الأنثوي معركة لغوية تتسع باتساعها وبقدرة المجالس على التعبير عن هذا الخرق، بمعنى أن هذه المجالس المغلقة فتحت الشهوة إلى حدودها القصوى. إن النص القرآني اعتبر الجسد/الجنس هبة إلهية، والفعل الجنسي نعمة من نعمه، إلا أن ممارسته تكون بضمانته الإلهية، أي في حدودها الشرعية بينما سيتم التحايل عليها( الوصايا الإلهية بلغة مرفوعة بالاستعارة والمجاز وما بينهما سواء في الشعر أو في المحكيات السردية)، واللافت للانتباه هنا، هو أن الكتابة حول الجنس تمت من طرف حراس المقدس الديني. هنا سيكون التحايل الماكر للفقهاء حين حديثهم عن الجنس ممكنا، أي في اللحظة التي يرفعون ارتباكهم: "لا حياء في الدين" أو "بواسطة البسملة" أو "الحمدلة". وبالجملة فالفقه يحافظ على ما يدافع عنه باسم الدين وبذلك فخطابه ملزم. إنه الرقيب المخلص لكلام الله، وخليفته في الأرض، وفي الوقت عينه يتحدث في الجنس، بهذا المعنى نفهم ارتباكه، إلا أن الشعراء والسراد غير منضبطين لتلك السلطة العليا. لا يتعلق الأمر بتحرر هؤلاء وتقيد الفقهاء بالمقدس الديني، بل بالكيفية التي يتسرب بها الجنس من حضن المقدس الديني. إن قارئ " الأغاني " أو " ألف ليلة وليلة " أو " العقد " الفريد "... سيصطدم بهذا، انطلاقا من مرويات تداولها العرب في مجالسهم، وإن كان البعد التخييلي هو الرافعة التي تأسس عليها، لن نخوض في هذه القضايا، بقدر ما سنسرد حكاية من كتاب " الأغاني " أنموذجا من نماذج الكيفية التي انتعش بها الجنس على حواشي المقدس الديني. في كتاب " الأغاني" وبالضبط في المجلد الرابع يحكي المؤلف مجموعة من النوادر لشخصيات ذات قيمة في زمنها، والحكاية تبدأ من عنعنة قد تطول أو تقصر. لتتعدد نفس الحكاية، حسب السند الإخباري، في فصل تسرد فيه شخصية معروفة بكنيتها " الدلال "، وهي شخصية عرفت بكلامها المليح وحسن مجلسها...الخ، إنها شخصية مخنثة، سيتم إخصاؤها بطلب من الأمير سليمان بن عبد الملك بسبب غيرته، وما سمعه من أفعال يقوم بها هؤلاء المخنثون، فالدلال كان عارفاً بجمال النساء لقربه ومعاشرته لهن، لذلك كان وسيطا بين الراغب في الزواج والنساء، إن له قدرة فائقة على وصفهن واحدة تلو الأخرى إلى حدود اختيار المرأة المراد تزويجها. هذه المخالطة للنساء هي ما جعلت الأمير يخصيه. فالأخبار التي يوردها الأصفهاني تظهر لنا العلاقات الموجودة بين الرجل والمرأة والمخنث والخصي... و الخصي هو محو لغيرة الرجل وإسكات لتوثره. هذا المخنث الذي طفحت حكاياه في التراث العربي يعكس لنا الإرباك الحاصل بين الجنس والمقدس الديني، بين الأرض والسماء أو بالأحرى بين واللاشعور الشيطاني واللاشعور السماوي. قد تكون هذه الحكايات انتهاكا للمقدس، ليس في الكلام واللغة وإنما في أكثر الأماكن قداسة/المسجد... تقول الحكاية ‹‹...صلى الدلال المخنث إلى جانبي في المسجد، فرفعنا رؤوسنا وهو ساجد، وهو يقول في سجوده رافعا بذلك صوته : سبح لك أعلاي وأسفلي، فلم يبق في المسجد أحد إلا فُتن وقطع صلاته بالضحك›› .