أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. عاشت فرنسا خلال الشهر الماضي على توقيت الجزائر، بل عاشت دقائق ما سمي «أكتوبر الأسود الجزائري». كما لو كانت مأساة وطنية خالصة تهم الحياة اليومية لكل الفرنسيين. وكانت عناوين الصحف اليومية، طوال تلك الفترة، وكذلك مقالاتها الإخبارية، تحقيقاتها الميدانية، تعليقاتها الظرفية، وتحليلاتها السياسية وصورها ورسومها الكاريكاتورية تدور حول ما يجري على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط. قنوات التلفزة، تنافست فيما بينها، وكذلك محطات الإذاعة لتغطية وقائع خريف الغضب الجزائري ساعة بساعة. وعلى الرغم من أن فرنسا شهدت في نفس الأيام حركات إضرابات واسعة (إضراب الممرضات الذي استمر شهرا وإضراب الموظفين الذي استمر بضعة أيام، وبالأخص إضراب بعض مراكز الفرز والتوزيع في البريد). فقد كانت أحداث ذلك البلد العربي الإفريقي هي المشغولية الأولى للناس، وهي الموضوع الأول لثرثرتهم في المكاتب والمقاهي والشوارع. وهناك أكثر من مؤشر غير مرئي إلى هذا الإهتمام، الذي ارتفع ارتفاعا خطيرا خلال الفترة الأولى إلى درجة أن الذين حاولوا من فرنسا الإتصال هاتفيا بالجزائر كانوا يسمعون الجملة المألوفة : «لا يمكن لطلبيتكم أن تصل بسبب الإزدحام»، مضافا إليها جملة أخرى : «يرجى عدم استعمال الخط إلا للضرورات القصوى»، وهي عبارة لا تستخدم إلا في حالة الطوارئ، وقد اشتعلت مواقع الهواتف الآلية المتناثرة في باريس ليالي بكاملها بسبب ازدحام عشرات المواطنين الجزائريين المهاجرين الذين كانوا يحاولون منها مخاطبة أهلهم لمعرفة أخبارهم، وإتخذت وزارة البريد الفرنسية تدابير إستثنائية لتعزيز دوريات الليل في بعض المراكز البريدية. وكان الإختناق أكثر في الطرف الآخر. ارتفاع نسبة مشاهدي البرامج الإخبارية في قنوات التلفزة وإزدياد المستمعين في المحطات الإذاعية، وتوسع عدد قراء اليوميات والأسبوعيات. ويشير السيد جان دانيال، مدير مجلة النوفيل أوبسرفاتور اليسارية المستقلة في العدد الأخير من مطبوعاته إلى أن مبيعاتها حققت قفزة جديدة، وأن رسائل القراء تكاثرت بسبب أحداث الجزائر. وقد كانت ردود الفعل الفرنسية على الأحداث الجزائرية شاملة وحملت لواءها في البداية وسائط الإعلام، قبل أن تمتد إلى الطبقة السياسية، بشقيها الحاكم والمعارض، ثم إلى الأنتلجانسيا اليسارية. وهذه الشمولية هي التي جعلتنا نقول بأن فرنسا عاشت أحداث الجزائر، كما لو كانت مسألة داخلية محضة. وكما يحدث دائما بفرنسا، في مثل هذه الحالة. تناول المعلقون والمحللون أو بعضهم على الأقل المسألة الجزائرية من خلال المنظار المشوه تكبيرا أو تصغيرا، لخصوماتهم الأيديولوجية ولتصفية حسابات مهنية أو سياسية. ولعل أول من أشعل نار الخصومة الأيديولوجية هو السيد فرانز أوليفييه جيزبير، المدير السياسي الجديد لصحيفة لوفيغارو اليمينية اليومية. الذي نشر مقالا (عدد الإثنين 10 أكتوبر) بعنوان : الإستياء الإنتقامي يؤاخذ فيه على المثقفين الفرنسيين صمتهم. ويتهمهم بأنهم لا يتوقفون عن الصراخ والإحتجاج ضد الشيلي وجنوب إفريقيا وإسرائيل ولكنهم يتوارون عن الأنظار حين تداس حقوق الإنسان