صحيح أن اسمه ورد طويلا كواحد من المرشحين المحتملين للفوز بجائزة نوبل للآداب، إلا أن قطار اللجنة الملكية السويدية، كان يفوته في كلّ عام، لدرجة أن الأمر انتهى بالجميع لأن يعتقدوا أن ماريو بارغاس يوسا، الكاتب البيروفي، سيبقى واقفا على رصيف المحطة ولن يفوز بها، وبخاصة أنه على درجة كبيرة من الشهرة، كما أنه حصل على عدد كبير من الجوائز الأدبية المهمة، في شتّى بقاع العالم. فيما يخص طلب التوجيه من كاتبٍ أكبر خبرة، وسؤاله عن الطريق التي ينبغي عليه أن يسلكها لكي يصبح كاتبًا، يقول ماريو بارغاس يوسا: كثيراً ما كانت تراودني فكرة الكتابة إلى أحدهم (وجميعهم كانوا أحياء حينذاك)، وطلب التوجيه منه حول كيف يمكنني أن أصير كاتباً ولكنني لم أتجرأ على عمل ذلك قط، إما بسبب الخجل أو ربما بسبب ذلك الرادع التشاؤمي القائل: لماذا أكتب إليهم إذا كنت أعرف أن أياً منهم لن يتكرم بالرد عليّ؟ – هذا الكابح الذي يحبط عادة، الميول الأدبية لشبان كثيرين، في بلدان لا يعني فيها الأدب فيها شيئاً مهماً في نظر الأغلبية ويحافظ على بقائه على هامش الحياة الاجتماعية، كعمل شبه سري. عن الخلط الكاذب بين الميل الأدبي والميل إلى النجاح والشهرة، يقول يوسا: ستكتشف سريعاً إذا ما واظبت على الكتابة والنشر أن الجوائز والاعتراف العام ومبيعات الكتب والسمعة الاجتماعية للكاتب لهما مسار من نوعها، مسار تعسفي إلى أبعد الحدود فهي تتجنب بعناد أحياناً من يستحقها بجدارة كبيرة، وتحاصر من يستحقها أقل وتثقل عليه وهكذا يمكن، لمن يعتقد أن النجاح والشهرة هما الحافز الجوهري لميوله الأدبية، أن يرى انهيار حلمه وإحباطه، لأنه يخلط بين الميل الأدبي والميل إلى بريق الشهرة والمنافع المادية التي يوفرها الأدب لبعض الكتاب (وهم محدودون). والأمران مختلفان. عن الميل الأدبي بصفته نقطة الانطلاق في الكتابة، يقول يوسا: أحد الأمور المؤكدة لدي، بين أمور كثيرة أخرى غير مؤكدة، حول الميل الأدبي: فالكاتب يشعر في أعماقه بأن الكتابة هي أفضل ما حدث! وما يمكن أن يحدث له، لأن الكتابة في نظره هي أفضل طريقة ممكنة للعيش بصرف النظر عن النتائج الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية التي يمكن له أن يحققها من خلال ما يكتبه. ويبدو لي أن الميل هو نقطة الانطلاق التي لابد منها. ما هو الميل الأدبي؟ يجيب يوسا: للحديث في ذلك الأمر الذي يستهويك ويقلقك، ألا وهو: كيف يمكن للمرء أن يصير كاتباً؟ والميل بكل تأكيد مسألة مبهمة، محاطة بعدم اليقين والذاتية. الميل هو استعداد فطري ذو أصول غامضة يدفع بعض الرجال والنساء إلى تكريس حياتهم في نشاط يشعرون يوماً بأنهم مدعوون بل مجبرون تقريباً على ممارسته لأنهم يستشفون بممارسة هذا الميل فقط – كتابة القصص مثلاً – أنّهم سيشعرون بتحقيق ذاتهم وبالانسجام مع أنفسهم بالذات مقدمين أفضل ما لديهم دون الإحساس البائس بأنهم يبددون حيواتهم. هل الميل الأدبي، وراثي أم مكتسب؟ يقول ماريو: توصلت في إحدى لحظات شبابي، تحت تأثير مشيئية الوجوديين الفرنسيين – ولا سيما سارتر – إلى الاعتقاد به بأن الميل أيضاً هو اختيار، وأنه حركة حرة للمشيئة الفردية تحسم مستقبل الشخص ومع أنني أعتقد بأن الميل الأدبي ليس شيئاً قدرياً مكتوباً في جنيات كتّاب المستقبل، وبالرغم من أنني مقتنع بأنه يمكن للانضباط والمثابرة في بعض الحالات أن يُنتجا عبقري. وصحيح أن هذا الخيار الحر في رأيي هو أمر أرى أنه لابد منه، ولكنه في مرحلة ثانية فقط وانطلاقا من استعداد أولي، ذاتي، فطري، أو مصاغ في الطفولة أو الشباب المبكر ثم يأتي ذلك الخيار العقلاني لتعزيزه وليس لصنعه من رأسه حتى قدميه. عن التمرّد بصفته نقطة الانطلاق في ميل الكاتب، يقول يوسا: ما الذي يشكل نقطة انطلاق في ميل الكاتب؟ أظن أن الجواب هو: التمرد. فأنا مقتنع بأن من يستسلم لنسج حيوات من الخيال مختلفة عن تلك التي يعيشها في الواقع، يعلن بهذه الطريقة غير المباشرة عن رفضه وانتقاده للحياة كما هي عليه، أي للعالم الواقعي، ويعرب عن رغبته في استبدالها بتلك الحياة التي يصطنعها بمخيلته ورغباته، وإلا لماذا يكرس وقته لأمر سريع التلاشي وشديد الوهمية – خلق وقائع مختلقة – ومع ذلك وعلى الرغم من أن هذه العملية وهمية إلا أنها تتحقق بطريقة ذاتية ومجازية وغير تاريخية وتتوصل إلى إحداث تأثيرات طويلة النفَس في العالم الواقعي أي في حياة الناس الذين هم من لحمٍ و عظم. وهذا التعارض مع الواقع هو المبرر السري لوجود الأدب – لوجود الميل الأدبي. عن الأدب بين الحقيقة والكذب، يقول يوسا: التخييل هو أكذوبة تخفي حقيقة عميقة، إنه الحياة التي لم تكن.. الحياة التي أراد رجال ونساء حقبة معينة امتلاكها ولم يحصلوا عليها، ولهذا عليهم اختلاقها. إنه ليس صورة التاريخ، بل هو أقرب لأن يكون وجهه النقيض، أو عكسه. إنه ذاك الذي لم يحدث. ولهذا السبب تحديداً كان لابد من إبداعه بالمخيلة والكلمات، من أجل إخماد الطموحات التي عجزت الحياة الحقيقة عن إشباعها ومن أجل ملء الفجوات التي يكتشفها الرجال والنساء فيما حولهم ويحاولون أن يملؤوها بأشباح يصنعونها بأنفسهم. هذا التمرد نسبي جداً، بكل تأكيد وكثيرون من كتبة القصص لا يكادون يعونه وإذا حدث أن وعوا التمرد الدفين في ميلهم التخيلي، فأنهم يُفاجؤون ويخافون. لأنهم في حياتهم العامة لا يعتبرون أنفسهم على الإطلاق مفجرين وناسفين سريين للعالم. الذي يقطنونه وهو من جهة أخرى تمرد مسالم جداً. ولكن عندما يسعى أحدهم – مثل دون كيخوته أو مدام بوفاري – إلى خلط الخيال بالحياة ويحاول أن يجعل الحياة مثلما تظهر في التخييل فإن النتيجة تكون مأساوية فمن يتصرف على هذا النحو يدفع الثمن، عادة، خيبات أمل رهيبة. وقررت التفرغ للأدب. ماذا الآن؟ يسأل ماريو: قرارك بتسنم هذا الميل إلى الأدب كقدر مصيري يجب أن يتحول إلى عبودية ولا شيء أقل من العبودية. في القرن التاسع عشر، بعض السيدات المذعورات من بدانة أجسداهن، ولكي يستعدن القوام النحيل، كن يبتلعن دودة وحيدة. هل أتيحت لك فرصة التعرف إلى شخص يحمل في جوفه هذه الطفيلية المرعبة؟ أنا أتيح لي ذلك. ويمكنني أن أؤكد لك بأن أولئك السيدات كن بطلات حقيقيات. إنهن شهيدات الجمال. ففي بداية عقد الستينات كان لي صديق رائع، اسمه كان خوسية ماريا ينحل على الرغم من اضطراره إلى الأكل وإلى شرب السوائل باستمرار لكي يهدئ من نهم الحيوان القابع في أحشائه وإن هو لم يفعل فإن استياءه يتحول إلى حاله لا تطاق ولكن كل ما كان يأكله و يشربه، لم يكن من أجل ذوقه ولذته وإنا من أجل ذوق ولذة الدودة الوحيدة، وفي أحد الأيام بينما كنا نتبادل الحديث في مقهى صغير فاجأني بهذا الاعتراف: نحن نقوم بأشياء كثيرة معاً، نذهب إلى السينما نتجول في المكتبات ونتناقش لساعات وساعات حول السياسة والكتب والأفلام والأصدقاء المشتركين، وأنت تظن بأنني أقوم بكل تلك الأشياء مثلما تقوم بها أنت، لأنك ستستمع بعمل ذلك، ولكنك مخطئ فأنا أفعل كل ذلك من أجلها من أجل الدودة الوحيدة، وهذا هو الانطباع الذي يتملكني، فكل ما في حياتي الآن لا أعيش من أجل نفسي وإنما من أجل هذا الكائن الذي أحمله في داخلي و الذي لم أعد سوى مجرد عبدٍ له. عن الأدب بصفته عبودية مختارة، يقول يوسا: الميل الأدبي ليس تزجيه للوقت، وليس رياضة ولا لعبة راقية تُمارس في أوقات الفراغ، إنه انكباب حصري وإقصائي لما عداه، وشأن له أولوية، لا يمكن أن يقَدّم عليه أي شيء آخر، وعبودية مختارة بحرية تجعل من ضحاياها (من ضحاياها المحظوظين) عبيداً. ذلك فالميل الأدبي يتغذى على حياة الكاتب بصورة لا تزيد ولا تنقص عن تغذي الدودة الوحيدة المتطاولة على الأجساد التي تقتحمها. كان فلوبير يقول: الكتابة هي طريقة الحياة. وبكلمات أخرى، فإن من تبنى هذا الميل الجميل والممُتص، لا يكتب ليعيش بل يعيش ليكتب. الدين الجديد، الكِتابة دينٌ جديد، يصف ماريو: كتب توماس وولف: لقد عرفت أنني قد تحولت أخيراً إلى كاتب، عرفت أخيراً، ما الذي يحدث لإنسان جعل من حياته حياة كاتب. أظن أن من يدخل الأدب بحماسة من يعتنق ديناً ويكون مستعداً لأن يكرس لهذا الميل وقته وطاقته وجهده هو وحده من سيكون في وضع يمكّنه من أن يصير كاتباً حقاً، وأن يكتب عملاً يعيش بعده أما ذلك الشيء الآخر الغامض الذي نسميه موهبة النبوغ فلا يولد على الأقل لدى الروائيين بصورة مبكرة وصاعقة. إنه يظهر عبر سياق طويل وسنوات من الانضباط والمثابرة. لا وجود لروائيين مبكرين، فجميع الروائيين الكبار الرائعين كانوا في أول أمرهم " مخربشين" متمرنين.