تحدث مجموعة من السلوكيات الصادرة ما بين الفينة والأخرى عن الأجهزة الاسبانية وقع المفاجأة لدى الإنسان المغربي، و خاصة خلال مرحلة الديمقراطية ، على عكس زمن فرانكو الذي انتهى سنة 1957. وتفرز هذه التصرفات بوادر أزمات و تشنجات على مستوى العلاقات ما بين اسبانيا و المغرب، كما حصل مؤخرا في ما عرف بجزيرة ليلى أو الزيارة الملكية الاسبانية لمدينة امليلية وصولا الى المواقف المتعاقبة للاسبان لمعاكسة حقوق المغرب في استكمال وحدته الترابية . ويرجع اندهاش المغاربة في جزء كبير منه، إلى اعتبار أن السياسة الخارجية الاسبانية لا تجد مرتكزا في طبيعة العلاقات السائدة ما بين البلدين، أخذا بعين الاعتبار العلاقات الاقتصادية الممتازة والعمل المشترك لمحاربة الإرهاب و الهجرة السرية وغير ذلك. أيضا، لا تجد المواقف الاسبانية سندا و شرحا لها حيث أن المغرب، أرادت ذلك النخب الاسبانية أم أبت، يبقى أقرب دول الضفة الجنوبية للمتوسط من الثقافة الاسبانية . لذلك، يقف المغربي مشدوها أمام هذا التحامل الاسباني غير المبرر و غير المؤسس على أية مواقف صادرة عن الطرف المغربي قد تسيء الجار الشمالي سواء اقتصاديا أو ثقافيا أو سياسيا أو عسكريا ..... فسياسة الانفتاح و الديمقراطية النسبية التي يعتمدها المغرب - على خلاف جيرانه - توحي طبيعيا بأنه سيكون البلد الجنوبي الأكثر احتضانا في المجتمعات الغربية عموما و الأوربية على الخصوص، بما فيها الاسبانية. فإذن، كيف يمكن تفسير كل هذه المواقف العدائية التي تبديها الطبقة السياسية و الرأي العام تجاه المغرب دون أن يصدر عن هذا الأخير أية أفعال قد تبرر ذلك . للبحث عن أجوبة ضافية لهذه الأسئلة ، لامناص لنا من اللجوء إلى المشترك التاريخي ، حيث يبقى الوحيد الذي قد يمدنا ببعض الأدوات التي قد تفيدنا في سبر أغوار هذا الواقع و الذي كما قلنا يستعصى إيجاد الأجوبة الضرورية عنه في الحاضر. تيسيرا - منا في البداية -على فهم ما سيأتي ،لا بد من الإشارة إلى أن المغاربةو- على عكس الجزائريين مثلا-لا ينطلقون من ماضيهم لتحديد مواقفهم الحاضرة و اتخاذ مواقفهم من هذا أو ذاك. و رغم أن البلاد عاشت هي الأخرى الكثير من الأحداث المأساوية خلال المرحلة الاستعمارية و التي انتهت بالقتل و الفتك و القمع، فإنه يمكن القول إن البلاد قد حققت نوعا من التباعد سمح لها ببناء علاقاتها على أسس مغايرة. وإذا كان الشأن، كذلك، بالنسبة للمغرب، فإن الأمر يتم على خلاف ذلك بالنسبة لجيراننا سواء شرقا أو شمالا. فالدولة الاسبانية لم تتمكن من تجاوز آثار و ندوب المواجع التي تجرعتها و التي يجمع سياسيوهاو عسكريوها و قبل حين أغلبية مثقفيها على أن المغرب يعتبر مسؤولا عنها بشكل مباشر. فالأحداث و المآسي التي عاشها الاسبان مع المغربي جعلتهم ينظرون إلى هذا الأخير بكثير من الحذر و الارتياب.و في تناولنا التاريخي هذا، لن نرجع إلى فترات قد تبدو بعيدة عن الفعل و التأثير في ذاكرة شبه الجزيرة الايبيرية كالحديث عن الحضور العربي داخلها لمدة قاربت الثمانية قرون .ففي مقالنا هذا سنكتفي باستحضار ما عاشته العلاقات المغربية الاسبانية خلال الزمن المعاصر و خاصة أغلب فترات القرن العشرين.،و التي تجعل النخبة السياسية و العسكرية و الرأي العام غير مستعدين لنسيان كراهيتهم « للمورو» كما يلقبون المغاربة في الأمد القصير. تقول ماريا- روسا- دي مادرياغا و هي إحدى المؤرخات اللامعات في الكتابة التاريخية المعاصرة و المختصةفي العلاقات المغربية الاسبانية في أطروحتها حول اسبانيا و الريف الصادرة بالاسبانية سنة 2000 حول تمثل الإنسان الاسباني و التصور الذي يحتفظ به عن جاره المغربي كنتاج للتراكم في التعاطي ما بين الطرفين خلال المراحل السابقةّ: «إضافة الى النظرة الليبرالية الرومانسية عن «المورو» كنتاج للعصر الوسيط و الأندلس ،يوجد لدى اليسارالاسباني تصور آخر عن «المورو»كانسان متوحش و دون رحمة و التي تختلط بنظرتهم للمغربي .