لقد صارت موضوعة الجسد تستقطب اليوم اهتماما بالغا في الفكر الفلسفي والعلمي، ليس لأنها كانت موضوعة خارج التقليد الفلسفي والديني، وإنما بالنظر إليها من زوايا علمية متعددة، كالسوسيولوجيا، والأنثربولوجيا، والتحليل النفسي، والسيميولوجيا والأدب... ونحن هنا، لا نود الانخراط في تاريخ الجسد، ولكننا نرغب في الإشارة إلى أهم القضايا التي أثيرت حوله. ونعني ثلاث محطات رئيسة وهي: الفكر الفلسفي، والفكر الديني، وأخيرا الفكر العلمي. والوقوف عند هذه المحطات يشكل بالنسبة لنا خريطة طريق لملامسة واختراق الإشكالية البحثية التي اقترحنا النظر إليها. وهي محطات تشكل استئناسا أوليا لموضوعنا. إن مسألة الذكورة تتمظهر كذلك في الأساطير الإغريقية زيوس Zeus وبرومتيوس وأبولون وديونيزوس وإيروس... هذا الأخير الذي يرمز إلى اللذة والمتعة، إلا أنه في سياق آخر ‹‹ ولايقف التقسيم الأفلاطوني عند حدود الفصل، بين الذات والموضوع بل يتجاوز ذلك حد تقسيم " الإيروس " نفسه ، فالإيروس ليس واحدا وإنما هو أيروسان، إيروس أرضي يرتبط بحب الأجساد والشهوات الفاتنة، وإيروس سماوي ينزع إلى المثل والفضائل الخالدة، سواء تعلق الأمر بالحب الفاضل أوالحب الشهواني›› . لا غرابة إذن أن تشكل ثنائيةُ الجسد والروح الناظمَ الرئيسَ في الفكر الفلسفي عند الإغريق، إذ أن هذه الثنائية وتجلياتها المتعددة لا تُحدد في الغلبة والأفضلية فحسب، بل في النظر الذي ينظر إليها. فإذا كان أفلاطون مثلا يعتبر الجسد مقبرة الروح، فإن تحريرها يتم في سياق تدريببي متدرج، بدءا من الطفولة إلى حدود النضج. ولأن الفلسفة لا تستقيم إلا مع نضج متلقيها، هذا المتلقي/الفيلسوف الذي وصل إلى هذا النضج المعبر عن قطْع مع كل ماهو حسي ومادي. إنه ترتيب معياري للمدينة، بحيث يكون فيها الفيلسوف قائدا، ولا يمكن للقائد الحكيم تدبير المدينة، إلا بتدبير سياسي للجسد الأثيني عبر تغذيته وزواجه... كل حسب مرتبته الاجتماعية. وهذه الثنائية الميتافيزيقية (الجسد والروح)، ستعرف تحولات في النظر إليها ليس في دخول الديني إليها في القرون الوسطى وإنما في كيفية النظر الفلسفي إليها في القرن السابع عشر، والقفز على قرون متعددة لا يعني النسيان والمحو، بل فيما يجعل الأنموذج الثاني وضاء أمامنا، وكأننا نود الاهتمام بهذه الثنائية الميتافيزيقية لفهم التحول النظري الذي سيكون فيما بعد، أي قلب هذه الثنائية واختراق السلطة التاوية خلفها، عبر الخلخلة التي مورست عليها. فالحديث عن هذه الثنائية هو الجسر الممكن لفهم هذا القالب، وبالتالي ضبط النظام الفلسفي الذي تتحرك داخله، صحيح أن تاريخ الفلسفة هو لا تاريخها، لأن الموضوعات التي نوقشت واستشكلت عند الإغريق لا زالت طافحة، إلى حدود الآن، وأن الاختلاف بين فلسفة وأخرى مرجعه زاوية النظر التي ينظر من خلالها إلى تلك الموضوعة. فديكارت مثلا اشتغل على هذه الموضوعة /الجسد وفق إستراتيجية تقعيدية، ولأنه كذلك فإن رسمه حديْ العلاقة بين الجسد والروح، كان في إطار عقلاني. كما أن استشكال هذه الثنائية الميتافيزيقية تعيدنا مرة أخرى إلى نظرة القرن 16 و17 للجمال، لتلك التصويرات التي أنجزها فنانو هذه الحقبة، والتى تشكل الإرهاصات الأولية للحداثة. لقد اهتم التصوير الأوربي بالمنطقة العلوية من الجسد، بما تمثله من جلال و عظمة ››إن الجمال المؤنث هو بالضرورة جمال خاضع، أو على الأقل جمال مراقب جدا، وهذا ما يبرز أيضا القيمة العالية للقسم العلوي، فهو قليل الحركات و حركاته في غاية الجلال، وتحفظ صارم في سحنة الوجه، وله قاعدة كأنها لا تتحرك، و مضيء باحتراز›› . ما علاقة هذا النص بديكارت؟ ألا تشكل علاقة التصوير بفلسفة ديكارت لغما قابلا للانفجار...؟ إننا لا ندخل هذا النص التصويري إلا في سبيل ضبط الإطار العام الذي تتحرك فيه فلسفة ديكارت. مادام الجسد الذي يتحدث عنه ديكارت مبنيا بطريقة تفيد الترتيب والنمذجة أي في الكيفية التي يكون فيها العقل متحكما ومنظِّما للفضاء الذي يتحرك داخله. بمعنى إذا حاولنا قراءة تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، وتنقلنا من تأمل إلى آخر، فإننا سنتحصل على هذا الترتيب النظامي للجسد. الجسد آلة، ليس بالطريقة التي حددها أرسطو في الوظائف التي تميزه كالهضم والحركة والتنفس، إنه يضيف إليها الذاكرة والخيال، ثم إن الجسد يظل – في ترتيبه الأولي – مربوطا بالحس، باعتباره جوهرا طبيعيا. ولكن بما أن هذا الحس متغير وعرضي فإنه – مع ذلك- يشكل العلاقة الأولى بالوجود، بالعالم، بالأجسام الأخرى، ولأنه كذلك فإنه يتألم ويتلذذ، يفرح ويبكي... فالجسم كما يحدده ديكارت ‹‹هو كل ما يمكن أن يُحس به، إما باللمس أو البصر، أو السمع أو الذوق. هو كل ما يحركه في اتجاهات عديدة، شيء براني، يمسه، ثم يترك أثرا فيه، ذلك لأني لم أعتقد يوما أن القدرة على التحرك من الذات إلى الإحساس والتفكير من الذات، أمور تعود إلى طبيعة الجسم. بالعكس، لقد كان يدهشني أن أرى مثل هذه القوى حادثة في بعض الأجسام›› . إن هذا الحس وما تميز به من ملكات يضعها ديكارت محددات أولية لتحديد الأنا. الأنا الديكارتية التي تم بمقتضاها الشك في كل شيء قائم، من أجل بيان اليقين. يقين واضح وبديهي. هذا الوضوح والبداهة لا يتضحان إلا بالعقل، أو بالأحرى بالأنا المفكرة. ‹‹ذلك لأن الحواس لا تستحق أن يقام لها وزن›› . إذن كيف يحدد ديكارت الأنا. ‹‹إذن أي شيء أنا؟ أنا شيء يفكر. وما هو الشيء الذي يفكر؟ هو شيء يشُك ويدرِك ويُبرهِن، ويبُث وينفي، ويريد، ويرفُض ويتخيَل أيضا، ويحِس›› ، تتبدى إذن الأنا الديكارتية جامعة لكل شيء. إلا أنها تتميز في آخر التحليل بوضوح كبير، أي حين يميز بين الجسم والنفس كوحدة أنطولوجية. لكن الحقيقة تظل بعيدة عن هذه الوحدة بين الجسم والنفس. إن الطبيعة علمتنا أشياء كثيرة، واستطعنا بموجبها أن نميز بين الداخل والخارج، إلا أنها تظل قاصرة على معرفة جوهر الأشياء، أي الحقيقة، وهذه الأخيرة لا يتمثلها إلا العقل، بعد تحرره من الكليشهات الحسية والخيالية التي علقت به. يبدو لي أن الكشف عن حقيقة تلك الأمور هو من شأن العقل وحده، لا من شأن الجسم والنفس مختلطين . هكذا تبدو ثنائية الجسد والروح، تنشد الأفضلية والأسبقية في تمظهراتها المتعددة. فإذا كان أفلاطون قد ربط بينهما بالمدينة، فإن ديكارت نظر إليهما من زاوية مغايرة، أي من زاوية إعطاء الذات الأنا مركزا في فلسفته، وهو مافتيء يستشكل هذه الأنا عبر مساءلتها، والبحث في حدودها المتنوعة، حدود تشكل الاهتمام الفلسفي التقليدي بين الله والعالم و الذات/الأنا، رغبة في الوضوح والتمييز، وليس بحثا في وحدة وهيمنة خادعة. ها هنا مرة أخرى نقيس النظرة الديكارتية بقياس التصوير الفني للقرن 16 و17 م. ذلك أن الهاجس التصويري لتلك المرحلة يميل نحو النظام، فقد اهتم فنانو هذه المرحلة بالنصف العلوي للجسد من حيث هو حامل للجليل والرفيع والجميل، ولأن ديكارت هو الآخر سيعتبر الجسد آلة ولأنها آلة فيلزمها محرك وهو العقل، فالعقل هو بوابة المعرفة، ومقياس الحقيقة، بينما الحواس تخدع وتسقط في الأوهام. فالشيطان الخطأ هو الذي يحوطها ويتستر خلفها. لذا وجب تدميره والتحرر منه في سبيل رؤية الحقائق.