أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. لقد حصل تطور جذري في موقف الطلاب الصحراويين المنخرطين في الجامعات المغربية، وخاصة في جامعة محمد الخامس بالرباط، مع بداية عقد السبعينات. كانوا حتى صيف 1971 يمارسون نشاطهم الرامي إلى «تحسيس» الرأي العام بمشكلة الاستعمار الإسباني، عبر الاتصال بأحزاب المعارضة المغربية، وعبر الاتصال بالصحراويين الذين يتولون مناصب إدارية في الدولة، ويملكون قنوات الإتصال مع القصر الملكي. أما بعد صيف الهزة الأولى (يوليوز 1971) فسوف يبدأون بالاعتماد على الصحراويين المقيمين بجنوب المغرب، كما سيشرعون بإرسال موفدين سريين إلى الصحراء المغربية نفسها، وإلى مواطن الشتات الصحراوي في الجزائر وموريتانيا وبصورة خاصة في تندوف والزويرات، إضافة إلى كتابة رسائل يطلبون فيها التأييد من بعض الحكومات العربية. هكذا نجد الوالي مصطفى، ومحمد الأمين ولد أحمد ومحمد سالم ولد السالك يمضون شهرا كاملا في العيون (صيف 1971)، كما نجد أن عددا من الطلاب الصحراويين القادمين من الرباط، ينظمون اجتماعا سريا بمدينة طانطان، في شهر أكتوبر من العام ذاته يحضره مائة شاب صحراوي، يناقشون إنشاء حركة جديدة للتحرير. وفي شهر مارس 1972 ستبدأ النواة الجديدة، حتى قبل عام من تأسيس الجبهة، بمكاتبة عدد من رؤساء الدول العربية. هكذا نجدهم يبعثون إلى الموريتاني مختار ولد داداه (23 مارس و14 أبريل 1972) ثم إلى الجزائري هواري بومدين (24 مارس 1972)، فالليبي معمر القذافي (20 مارس و13 يونيو 1972)، إضافة لمكاتيب مماثلة إلى الحكومة العراقية في نفس الفترة (المصدر وثائق جبهة البوليساريو، إصدار جبهة البوليساريو) طبعة 1975 (صفحتا 23 و24..) ومما يسترعي الانتباه أن هذه الاتصالات مع الحكومات العربية، خارج نطاق أي تنسيق مع المغرب الرسمي أو الشعبي، تمت في أو مع أزمة المشروعية، وخلال فترة بدأ فيها العالم كله يطرح التساؤلات عن مستقبل المغرب، الذي انشغلت دولته وأحزابه الوطنية بترميم التصعدات الداخلية، وبدأ الوالي مصطفى السيد ورفاقه يستقلون تدريجيا بعملهم التنظيمي، وبدأوا يقيمون علاقات مباشرة، داخل الصحراء المحتلة نفسها وفي موريتانيا والجزائر وفي جزر كناريا مع الجاليات الصحراوية التي هاجرت هربا من القمع وبحثا عن لقمة العيش. ودائما في نفس السياق، أي في نطاق سياسة القمع، تعرض هؤلاء الطلاب الصحراويون لمضايقات شديدة في ربيع 1972، على أيدي السلطات المغربية، وكانت تلك المضايقات بدورها جزءا من سياسة عامة للدولة التي لم تكن لتسمح بنمو قوة خارجة عن سيطرتها، خاصة وأن أفراد المجموعة كانوا يلهجون علنا بتصميمهم على حمل السلاح ضد إسبانيا. وحسب الوثائق المشار إليها، فقد وجهت مجموعة الوالي، في شهر أبريل 1972، رسالة رسمية إلى الحكومة المغربية تطالبها فيها بمساعدتها على النضال من أجل تحرير الصحراء، وهناك حادثة تجدر الإشارة إليها بهذه المناسبة، إنها تلك المظاهرة السلمية التي نظمها مجموعة من الطلاب الصحراويين، قدموا من الرباط إلى مدينة الطنطان، في الثالث من مارس عام 1972. لقد اختار هؤلاء الطلاب أن ينظموا تلك المظاهرة بمناسبة العيد الوطني، فاعتقلت السلطات تسعة منهم، من بينهم الوالي مصطفى بحجة أن المظاهرة غير مسموح بها سلفا، وأطلقت سراحهم بعد ثلاثة أيام. ولعل تأثير هذه التحركات هو