لقد أكمل المهدي حفظ القرآن في «الكتاب»–كما أراد أبوه- وهو الآن-المهدي- يريد أن يدخل إلى «المدرسة»، وينتقل إلى «الليسيه»،ويصل إلى الجامعة-وهذه هي إرادته التي ينبغي أن تتحقق. فراح الطفل يرابط يوميا أمام باب المدرسة... و تدخلت زوجة المدير لدى زوجها،وانفتح الباب المقفول أخيرا، وسجل الطفل العجيب في القسم التحضيري وهو ابن تسع سنين! فطوى المرحلة الابتدائية في ثلاث سنوات وانتقل إلى الليسيه...آلة حسابية تدور... وتطحن...معادلات رياضية... نظريات فيزيائة...أسئلة التاريخ والفلسفة...كل شيء كان يسقط في الدماغ/الآلة... فيدور...ويطحن طحنا! وذات صيف قائظ، والحرب العالمية الثانية في عزها ، توقف المهدي متأملا حاله وحال العالم، فكتب مقالا عنونه ب»الأعداد ومعجزة الصفر» نشره في مجلة «رسالة المغرب». وكان مقالا عجيبا. لقد اعتبر أن المشكل ليس في وجود الصفر –فهذه حقيقة بديهية- ولكن المشكل هو في عدم القدرة على التعلم والإضافة والابتكار لنصنع من الصفر أعدادا إيجابية.وهذه هي معجزة الإنسان الكبيرة: بدأت المعجزة مع العرب وشقت طريقها في أوروبا.وإذا كان الجزء الكبير من الإنسانية يعيش اليوم في حالة ما تحت الصفر فالخلل هو في الإرادة المستسلمة. وعليه، خطط المهدي لملحمة بناء «طريق الوحدة» في المغرب سنة 1957 تحت شعار «اضرب... اضرب حتى يطلع المستحيل!» . وفي سنة 1958ألقى على هامش مؤتمر الطلبة المنعقد بتطوان محاضرة بعنوان: نحو بناء مجتمع جديد. وها هو في مطلع الستينيات يطير من عاصمة إلى عاصمة ،ويحط في باريس رغم استشعاره خطرا غامضا في عاصمة الأنوار...فهنا بالضبط يحس أنه يقف أمام الباب المقفول...وهو- المهدي بنبركة- سيظل مرابطا أمام الباب المقفول ... يضرب عليه... ويضرب...حتى يطلع المستحيل! ويدوي صوت الإنسان المقهور في مجموع المعمور: باسطا!..كفى!... المشهد رقم5 :داخلي/ مطعم شعبي في القاهرة/نهارا. (المهدي والمستشرق الفرنسي جاك بيرك وجها لوجه حول مائدة غذاء) المهدي (الشوكة والسكين في اليدين وهو يمضغ ببطء) أقول دائما: امضغ جيدا قبل أن تبلع، وفكر طويلا قبل أن تتكلم. جاك بيرك (مبتسما) هذه هي الديكارتية في نكهة طاجين مغربي! المهدي (ضاحكا) أو الشوارمة الشرقية في صيغة كوجيطو فرنسي! جاك بيرك الشوارمة الشامية، البسبوسة المصرية، آبدّاز المغربي، الفروماج الفرنسي، الفريت الألماني، البيض الإنكليزي...لطالما تساءلت ما إذا كانت عقلية شعب ما تعكسها أكلته الوطنية المشهورة؟! المهدي (متظاهرا بالجدية التامة) في هذه الحال ستكون العقلية العربية حارة وحلوة ومسّوسة! تمام التناقض! جاك بيرك الثقافة العربية كما درستها هي مظلومة. المهدي ومن يظلمها يا حضرة المستعرب؟ جاك بيرك الجميع...نحن المستعربون وأنتم العرب...نحن المستعربون الذين نعشق اللغة العربية ونقسو عليها قسوة العشاق ، وأنتم أبناؤها الذين تنتقدونها وتقسون عليها قسوة الأبناء.