يعد موضوع توظيف المقدس في التاريخ من الموضوعات المعقدة والملتبسة في الآن نفسه. وقد بلورت الفلسفات الحديثة في سياق نقدها لصور استخدام الدين في الحياة العامة، جملة من المبادئ التي تعد اليوم من المكاسب النظرية في موضوع تصورها لأسس الدولة المدنية. إلا أن المتغيرات التي عرفتها المجتمعات البشرية، أنتجت أنماطا أخرى من أشكال توظيف المقدس في العمل السياسي، بل وتحويل الجدل السياسي إلى مجال للاستقطاب الديني، الأمر الذي يدعونا إلى التفكير في كيفيات تحرير الإسلام وتحرير الدين عموماً، من المتلاعبين بقيمه السامية شكل وصول الإسلاميين إلى سدة الأجهزة التنفيذية في المجتمعات، التي انتفضت ضد الاستبداد والفساد حدثا مفاجئا. صحيح أن الحدث المذكور، كان موصولا بسياقات تاريخية وسياسية محددة، وصحيح أيضا أنه عرف في قلب عنفوانه وتطوره، داخل كل ساحة من ساحات تبلور مواقف واختراقات معقدة، إلا أن الإجماع المصاحب له، لم يفرز وضوحا تاما في صور المآل الذي انتهت إليه الأمور هنا وهناك. ولأننا في التاريخ وفي طفراته، اعتدنا على نموذج سببي في التحليل، وتناسينا مكر التاريخ وسياقاته غير المكشوفة، فقد بدا لنا أن في الأمر حسابات أخرى، كنا نعرف بعضها ونخاف من قَبوله وإعلانه، يتعلق الأمر في نظرنا بمآل التيارات السياسية اليسارية والليبرالية، والتيارات السياسية التي كانت تصنعها الأنظمة لتؤثث بها المشاهد السياسية، مُعلنةً تعدديةً مصطنعة لأنظمة الحزب الواحد، حيث تقوم بإنشاء أحزاب توكل لها أدواراً محددة( ). ومنذ ما يقرب من عقدين من الزمن، تطور العمل السياسي والعمل الميداني في جبهة الإسلام السياسي، فأصبح يشتغل بآليات في التعبئة والتجييش لم تكن متوفرة في المشهد السياسي العربي بمختلف تشكيلاته. نحن لا نعمم هنا، ولكننا نشير إلى معطيات محددة تجد سندها الواقعي في الحالة المغربية، التي نتوفر على معطيات دقيقة في موضوعها( ). ضمن هذا السياق، نفهم جوانب محددة من هذا الذي جرى ويجري أمامنا، والمتمثل في وصول التيار الإسلامي إلى السلطة. وفي قلب هذه العملية، حصل ويحصل في عالمنا اليوم، التوظيف الأكبر للإسلام. وقد تم النظر إليه كمرجعية فكرية لتيار سياسي، كما تمت محاولة السطو على مكاسب الثورة بعدته الرمزية، وقد استوت قوة في الأرض مُسلحةً بشعارات الشريعة وخيارات العقيدة. وقبل الوقوف على عينة من أشكال التوظيف الجارية للمقدس في مجتمعاتنا، نشير إلى أن مجمل ما حصل يعكس هيمنة المقدس في الحاضر العربي، كما يعكس الصور الجديدة للجاذبية المتجددة للروحانيات في عالمنا، وهو يدعونا إلى استحضار معارك ومواقف النهضويين العرب في موضوع الإصلاح والتغيير والمواءمة، ندرك سمك التقليد والتقاليد في حاضرنا، كما ندرك المعارك المؤجلة التي ما تزال تنتظرنا، من أجل تفتيت القيود التي تكبل الذهنيات وتحاصر طموحاتنا في تجاوز تأخرنا التاريخي.. إن صور توظيف الدين في المجال العام، تستدعي اليوم أكثر من أي وقت مضى، جملة من البنود الهامة في موضوع الإصلاح تم السكوت عنها فيما سبق بمبررات عديدة، اتضح اليوم أنها مبررات واهية. صحيح أن تنامي حركات وأشكال التعبير الديني في العالم المعاصر، يؤشر على تجدد الوعي بدور الروحانيات في مجتمعنا، وذلك بناء على نظرة جديدة للحياة، تروم توسيع مساحة تحرير الدين من هيمنة الدولة والأحزاب والحركات الإسلامية، وكل المحتكرين لرأسماله الرمزي للمقدس، وفي هذا الإطار دافعنا في بحث سابق عن روحانيات الحداثة( ). نحن نشير هنا إلى تَمسُّك الدولة الوطنية الناشئة، في أغلب البلدان العربية بتدبير الشأن الديني، حيث ظل المقدس مؤثثا لفضائنا السياسي، كما