فحروب المغرب خلال القرن التاسع عشر (تطوان 1859-1860و امليلية 1893)،و بشكل خاص حروب القرنالعشرين كمعركة خندق الذئب سنة 1909 أو كارثة أنوال سنة 1921 ، والتي ترك فيها العديد من الاسبان حياتهم ن كل ذلك ساهم في تأسيس هذا التصور المرعب». لقد عرف التاريخ العديد من المشاحنات التي حصلت ما بين الطرفين و التي يبدو أنها أثرت أكثر من اللازم في أصدقائنا الاسبان .فالحدود المغربية الاسبانية من سوء حظها أنها ليست حدودا عادية .فهي تفصل بين بلدين و كذلك بين قارتين وبين حضارتين وشاءت الظروف بين معتقدين و أكاد أقول بن عرقين .و قد انعكس ميزان القوى ما بين الجهتين حتما على أحد الطرفين .و رغم أن الغلبة كانت للاسبان في الفترة المعاصرة و خاصة منها الاستعمارية،فان اسبانيا خرجت و احتفظت فيها بالمآسي أكثر مما انتشت بانتصارها. فبخصوص هذا الصراع المعاصر و الذي سنرجع لرسم خطوطه العامة ،تقول لنا نفس المؤرخة السالفة الذكرفي أحد كتبها التي لم يمر على إصدار ترجمته العربية إلا بضعة أسابيع:»قليلة هي الأسر الاسبانية التي لم يشارك احد أبنائها في معارك المغرب أبا كان أو جدا.و على الرغم من أن تلك الذكريات قد اندثرت تقريبا من الذاكرة،إلا أننا ما زلنا نسمع في أوساط الشباب من يردد إن عمي أو خالي كان هناك ، وما زال بينهم من يتذكر حكايات رويت له عن أحداثها و هو طفل صغير»(في خندق الذئب، ص.11 ] .صحيح أن المغرب عاش واقع الحماية في جل مناطقه ،إلا أن ما عاشته الإدارة الاسبانية في تلك البقعة الجغرافية المسماة المنطقة الخليفية و التي لا يمكن مقارنتها بنظيرتها الفرنسية إذ لا تتجاوز حوالي 22 ألف كلم2،فآثارها لم تنمح بعد وما زالت عالقة بالأذهان و تجري على العديد من المواقف الاسبانية في زمننا الحاضر. فالأحداث المعيشة بالمنطقة الاسبانية و التي لم تكن حتما مفرحة ،ما زالت تتمتع بانعكاس بين على مستوى الذاكرة الجماعية الاسبانية و ما زالت تباشر أثرا لا يجب أن نتفاءل كثيرا بزوالها في الزمن القريب .ضمن هذا السياق نقرأ لمؤرختنا السالفة الذكر»يمكن الاعتقاد بأن حروب المغرب تشكل في ذاكرة الأسبان أحداثا بعيدة من الماضي ،حتى تلك التي وقعت في العشرينات من القرن المنصرم ضد عبد الكريم الخطابي،لكنها في حقيقة الأمر ما زالت كامنة هنا و كأنها وقعت بالأمس القريب فقط.أسماء معارك مثل خندق الذئب و معركة أنوال خصوصا التي راكمت نتائج سيئة جدا على اسبانيا ما زالت بالطبع عالقة بذاكرة العديد من الرجال ، لكن باعتبارها أحداثا مأساوية يستحسن نسيانها».(ص.13] وفعلا وبرجوعنا للكتابات الاستعمارية أوائل القرن العشرين وباستقرائنا للوثائق الاستعمارية،تتضح جليا حالة العجز التي كان يعاني منها الاسبان في تعاملهم مع الشأن المغربي و غياب حلول بديلة. والغريب في الأمر أنه رغم احتلال سبتة و مليلية لعدة قرون سالفة،لم تجد هذه الثغور في الإحاطة ببعض مميزات الإنسان المغربي و اكتشاف حقيقة وطبيعة القبائل المحيطة و المجاورة لهذه المدن . وقد ساهم الانتصار الذي حققته اسبانيا على مخزن لم يكن يبدي أي استعداد ف هذه الحرب إلى إحداث انتشاء اسباني ساهم في إبعادهم عن فهم حقيقة الأمور و طبيعة المواجهة التي كانت تنتظرهم بمنطقة حمايتهم .