نظم المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الانسانيةيوم السبت بمقره بالرباط ندوة فكرية في محور « الأصول الفكرية لمفهوم الدولة المدنية في الفكر الغربي و الفكر العربي» بمشاركة الأساتذة: محمد الطوزي، حسن طارق، محمد الغيلاني و فؤاد عبد المومني. وقد كان من غايات الندوة الخروج بتصورات واضحة عن الدولة المدنية، باعتباره مفهوما جديدا محاطا بالكثير من اللبس و سوء الفهم. و بذلك جاء عرض الأستاذ الطوزي تحت عنوان « المرجعيات النظرية للدولة المدنية»، من أجل استجلاء المحيط النظري للمفهوم. في البداية أكد الطوزي أنه صادف هذا المفهوم و هو يبحث في إشكالات و يخوض في تحاليل فكرية أو حين كان يعود إلى تاريخ الأفكار السياسية. فهذا المفهوم رغم قدمه في المرجعيات الأوروبية، إلا أنه حديث العهد في الحقل السياسي العربي. كما أنه وليد للحراك العربي، أو ما أصبح يعرف بالربيع العربي. كما أنه (المفهوم) يحتوي على قضايا كبرى هي من صميم معناه ودلالته، وهي علاقة الدين بالسياسة، وعلاقة الحاكم بالمحكوم. وعبورا بعصر الأنوار و قضايا العقد الاجتماعي، انتقل الطوزي إلى معالجة التشنج الحاصل بين المفكرين العرب ذوي المرجعيات الإسلامية في علاقتهم بقضية الدولة. أما الفترة الزمنية فهي ما بعد الخمسينات ، حيث أن الإطار المفاهيمي الذي اشتغل به النهضويون له محدوديته، لأنهم كانوا يرفضون الخوض في النقاش مع المرجعيات الغربية. وفي بداية الستينات برز مفكرون عربا ناقشوا المفهوم بمرجعيات اكثر حداثة و تنوعا: عبد الله العروي، هشام جعيط، محمد عابد الجابري، مع استثناء كتابات التراثيين، كالطيب تيزيني، الذين كانوا يستخدمون مفاهيم جديدة في إعادة قراءة التراث أو الحوار و التلاقح مع الغرب، من خلال استحضار «الفتنة الكبرى» التي أصبح لها مكانة كبرى في المخيال الساسي. و أكد الطوزي على غياب نص مؤسس لعلاقة الحاكم بالمحكوم، إلفا بعد تأويل عسير لآيات قليلة جدا تتحدث عن السلطة. بعد ذلك يتم استحضار العراك الشرس الذي وقع بين صحابة المدينة و صحابة مكة حول خلافة النبي، حيث تم استخراج أول عقد سياسي مبني على العصبية القبلية وميزان القوة. وهو العراك الذي شهر فيه سيف عمر بعد استنفاذ جميع الحلول الوراثية، القبلية واستلهام تجربة الملكيات القريبة من الجزيرة العربية. تحدث الطوزي عن عجز تاريخي عن التفكير في إطار يؤسس لعلاقة الحاكم بالمحكوم. في الستينيات و السبعينيات ظهرت قراءة متجددة للخروج بنظرية للدولة من خلال قراءة متجددة للنص و التراث غيبت مفكرين غربيين، مثل «ماسينيون»، الذين تحدثوا عن مدينة الإسلام و اعتبروا قضية الخلافة نظرية لائكية للدولة. إننا عندما نقرأ التاريخ الإسلامي، حسب الطوزي، نجد ان هذا المفهوم يستعمل في إطار شرعنة الخروج عن الحاكم، وفي هذا الإطار يمكن قراءة كل القصص و الروايات منذ معاوية إلى الآن. و الخلاصة من هذا التاريخ أن هناك محدودية في التفكير في دولة مدنية، لأن هناك شروط إبستيمية للتفكير في هذه القضية. وحتى الاجتهادات التي قام بها بعض المفكرين المسلمين كانت في إطار الفقه المقاصدي، أو خارج هذا الفقه خصوصا العلماء الذين استنجدوا بنتائج العلوم الاجتماعية. و تتلخص هذه الشروط الإبستيمية في تجاوز إرث المفكر الأول أرسطو المؤسس للنظرية السياسية. وفي التجربة المغربية تحدث الطوزي عن تجربة الإسلاميين الذين أمسكوا بلالحكم، فوجدوا صعوبة كبرى في التعامل مع النسبية