الذي دفع الملك الحسن الثاني، بعد عودته من رحلة إلى الجنوب المغربي زار خلالها اقليم الطرفاية، إلى أن يلقي خطابا بمدينة أكادير (23 مايو 1972) يعد فيه الصحراويين بأنه لن يهملهم ولن ينساهم ويؤكد فيه أن سياسته تجاه إسبانيا لا تتناقض اطلاقا مع عزيمته الصارمة على الارتباط مجددا مع رعاياه المقيمين بالصحراء (المصدر خبر لوكالة رويترز من الرباط بتاريخ 24 مايو 1972...) ولعل هذا الخطاب الملكي، هو الذي شجع الطلاب الصحراويين لأن ينزلوا إلى الشارع (يوم 26 مايو) أي بعد ثلاثة أيام فقط، ليطالبوا بتحرير الصحراء المغربية، وذلك في مدينة الطنطان نفسها وبمناسبة موسمها السنوي. ولكن الاعتقالات الواسعة التي أقدمت عليها السلطات، مرة أخرى، سوف تقنع الوالي مصطفى السيد باستحالة تكوين حركة تحرير مسلحة بمساعدة الحكومة المغربية. في ذلك الشهر، يئس الوالي مصطفى من إمكانية العمل، داخل التراب المغربي، فركب سيارة لاندروفير من مدينة الطرفاية، على الشاطئ الأطلنطي، وقطع مفازات الحمادة الصخرية، والرملية القاحلة، ليحضر «ﻣﯕﺎر» (الموسم السنوي باللغة الأمازيغية) تندوف، وهو سوق عكاظ صحراوي تحج إليه القبائل الصحراوية من الجزائر والمغرب وموريتانيا. وفي تلك المناسبة جرى أول لقاء بينه وبين ممثلين عن جبهة التحرير الوطني الجزائري. في ذلك الصيف ذاته ترك ثلاثة طلاب صحراويين آخرين، هم محمد الأمين ولد أحمد، ومحمد علي ولد الوالي وبيد الله محمد الشيخ، تركوا مقاعد الدراسة الجامعية في الرباط، بمناسبة العطلة الصيفية وقاموا برحلة تحريات واستطلاع لمدينة العيون. أما الوالي مصطفى السيد، فقد تحول من تندوف الجزائرية نحو الزويرات الموريتانية، حيث قابل مجموعة من قدماء جيش التحرير المغربي، من ضمنهم محمد ولد الزيو، وكان قد استقر بموريتانيا بعد إخفاق انتفاضة 1957-1958، وأحمد ولد القايد، الذي كان مثل الآخر، مقاتلا في صفوف جيش التحرير المغربي، والتحق بحركة التحرير التي أنشأها ابراهيم محمد البصيري. وقد التحق أحمد ولد القايد بتلك الحركة، ثم اعتقل وأبعد إلى جزر كناريا، ونقل منها إلى الداخلة وأخيرا صدر قرار بنفيه إلى موريتانيا. في مدينة الزويرات الموريتانية، ومن مركز صناعة النحاس بهذا البلد العربي الإفريقي، جمع الوالي مصطفى السيد عددا قليلا من الكوادر القادمين من جنوب المغرب ومن مجموعة طلاب جامعة محمد الخامس بالرباط وبعض القادمين من طرفاية ومن أبرزهم محفوظ علي بيبا أو محفوظ العروسي، (ويلقب اليوم بالوزير الأول، وكان من بين أعضاء الوفد الذي استقبل مؤخرا بالقصر الملكي في مراكش)، وابراهيم ولد الغالي، وهو من مدينة السمارة العاصمة الروحية للصحراء المغربية، وزير الدفاع في ما يسمى بالجمهورية العربية الصحراوية منذ تأسيسها حتى اليوم، جمع هؤلاء مع محمد ولد الزيو المقاتل السابق في جيش التحرير المغربي، ومن آخرين، «وعقدوا مؤتمرا سريا في نقطة ما بين الصحراء المغربية وموريتانيا (يوم 10 مايو 1973) أعلنوا فيه عن إنشاء الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب وانتخبوا أمينا عاما لها الوالي مصطفى السيد مع لجنة تنفيذية نشرت لاحقا بيانا أعلنت فيه أن الجبهة أُنشئت كتعبير وحيد للجماهير مع اختيار العنف الثوري والكفاح المسلح وسيلة لاستعادة الشعب الصحراوي العربي الإفريقي لحريته الكاملة ومن أجل إحباط