عهد الملك الحسن الثاني كان عهد ملكية سلطوية تتزاوج فيها صورة الحاكم مع صورة الإمام، إنه أمير المؤمنين الذي يترسخ في قلب الزمن كسلطة دينية في سياق تنتقد فيه الحركات الإسلامية الناشئة النظام وتدعو إلى قيام »خلافة ثانية«. أما الأحزاب السياسية العلمانية التي كانت في السابق ترفض هذا الجانب من السلطة، وترى فيه علامة على »استبداد قروسطي» بدأت تعترف به بل وتدافع عنه بقوة على أمل ضمان تمدين الحقل السياسي الحزبي. إن هيمنة الملك على الحقل الديني والذي يتوخى عزل القوى السياسية الإسلامية المعارضة يقود بالضرورة إلى تثبيت وتقوية وضع الملك كأمير للمؤمنين. ملك وأمير المؤمنين هما وجهان للملك كما أعاد بناءها الملك الحسن الثاني في مغرب ما بعد الاستعمار، وتتجسد إن رمزيا على مستوى اللباس من خلال ارتداء البزة العسكرية أو اللباس الأوربي من جهة، والجلباب والطربوش (الفاسي) من جهة ثانية، وهنا تكمن خصوصية الملكية المغربية. وهذا الكتاب يحاول تتبع نشأة هذه الملكية كما أعاد الملك الحسن الثاني ابتكارها... يشير ريمي لوڤو، كما أشرنا من قبل إلى أن تسمية أمير المؤمنين في نص دستور 1962 اقترحه علال الفاسي والدكتور عبد الكريم الخطيب، الأول كان وقتها رئيس حزب الاستقلال الذي كان يستمد ايديولوجيته من العقيدة الدينية السلفية، والثاني كان إلى جانب المحجوبي أحرضان مؤسس حزب الحركة الشعبية سنة 1959، وسيكون بعد ذلك حليفا لحركة الإصلاح والتوحيد الإسلامي، ثم يصبح في ما بعد رئيسا لأول حزب إسلامي في المغرب حزب العدالة والتنمية. ومبادرة إعادة إقحام مبادئ لاهوتية في نص قانوني عصري، تعود من جهة فقيه هو في نفس الوقت زعيم حزب سياسي، ومن جهة أخرى لزعيم سياسي سيصبح مع الزمن وجها بارزا في الحركة الإسلامية. والملك بطبيعة الحال، لم يفكر أبدا في التخلي عن الطابع الأسمى للملكية، ولكن كما يؤكد ذلك ريمي لوڤو "باللجوء إلى الاستفتاء والانتخابات، كان في الواقع يفكر في هزم اليسار المغربي في عقر داره ليأخذ منه جزءا من برنامجه التحديثي"، وجرأة النظام في هذا الحقل كانت موضوع انتقاد من طرف بعض المعارضة التي كانت تؤاخذ على الدستور كونه لم يكن دقيقا بما يكفي على مستوى الدين. وخلال ندوة صحفية بتاريخ 13 دجنبر 1962 رد رئيس الدولة على أصحاب هذه الانتقادات بالقول:"وأخيرا، أريد أن أقول لمن أرادوا، في آخر دقيقة، إقحام الله في قضية الدستور هاته، أنا أقحمه، أقحم الله في قضية الدستور، لأنني أعتبر كل شخص سواء كان رساما أو عازف بيانو أو طباخا أو مفكرا في الدستور، بحاجة لمساعدة الله عندما يزوره الإلهام، بحاجة لفكر خالص لا يخلط في أية لحظة. نواياه التي يجب أن يخطها على الورق. وهؤلاء اعتقدوا كيف؟... أن الإسلام ليس سوى في الفقرة السادسة؟ لا أيها السادة ! الإسلام موجود أولا في الديباجة "»المغرب دولة إسلامية«" ثم مذكور في الفصل 6، بالنسبة لي الفصول ليست لها قيمة رقمية...... عندما نقول بأن المغرب دولة إسلامية، وأن دين الدولة هو الدين الإسلامي، أردنا أن نوضح بكون أنه دولة إسلامية، بإمكانه أن يجيب عن الإسلام الحقيقي، على الفكر الإسلامي الحقيقي، وبأن المغرب يضمن حرية ممارسة الأديان. بطبيعة الحال هناك المفهوم القانوني للنظام العام، والأخلاق الحسنة و الأكيد أنه بالإمكان ممارسة الديانة اليهودية بكل حرية، وأنه يمكن ممارسة الديانة المسيحية بكل حرية.