في الجزائر. وجاء الرد السياسي الأول على النفير الذي أطلقه مدير الفيغارو من مدير تحرير مجلة النوفيل أوبسرفاتور (عدد 2014 أكتوبر). نعم لقد حدث ذلك كله في الجزائر، وهو أمر لا يحتمل ولا يمكن تبريره، لأن الفظاعة تبقى فظاعة، أيا ما كان الذي تقع فيه أو الإسم الذي يُطلق عليها. وكل الحجج المستعملة للتخفيف من هولها أو لإضفاء طابع نسبي عليها أو حتى لمحاولة فهمها. هي حجج مخجلة ومحزنة ومشبوهة في نهاية الأمر، بل لعلي أضيف أنه كلما كان أحدنا يعلن نفسه صديقا للجزائر، كلما كان من واجبه أن يندد بالتجاوزات، وهي فظيعة في هذه الحالة. إن هناك إحتقارا بل نوعا من العنصرية في ذلك الموقف الزاعم بأن هناك ممارسات وحشية يمكن السماح بها، وبالمقابل فأنا لا أنفي أن يكون بعضهم شعر للحظات بالحرج بسبب ماضيه. ونحن لا نستطيع أن نذكر بأن الجزائر خضعت للإستعمار ولا نستطيع أن ننفي حرب الجزائر، ولو أن الأعداء المشهورين للثوريين الجزائريين سارعوا مثلا بالتنديد بالقمع الجديد لاعتقدنا أنهم به مغتبطون. وأضيف هنا مثلا آخر، وهو أنه لو كانت زميلتنا جريدة الفيغارو، لم تتردد في إعلان موقفها من حرب الجزائر، لما كنت وَجَّهتُ إليها أي إنتقاد. لكن هذه اليومية، بفعل موقفها من المغرب، دفعت فرانسوا مورياك إلى البحث عن منبر لدى مجلة الإكسبرس أيام مجدها البطولي. وأرغمت ريمون أرون على أن ينشر في مقال آخر غير جريدته الفيغارو ومواقفه حول إستقلال الجزائر، ولو كان ريمون أرون، حيا ما يزال لكان من حقه وحده أن يبيض صفحة جريدته وأن يوقع في الفيغارو تلك الموعظة التي صدرت فيها كمقال افتتاحي يوم الإثنين. وكنت بلا شك سأصفق له من صميم قلبي في هذه الحالة. في هذه الفقرة مختصر مركز للخصومة الإيديولوجية، ولتصفية بعض الحسابات المهنية التي ظهرت في مناسبة أحداث الجزائر على الساحة الفرنسية. وفيها كذلك تجسيد للأبعاد الفرنسية لإنشغال الطبقة القيادية سواء في الإعلام أو في الحكومة أو في المعارضة بالهموم الجزائرية. فيها شيء من تلك الأشياء كلها. إيديولوجيا، جريدة الفيغارو، هي كبرى الصحف الليبرالية اليمينية، على النقيض من أسبوعية النوفيل أوبسرفاتور اليسارية. وجريدة الفيغارو (ولنقل على الطريق أنها تنجز اليوم إحدى طبعاتها في المغرب) اتخذت من مؤامرة الإقامة العامة وكبار القواد والباشاوات والجنرالات التي إنتهت بإبعاد محمد بن يوسف ملك المغرب الشرعي إلى كورسيكا ثم مدغشقر (20 أوت 1953) موقفا متحمسا لسياسة القمع المسلط على الحركة الوطنية، وقد إضطر الروائي المسيحي الكبير فرانسوا مورياك، ذو النزعة السياسية الديغولية، وكان واحدا من كبار كتابها، اضطر إلى القطيعة معها، والإلتحاق بمجلة «الإكسبرس»، الناشئة لينشر فيها أفكاره الداعية إلى إنصاف المغرب والإعتراف بشخصيته الوطنية. حدث ذلك كله في مستهل حقبة الخمسينات. وفي حقبة الستينات إضطر مفكر كبير مثل ريمون أرون، وكان أبرز معلق سياسي بالجريدة إلى مغادرتها لأنها رفضت أن تقبل فكرته عن ضرورة الإعتراف بهوية الشعب الجزائري والتفاوض مع جبهة التحرير الوطني. تلك هي الخلفية التاريخية للتذكير الوارد في مقال السيد جان دانيال. أما الجانب الآخر، أي جانب