مناورات الاستعمار الإسباني» (المصدر : «حولية شمال إفريقيا Annuaire de l'Afrique du nord» صفحة 985 سنة 1975، هذا ولم يعرف العالم الخارجي شيئا عن وجود الجبهة إلا بعد مرور شهرين، حين نشرت في نواكشوط (21 يوليو 1973) بيانها الأول الذي صدر أيضا في الصحف المغربية (لوماتان، العلم، لوبنيون ومغرب أنفورماسيون...). ما يسترعي الانتباه، هو أن النواة المؤسسة لجبهة البوليساريو تنتمي كلها إلى المناطق الصحراوية المغربية التي لا يثور حولها أي نزاع، أي أن أفرادها من مواليد الطرفاية والطنطان و... وما يستدعي الانتباه أيضا هو أن اثنين من المؤسسين الأحياء، هما محفوظ العروسي «الوزير الأول الصحراوي» وهو من قبيلة العروسيين ومن فرع الطرفاوي بالذات، وابراهيم ولد الغالي «وزير الدفاع» كانا مع بشير مصطفى السيد شقيق الوالي مصطفى السيد، مؤسس جبهة البوليساريو، هم الأعضاء الذين اختارتهم اللجنة التنفيذية للجبهة من أجل مقابلة الملك الحسن الثاني. في شهر نونبر من نفس العام أصدرت الجبهة الشعبية مجلة شهرية بعنوان «20 مايو» كانت توزع سرا داخل المدن الخاضعة للاحتلال الإسباني. ونحن لا نملك مصدرا آخر عن النشاط العسكري الذي مارسته جبهة البوليساريو، سوى الأدبيات والروايات التي أذاعتها عندما أصبح لها صوت مسموع، في الجزائر. والحدث العسكري الأول الذي صنعته البوليساريو جرى يوم 20 مايو، أي بعد مضي عشرة أيام على انعقاد مؤتمرها التأسيسي. كان هدف ذلك الهجوم الأول مركز معزول تسيطر عليه قوات البادية التابعة للجيش الإسباني في نقطة الخنقة الواقعة بالشمال الشرقي من الساقية الحمراء. وحسب رواية البوليساريو نفسها فقد كانت تلك المحاولة الأولى، فاشلة تماما، وأخفقت حتى من قبل أن تبدأ لقد ذهب اثنا عشر مقاتلا من بينهم الوالي، مسلحين ببنادق عتيقة، وبمدفع رشاش واحد من نوع صغير. وكان نجاح العملية مرتبطا بالمفاجأة لأن الذخيرة المتوفرة لا تسمح بإطلاق النار أكثر من خمس دقائق. وبينما كانت الجماعة تخيم حول الخنقة، ذهب اثنان من المقاتلين من ضمنهم الوالي مصطفى لجلب الماء من بئر مجاورة فسقط في أيدي دورية معادية، نقلتهم في الحين إلى الثكنة المجاورة، وكان جنودها جميعا من الصحراويين، وأخبرت القاعدة الإسبانية التابعة لها باعتقال شابين مشبوهين. ورغم أن هذه الحامية الإسبانية كانت قد احتجزت الوالي وواحدا من رفاقه، فإنها على ما يبدو لم تكن تنتظر أن تتعرض لأي هجوم. وحين حصل الهجوم من طرف أعضاء الكوماندوس الذين بقوا أحرارا، استسلم جنود الحامية من دون أية مقاومة. وقام المهاجمون بتحرير الأسيرين وبالاستيلاء على كميات من الأسلحة والذخائر وباحتجاز الجنود الصحراويين وإطلاعهم على أهدافهم السياسية ثم إطلاق سراحهم فيما بعد (المصدر : كتاب أحمد بابا مسكة عن جبهة البوليساريو الصفحة رقم 150-151..) ولا نعرف مدى نسبة هذه الرواية من الصحة ولا نعرف حظها من الاختلاف، ولكننا نجد فيها أثرا «لحادث مؤسس» بالمعنى «الالياذي» للكلمة. وسوف تقود جبهة البوليساريو خلال السنتين اللاحقتين سلسلة من المعارك الصغيرة من بينها واحدة جرت بموقع «قلب الحمار» قرب الحدود الموريتانية في 26 يناير 1972 والثانية في حاسي معط الله بالساقية الحمراء وذلك خلال شهر مارس من نفس السنة. وحين انتقلت جبهة البوليساريو إلى الجزائر العاصمة في منتصف عقد