المطلقة، وهنا بدأت تتعايش حقيقتان: الأغلبية و الأقلية في إطار الممكن في وقت ما. و هنا أيضا يكون الحديث عن الدولة المدنية الديمقراطية. وهنا وقف عند تصور الإسلاميين للديمقراطية. ففي البداية كانت الديمقراطية في فكرهم كفر، وبعد ذلك أصبحت ميكانيزم. أما في العشرين سنة الأخيرة فقد ظهر تيار يحاول أن يؤسس للدولة المدنية ما بعد التأويل للنص الديني. فناك ثلاث مقاربات حاولت التفكير في السياسي، أما الأولى فهي المقاربة البنيوية لمحمود طه من خلال بنية القرآن الكلية. وكان مصير هذا المفكر الشنق على يد التيار الإسلامي الأول. و المقاربة الثانية كانت على يد نصر حامد أبوزيد الذي اعتمد التأويل الأدبي للقرآن، وكان مآله تطليق زوجته منه و موته في الغربة. والمقاربة الثالثة عنوانها هو محمد أركون، التي هي مقاربة تاريخانية، رغم أنه لم يؤسس لآليات منهجية تمكن من قراءة تاريخانية للنص القرآني. وخلص الطوزي إلى أن هناك بخصوص الدولة المدنية في العالم العربي بعد الحراك فريق ديني وفريق غير ديني، وذلك جلي في مصر و تونس. ومن حواجز ومعيقات الدولة المدنية أن الدولة هي من يدبر الشأن الديني. كما أن هذه الدولة غريبة عن المجتمع، فالدولة في التاريخ الإسلامي لم تكن أبدا منبثقة عن المجتمع. وهذا من أكبر معيقات تحقيق الدولة المدنية. sأما الأستاذ حسن طارق فقد تدخل في موضوع « الدولة المدنية إطار نظري أم مساومة سياسية؟». فالموضوع بالنسبة إليه مهم لأنه طرح بعد الحراك العربي الذي يعيشه محيطنا العربي منذ سنة 2011. و الموضوع أيضا معقد لأنه مليء بالعديد من البياضات. وهنا لابد من العودة إلى مفهومي الحاضر و الغائب. فنحن أمام لعبة إخفاء، إذ أن المفهوم الغائب هنا هو العلمانية. و نحن لابد أن نأخذ على عاتقنا مهمة كشف لعبة التخفي هذه. الأمر، إذن، يتعلق بمساومة إيديولوجية أكثر مما يتعلق بإطار نظري أسس له الفكر الغربي. إن الدولة المدنية فكرة عانت من العزلة و الالتباس. فالذين فكروا في علاقة الدولة و الدين لم يتركوا أي صدى في الفكر و المجتمع العربيين. و الكثيرون يتحدثون عن المناظرة الشهيرة التي جمعت بين محمد عبده و فرح أنطوان، و حينها تأسس التيار الليبرالي. إلا انه لابد من الاعتراف بوجود محدودية إبستمولوجية في النهضوية العربية التي كانت منشغلة في التفكير في الموافقة بين الدين و الدولة. فالمشروع النهضوي العربي لم يحتضن هذه الفكرة، حيث أنه كان يبحث عن التوفيق فقط. و هنا استحضر طارق محاكمة علي عبد الرازق الذي حاول الخروج عن القراءة النصية في كتابه «الإسلام و أصول الحكم» باعتباره قراءة فكرية مختلفة. بعد ذلك بقيت الفكرة تراوح مكانها و طيلة خمسين سنة سنكتشف أن مسار تطور الدولة المدنية سيقود إلى مؤسسات ستجعل الدولة العربية تتطور في أفق علماني غير مفكر فيه. غير أن مشروع العلمنة هذا عرف الفشل بدوره. ونجد في هذا الإطار محمد عابد الجابري يعتبر العلمانية ليست ضرورة ملحة، إن أن العالم العربي يحتاج إلى الديمقراطية و إلى حقوق الإنسان. أما جبهة الحداثة فلم يكن حولها أي إجماع، وهذا ما طرحه برهان غليون. لقد ظلت الفكرة معزولة، حسب طارق، بتصاعد التيارات الأصولية, وهذا التصاعد أثر حتى على النهضويين، وهذه دلالة تراجع. فلماذا إذن الحديث عن الدولة المدنية و ليس عن العلمانية. إنه موضوع ملتبس و معرض لحملة تشويه و تكفير. فالتلقي العام لهذا المفهوم غير سليم. حتى أن جورج طرابيشي تحدث عن مفهوم رجيم. فهل الحديث عن الدولة المدنية هو حديث ملطف عن العلمانية؟ وفي النهاية خلص طارق إلى أننا أمام مفهوم له طابع تكتيكي و سياسي و هو ما يبين هشاشته النظرية و قابليته للتأويل. و لا أدل عن ذلك من وجود مقال للقرضاوي يتحدث فيه عن دولة مدنية بمرجعية إسلامية. وجاء عرض الأستاذ محمد الغيلاني في موضوع « الدين و الدولة المدنية في المجتمعات العربية الإسلامية». و قد كانت مداخلته تميل إلى المقاربة النظرية انطلاقا من الفلسفة و السوسيولوجيا من خلال طرحهما لقضايا سؤال الدولة، الدين، المجتمع. فالدولة المدنية ليست مفهوما إجرائيا، بل استعمل لممارسة التحليل و التفسير، كما انه يسعف في مقاربة التحولات القائمة في المجتمعات العربية و علاقتها بالدين. وفي هذا السياق تحدث المتدخل عن مجموعة من الفرضيات، منها أن إرساء الدولة المدنية مرهون بوجود شروط اجتماعية. وتعثرها له علاقة بالبنية العميقة للمجتمع و الدولة. في حين أن الدولة و المجتمع في العالم العربي يتحايلان على موضوع الدين. و هذا التحايل يجعلنا نراجع أنفسنا عن كيفية تدبير الاختلاف. و أضاف المتدخل أن الدولة المدنية هي الوجه الآخر للمجتمع المدني و هي الوجه المفارق للدولة الدينية. فهي في الفكر الغربي قامت على قاعدة مبدأ التسامح الديني و التعاقد الاجتماعي. و أضاف انه لم توجد دولة في تاريخ البشرية قامت من اجل تدبير الشأن الديني بل من أجل تدبير الشأن الزمني. فنحن بحاجة، في العلم العربي، إلى مفكرين مثل كانط و جان لوك و ابن مسكويه. فنحن في حالتنا الفكرية لا يمكن أن نحل مشكلاتنا مع الدين و إخراجه من حياتنا الاجتماعية. و الدليل أن الجميع ظن مع الحراك العربي، أو ما سمي تفاؤلا الربيع العربي، أن العرب هم بصدد بناء تاريخ جديد فتبين أن ذلك الحراك يؤكد بجلاء أن للعرب علاقة حميمية بالاستبداد الديني و العسكري، بل بكل أنواع الاستبداد. و هذه الأزمة تجعلنا نطرح عدة أسئلة: لماذا فشلت الأنظمة العربية في إرساء كياناتها السياسية؟ لماذا أصبح بناء الدولة عقدة عربية بامتياز؟ لماذا تعجز المجتمعات العربية عن التعبير عن نفسها سياسيا؟ ما هي العوامل التي أحدثت القطيعة بين المجتمعات العربية و الدولة؟ وتحدث الأستاذ فؤاد عبد المومني عن «الدولة المدنية مغربيا» مقدما نقدا صريحا للحركات الأسلامية خصوصا العدل و الإحسان و العدالة و التمنية. مؤكدا منذ البداية أن المجتمعات تتطور وفق سيرورات واقعية وليس نظرية. فنحن في المغرب نعيش لحظات مفصلية. ففي وقت قصير جدا خرجنا من مجتمع قروي، رعوي، فلاحي، قبلي و أمي، لكننا لم نفتح إلا بشكل هامشي على المحيط الكوني. ولذلك نجد أن المنطق القبلي مازال مهيمنا. وانتقل المتدخل إلى الحديث عن الإسلاميين في المغرب الذين بدؤوا بالنقد المطلق للآخر، فالديمقراطية كانت في نظرهم كفرا، ثم تحولت إلى وسيلة ثم بنية. كما أنهم تخلوا عن شعارهم القديم الذي ينصّ على أن الإسلام هو الحل، وسرعان ما تبين لهم أن هذا الحل غير مجد، فشرعوا يبحثون عن حلول أخرى. و عندما نضج الظرف التاريخي، تراجعوا عن قناعاتهم السياسية و الإيديولوجية السابقة بحثا عن محل متوافق عليه من أجل غاية جوهرية: القطع مع الاستبداد و الفساد. و عزز المتدخل مقولاته بنصوص و مقالات تلاها بالنص على الحاضرين تؤكد أن الإسلاميين بدؤوا يؤمنون بدولة مدنية بمرجعية إسلامية. وذلك يثبت قابلية قناعاتهم للتغير حسب نضجهم الفكري و نضج اللحظة التاريخية.