أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. وقد عالجت ندوة باريس إشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني من ثلاث جوانب : الجانب التاريخي والجانب السياسي والجانب الاقتصادي. هكذا خصص الأستاذ سعيد بنسعيد (من جامعة محمد الخامس بالرباط) مداخلته ل«المغرب العربي والوعي النظري لدى الحركة الوطنية» مشيرا إلى أن «البحث عن مكونات الوعي النظري عند الحركة الوطنية المغربية يمكن استخلاصه من المواقف العملية المتنوعة من جانب أول، كما يجب تبنيه من جانب ثان من كتابات رجال تلك الحركة لا باعتبارها كتابات سياسية مباشرة تهدف إيجاد الحل العلمي والعاجل لقضية مستعجلة، بل باعتبارها كتابات تنتمي إلى استراتيجية التحرر، التي هي بحسب منطق الأشياء، استراتيجية التحديث. هذا الأخير لا يقوم إلا بالدفاع عن الهوية الحق، المهددة، والتي لا تقوم في «خصوصية» إقليمية بقدر ما تجلى في العمق العروبي، في عمق الانتماء العروبي للمغرب والذي جعله منطق التاريخ وواقع الاستعمار يُتخذ من العمل لأجل المغرب العربي، قاعدة ينطلق منها وإطارا يتحرك في داخله. ولذلك يكون البحث في شروط الوعي النظري ومكوناته، عند الحركة الوطنية المغربية، قراءة واعية في الفكر العربي المعاصر برمته وفهما لإشكالياته حيث يفقد الوعي النظري المذكور مقاوماته وشروط وجوده، خارج ذلك الفكر». مداخلة الأستاذ سعيد بنسعيد، وضعت الندوة في أفقها التاريخي ومنحتها مشروعيتها النظرية. وجاءت محاضرة الأستاذ برهان غليون، وهي بعنوان : «الدولة والمجتمع والنظام العالمي للتقسيم الدولي» لتضع الإشكالية في إطارها السياسي العام، كجزء أو بالأحرى كمظهر من مظاهر وضع دولي أشمل. مؤلف «اغتيال العقل» جاء في نصه بأفكار جديدة هي ثمرة جهد عقلي متواصل يبذله منذ عشر سنوات حول القضايا السياسية والثقافية في الوطن العربي وفي العالم الثالث. وبإيجاز شديد، يمكن القول بأن النظرية «الغليونية» حول العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني في العالم العربي ترتكز إلى المحاور التالية : أولا : منذ عصر النهضة، تمحور المشروع العربي على أساس تقدم وتحديث أدائهما الدولة، وقد تأكد هذا التوجه بعد حصول الدول العربية على استقلالها. ثانيا : في الدول المستقلة في المشرق وحديثا في المغرب، انصب النشاط الاجتماعي كله، على بناء الدولة باعتبارها محرك المجتمع والضامن لجميع العلاقات الاجتماعية. ثالثا : هذه الدولة التي راهن عليها المجتمع ووظف فيها كل طاقاته، أخفقت إخفاقا مروعا على جميع الأصعدة ووضعت المجتمع العربي نفسه أمام إخفاق بحاجة إلى تفسير. رابعا : عاد الفكر العربي، وهو يوجه طائرة الإخفاق المزدوج هذه، إلى النظرية الكلاسيكية القائلة بأن الدولة هي إفراز للمجتمع والمعبر عنها بمبدأ : «كما تكونوا يُولَّ عليكم». خامسا : مخاطر هذا التوجه نابعة من أن الفكر العربي، بدأ تحت تأثير الحرب اللبنانية، يكتشف مفتاح الأزمة العامة في تفكك المجتمع المدني أو تكوينه العصبوي أو الطائفي. سادسا : لا صحة في الوضع التاريخي العالمي الراهن للفكرة القائلة بأن الدولة تنبثق تلقائيا من المجتمع المدني. سابعا : (وهنا حجز الزاوية في النظرية الغليونية)، القول، بانبثاق الدولة من