مقال السارد: ركب السي عبد الرحيم الطائرة في اتجاه الرباط في اليوم نفسه. وفي الليل خلا المهدي إلى نفسه في الشقة التي ينزل فيها في باريس في زنقة لوريستون بالمقاطعة 15، وكتب الرسالة التالية معنونا إياها ب»رسالة من أستاذ قديم إلى ملك جديد « : » مولاي الحسن، لن تصلك هذه الرسالة بالقطع، يا مولاي الحسن، لأنني ببساطة لن أضعها في أي صندوق بريدي، ولن أسلمها لأي رسول خاص. هذه رسالة تائهة ، أكتبها –أنا أستاذك القديم في الرياضيات ، يا مولاي الحسن... في لحظة تائهة. وبالتالي، فهي-في الواقع- رسالة موجهة إلى نفسي التائهة في هذه اللحظة التائهة بقدر ما هي موجهة إليك ،أنت يا مولاي الحسن، في لحظة لا أعرف بالضبط ما هي حالتك العقلية والنفسية.ولكن أستطيع –بحكم أربع سنين عاشرتكم فيها تلميذا وعاشرتموني فيها أستاذا- أن أخمن بعض ما يموج به فكرك وتضطرب به نفسك في هذه اللحظة الحاسمة. و عموما فأنا لست مرتاحا. لماذا؟ أفكر في الميراث التقليدي-ميراث الحكم والسلوك العام للمغربي المقهور- المنحدر من قرون الانحطاط والظلام والذي كرسه الاستعمار ولم يقتلعه الاستقلال؛أفكر فيك شخصيا –مولاي الحسن- وأنت تتضايق وتتبرم من درس الرياضيات وتصرح لزملاء القسم (أنا سمعتك مرارا) بأنك لا تحب الرياضيات لأنها في نظرك غير مفيدة في اكتساب علم السلطة وهو العلم الوحيد الذي يهمك. هل أنا أبالغ؟ الرياضيات علم تجريدي مقابل علم التاريخ وسير العظماء اللذين أعرف أنك كنت تقرأ نصوصهما بنهم وشغف. أنت تلميذ –يا مولاي الحسن- كان يعرف بالضبط ماذا يريد: السلطة. مارست العمل الوطني لأنه لم يكن منه بدّ. وقفت إلى جانب أبيك –الملك الوطني المحبوب- لأن قاعدة العمل السياسي التي تعلمتها وحفظتها من أساتذتك في التاريخ فرضت عليك أن تكبح جماح طموحك و تنتظر وقتك وأنت تهيئ التربة وتزرع زرعك. ويلزم أن تعترف معي يا مولاي الحسن أن موت الأب جاء مفاجئا.ولكن شعار السياسة هو هذا: مات الملك! عاش الملك! وأنت يا مولاي الحسن هو ملك المغرب الجديد. وأنا أستاذك القديم في الرياضيات أكتب إليك وأقول: الملك هو واقعة مادية و السلطة هي حالة مزاجية. والصواب يكون في التحكم في الواقعة المادية وكبح الحالة المزاجية.وهذا شيء لا يعلمنا إياه علم الرياضيات... ولا دروس التاريخ...ولكن نصنعه صنعا في نفس الوقت الذي هو يصنعنا! هذه هي حكمتي وهي حكمة هذه الرسالة التي لن تصلك أبدا . « من «أوراق» إدريس غير المنشورة: »تزامن موت الملك مع عودتي إلى الرباط من القاهرة وعملي مدرسا بكلية الآداب. مات الملك الوطني على إثر عملية جراحية بسيطة وعاشت البلد حالة هستيرية حقيقية.الحالة التاريخية لشعب ما تقاس ليس فقط بنظرته إلى الحياة ولكن أيضا بموقفه من ضربات القدر والموت.وموت الملك –الذي لم يكن أي أحد ينتظره بهذا الشكل المفاجئ- ضرب البلد في الصميم.لكن هل كان من اللازم أن يتفرج العالم على كل الصور البئيسة الدالة على مدى تأخرنا التاريخي ونحن نشيع ملكا ونبايع آخر؟! يبدو أن كلمة التحرر التي نتشدق بها في حاجة –بالخصوص- إلى المزيد من التحليل النفساني لمضمونها.لقد سبق أن أشرت إلى كتابات منّوني وميمّي في هذا الصدد.ولكن ما كتبه فرانز فانون في «المعذبين في الأرض» هو في غاية النباهة والإثارة.ولقد قرأت الكتاب –مثل كل الأفراد المتأدبين من جيلي- وتحمست له إلى حد أنني –لما انتقلت في السنة نفسها ملحقا ثقافيا بمنظمة اليونسكو بباريس- حاضرت حول الكتاب بدعوة من طلبة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بالعاصمة الفرنسية. ولقد حضر السي عبد الرحيم في المحاضرة وهنأني قائلا: العنف المكبوت الذي حلله فانون بدقة وعرضت تحليله ببراعة يمكن أن يكون عنصرا سلبا في تاريخ البلد كما يمكن أن يكون عنصرا إيجابيا! وأبلغني دعوة المهدي لزيارته في مقر إقامته الجديد بشامبيزي في ضاحية جنيف. «