السبعينات وأصبحت في بؤرة الأضواء قالت إنها قامت خلال السنتين السابقتين بما يتراوح بين عشرين وثلاثين هجوما. ولعل أكبر هجوم قادته الجبهة في تلك الفترة الانتقالية (1973-1975)، أي خلال المرحلة التي تحولت فيها من المغرب إلى الجزائر، عبر الصحراء المغربية وموريتانيا، هو تلك الغارة التي نظمت على حامية كجيجمات، بالقرب من تيفاريتي في الحد الفاصل بين الساقية الحمراء وموريتانيا بتاريخ 17 دسمبر 1974، والذي قتل فيه خمسة جنود إسبانيين حسب بيانات رسمية إسبانية. أما أكثر العمليات إثارة في هذه الفترة فتتمثل في حادثين : الأول هو اختطاف رجل الأعمال الإسباني أنطونيو مارتن من مدينة العيون في 11 مارس 1974، وذلك لوقف تدفق المهاجرين الإسبانيين إلى المنطقة، والثاني هو تخريب الشريط الآلي الذي يسمح بنقل فوسفاط بوكراع (20 أكتوبر 1974...) وتجدر الاشارة إلى أن عمليات البوليساريو خلال السنتين الأوليين التاليتين لإنشائها انطلقت كلها من موريتانيا، كما تجدر الإشارة إلى أن البيان الصادر عن المؤتمر التأسيسي نفسه لم ترد فيه كلمة الاستقلال. بل إن هناك وثيقة مكتوبة بخط الوالي مصطفى السيد تؤكد أن الصحراء «كانت إقليما مغربيا كسائر الأقاليم المغربية الأخرى». ولهذه الوثيقة قصة يجب أن تروى الآن، لأنها أصبحت جزءا من التاريخ. في عام 1972 وضمن اتصالاته مع زعماء الأحزاب السياسية المعارضة التقى الوالي مصطفى السيد بعبد الرحيم بوعبيد الكاتب الأول للإتحاد الاشتراكي، وطرح عليه رغبة عدد من الشبان الصحراويين في حمل السلاح لتحرير الصحراء المغربية. وقد أحال الأخ عبد الرحيم محدثه إلى أخ آخر، من مسؤولي الإتحاد، وهو ما يزال إلى اليوم عضوا في اللجنة الادارية الوطنية وعضوا بمجلس النواب، اتصل هذا المسؤول الإتحادي من الرباط بواحد من المسؤولين لاتحاديين الذين كانوا يقيمون آنذاك بالجزائر، وتحديدا في مدينة وهران وأخبره بأن شابا صحراويا يدعى الوالي مصطفى السيد يرغب في الذهاب إلى الجزائر، وسوف يصلكم ويجب أن تساعدوه. وعلى الرغم من أنني أنفر من «التمثيل» بذكر الموتى فإنني أجد نفسي في هذه النقطة بالذات مضطرا لذلك. لقد جاء الوالي مصطفى السيد إلى وهران واستقبله المرحوم الحسين الخضار وربط له الاتصال مع وجهين اتحاديين آخرين، من وجوه تلك المرحلة المضطربة، هما المهندس محمد بنونة والرائد ابراهيم التيزنيتي. من يذكر هذين الوجهين اليوم؟ لقد استشهدا في جبال الأطلس أثناء تلك العمليات المسلحة التي حدثت في ربيع 1973، وتركا في قلوب من عرفهما من الإخوان، ذكريات لا تُنسى عن قيم التضحية والتفاني حد الاستشهاد في سبيل الفكرة التحررية. وكان محمد بنونة، وهو مهندس في الكهرباء، من عائلة بنونة الرباطية العريقة في وطنيتها ومغربيتها، فيما كان ابراهيم التيزنيتي، كما يشير إلى ذلك اسمه من مدينة تيزنيت السوسية، ضابطا سابقا برتبة رائد، في جيش التحرير المغربي، غادر المغرب، في ظروف إحدى موجات القمع التي سلطت على الحركة التقدمية منذ حقبة الستينات، وتنقل مثل عشرات المناضلين بين المنافي، إلى أن سقط شهيدا فوق الأرض المغربية. إنني أتصور محمد بنونة، بدماثته الأندلسية الرباطية، لو أنه بقي حيا لكان يتربع اليوم على رأس شركة وإدارة مهمة، كما أن الرائد ابراهيم التيزنيتي بحرصه السوسي ودقة حساباته (كان مسؤولا عن المحاسبة في قيادة