المجتمع، ينفي حقيقتين مترابطتين : حقيقة وجود هذه المجتمعات ضمن نظام عالمي للدول وحقيقة تطور هذه المجتمعات تطورا متصلا بتقلبات موازين القوى داخل المنظومة العالمية. وبعبارة أخرى، فإنه لا يمكن فهم طبيعة الدولة العربية الحديثة، والراهنة ودراسة سيرورتها الديناميكية إلا بوضعها ضمن الإشكالية العالمية للنظام الدولي وإلا عبر القيام بفحص دقيق للتأثيرات المختلفة والمتبادلة بين الدول الكبرى والدول الصغرى التي لا تشكل سوى وكالات سياسية محلية للأولى. وإذا سألت برهان غليون عن معنى النظام الدولي فإنه يجيبك على الفور : هناك تراتبية، Hiéarchie)) في توزيع الهيمنة الدولية بحيث إن ما يضيعه طرف، يربحه الطرف الآخر. والأمثلة على ذلك كثيرة في العالم العربي وفي إفريقيا وأمريكا اللاتينية. لقد أضاعت بريطانيا اليمن الجنوبي، وكسبها الاتحاد السوفياتي، أضاع هذا الأخير مصر بعد وفاة عبد الناصر فارتمت في أحضان أمريكا، وفقدت واشنطن إثيوبيا التي انتقلت إلى المعسكر الآخر، وأضاع الأمريكيون كوبا ونيكاراغوا لفائدة الكتلة الشيوعية وخسروا الهندالصينية ومع نفس النتيجة. وعنف الحرب الإيرانية العراقية، تفسره إلى حد ما، رغبة حكام البلدين في الحفاظ على استقلالية القرار، ولو أن بغداد أو طهران انحازت بشكل كامل لهذا الطرف أو ذاك، لاتخذ النزاع طابعا آخر. يضيف برهان غليون : «مرة أخرى، لا يمكن فهم ظاهرة القطيعة القائمة بين الدولة والمجتمع المدني، من دون العودة إلى إشكالية هذه الدولة، في نشوئها وفي وظيفتها وتحديدا من خلال صلتها بالمنظومة الدولية كوكيلة لأحد الأطراف المتنازعة أو كصورة عنه. بمعنى آخر، فإن الدولة ليست مؤسسة وطنية نابعة من مجتمعها المحلي بشكل حر، رغم أن هناك درجات متفاوتة من الارتباط بين الدول ومجتمعاتها، وإنما هي مؤسسة عالمية وامتداد للغير، أي أنها بالمنشأ وبالوظيفة مرتبطة بعوامل خارجية، لهذا نجد أن هناك شعوبا كبيرة (مثل الأكراد) وشعوبا صغيرة (مثل الأرمن) من دون دولة قومية، كما تجد شعوبا كبرى (مثل العرب) موزعين إلى عدة دول، وشعوبا متعددة مندمجة في دولة واحدة (الإتحاد السوفياتي، الهندوالصين الخ...). وإذن -يقول مؤلف اغتيال العقل- فالنظرية القومية الحديثة النابعة من الليبرالية والتي تجعل الأمة نتيجة لتطابق طبيعي بين الدولة والمجتمع المدني هي وهم إيديولوجي مجرد لا يتفق مع طبائع الأمور وواقع الأحوال. إن الذي يحكم النظام الدولي الراهن، رغم أنه يعتبر نفسه نظام دول قومية، وهو تقسيم العالم حسب مصالح الامبراطوريات الكبرى وليس وفقا لاحتياجات الدول القومية. الدول العظمى اليوم هي الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدةالأمريكية وأوروبا الساعية إلى تكوين كتلة ذات طابع امبراطوري، إضافة إلى الصينوالهند واليابان. أما الدول المسماة وطنية، رغم أنها تشكل الأغلبية العددية في هيئة الأممالمتحدة فهي ضئيلة التأثير في صياغة القرارات الفاعلة في النظام العالمي، والدول القطرية، هي إفراز لهذا النظام الدولي لما يتضمنه من توزيع للقوى والأدوار ووظيفتها ليست بناء الأمة والمجتمع المدني، وإنما تفكيكهما وإعادة تركيبهما بما يتطابق مع احتياجات النخبة الحاكمة ومتطلبات ضغوط الهيمنة الدولية ومراعاة