تصفية الحسابات المهنية فنذكره حين نتذكر أن كاتب مقال الفيغارو، كان حتى بداية شهر سبتمبر الأخير المدير السياسي لمجلة النوفيل أوبسرفاتور نفسها، بل كان أكثر من ذلك مرشحا لخلافة جان دانيال، في رئاسة التحرير. وقد شكل إنتقاله المفاجئ من قيادة المنبر الأسبوعي الناقد للأنتلجانسيا اليسارية إلى الإدارة السياسية لأقوى مؤسسة إعلامية يمينية، حدث الموسم الإعلامي. وكانت موعظته السياسية الصادرة في مجلة الفيغارو أول نص يكتبه ويصدره من منبره الجديد بل كانت، وفقا لتعبير زميل فرنسي، لا يخلو من روح الفكاهة، بطاقته للدخول إلى نادي الصحافة البورجوازية ودليلا صاخبا على أنه نسف الجسور مع من كانوا يُعتبرون بالأمس القريب أسرته الروحية. ومعالجة وسائط الإعلام الفرنسية لأحداث الجزائر متنوعة تنوع الحساسيات والتيارات الإعلامية والسياسية في فرنسا. ومن نماذج هذه المعالجات ذلك المقال الذي كتبه سيرج جيلي مدير جريدة ليبراسيون (عدد الأربعاء 12 أكتوبر) تحت عنوان «الحرج الفرنسي». يتميز هذا المقال بالتحليل الوصفي الموضوعي لسياسة فرنسا تجاه الجزائر، كما يتميز بنبرته النقدية، علما بأنه صادر في جريدة محسوبة على الحكومة. يلاحظ مدير جريدة ليبراسيون، في مقاله : «إن كافة الحكومات الفرنسية انتهجت منذ عام 1962، تجاه الجزائر خطا دائما في كل الظروف والأحوال. يقوم على إقرار أفضل العلاقات مع القادة والحكام الجزائريين الرسميين، ويرى الكاتب أن أسباب هذه السياسة معروفة : في مرحلة أولى كان هناك تخوف من أن يحل الأمريكيون محل الفرنسيين، سواء قي المجال الإقتصادي أو في المجال الدبلوماسي، ثم تأتي بعد ذلك اعتبارات ذات طبيعة جيواستراتيجية حول الطابع الإنفجاري لبرميل البارود المغاربي الذي يجب التعامل معه بمنتهى الحذر، إضافة لوجود جالية جزائرية قوية بفرنسا لابد من معاملتها وفقا لمبدأ «فريضة الإحتزاز»، وأخيرا فإن الدبلوماسية الجزائرية الطموحة جدا لا يمكن أن تستهين بها دبلوماسية فرنسية لا تقل عنها طموحا. كل هذه الأسباب تواطأت بإستمرار لتملي على الحكومات الفرنسية إتخاذ مواقف متواصلة تجاه النظام الجزائري. لقد ظلت الجزائر حالة مميزة. والمذبحة التي تجري بالجزائر العاصمة أو وهران تظل مسألة داخلية في حين أن مذبحة مماثلة تحصل بأي مكان آخر من العالم تعتبر خرقا لحقوق الإنسان، وتدفع حكامنا سواء كانوا من اليمين أو اليسار إلى التنديد بها في لهجة قوية للغاية. وهكذا فإن كل القتلة والسفاحين يهنؤون الضمير الديمقراطي الفرنسي، باستثناء القتلة الجزائريين. وقد يكون هذا السلوك مفهوما لو أن الحكومة الحالية، مثلا مؤلفة من العناصر اليمينية التي لم تتخلص بعد من عقدتها الجزائرية. ولكن غالبية أعضاء الوزارة هم من الذين بدؤوا حياتهم السياسية في منتصف حقبة الخمسينات ومستهل الستينات، بالتظاهر إما في صفوف منظمة الإتحاد الوطني لطلبة فرنسا أو في إطار هيئات أخرى، ضد سياسة قيادة الحزب الإشتراكي، في الجزائر. لقد بدأ ميشال روكار رئيس الحكومة حياته السياسية الفعلية بالمطالبة بإستقلال الجزائر وبالنضال الفعلي من أجل هذا الإستقلال، وفي وقت كانت فيه الحكومة الإشتراكية بزعامة غي موليه تطالب