يقول أحمد بن خالد الناصري عن حالة الوهن عن السياق الذي عرفته هذه الحرب: «و الحاصل أن المسلمين لم يكونوا يقاتلونه على ترتيب مخصوص و هيئة منضبطة،إنما كانوا يقاتلونه و هم متفرقون . فإذا حان المساء تفرقوا إلى محالهم في غير وقت معلوم و على غير تعبية،فكان قتالهم على هذا الوجه لا يجدي شيئا ،و كان العدو يقاتل بالصف و على ترتيب محكم،و كانت عنايته بما يستولي عليه من الأرض ويرى تقدمه إلى أمام وتأخر المسلمين بين يديه إلى خلف هزيمة عليهم «(الاستقصا،ج.9،ص.87]. فالقبائل القاطنة بالمنطقة التي أصبحت تشكل مجالا للحماية الاسبانية والتي تعرف إجماليا بالريف وجبالة،كانت تعرف منذ أزمنة سحيقة بشوكتها الحربية .فبالرجوع إلى مختلف الكتابات القديمة كابن خلون و الوفراني و القادري ،وصولا إلى الحسن الوزان في الحديث و الناصري في المعاصر،يجمع كل هؤلاء على ميزة المحارب داخل هذه المنطقة و غيرة سكانها على استقلالية أراضيهم.و قد كانت كل السلالات المتعاقبة على حكم البلاد تعي هذا الأمر و تأخذه بعين الاعتبار سلبا أو إيجابا.فقد احتاج بعض الحكام إلى القيام بعدة حملات عسكرية لإخضاع ساكنة المنطقة،بينما فضل الآخرون الاحتفاظ لها باستقلالية نسبية. و يكاد تاريخ القبائل الريفية و الجبلية يختزل في أغلب حركاته العسكرية في جانبين ٍٍأحدهما تكون تكون وجهته محلية ضد السلطة المركزية رفضا لتأدية ضرائب تبدو قاسية و غير مبررة،و الثاني ذو بعد خارجي و جهادي للوقوف في وجه الغارات الأجنبية منذ بدء الهجمات الايبيرية.(أنظر مثلا:محمد حجي،الحياة الفكرية بالمغرب،ج1،ص.198]. فهذه القبائل و ابتداء من العصر الحديث،تحملت وزر الدفاع عن حدود البلاد و إحباط كل توسع تبتغي تحقيقه شبه جزيرة ايبيريا و خاصة من طرف بعض القبائل الحدودية كما هو الشأن بالنسبة لقلعية في الريف و الأنجرة بجبالة.و قياما بهذا الدور التاريخي يمكن أن نفهم أسباب حربي تطوان سنة1860 وامليلية سنة 1893 وتجاهلا لهذا الواقع،رغبت اسبانيا و خاصة بعد اندحارها بأميريكا اللاتينية سنة 1898 التي شهدت فقدان آخر مستعمراتها وهي كوبا لتتمسك كتعويض عن ذلك بالحضور في أي تقسيم محتمل للتراب المغربي. ودون الدخول في العديد من التفاصيل التي لايسمح بها المقام،نقول أن الاحتلال الاسباني للمغرب لا يمكن أن نضفي عليه إلا صفات الاحتلال الكلاسيكي بعيدا عن أية حوافز رأسمالية و امبريالية تبتغي البحث عن المواد الأولية و الأسواق كما قد تفرضه متطلبات صناعة متطورة،هذه الحالة التي قد تصدق على بقية الدول المنافسة.فالتوسع بالمغرب كانت مراميه الأساسية تتمثل في إنقاذ الملكية الاسبانية و تصدير هذا الجيش الضخم المسترجع من أميريكا اللاتينية و متابعة عملية التبشير الديني.و يجب التنصيص على أن الجيش الاسباني لم يكن يقتنع بلعب دوره العسكري كما هو واجب نظريا، بل كان يتدخل و يعطي رأيه في الشؤون السياسية للبلاد،مما كان يشكل خطرا داهما على طبيعة القرار السياسي و النظام الملكي بالبلاد. وما بين 1909 و 1927، عاشت اسبانيا لحظات عصيبة داخل المغرب و التي امتد تأثيرها على الرأي العام و النظام السياسي داخل البلاد.فمنذ سنة 1909،ة لعدة أسباب من بينها إمكانية إعفاء أصحاب الأموال مقابل تأدية غرامة،أصبح العديد من الشباب يمتنعون غن الذهاب إلى لمغرب .و قد أدى هذا الوضع إلى قيام أحداث دموية ببرشلونة خلال تلك السنة، حيث أصبحت مشهورة ب»الأسبوع الدرامي»،و أيضا إلى ارتفاع نسبة الهروب في الجيش الاسباني خلال السنوات اللاحقة(أنظر مثلا ميكيل مرتيل:الاستعمار الاسباني،ص.60).