توازن القوى على الصعيد العالمي. معنى هذا أن القطيعة بين المجتمع المدني والدولة في العالم العربي، وفي العالم الثالث عموما كانت مكتوبة منذ البداية في تاريخ الدول وفي بنيتها، وما كان يمكن لهذه الدول أن تتطور إلا بالشكل الذي تطورت به، أي كظاهرة قائمة فوق المجتمع المدني وبديلة عنه. بموازاة هذه المقاربة التي ترى أنه يجب البحث عن أصل الإشكالية من خارج الحدود العربية، جاءت مداخلة الأستاذين نذير معروف (من جامعة وهران) ومحمد أركون (من جامعة باريس) لتلقي إنارة مختلفة ومكملة لما قاله الأستاذ برهان غليون، في رأي السيد نذير معروف أن القطيعة موجودة فعلا بين الدولة والمجتمع المدني، لكن يجب أن نبحث عنها في إطار محلي أو مغاربي، ويمكن تلخيص أفكار الأستاذ نذير معروف التي وردت في محاضرة بعنوان : «الدولة والريع والطاقة في المغرب العربي» مركزة على الحالة الجزائرية، في القول بأن مشروعية الدولة في المغرب العربي الأوسط استندت حتى الآن إلى اعتبارين : اعتبار تاريخي واعتبار اقتصادي. أما الاعتبار التاريخي فيتمثل في وجود حزب جبهة التحرير الوطني، الذي قاد الكفاح ضد التسلط الاستعماري في الحكم، بينما يتجسد الاعتبار الاقتصادي في أن الدولة الجزائرية، التي ورثت بالكامل كل المنشآت والهياكل التحتية التي أُنجِزَت في عهد الاحتلال، ثم استولت على كافة الثروات الطبيعية والصناعية والفلاحية، تحولت إلى موزع للريع، وهو أمر أكسبها شرعية جديدة ووضعها في موضع رب العمل ووضع أفراد المجتمع في حالة موظفين ومستخدمين وعمال، أي أُجَرَاء لديها. ويرى الأستاذ ندير معروف - وهنا محور مداخلته والعنصر الأكثر جدة في رؤيته التحليلية - أن البُعد الاقتصادي من هذه الشرعية دخل في طور الأزمة، بسبب الانخفاض المفاجئ لأسعار النفط والغاز وقيمة الدولار وبالتالي محدودية العائدات النفطية. وعجز الدول عن تلبية احتياجات المجتمع يفرض عليها أن تعيد النظر في علاقاتها معه، باتجاه اختراع أو بالأحرى استعمال وسائل متوفرة لترويضه والسيطرة عليه. أما الأستاذ محمد أركون فقد دعا إلى تجديد نظرتنا للدين باعتبارها أساسا لعقلنة المجتمع المدني، فيما دعا كل من الأستاذ محسن التومي (تونس) والطاهر أزكاغ (الجزائر) إلى «إزالة الحدود الوهمية من أجل خلق كتلة سياسية وسوق مغاربية مشتركة تمكننا من مواجهة تحديات القرن المقبل. ويرى الأستاذ برهان غليون، الذي ترأس عدة جلسات من أعمال الندوة أن الحل يكمن في خلق فضاء جديد يُغيِّر من طبيعة العلاقات الدولية الجغرافية باعتبارها المحدد الرئيس للأوضاع في قُطر ما، مضيفا أن مثل هذا التغيير لابد أن ينعكس على طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني. والمراهنة في إنجاز هذا الاختراق هي الاعتماد على النخبة المثقفة المرتبطة بالشعب، والتحول سوف يأخذ شكل تجديد في الإيديولوجيا وفي الممارسة السياسية. نعم، إن فشل الدول القطرية-القومية، يدفع شعوبها للاعتراض عليها سواء بحركات فوق-قومية (الحركات الإسلامية) أو تحت-قومية (طوائف). أما التوازن الحقيقي، فسوف يحصل بتنظيم هذا التجاوز عقلانيا بدلا من أن يأخذ شكل انفجارات مدمرة، والتنظيم العقلاني له هو إتحاد عربي، أي تجسيد العروبة المتصالحة مع التاريخ والتراث».