البرلمان بالحصول على سلطات إستثنائية، لتصفية الثورة الجزائرية. وقد شرحنا في إحدى المراسلات السابقة هذا الجانب من مسيرة ميشال روكار السياسية. أما رولان ديما، وزير الخارجية، فقد كان عضوا في هيئة نقابة المحامين المدافعين عن مناضلي جبهة التحرير الوطني. ويعتقد مدير جريدة ليبراسيون أن الوضع الحكومي في فرنسا لم يكن ملائما مثل ماهو الآن لتسمية القط قطا والمذبحة مذبحة، سيما وأن الجزائريين لا يمكنهم أن يتهموا الوزير الأول ولا وزير خارجيته بأنهما من أنصار الإستعمار. غير أن «الطرطوفية» أو النفاق تجاه النظام الجزائري كما يذكر سيرج جيلي أمر لا يقتصر على الطبقة السياسية وحدها ولكنه يمتد ليشمل جميع المدافعين عن حقوق الإنسان، وكل أصحاب الضمائر الأخلاقية في البلاد. وهكذا فإن «حملة الحقائب»، أو على الأقل من بينهم أولئك الذين يقبلون الرد على الأسئلة الموجهة إليهم في الأحاديث الصحفية، مثل فرانسيس جانسون وجيزيل حليمي، لا يخرجون أبدا عن «لغة الخشب» الدبلوماسية، مع أنهم ليسوا مطالبين بأي شكل من أشكال التضامن الحكومي أو التمثيلي. وإذا كان سقوط خمسمائة قتيل في مسألة داخلية، فالأنسب في هذه الحالة أن تنتهج سياسة النعامة وأن لا تهتم بالخصوص بما يجري، خارج مربعنا الصغير». مقال سيرج جيلي، مدير جريدة ليبراسيون صدر بعد يومين من صدور مقال إفتتاحية أوليفييه فرانز جيزبير في جريدة الفيغارو، ليدفع الجدل حول الأحداث الجزائرية إلى ذروته. وقد انتقل الجدل، مع ظهور ذلك التحليل من أعمدة الصحف إلى أوساط الحكومة والمعارضة، أي إلى الطبقة السياسية صانعة القرار. ويوم الأربعاء الذي ظهر فيه المقال، هو اليوم الذي تعقد فيه الحكومة اجتماعها الرسمي الإعتيادي بقصر الإليزي تحت رئاسة الرئيس ميتران. في ذلك اليوم قال الناطق باسم رئاسة الجمهورية إن الرئيس تدخل ليعبر عن انشغال فرنسا بما يجري في الجزائر. والذين يتابعون تفاصيل الحياة السياسية هنا يعرفون أن نقل موضوع تحدث فيه الرئيس أمام وزرائه يعني أن الدولة الفرنسية كلها مشغولة بالحدث. وفي يوم الخميس (13 أكتوبر)، وهو الذي تخصصه الحكومة أسبوعيا للإجابة عن أسئلة النواب، في جلسة علنية، حول أحداث الساعة، بادرت المعارضة على لسان السيد جان فرانسوا دينيو وزير التجارة الخارجية السابق، في عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان، بطرح سؤال على وزير الخارجية عن ما تنوي الحكومة القيام به. وكان جواب رئيس الدبلوماسية الفرنسية : الجزائر بحاجة إلى مساعدة والحكومة سوف تقوم بواجبها إزاء المحنة التي يواجهها هذا البلد. أما الوزير الأول ميشال روكار فقد رد على سؤال وُجِّه إليه خلال حديث أدلى به للقناة الثانية بأن «الصمت أبلغ من الكلام في مثل هذه الحالة». وليس سرا أن الحكومة الفرنسية تراهن على الرئيس الشاذلي بنجديد، منذ سنوات وتعتبر أنه أفضل من غيره، وترى أن كل إضعاف لوضعه يمكن أن يسفر إما عن إتساع الأصوليين أو إستبداله بنظام عسكريتاري متشدد. إن وراء هذا الموقف الصامت من الحكومة خوفا من ظهور «قذافي» أو «خميني»، جزائري. وجه الخميني، لعب، كما قال لنا مثقف اشتراكي فرنسي وما يزال يلعب، دورا محوريا في سياسة