ظل تابعا منضبطا لقيم السلطة وأشكال ترتيبها للعقائد والرموز والطقوس داخل المجتمع. وقد عملت أغلب الأنظمة السياسية طيلة عقود ما بعد الاستقلال، على دمج الدين في بنود دساتيرها. وأقامت تحالفا معلنا بين السلطة المدنية وعقائد الشعوب، كما نظمت الأعياد والمواسم والطقوس، مُركِّبة آليات محددة في الإدماج والتحالف، وذلك في إطار منح الأولية للنظام السياسي، وتحويل الفقهاء والعلماء والخطباء في الأغلب الأعم إلى جوقة في مشهد العمل السياسي، جوقة محافظة وصانعة للمقدس بمختلف تجلياته مكانة محددة في المجال العام. تعتمد التوظيفات المنجزة للمقدس في المجال السياسي العربي على ميراث قديم، وهي تستند في روحها العامة إلى الإرث الفارسي، كما رسخه عهد أردشير الذي رتب علاقة المقدس بالدنيوي، وجعل الثاني موجِّها للأول، كما جعل الأول أداة في يد الثاني. ولكي نتجاوز العموميات، سنقترب في محور التشخيص من بعض المعطيات الكونية والعامة، ثم نقف في لحظة ثانية، أمام حالة تمثيلية محددة لصُوَّر توظيف المقدس في حاضرنا. وقد اخترنا أن تكون هذه الحالة مستمدة من أزمنة ما قبل الثورة، بهدف توسيع مجال البحث. وبحكم أن التوظيفات الجارية اليوم، تدعونا إلى بناء ما يسعف بالقدرة على مواجهة المعارك المرتقبة، المعارك التي تكشف مؤشراتها في أغلب البلدان العربية ما ينتظرنا من مجابهات ومواجهات، بهدف توطين قيم التاريخ والحداثة في مجتمعاتنا. ويمكن أن نشير هنا قبل استحضار عينة التشخيصات التي نحن بصددها، إلى انه لا يمكن فهم العالم اليوم، دون الانتباه إلى عوالم المعتقدات والأدوار التي أصبحت تمارسها ، في مختلف صور الصراع الحاصلة في العالم. وقد بلغ الأمر درجة سمحت لأحد الباحثين بالحديث عن سوق عالمية للديانات والإثنيات، حيث يتم خلق الفرجة الدائمة، فرجة العرض والاستعراض الديني والإثني، الذي يتداول في وسائل الإعلام( ). نتبين بعض ملامح ما كنا بصدد تعيينه، في «اختفاء بعض وثائق ملف التحقيق الخاص بقضية الكنيسة السيونطولوجية (Scientologie) داخل قصر العدالة الباريسي، وانتصار دايلي لاما(Daili lama) على الصين، وتضاعف عدد الحجاج الذين يترددون على مكة، وعلى المياه الملوثة في غانج (gange)، إضافة إلى التدخلات المتتالية للبابا يوحنا الثاني في قضايا العالم، وبالخصوص في موطنه بولونيا، أو بعيدا عنها في كوبا آخر معقل للشيوعية»( ). تضعنا الأمثلة السابقة أمام جملة من العلامات البارزة، في حاضرنا الكوني، وتدعونا لتحيين تصوراتنا ومواقفنا من حول الدين وعلاقته بالسياسة. ندرك اليوم صواب حكم الذين تنبأوا بأن القرن الواحد والعشرين، سيكون قرن انتعاش لكل ما هو روحاني. فقد اتسع مجال تعميم المقدسات في إفريقيا، كما عرفت الديانات الكلاسيكية تصاعدا في تياراتها الأصولية. ومقابل ذلك، يتجه البحث اليوم في المقدس، لتجاوز براديغم حداثة في مقابل تدين، فقد أصبحنا أمام معطيات جديدة تستدعي من أجل تعقلها، أنظمة في الفهم والتأويل تتجاوز منطق التوافق السياسي المرحلي، وتنظر بعيدا في كيفيات تركيب أنماط من التعقل، المنفتح في هذا الموضوع بالذات على إرادة في التجاوز والتفاعل والابتكار( ). إنني أعي مدى المجازفة التي أقدم عليها، حين أحاول التفكير في موضوع بالغ الحساسية مثل هذا، وأعي في الوقت نفسه، إنني أواصل حواراً شرعت فيه مع نفسي، بهدف التفكير في أسئلة موصولة بقضايا الفكر والتغيير في المجتمعات العربية. فالأسئلة والفرضيات الموجهة لحدود هذا العمل، تواصل العناية بأسئلة معقدة، ويبدو لي أن أهميتها قد ازدادت نتيجة للتحولات الحاصلة اليوم في مجتمعنا، أسئلة المرحلة الانتقالية الراهنة.