جيش التحرير)، أتصوره هو الآخر لو أنه بقي على قيد الحياة واتجه إلى التجارة، يدير اليوم واحدة من أنجح الشركات التجارية في أكادير أو الدار البيضاء. المهم أن مهندس الكهرباء الرباطي، والضابط السوسي والطالب الصحراوي التقوا في وهران في بداية عام 1973، وجرى بينهم حوار طويل حول ضرورة القيام بعمل ما لتحرير الصحراء المغربية. وقد فوجئ الوالي مصطفى السيد، القادم من الرباط باتساع معارف ابراهيم التيزنيتي عن الصحراء وقبائلها. وعلى عادته، لم يكشف التيزنيتي لمحدثه الشاب مصدر هذه الخبرة. كان ابراهيم التيزنيتي يعرف الصحراء المغربية، معرفة تفصيلية دقيقة جدا، لأنه تولى خلال سنوات 1956/1957 و1958، وظيفة مسؤول شؤون المال والتموين في القيادة العامة لجيش التحرير المغربي بكلميم، وكانت الرواتب والمكافآت والإكراميات والهدايا والمساعدات التي تقدمها قيادة الجيش الصحراويين جنودا أو ضباطا ورؤساء عشائر تمر من يده. دار النقاش إذن في وهران بين محمد بنونة وابراهيم التزنيتي والوالي مصطفى السيد حول تحرير الصحراء. وكانت إحدى نتائج هذا النقاش، أن طلب المسؤولان الاتحاديان من مخاطبهما تقديم نص مكتوب عن الوضعية في الصحراء. وقدم الوالي مصطفى السيد فعلا هذا النص واستهله قائلا : «بعد أن تمكن الإسلام في شمال إفريقيا وبعد أن توافد المهاجرون العرب من الشرق، صار الاهتمام يزداد بإفريقيا وبنشر الإسلام فيها، بعدما اطمأن الفاتحون على مستقبل الإسلام في جنوب أوربا (الأندلس). وكان من الطبيعي، أن تكون المنطقة الصحراوية طريقا إلى إفريقيا، مما جعلها تكون محط اهتمام بالغ من الدول المتعاقبة على المغرب خصوصا. ونتيجة للتشابه التام بين مناخ الجزيرة العربية وطبيعتها الصحراوية بمناخ وطبيعة المنطقة ولتشابه المعيشة فإن كثيرا من المهاجرين، بعدما انتهوا من مهامهم كفاتحين في الشمال الإفريقي، هاجروا إلى هذه المنطقة تعويضا لهم عن وطنهم نظرا للاختلافات المتتالية والمناوشات التي تنشب من حين لآخر داخل المغرب». «وكما أن تعاقب الدول والتنازع على السلطات وتناحر القبائل أدت إلى ازدياد الهجرة لهذه المنطقة المحايدة الآمنة، واللجوء إليها من كل مغلوب، بل وفي كثير من الأحيان الاعتصام بها من طرف الثائرين الذين يحضرون للانقضاض على أعدائهم، ونتيجة لهذه الهجرة المتعاقبة على الصحراء، والمعاكسة أحيانا منها إلى المغرب، فقد كانت المنطقة مرتبطة ارتباطا وثيقا في غالب الأحيان بالسلطة القائمة في المغرب. وكثيرا ما كانت تمارس سلطات مركزية من قبل هذه الحكومات على سكان المنطقة، خصوصا في حالات الحروب، فكانت كثيرا منها تجند سكان المنطقة لنصرتها. «ويمكن القول أن المنطقة كانت إقليما مغربيا كسائر الأقاليم المغربية الأخرى». وبعد استعراض مفصل لمحاولات التغلغل الاستعماري في الصحراء، يضيف الوالي مصطفى السيد، في نفس المذكرة : «إلا أن التناقضات الأساسية الخانقة التي أصبحت تعيشها الرأسمالية آنذاك والتي سببت أزمات مالية وسياسية لم تسمح بتوغل الاستعمار داخل المنطقة وكذلك المواجهة الوطنية للسكان وبعدما أحسوا بالخطر الاستعماري الذي أصبح يهدد كيانهم داخل ديارهم، وكعلاج للأزمات المالية التي يعاني منها النظام الرأسمالي داخل إسبانيا، تركت حواجز بين الصحراء وإسبانيا سنة 1895... وواكب ذلك ظهور ألمانيا كدولة رأسمالية قوية تريد حقها من