فرنسا المغاربية وسياستها الجزائرية تحديدا. لقد راهنت باريس على سقوط الشاه، ولكن الوجهة التي سلكتها الحركة الخمينية وإندفاعة موجة الأصولية الإسلامية بعدها في المشرق وفي المغرب جعلت باريس تخشى، عندما تنشب القلاقل والإضطرابات في بلد عربي إسلامي، أن يظهر فيه «خميني عربي». ذلك هو سر تركيزها على بلدين مثل مصر وتونس وهو سر وقوفها إلى جانب الشاذلي بن جديد، وقد نظر الرأي العام بشيء من العطف مثلا إلى الرئيس الجزائري السابق أحمد بن بلة، ولكن النبرة الإسلامية الراديكالية في خطابه السياسي جعلت الحكومات الفرنسية المتوالية، سواء كانت من اليمين أو من اليسار، تستجيب بسهولة لمطالب السلطات الجزائرية وتقوم بإبعاده من الأراضي الفرنسية، وتصادر بانتظام مجلة «البديل» التي يُشرف عليها جماعة من أنصاره. والنظام الجزائري، في رأي هذا المثقف الإشتراكي، يدرك اللعبة الفرنسية جيدا. وتسامحه مع الأصوليين أثناء تطبيق حالة الطوارئ وحظر التجول، أكبر دليل على ذلك. لقد سمح لهم بالتظاهر واستعمال العضلات ووجه من خلالهم خطابا سياسيا مباشرا للفرنسيين ملخصه : ساعدوني على اجتياز المحنة الحالية وإلا جاءكم نظام أصولي سيزعزع المنطقة برمتها. والمغرب العربي، مثل أصبع ديناميت، وأي خطوة فرنسية غير محسوبة بدقة يمكن أن تؤدي إلى اشتعال حريق شامل فيه. وقبل انفجار خريف الغضب الجزائري كان من المقرر أن يقوم الرئيس فرانسوا ميتران بزيارة عمل إلى هذا البلد، بدأت الإتصالات الثنائية لترتيبها على أن تتم خلال شهر نوفمبر. وأثناء الأسبوع الثاني من الشهر الماضي توقفت كل الإجراءات المتعلقة بهذه الزيارة وروجت أوساط مقربة من رئاسة الجمهورية رواية تقول بأن الزيارة كانت مشروعا قيد الدرس لا غير ولم تتحدد نهائيا ولا داعي للكلام عن تأجيلها أو إلغائها. وواضح من هذه الرواية أنها تهدف إلى التخفيف من الطابع السياسي لهذا الإلغاء غير المعلن لزيارة لم تكن قد أُعلنت رسميا، رغم أن كل الصحفيين المتتبعين لتطور العلاقات الفرنسية الجزائرية في باريس، عرفوا أنها مقررة وبدأوا يستعدون لتغطيتها. والسؤال المطروح الآن هو : هل تم إلغاء الزيارة بقرار إنفرادي أو بعد تشاور بين الطرفين؟ مقابل هذا الإلغاء غير المعلن، يدور جدل ساخن داخل الأوساط الحكومية حول الموقف الذي يجب إتخاذه لمساعدة الرئيس الشاذلي بن جديد، دون الظهور بمظهر من ينحاز له. «نحن كما ذكر لنا ذلك مسؤول إشتراكي، مفتونون لحد الشلل بالجزائر، ومن الصعب على اليسار الفرنسي أو حتى على اليمين الفرنسي أن ينظر إلى الحكومة الجزائرية نظرته إلى الجنرال بينوشي، وإعلان تأييدنا للشاذلي بن جديد يعني أننا نساند القمع الحالي، كما أن تأييدنا للشعب الجزائري معناه التخلي عن رئيسه. وليست المسألة محصورة في موقف مبدئي، بل هي تمس مجمل علاقاتنا بالجزائر، حاضرا ومستقبلا. إن لدينا شعورا عميقا بأن المنطقة كلها صارت مثل برميل بارود. وكل تدخل فرنسي علني بالجزائر سيكون بمثابة إقتحام فيل ضخم لدكان حرير. ولا تنسوا أن الديمقراطية البسيطة التي وعد الجنرال زين العابدين بن علي بتطبيقها في تونس، بقيت غصة في حلوق المسؤولين الجزائريين، وبالأمس، قال وزير الخارجية، رولان