إنها "ديانات سماوية"، إنها ديانات يقر بها الإسلام. ليست مسموحة فقط، بل أوصانا ديننا بأن نؤمن بأنبيائها. وهذا لا يعني أن المغرب سيقبل في نظامه العام غدا، عبادة الأوثان، في الأماكن العمومية.لم يقل أنه سيقبل طائفة البهائيين أو أي طائفة أخرى مرتدة ، المغرب دولة مسلمة متسامحة مع الديانات الكتابية التي تقر بوحدانية الله أي الديانات السماوية الكونية التي هي الديانة اليهودية أو الديانة المسيحية«." والضغط من أجل إعادة استثمار الدين في الحقل السياسي جاء كما يمكن أن نعتقد، من جزء من الطبقة السياسية، التي كانت في منافسة مع الملك حول مسألة السلطة. وحزب الاستقلال كان جزءا من هذا التوجه، بل كان أهم قوة فيها، وبمبادرة من زعيمه علال الفاسي كان ينوي تأسيس السياسة على أسس الإسلام في صفائه الأول دون التخلي عن بعض المبادئ العصرية للدولة والسياسة، ولكن حزب الاستقلال آنذاك بدأ يعرف نهاية فترة عزه، كان قد بدأ يُتَجاوز على يساره كما على يمينه، وبدأت إيديولوجيته تأخذ منحى تقهقري، على يساره، جزء مهم من مناضليه الشباب الديناميكيين والحداثيين، القوات الشعبية بإيديولوجية جديدة اشتراكية وعلمانية. بينما على يمينه كان الليبراليون الملكيون بقيادة رضا اكديرة. يركبون الإيديولوجية الليبرالية، وكان لليسار الاشتراكي في المعارضة كما اليمين الليبرالي الحاكم نفس التصور العلماني للسياسة آنذاك. بينما كان للسلفيين في حزب الاستقلال، موقف محافظ مبني على الخصوص، للحفاظ وأيضا لتوسيع حظوته لدى شريحة واسعة متشبثة بالدين. ومحاكمة »البهائيين« سنة 1962 في مدينة الناظور سيعطي لهذين الاتجاهين فرصة لمواجهة تصوراتهما لعلاقة الدولة بالدين. وكتب محمد برادة مدير ديوان علال الفاسي. بهذه المناسبة (ماروك انفورمسيون 19 دجنبر 1962) يقول:" »البهائية ليست دينا، إنها بدعة، مؤسسة صنعت مأساة لمليون من الناس، وإذا لم نوقفها فإنها ستواصل مآسيها اللاإنسانية«." وأمام هذه الحملة التكفيرية التي يقودها حزب الاستقلال الذي كان وقتها في الحكومة، اتخذت صحيفة »"ليفار"« التي يصدرها رضا اكديرة، وزير الداخلية آنذاك. موقفا متسامحا وعلمانيا تماما بإيعاز منه، في مقال نشر يوم 21 دجنبر 1962 كتب فيه: "«يبدو أن المتهمين »"عوقبوا"« وبأية عقوبات! دون أن تكون »"الحالات والشكل"« منصوصا عليها صراحة في القانون. ولأنه بأي قانون مكتوب في المغرب ينص ويعاقب بالإعدام »المس بالإيمان الديني« (...) هذه النتيجة مقلقة، وهو شيء مفهوم. انظروا إلى ذلك المسلم الذي يبقى إيمانه بسيطا والذي لا يتحرج من أخذ كأس ويسكي مع أصدقائه. حتى الآن فهو لم يرتكب سوى "ذنبا"، ولكن من يضمن له أنه غدا لن يرسله قاض متشدد لبضع سنوات إلى برودة السجون بتهمة »المس بالعقيدة الدينية؟« هذا الإسرائيلي الذي يعتبر نفسه كمواطن كامل المواطنة، سيكون عليه أن يعيش تحت نظام »الذميين« القديم؟ هذا المسيحي الذي جعل من المغرب وطنه الثاني، ألا يخشى أن يرى حرياته ناقصة وفق متطلبات عقيدة أخرى غير عقيدته؟ وبالتأكيد هناك فرق شاسع بين كأس الخمر والردة، ولكن التاريخ يعلمنا بمرارة بأن اللاتسامح الديني يتغذى من ذاته (...) ما يقلق في قضية الناظور هاته، أكثر من القضية في حد ذاتها، هي الروح التي يبدو أنها تحركها (...) علينا ألا نترك عاطفتنا تتحكم في عقولنا، علينا ألا نستسلم للأهواء ودوخات العنف«"