الأسواق وخلق إمبراطورية تابعة لها. ونتيجة مزاحمتها للدول الاستعمارية السابقة لها، نتجت الأزمة المغربية سنة 1899، فحاولت ألمانيا السيطرة على المغرب بواسطة السيطرة على الصحراء مهما كان الثمن ولو بالشراء...». ثم يتحدث مؤسس جبهة البوليساريو في روايته الموجهة إلى المناضلين الاتحاديين عن المراحل التالية في الصراع بين فرنسا وإسبانيا وكيف أن هذه الأخيرة نقلت ألف جندي إلى المنطقة فيقول : «وأمام هذا الوضع لم يزدد السكان إلا نفورا من الاستعمار وحقدا عليه ومقاومة له، فبدأ تنسيق العمليات بينهم وبين الحركة في المغرب، أي الطرف الذي تسيطر عليه فرنسا...). ويشير الوالي مصطفى السيد في فقرة أخرى من هذه الوثيقة إلى أن إسبانيا قسمت الصحراء إلى ثلاث مناطق إدارية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ثم يقول : «لكن سكان هذه المنطقة ظلوا يحاربون في كل المناطق الثلاث ومرتبطين بنضالات أخواتهم في المغرب. ولما ظهرت الحركة التحررية رفدوها تحت شعار الجهاد في سبيل الله أو على الأقل تأثروا بتأثيرها. وقد استقطب جيش التحرير في المغرب عددا هائلا من المناضلين المنتمين إلى المنطقة والذين قاموا بعمليات بطولية كانت تحطم الاستعمار في المنطقة لولا القضاء على جيش التحرير. وهكذا طلبت الحكومة المغربية في السنوات الأولى من الاستقلال من جيش التحرير الصحراوي الإنخراط في الجيش النظامي، ولكن المقاومين الصحراويين، في جيش التحرير، رفضوا لأنه في نظرهم لا زال باب الجهاد مفتوحا، لأن العدو لا يزال يحتل أرضهم. وهكذا على كل حال، حل جيش التحرير ودخل عدد قليل منه في الجيش النظامي ورجع العدد الآخر وهو الأكثر إلى الأرض المستعمرة وهو الآن يعمل في الطرق أو في حفر الأرض ومنهم من يعيش في بطالة دائمة، ومنهم من فرضت عليه الإقامة في البادية، ومن المعلوم أن المظاهرات التي يقوم بها العمال في الطرق. وفي وادي بوكراع والعيونوالداخلةوالسمارة يقودها عمال سبق لهم أن كانوا في جيش التحرير. كما أن العمليات التي تدار ضد المستعمر الفاشي لهم باع كبير فيها»... عندما صدرت هذه المذكرة الطويلة، التي تضمنت إلى جانب الفقرات التي استشهدنا بها، استطرادات مطولة عن الأوضاع السكانية، الاقتصادية والصحية والصحة والتعليمية ثم المناورات الدولية حول قضية الصحراء المغربية، أقول إنها حين صدرت في خمس أعداد متوالية من مطبوعة «الاختيار الثوري».. أثارت بعض ردود الفعل في صحيفة وطنية حول الانتماء الحزبي للوالي مصطفى السيد. وقد ردت المجلة المذكورة على ذلك الموقف قائلة : «إن مصدر هذه الوثيقة ليس سرا بالنسبة إلينا. فالكل يعلم أن مصطفى الوالي، كان ضمن مجموعة الأطفال الصحراويين الذين تولى جيش التحرير السهر على تربيتهم وتدريسهم، وهذا ما تم بالفعل في مدرسة تارودانت. وبعد إنهاء دراسته الابتدائية ثم الثانوية التحق مصطفى الوالي بالجامعة حيث عرف بنشاطه الطلابي ونضاله لصالح تحرير المناطق المحتلة بتنسيق مع المناضلين الصحراويين داخل هذه المناطق وعلى رأسهم محمد بصير، إلا أن القمع الذي تعرضوا له على إثر المظاهرة الناجحة التي نظموها بمدينة العيون (...) دفع بعض المناضلين للجوء إلى الخارج لمحاولة التعريف بالقضية ودعمها. وفي هذا الإطار التقى مصطفى الوالي بفرع الجزائر للإتحاد الوطني للقوات الشعبية، وتمت دراسة إجراءات العمل