ديما أن الجزائر طرف ضروري للتوازن في المغرب العربي والمغرب العربي ضروري للتوازن في هذه المنطقة من العالم. ونحن نخشى أن يتحول أي بيان يصدر من باريس الرسمية حول العلاقات الفرنسية الجزائرية إلى موضوع نزاع داخلي في جبهة التحرير الوطني، ثم إننا لا نعرف بالضبط ما الذي يحدث داخل الفريق القيادي الحاكم. نحن نعرف أن النزاعات في القيادة الجزائرية ذات طبيعة إنفجارية، ولا نعرف كيف سينتهي المؤتمر القادم لجبهة التحرير الوطني الذي يفترض أن يختار المرشح الجديد للرئاسة». في إنتظار ذلك، بدأ المسؤولون السياسيون يفكرون منذ الآن في مضاعفات خريف الغضب الجزائري على الجالية الجزائرية المقيمة بفرنسا. أستاذ جامعي مقرب من الحزب الإشتراكي قال لنا في معرض تحليله لهذه الظاهرة : «سقوط خمسمائة قتيل من مختلف المدن الجزائرية يُضفي صبغة شرعية على أعمال المعارضة داخل الشتات الجزائري. سوف يصبح الآن بإمكان المهاجرين الجزائريين أن يناضلوا من أجل الحرية والديمقراطية والتحريات في مناخ يتميز بتعاطف الرأي العام الذي سيؤيدهم لأنهم يدافعون عن قيمنا». قبل تلك المظاهرات الدامية كانت الحكومة الجزائرية تستعمل المهاجرين كورقة ضغط على السلطات الفرنسية، أما الآن فسوف يكون مثل هذا الضغط أمرا صعبا عليها لأنها لا تستطيع أن تفرض هيمنتها على المهاجرين. بالطبع ليست هذه الوضعية إيجابية مائة في المائة. ولدى السلطات الفرنسية بعض الخوف من حصول مواجهات سياسية وسط المهاجرين بين أنصار النظام ومعارضيه. وقد كان الضغط الذي مارسه الشبان الفرنسيون ذوو الأصول العربية على الحزب الإشتراكي وراء البيان الذي أصدره الحزب وتحدث فيه عن القمع وأكد أن اللجوء إلى القوات المسلحة لا يحل المشكلة ولابد من إتخاذ إجراءات إقتصادية وإجتماعية لمواجهة الموقف. لكن الحزب لم يقم بواجبه، كما ينبغي. لقد ترك ظهر الحكومة مكشوفا لأنه لم يُمارس بكامل الحرية وظيفته كمثقف عضوي جماعي لا يمكن أن يخلط بين رسالته وبين الوظيفة الحكومية. ولأن الحزب نسي دوره المتميز عن الدولة، فقد أضاع في هذه المناسبة فرصة ثمينة لتأكيد هويته السياسية المستقلة. وإذا كانت المعلومات المتوفرة لدى الحكومة تدفعها إلى الإعتقاد بأن نظام الشاذلي بن جديد لا بديل له في الوقت الراهن، وإذا كانت العلاقات بين الدول، تُحتم الإحتراز والتكتم، فإن من طبيعة الحزب السياسي أن يصرخ بالحق وأن يقول الحقيقة، من دون أية حسابات ظرفية. لقد كان لدى الحكومة هامش ضيق للمناورة لم تستعمله أمام الأحداث، لكون استعماله يفرض أو يفترض على الأقل وجود حزب إشتراكي مستقل في تصرفاته عن أجهزة الدولة... نقد موقف الحزب الإشتراكي الوارد على لسان هذا المثقف سمعناه من مسؤوليين قياديين في الحزب اعترفوا أمامنا بأنهم بدؤوا حتى قبل الأحداث الجزائرية الأخيرة بطرح بعض الأسئلة حول طبيعة النظام الجزائري، ولكنهم لم يذهبوا مع تحليلاتهم إلى نهاياتها القصوى إلا تحت الضغط المزدوج للرأي العام الفرنسي وللمناضلين في القاعدة والشباب العرب المنخرطين في الحزب والذين صوتوا له في الإنتخابات الأخيرة. هناك نمط آخر من النقد الذاتي تُجاه أحداث الجزائر عبر عنه المثقفون اليساريون