ومابين 1909و1919،كل الكتابات والتقارير الاستعمارية تؤكد على واقع الاندهاش الذي أصبح يعتري المعمرين الاسبان.فما بين مهمة اعتبروها ترفا عسكريا والخسائر الجسيمة التي أصبحوا يتكبدونها،كان من المهام الجسيمة و المستعجلة-و قبل البوح بالحقيقة- ضرورة تهييئ الرأي العام لتقبل هذه الواقع. وخلال هذه المدة،و بالاستناد إلى الصحافة الاسبانية أو النقاشات الدائرة داخل البرلمان الاسباني،كانت القضية المغربية تشكل أولوية الأولويات و القضية المركزية في العمل السياسي و الانتخابي.فالشعار الأساسي للحملات الانتخابية المتكررة كان يتمثل في حل القضية المغربية و حدوث أية معارك جديدة قد تترتب عنها خسائر جسيمة في الأرواح كما حصل مرارا كان يقود في الغالب الأعم إلى تغيير الحكومة و الحزب الذي يقودها.و قد توالت نتيجة ذلك و بشكل سريع العديد من الحكومات التي تزعمتها أحزاب المحافظين أو الليبراليين أو الاشتراكيين مع فشلهم جميعا في حل المسالة المغربية. و لفهم طبيعة المشكل، نشير إلى أنه حتى حدود سنة 1919،لم تكن اسبانيا قد احتلت بعد أكثر من خمس المنطقة الخليفية الواجب إخضاعها للحماية.ونتيجة التغيير السريع والمتلاحق للحكومات ،فقد أصبحت البلاد تعاني من انعدام استقرار سياسي واضح خلال هذه المرحلة. وخلال هذه الفترة أيضا،كان بعض الضباط يسمحون لأنفسهم بكيل الانتقاد للسياسيين في شكل مقاربتهم للقضية المغربية و كشف عجزهم عن إيجاد الحلول الناجعة لمشكل الحماية،و لعل من أبرزهم بريم ودي ريفيرا الذي تزعم الانقلاب العسكري في13 شتنبر سنة 1923. ومن اللازم الإشارة بصدد الجيش الاسباني إلى التضخم الذي كان يعاني منه.فعدد هذا الجيش كان يتجاوز عادة 150 ألف جندي ، وهو ما كان يتجاوز بعدة أضعاف عدد الجنود الفرنسيين المطالبين بإخضاع منطقة حماية تتجاوز نظيرتها الاسبانية بعدة مرات.و لا يقتصر هذا الأمر على الجنود،إذ كما يثبت ليوطي في إحدى تقاريره (13 نونبر1913)،كان عدد الضباط الاسبان يصل سبعة عشر ضابطا مقابل سبعة من نظرائهم في المنطقة الفرنسية.نخلص من ذلك إلى أن الاسبان كانوا يعتمدون في انجاز كل المهام على الجندي.و قد ترتب عن هذا الأمر مسألتين سلبيتين،أولاهما إقصاء الساكنة المحلية من المشاركة في أية أعمال حتى إذا كانت ذات طبيعة سلمية أو مدنية، ثم أن الاعتماد كليا على الجندي و تكليفه حتى بالتواصل مع القبائل، كان يعري مهمة الحماية من أية تبريرات» تحضيرية»قد تدعيها و يجعل البعد العسكري كأفق وحيد في التعام ما بين الطرفين.و نعتقد بأن وضوح المهمة الاسبانية خاصة و أنها في جزء منها كانت تعتبر امتدادا لاحتلال سبتة وامليلية،كل ذلك ساهم في تعقيد مسألة الاحتلال الاسباني و يجعلها ذو بعد حربي خالص،كما كان يعطي شرعية إضافية لفعل المقاومة بالمنطقة الخليفية. وبقدر حجم الارتباك السائد داخل الدولة اسبانيا ما بين السياسيين و العسكريين و حتى داخل البلاط الملكي،كنا نلاحظ تجريب كل السياسات الممكنة في التعامل مع القضية المغربية.فمن سياسة سلمية تسعى إلى اجتذاب القواد المحليين و إغراء بعض القبائل إلى سياسة حربية تراهن على القوة لإخضاع القبائل و توفر لها كل الإمكانيات و المقومات الضرورية لتحقيق هذا الهدف.و تظهر هذه التجريبية أيضا من سرعة تغيير المقيمين العامين،و الذين وصلوا عدد الثمانية خلال زمن استقرار ليوطي بالإقامة العامة.و لم يكن تغيير مقيم عام يفيد مجرد تجديد في الإدارة كما قد تبادر إلى الذهن،بل كان يعني تطبيقا لسياسة مغايرة و أحيانا معاكسة لما تم اعتماده آنفا. (يتبع)