المشترك من أجل تحرير المناطق المغربية المحتلة. في هذا الإطار بالضبط، تَمَّ تسليم المذكرة المعنية، إلا أن تطور الأحداث وتزايد القمع وانطلاق الحملة الدبلوماسية من جهة ثانية، قد جعلت الوالي ورفاقه يعدلون عن التنسيق مع الأحزاب الوطنية ويدافعون عن المواقف التي عرفت بها جبهة البوليساريو، ومنذ ذلك الحين انقطعت كل صلة تنظيمية بينهم وبين الإتحاد الوطني للقوات الشعبية...». الغرض من الاستشهاد بهذه الفقرات الطويلة من مذكرة مؤسس جبهة البوليساريو الى مجموعة من المناضلين الاتحاديين هو استعادة لحظة تاريخية محددة كانت خلالها الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب تطرح نفسها كجزء من حركة التحرير الوطنية المغربية. حوادث مارس 1973، كانت لها مضاعفات وتداعيات داخلية كثيرة، أبرزها موجة القمع الشامل التي طالت آلاف المناضلين الاتحاديين في المدن والأرياف، ومن أهمها انعقاد المؤتمر الاستثنائي الأول للإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لحسم الازدواجية التنظيمية وإقرار مسؤولية القيادة الموجودة في الداخل وحدها عن خط الحزب السياسي وإستراتيجية العملية. ولا أريد أن أخوض لا في الحوادث ولا في الآثار العميقة، المادية والمعنوية التي تركتها على جسد الحزب وفي أجساد المناضلين، وإنما يهمني أن أنوه بانعكاساتها المباشرة على تطور المجموعة الصحراوية المؤسسة لجبهة البوليساريو. أولى النتائج حوادث مارس 1973، في النطاق الذي يهمنا، كانت شبيهة إلى حد كبير بمضاعفات السوابق المشابهة، سواء على صعيد الدولة أو الحزب. على صعيد الدولة سادت فترة من ممارسة الإرهاب الأعمى، كان أبرز مظاهرها إثارةً إرسال الطردين الملغومين الشهيرين إلى كل من الأخوين عمر بن جلون ومحمد اليازغي، إضافة لجلسات التعذيب التي مورست بلا حدود لانتزاع اعترافات ملفقة ضد المناضلين، إضافة إلى الاعتقالات والاختطافات والمحاكمات الصورية والأحكام القاسية، إضافة إلى المضايقات في الوظيفة والعيش وحتى في الحياة اليومية وهناك شهادة يجب أن تقال للتاريخ : لقد صمد الاتحاديون، وفي مقدمتهم الكاتب الأول الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد أمام تلك المحنة، التي لم تكن الأولى، ولا كانت الأخيرة، وخرجوا منها مرفوعي الرؤوس. وإجمالا فقد أسفرت تجربة ذلك الربيع الدامي عن انشغال الحزب بتضميد جراحه وعن انصراف الدولة إلى ممارسة هوايتها المفضلة، في تلك المرحلة، ألا وهي تعزيز آلة القمع. ولن أستطرد أكثر، ولكنني وجدت نفسي مكرها، على هذه الوقفة القصيرة التي لا يستقيم فهم تلك الفترة من دون تذكرها. وفي الخارج الذي انتقلت إليه مجموعة الوالي مصطفى السيد، تجلت آثار تلك الأحداث في انكشاف عدد من الوجوه على حقيقتها، كما تجلت في عودة الكثيرين إلى الظل أو الانصراف إلى البحث عن لقمة العيش في المهاجر الكثيرة، وأيضا في عودة تدريجية إلى الداخل بالنسبة للذين استفادوا من الأحكام المخففة أو من قرارات العفو. وبقيت مجموعة من الاتحاديين في الخارج، التف عدد منهم حول الفقيه محمد البصري وأصدروا لفترة مطبوعة شهرية باسم الاختيار الثوري. هذه المجموعة هي التي ظلت على صلة متقطعة بجبهة البوليساريو بعد أحداث مارس المذكورة، وقطعت الاتصال معها بعد أن تأكد لديها توجهها الانفصالي، واستحالة إقناعها بالعدول عنه.