بصورة خاصة. فهذا جان لوي هرست، مؤسس «حركة المقاومة الفتية». وهي هيئة سرية أُنشئت أيام حرب الجزائر، لدفع الشبان المجندين الفرنسيين إلى الفرار من الخدمة العسكرية، وكانت حركة المقاومة الفتية العمود الفقري لنشاط واسع عرف أصحابه في التاريخ الحديث تحت اسم حملة الحقائب «Porteurs de valises» لأنهم كانوا ينقلون الوثائق والأموال والتعليمات، ويدبرون الأوكار السرية لمناضلي جبهة التحرير الملاحقين من قبل أجهزة الأمن الفرنسية. لقد تدخل مؤسس هذه الحركة في الخصومة الفكرية والإعلامية، بمقال نشرته له جريدة ليبراسيون (17 أكتوبر) عبر فيه عن شعور قسم كبير من المثقفين اليساريين : «يقولون إن صمت حملة الحقائب، أمام المذابح القائمة بالجزائر يثير الإستغراب، ويطلبون منهم أن يتحدثوا بسرعة، وأنا أسألكم : لمن تريدون أن نوجه صراخنا؟ هل نوجهه للرأي العام الفرنسي؟ طوال الساعات الحالكة من حرب الإستقلال كنا حفنة صغيرة من الرجال واستطعنا أن نصمد بوجه هذا الرأي العام. ولم نستطع أن نندمج فيه إندماجا كليا. وهل تريدون منا أن ننبح مع الكلاب النابحة لنلاحظ أن الجزائر أصبحت دكتاتورية مثل دكتاتوريات العالم الثالث؟ لقد كنا نعرف ذلك تماما بل عايناه في أجسادنا بعد إنقلاب 1965. لقد كان الضباط الجزائريون يتقنون استعمال أدوات التعذيب الكهربائية مثل رجال المظلات الفرنسيين فكيف نستغرب أن يطلق جنودهم النار بسهولة على المتظاهرين؟ لقد ظلت الجزائر تنزلق بإستمرار إلى المنحدر الخطير تحت شعار الرجوع إلى جدية «الدولة» من خلال إنهاء المبادرة المتبقية للعمال عبر نظام التسيير الذاتي. ثم من خلال العودة إلى قوانين السوق التي يفترض فيها أن تصحح الكوارث الناجمة عن التخطيط البيروقراطي. وفي كلتا الحالتين، اعتبرت الطبقة السياسية الفرنسية، هذه الواقعية أمرا جيدا، متناسية أن الشعب في عهد بومدين لم يكن له الحق في الكلام، وفي عهد الشاذلي بن جديد، لم يبق لديه ما يأكله. ولكن ماذا حدث لأفراد الرعيل الأول من أصدقائنا ورفقائنا الجزائريين؟ وكيف كانوا ينظرون إلى هذه الوضعية؟ هنا تكمن مأساتنا الحقيقية وهي لا تُطرح على الملأ بسهولة. لقد وصل جميع هؤلاء الإخوة إلى السلطة في لحظة أو أخرى، وقليل منهم لم يتغيروا أو يفضلوا الهجرة والعودة إلى القرية خوفا من التنكر لماضيهم. أما الأغلبية الساحقة فقد أصبحت متواطئة واشتروا منها صمتها بكمشات من البترودولارات وانصرفت تمارس «الأعمال» في هدوء. وهذه الأغلبية تعيش في دائرة مغلقة بين الجزائر العاصمة وباريس، ولا تكاد تدرك حتى التطور الديموغرافي الهائل للسكان المحليين. لذلك لم تخطئ شبيبة باب الواد والحراث، لأنها على الرغم من تجنبها الهجوم على الممتلكات الخاصة، هاجمت بعض الرموز الإستفزازية ومن بينها علبة ليل يملكها مسؤولو فيدرالية جبهة التحرير الوطني لفيدرالية فرنسا. وهاجمت دكان الخياطة الرفيعة العائد إلى مسؤول منطقة الجزائر المستقلة الذي سبق له أن صمد بوجه الجيش السري الفرنسي. كما هاجمت محلا لبيع الأغذية والمشروبات الفاخرة تملكه بطلة معركة الجزائر الشهيرة. ومع ذلك فإن أعضاء هذه الطبقة لا يتورعون عن التعبير عن كآبتهم أمام عدم إهتمام الأجيال الصاعدة بقدماء المجاهدين. ثم إن «وحشية» المتظاهرين كانت ردا على وحشية الطبقة الحاكمة خبرائنا الجدد بالحقيقة الجزائرية : فهناك التصنع الوحشي والليبرالية الوحشية والقمع الوحشي اليوم، لدرجة تدفعنا إلى التساؤل : هل يمكن لهذه البلاد أن تصبح مؤهلة لحالة من الإعتدال؟ لقد جربنا - نحن وأصدقاءَنا- ذلك كله، فوراء اللعبة الدبلوماسية لقادتها، والفكاهة المعدية لمثقفيها ووراء الإمتثالية الظاهرية للقرويين والحضريين الجدد، ووراء ذلك كله يختفي كل ما هو جدي في الجزائر : يختفي الشعور بالحرمان والشعور بالضيق من الحياة وتفاهة المطامح، وهي أشياء تحيل جميعها إلى أصل نادر جدا. إننا أمام أفظع تسطيح وأشمل وأوسع حالة من حالات إنتزاع الهوية الثقافية تعرض لها شعب في تاريخه. ولقد استمر ذلك كله مائة وثلاثين سنة. فهل تذكرونه؟ لذلك كانت الصحوة في مستوى الإتلاف الحاصل. لقد اعتبرنا هذا الشعب استثنائيا وخارقا بصموده في النضال التحريري، وفي إستعداده للإستقلال. وها هو يُشعرنا بأنه ما يزال كذلك. وإنها لقليلة تلك الإنتفاضات الحاصلة في العالم الثالث والتي تكون لها مثل هذه الأهداف السياسية الواضحة، ونادرة هي الشعوب التي تملك مثل الشعب الجزائري هذا الإحساس المفرط بالضيم والغبن، وهذا الإحتقار العميق للإحتقار وهذه اللزومية المتمردة باستمرار من أجل تحقيق المساواة بين المواطنين». وقد إخترت مقالة جان لوي هيرست بين عشرات المقالات والأحاديث التي صدرت عن مثقفين وجامعيين فرنسيين. عبروا فيها عن إنتقادهم العنيف لسياسة حكومتهم وأعلنوا فيها تضامنهم مع الشعب الجزائري. إخترتها لكونها تعطي صورة أمينة عن إنفعال المثقفين الفرنسيين بخريف أحداث الغضب الجزائري. أما الخلاصة السياسية النظرية التي خرج بها المفكرون الفرنسيون من تأملاتهم للأحداث الجزائرية فربما كانت أوفى ترجمة لها، تلك الكلمة القصيرة التي نشرتها مجلة النوفيل أوبسرفاتور، لعالم الإجتماع الفرنسي آلان تورين (عدد 14-20 أكتوبر). «بصرف النظر عن الصدمة التي يثيرها سقوط مئات القتلى، فإن ما يحدث بالجزائر يضع حدا نهائيا لمرحلة تاريخية كاملة. لقد كانت الدولة الجزائرية التالية بعد الإستعمار تبدو لنا ضرورة. وكنا نحن المثقفين نكاد نعلن مسؤوليتنا عما يحدث فيها. ونحن نسبيا مسؤولون عن عهد الشاذلي بن جديد. ولكن أيضا منذ أيام بومدين عن النظام القمعي والنظام الإقتصادي العاجز. لكن موتى الجزائر يعلنون أيضا نهاية أوهامنا التي تبدد الكثير منها في السابق، وهم يعلنون نهاية تطابق نضالات العالم المصنع مع معارك العالم الثالث وباختصار إنتهاء العالم السارتري. إن أسطورة النمط الرأسمالي المعادي للإمبريالية التي إنهارت منذ تقرير خروتشوف، قد اسْتُنفِدت اليوم تماما. وكما أن الحرب العالمية الأولى سجلت النهاية الحقيقية للقرن التاسع عشر، فإن الجزائر تعلن نهاية القرن العشرين. ونحن الذين شاركنا في النضال من أجل استقلال الجزائر، مشاركة لسنا نادمين عليها أبدا، ندرك اليوم أن الآمال المتولدة عن تصفية الإستعمار، أي آمال بناء نظم ديمقراطية لم تعد موجودة. وأن ما بقي وجها لوجه هو نداء الإستهلاك من جهة ونداء التقليد من جهة ثانية».